تكوُّن الأنواع وتشعُّبها
من أكثر الحقائق البيولوجية المعروفة شيوعًا حقيقةُ انقسامِ الأشكال الحية إلى أنواع متباينة مختلفة على نحوٍ يمكن تمييزُه؛ فحتى الملاحظةُ العابرة للطيور التي تعيش في أي بلدة في شمال غربي أوروبا، مثلًا، تُبيِّن وجودَ العديد من الأنواع؛ كأبي الحناء، والشحرور، وطائر السمنة المغرِّد، وطائر السمنة الدبق، والقرقف الأزرق، والقرقف العظيم، والحَمَام، وعصفور الدوري، والشرشور الجبلي، والزرزور، وغيرها الكثير. وكلُّ نوعٍ مختلفٌ عن الأنواع الأخرى من حيث الشكل وحجم الجسد ولون الريش والتغريد وعادات الغذاء وبناء الأعشاش، ويمكن العثور على طيف مختلف، وإن كان عريضًا على نحو مشابه، من أنواع الطيور في شرقي أمريكا الشمالية. يتزاوج ذكور وإناث كلِّ نوع مع أفراد النوع ذاته فقط، وبطبيعة الحال ينتمي نسْلُهم إلى النوع نفسه الذي ينتمي إليه الآباء. وفي أي موقع جغرافي بعينه من الممكن تقسيم الحيوانات والنباتات المتكاثِرة جنسيًّا بسهولة إلى مجموعات متمايزة (على الرغم من أن الملاحظة الدقيقة تكشف أحيانًا عن وجود أنواع لا يوجد بينها سوى فروق تشريحية طفيفة). يمكن للأنواع المختلفة التي يعيش بعضها إلى جوار بعض في المكان نفسه أن تظلَّ متمايِزة؛ نظرًا لعدم حدوث تزاوج بين أفرادها، وأغلبُ البيولوجيين يعتبرون غيابَ هذا التهجين (ما يُسمَّى «الانعزال التكاثري») المعيارَ الأفضل لتحديد الأنواع المختلفة. إلَّا أن الموقف أكثر تعقيدًا في حالة الأنواع التي لا تتكاثر في المعتاد عن طريق التزاوج الجنسي، كما هو الحال في أنواع كثيرة من الميكروبات، وسنُرجِئ مناقشةَ هذه الأنواع إلى موضع لاحق.
طبيعة الاختلافات بين الأنواع
على الرغم من أن هذا التقسيم للكائنات الحية إلى أنواع متمايزة أمر مألوف للغاية، لدرجة أننا نأخذه كأمر مسلَّم به — مثل قوة الجاذبية — فإنه ليس أمرًا تفرضه الضرورةُ على نحو بديهي؛ فمن السهل أن نتخيَّلَ عالَمًا لا يوجد فيه مثل هذا الاختلاف الحاد، وبالنسبة إلى مثال الطيور المذكور للتوِّ، فمن الممكن أن توجد كائناتٌ تجمع بين سمات أبي الحناء والشرشور، مثلًا، بنِسَب مختلفة، وفيها يمكن للتزاوج بين أي ذكر وأنثى أن يُنتِج نسلًا له تجميعاتُ سماتٍ مختلفة على نحو عريض. فلو لم تكن هناك حواجز تمنع التزاوُجَ بين أفراد الأنواع المختلفة، لَمَا وُجِدَ تنوُّعُ الحياة الذي نراه الآن في العالَم، وكان سيوجد شيء أشبه بسلسلة متصلة من الأشكال. في الواقع، حين انهارَتِ الحواجزُ التي تمنع التزاوُجَ، لسبب أو لآخَر، بين نوع وآخَر كانا منفصلين تمامًا فيما سبق؛ نتج بالفعل مثل هذا النسل الشديد التنوُّع.
ومن ثَمَّ يواجه التطوريون مشكلةً أساسيةً تتمثَّل في تفسير الكيفيةِ التي صارت بها الأنواع متمايِزةً، وسببِ وجود الانعزال التكاثري، وهذا هو الموضوع الأساسي لهذا الفصل؛ لكن قبل الخوض فيه سنصف أولًا بعضَ الطرق التي تُمنَع بها بعضُ الأنواع القريبة الصلة من تكاثُر بعضها مع بعض. في بعض الأحيان يكون المانع الأساسي ببساطة هو الاختلاف في الموطن أو في وقت تكاثُر الأنواع؛ ففي النباتات، على سبيل المثال، يوجد دائمًا وقت مميَّز قصير للإزهار كلَّ عام؛ ومن ثَمَّ تعجز عن التكاثُرِ الأنواعُ التي لا تتوافَقُ أوقاتُ إزهارها معًا. وفي الحيوانات، قد يمنع استخدامُ مواقع تكاثُر مختلفة أفرادَ الأنواع المختلفة من تزاوُج بعضهم مع بعض. وفي أحيان كثيرة تمنع السماتُ البالغة الدقة للكائنات — التي لا يمكن اكتشافُها إلا من خلال الدراسات التفصيلية لتاريخ الأنواع الطبيعي — الأفرادَ المنتمين إلى أنواع مختلفة من تزاوُج بعضهم مع بعض بنجاح، حتى لو وُجِدوا معًا في المكان نفسه والوقت نفسه؛ على سبيل المثال: قد يعزف أفراد أحد الأنواع عن مغازَلة أفرادٍ من النوع الآخَر بسبب عدم إنتاج الرائحة أو الأصوات الصحيحة، أو قد تتباين عروضُ المغازَلة الخاصة بالنوعين. الحواجزُ السلوكية للتزاوُج واضحةٌ في العديد من الحيوانات، فالنباتاتُ مثلًا تملك وسائلَ كيميائية لرصْدِ حبوب اللقاح الخاصة بالأنواع الخطأ ورفْضِها. وحتى لو حدث التزاوُجُ، فقد يفشل الحيوان المنوي لنوعٍ ما في تخصيب بويضة أنثى من نوعٍ آخَر.
ومع ذلك، بعض الأنواع تكون قريبةً للغاية بعضها من بعض لدرجة تمكِّنها من التزاوج أحيانًا، خاصةً إذا لم تُتَحْ لها فرصةُ اختيارِ أحد أفراد نوعها (على سبيل المثال: الكلاب وذئاب القيوط وابن آوى المذكورة في الفصل الخامس). لكن في العديد من هذه المواقف، يفشل الجيل الأول من الأفراد الهجينة في النمو، فالتهجين التجريبي بين أفراد تنتمي إلى أنواع مختلفة يُنتِج عادةً أفرادًا مهجَّنة تموت في مرحلة مبكرة من مراحل النمو، بينما تتطوَّر عادةً الأفراد الناتجة عن تزاوُج أفرادٍ من النوع نفسه حتى تصل إلى النضج. في بعض الأحيان تستطيع الأفراد الهجينة البقاءَ على قيد الحياة، لكن بمعدل أقل كثيرًا من الأفراد غير الهجينة، وحتى حين تكون الأفراد الهجينة قادرةً على الحياة، فإنها كثيرًا ما تكون عقيمةً ولا تُنتِج أيَّ نسلٍ يمكن أن يمرِّر جيناتها إلى الأجيال المستقبلية، والبغال (التي هي نتاج تهجين الحمير مع الخيول) مثال شهير على ذلك؛ فالعقم أو الانعدام التام لقابلية الحياة للأفراد الهجينة يعزل أحد النوعين عن الآخر.
تطوُّر حواجز التزاوُج المختلط
على الرغم من أن هذه الوسائل المختلفة لمنع التزاوج المختلط (بين الأنواع المختلفة) مألوفة، فإنه من العسير للغاية فهْمُ الكيفية التي تطوَّرَتْ بها؛ وهذا هو مفتاحنا لفهم أصل الأنواع. وكما أشار داروين في الفصل التاسع من كتابه «أصل الأنواع»، فإنه من غير المرجَّح بشدة أن يكون العقم أو انعدام قابلية الحياة لدى هجائن الأنواع المختلفة نتاجًا مباشِرًا للانتخاب الطبيعي؛ إذ إنه لا توجد أي مزية للفرد الذي ينتج نسلًا عقيمًا أو غيرَ قابل للحياة لو أنه تزاوج مع فرد من نوع مختلف. بطبيعة الحال هناك فائدة من تجنُّب التزاوُج مع أفراد نوعٍ آخَر لو أن الأفراد الهجينة الناتجة عن هذا التزاوج كانت عقيمة أو غير قابلة للحياة، لكن من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يمثِّل هذا أي مزية في الحالات التي استطاعت فيها الأفراد الهجينة البقاء بشكل طيب للغاية؛ ومن ثَمَّ يبدو مرجَّحًا أن أغلب حواجز التزاوج المختلط هي نتاجٌ جانبيٌّ للتغيرات التطورية، التي وقعت بعد أن صارت التجمعات منعزلًا بعضها عن بعض، عن طريق الانفصال الجغرافي أو الإيكولوجي.
على سبيل المثال، تخيَّلْ أن هناك نوعًا من شرشوريات داروين التي تعيش على إحدى جزر أرخبيل جالاباجوس، وافترِضْ أن عددًا قليلًا من أفراد هذا النوع طار إلى جزيرة أخرى لم يسبق لهذا النوع أنْ سكَنَها، ونجح في تأسيس تجمع جديد هناك؛ إذا كانت أحداث الهجرة هذه نادرةً للغاية، فسيتطور التجمعان، الجديد والأصلي، على نحو مستقلٍّ أحدهما عن الآخَر، وبفعل عمليات التطافر والانتخاب الطبيعي والانحراف الوراثي سيتباين التركيب الوراثي لكلا التجمعين. ستتعزَّز هذه التغيرات بفعل الاختلافات البيئية التي يمر بها كلا التجمعين ويتكيفان معها؛ على سبيل المثال: تختلف النباتات المتاحة لأنواع الطيور الآكِلة للبذور من جزيرة لأخرى، بل قد يتباين أيضًا أفرادُ النوع نفسه من الشرشوريات بين الجزر من حيث أحجام المناقير بطرقٍ تعكس الاختلافاتِ في وفرة الغذاء.
إن ميل تجمعات النوع نفسه للاختلاف بحسب الموقع الجغرافي، عادةً بطرق تكيفية بشكل واضح، يُطلَق عليه اسم «التنوُّع الجغرافي»، ومن أمثلة هذا التنوُّع الجلية لدى البشر تلك الاختلافاتُ البدنية الطفيفة العديدة بين الأعراق، علاوةً على الاختلافات المحلية الأصغر في ملامح مثل صبغة الجلد والشكل. يوجد مثل هذا التنوُّع في العديد من أنواع الحيوانات والنباتات الأخرى ذات النطاقات الجغرافية الواسعة. في أي نوع يتألَّف من مجموعة من التجمعات المحلية، يوجد دائمًا قدرٌ من هجرة الأفراد بين المواقع المختلفة، ويتباين مقدارُ الهجرة تباينًا ضخمًا بين الكائنات، فالحلزون له معدل هجرة منخفض للغاية، بينما الطيور والعديد من الحشرات الطائرة لها قدرةٌ عالية على الانتقال. وإذا استطاع الأفراد المهاجرون التزاوُجَ مع أعضاء التجمع الموجودين في المكان الذي يصلون إليه، فسيشاركون في التركيب الجيني لهذا التجمع؛ ومن ثَمَّ تكون الهجرةُ قوةَ تجانُسٍ، تعارِضُ ميلَ التجمعات المحلية للتشعُّب وراثيًّا بفعل الانتخاب أو الانحراف الوراثي (انظر الفصل الثاني). ستتشعب التجمعات المنتمية إلى أحد الأنواع بشكلٍ ما بعضها من بعض، اعتمادًا على مقدار الهجرة، وعلى القوى التطورية التي تعزِّز الاختلافاتِ بين التجمعات المحلية. ويمكن أن يتسبَّب الانتخابُ القوي في اختلاف التجمعات حتى المتلاصقة منها؛ على سبيل المثال: تعدين الرصاص أو النحاس يلوِّث التربةَ بهذه المعادن التي يمكن أن تكون سامةً للغاية للنباتات، لكنْ في الأراضي الملوَّثة المحيطة بالعديد من المناجم تطوَّرَتْ أنواعٌ قادرةٌ على تحمُّل المعادن؛ وفي غياب المعادن، تنمو النباتات القادرة على تحمُّل المعادن بشكل سيئ؛ ومن ثَمَّ توجد هذه النباتات في مناطق المناجم فقط أو بالقرب منها للغاية، ويوجد تحوُّل حاد إلى النباتات غير القادرة على تحمُّل المعادن عند حدود هذه المناطق.
وفي حالات أقل تطرُّفًا، تنشأ تغيراتٌ جغرافية تدريجية في السمات؛ لأن الهجرة تطمس الاختلافات التي سبَّبها الانتخابُ المتباين جغرافيًّا، وذلك استجابةً للتغيرات في ظروف البيئة؛ فالعديدُ من أنواع الثدييات التي تعيش في المنطقة المعتدلة الحرارة في نصف الكرة الشمالي، لها أحجامُ أجسادٍ أكبر في الشمال، ويتغيَّر متوسطُ حجم الجسم بشكل شبه متواصل من الشمال إلى الجنوب، وهو ما يعكس على الأرجح الانتخابَ المؤيِّد لصِغَر نسبة مساحة السطح إلى الحجم في المناخات الأبرد؛ حيث يُعَدُّ فقدان الحرارة مشكلةً. أيضًا تميل التجمعات التي تعيش في الشمال إلى امتلاك آذان وأطراف أقصر من مثيلاتها لدى التجمعات التي تعيش في الجنوب، وذلك لأسباب مشابهة.
توجد أمثلة أخرى عديدة للتنوع الجغرافي، وبالرغم من الاختلافات المرئية بين الأعراق البشرية الرئيسية، فإنه لا توجد لدى البشر حواجز تَحُول دون التزاوُجِ بين التجمعات السكانية أو المجموعات العِرقية المختلفة، لكنْ في بعض الأنواع تبدو التجمعاتُ الواقعة على طرفَيِ أيِّ نوعٍ مختلفةً بدرجة كبيرة تكفي لأن يتم اعتبارها أنواعًا مختلفة، لولا حقيقة أنها مرتبطة بواسطة مجموعة من التجمعات الوسيطة التي تتزاوج فيما بينها. بل إن هناك حالات حدث فيها أنْ تشعَّب تجمعان يقعان على أقصى طرفَيْ نوعٍ واحد تشعُّبًا كبيرًا، لدرجة أنهما باتَا عاجزَيْن عن التزاوج فيما بينهما، وإذا حدث أن انقرضت التجمعات الوسيطة، فسيُعَدُّ هذان التجمعان نوعين مختلفين.
وهذا يوضح نقطةً مهمة، وهي أنه وفق نظرية التطور، لا بد من وجود مراحل وسيطة في عملية الانعزال التكاثري؛ ومن ثَمَّ يجدر بنا ملاحظة ولو بعض الحالات التي فيها يكون من الصعب القول بما إذا كان تجمعان من التجمعات المرتبطة ينتميان إلى النوع نفسه أم إلى نوعين مختلفين. وبالرغم من أن هذا سيكون أمرًا غير ملائم لو أننا كنَّا نريد وضْعَ تصنيفات واضحة قاطعة، فإنه يُعَدُّ نتيجةً متوقَّعةً لعملية التطور، وهو أمر موجود بجَلاء في العالم الطبيعي؛ فهناك أمثلة عديدة معروفة للمراحل الوسيطة في عملية تطوُّر العَجْزِ التام عن التزاوج بين التجمعات المنفصلة جغرافيًّا. ومن الأمثلة التي خضعَتْ لدراسة جيدةٍ الأنواعُ الأمريكية من ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا سيدو أوبسكيورا»؛ يعيش هذا النوع على الساحل الغربي لأمريكا الشمالية والوسطى، ويمتد على نحو شبه متصل من كندا إلى جواتيمالا، لكنَّ هناك تجمُّعًا منعزلًا منه موجودًا بالقرب من بوجوتا في كولومبيا؛ يبدو الذباب المنتمي إلى تجمُّع بوجوتا مطابِقًا لذباب التجمعات الأخرى من النوع، لكن تتابعات الدي إن إيه الخاصة به تختلف على نحوٍ طفيف عنه. وبما أن مراكمة اختلافات التتابعات تتطلَّب وقتًا طويلًا، فمن المرجح أن تجمع بوجوتا قد تأسَّسَ بواسطة بضع ذبابات مهاجرة منذ نحو ٢٠٠ ألف عام مضت. في المختبر، يتزاوج ذبابُ تجمُّعِ بوجوتا مع ذباب التجمعات الأخرى، ويتَّسِم الجيلُ الأول من النسل الهجين بالخصوبة الكاملة، بَيْدَ أن الذكور الهجينة التي لا تكون أمهاتها من تجمُّع بوجوتا تكون عقيمةً، ولا يُرصَد أيُّ عقمٍ لدى الذباب الهجين الناتج عن تزاوج أفراد تجمعات أخرى في بقية نطاق النوع. وإذا حدث أن استُقدِم ذبابٌ من التجمع الرئيسي إلى تجمُّع بوجوتا، فمن المفترض أن يتزاوج دون مشكلات مع ذباب بوجوتا، وبما أن الإناث الهجينة تتَّسِم بالخصوبة، يمكن أن يستمر التزاوُجُ بين أفراد التجمُّعَيْن في كل جيل. إذن، يدين تجمُّعُ بوجوتا بتميُّزِه إلى الانعزال الجغرافي، ومن ثَمَّ لا يوجد سببٌ قاهر يجعلنا نعتبره نوعًا منفصلًا، بالرغم من أنه بدأ في تطوير انعزال تكاثري، وهو ما يشير إليه العقمُ الذي يصيب ذكورَه.
من السهل نسبيًّا أن نتفهَّمَ سببَ تشعُّب تجمعات النوع نفسه التي تعيش في أماكن مختلفة من حيث السمات التي تجعلها تتكيَّف مع الاختلافات في بيئتها، كما في مثال شرشوريات جالاباجوس؛ لكن ما ليس واضحًا بالدرجة عينها هو السبب المؤدِّي إلى هذا الفشل في التزاوج. أحيانًا قد يكون هذا نتاجًا جانبيًّا مباشِرًا إلى حدٍّ ما لعملية التكيف مع البيئات المختلفة؛ على سبيل المثال: ينمو نوعان من زهرة أوركيد القرد، وهما «ميمولوس لويسي» و«ميمولوس كارديناليس»، في جبال جنوب غرب الولايات المتحدة، وكما هو شأن أغلب أزهار أوركيد القرد فإن النوع «ميمولوس لويسي» يلقِّحه النحلُ، وتُظهِر أزهارُه العديدَ من أوجه التكيُّف مع عملية التلقيح بواسطة النحل (انظر الجدول)؛ لكنْ على غير المعتاد بالنسبة إلى أزهار أوركيد القرد نجد أن النوع «ميمولوس كارديناليس» يلقِّحه طائرُ الطنان، وتختلف أزهارُه في سمات عديدة تعزِّز عمليةَ التلقيح بواسطة الطنان؛ وهكذا فإن النوع «ميمولوس كارديناليس» قد تطوَّرَ على الأرجح من سلفٍ كان يتمُّ تلقيحُه بواسطة النحل، ذي شكل مشابِه لشكل النوع «ميمولوس لويسي»، عن طريق عملية تغيير هذه السمات الخاصة بالأزهار.
النوع | ميمولوس لويسي | ميمولوس كارديناليس |
المُلقِّح | النحل | الطائر الطنان |
حجم الزهرة | صغير | كبير |
شكل الزهرة | عريض، مزود ﺑ «منصة هبوط» | ضيق، أنبوبي |
لون الزهرة | وردي | أحمر |
الرحيق | معتدل، عالي السكر | وفير، منخفض السكر |
يمكن تهجين هذين النوعين من زهرة أوركيد القرد في المختبر، ويتسم النسل الهجين الناتج بالصحة والخصوبة، لكن في الطبيعة ينمو النوعان جنبًا إلى جنب دون تمازج. وتُظهِر الملاحظاتُ الخاصة بسلوك الملقحين في البرية، أن النحل الذي يزور النوعَ «ميمولوس لويسي» نادرًا ما يزور بعده النوعَ «ميمولوس كارديناليس»، وأن الطنان الذي يزور النوعَ «ميمولوس كارديناليس» نادرًا ما يزور بعد ذلك النوعَ «ميمولوس لويسي». ولمعرفة رد فعل الملقِّح حيالَ النباتات ذات السمات الزهرية الوسيطة، أُخِذ تجمُّعٌ من جيل ثانٍ هجينٍ مُنتَج في المختبر وزُرِع في البرية؛ كانت السمةُ الأقوى التي تعزِّز الانعزالَ هي لون الزهرة؛ إذ كان اللون الأحمر يردع النحلَ ويجتذب طيورَ الطنان. وقد أثَّرَتْ سمات أخرى على أحد الملقِّحَيْن أو كليهما؛ فحجم الرحيق الوفير في كل زهرة كان يزيد زياراتِ الطنان، بينما الزهرة ذات البتلات الأكبر كانت تتلقَّى زياراتٍ أكثر من جانب النحل، وامتلكَتِ الأشكالُ المتوسطة بين النوعين احتماليةً متوسطةً للتعرُّض للتلقيح من جانب النحل مقارَنةً بالطنان، ومن ثَمَّ اتَّسَمَتْ بدرجات متوسطة من الانعزال عن النوعين الأصليين. في هذا المثال، أدَّتِ التغيرات التي حفَّزَها الانتخابُ الطبيعي مع تطور التلقيح بواسطة الطنان إلى جعْلِ تجمُّع «ميمولوس كارديناليس» أكثر انعزالًا من الناحية التكاثرية عن التجمُّع «ميمولوس لويسي» القريب منه للغاية.
وبالرغم من أننا لا نعرف في أغلب الحالات القوةَ التي حرَّكَتِ التشعُّبَ بين الأنواع القريبة للغاية بعضها من بعض، وأدَّتْ إلى انعزالها التكاثري، فإن أصل الانعزال التكاثري بين أي زوج من التجمعات المنفصلة جغرافيًّا ليس بمفاجأة في حد ذاته، لو كانت هناك تغيراتٌ تطورية مستقلة في التجمعين؛ فكل تغيُّرٍ في التركيب الوراثي لأحد التجمعين يجب إما أن يُحابيه الانتخابُ الطبيعي في هذا التجمع، وإما أن يكون له تأثيرٌ طفيف على الصلاحية بحيث يمكنه الانتشار عن طريق الانحراف الوراثي (الذي ناقشناه في الفصل الثاني، وسنناقشه في نهاية هذا الفصل). وإذا انتشر شكل مختلف داخل تجمع ما لأن له مزية تجعل التجمع يتكيَّف مع بيئته المحلية، فإن انتشاره لن تُعيقه أية تأثيرات مُضِرة حين يمتزج (في الأفراد الهجينة) بجينات من تجمُّعٍ مختلف لم يحدث له أن قابَلَه بصورة طبيعية. لا يوجد انتخاب للحفاظ على توافُق سلوك التزاوج بين الأفراد القادمين من تجمعات منفصلة جغرافيًّا أو إيكولوجيًّا، أو الحفاظِ على التفاعلات المتجانسة التي تسمح بالنمو الطبيعي، بين الجينات التي صارت مختلفةً في التجمعات المختلفة. وكما هو شأن السمات الأخرى التي لا يحافظ الانتخابُ عليها (مثل أعين الحيوانات التي تقطن الكهوف)، فإن القدرة على التزاوج بين الأنواع تتدهور مع مرور الوقت.
وفي ظل التشعُّب التطوري الكافي، يبدو الانعزال التكاثري الكامل أمرًا حتميًّا، وهذا الأمر ليس مفاجئًا أكثر من حقيقة أن القوابس الكهربائية ذات التصميم البريطاني غير متوافِقة مع المقابس الأوروبية، بالرغم من أن كل نوع من القوابس يعمل على نحو مثالي مع المقبس الخاص به. ففي الآلات التي صمَّمها البشر — التي يكون فيها التوافُقُ سمةً مرغوبًا فيها — يجب بذل جهود متواصِلة من أجل الحفاظ على هذا التوافُق، كما هو الحال مثلًا في البرمجيات الخاصة بالحواسب الشخصية وحواسب ماكنتوش. وتُظهِر التحليلاتُ الوراثية للأفراد الناتجين عن تزاوج أنواع مختلفة، أن الأنواع المختلفة تحتوي بالفعل على مجموعات مختلفة من الجينات، تصير عاجزةً عن العمل حين يتمُّ الجمعُ بينها داخل الفرد الهجين. وكما ذكرنا من قبلُ، ذكور الجيل الأول الهجينةِ الآتيةِ من أنواعٍ مختلفة من الحيوانات تكون عقيمةً، بينما لا تكون الإناث كذلك؛ فيمكن حينها أن يحدث تزاوجٌ بين الإناث الهجينة الخصبة وبين أيٍّ من النوعين الأصليين. ومن خلال دراسة خصوبة نسل الذكور الناتج عن هذا التزاوج، يمكننا دراسة الأساس الوراثي لعقم الذكور الهجينة. هذا النوع من الدراسة أُجرِي على نحوٍ مكثَّف باستخدام ذبابة الفاكهة، وتبيِّن النتائجُ بوضوحٍ أن العقم الهجيني يَنتج بواسطة التفاعلات بين الجينات المختلفة الآتية من النوعين الأصليين. وفي حالة تجمعات البر الرئيسي وتجمعات بوجوتا الخاصة بذبابة «دروسوفيلا سيدو أوبسكيورا» — على سبيل المثال — فإن نحو ١٥ جينًا مختلفًا في كلا التجمعين يبدو أنها مشارِكةٌ في التسبُّب في عقم الذكور الهجينة.
إن الوقت المطلوب من أجْل إنتاج ما يكفي من الاختلافات بين زوج من التجمعات، بما يجعلهما عاجزَيْن عن التزاوج فيما بينهما، يتفاوت تفاوتًا كبيرًا؛ ففي مثال «دروسوفيلا سيدو أوبسكيورا»، تسبَّبَ مرورُ ٢٠٠ ألف عام (ما يزيد عن مليون جيل) في إنتاج انعزال غير مكتمل. وفي حالات أخرى، هناك أدلة على التطور السريع للغاية للحواجز بين التزاوج المختلط، كما في حالة أحد أنواع عائلة السمك البلطي في بحيرة فيكتوريا؛ هنا، انحدر ما يزيد عن ٥٠٠ نوع فيما يبدو من نوع واحد هو سلفها، ومع ذلك تُبيِّن الأدلة الجغرافية أن البحيرة موجودة منذ ١٤٦٠٠ عام فقط. يبدو أن الانعزال بين هذه الأنواع حدث في الأساس بسبب سمات سلوكية واختلافات لونية، وأن هناك اختلافاتٍ قليلةً للغاية بين الأنواع من حيث تتابُعات الدي إن إيه، ويبدو أن كل نوع جديد من هذه المجموعة استغرق نحو ألف عام في المتوسط كي يَظهَر، لكن مجموعات أخرى من الأسماك في البحيرة ذاتها لم تُطوِّر أنواعًا جديدة بمثل هذا المعدل المرتفع، ففي المعتاد يبدو أن تكوُّنَ نوعٍ جديد يحتاج عدة عشرات الآلاف من الأعوام كي يحدث.
بمجرد أن يصير تجمُّعان تجمعهما علاقة قرابة منعزلين تمامًا أحدهما عن الآخر بفعلِ واحدٍ أو أكثر من حواجز التزاوج المختلط، يصبح المصير التطوري لكلٍّ منهما مستقلًّا تمامًا عن الآخر، وسيميلان إلى التشعُّب أحدهما عن الآخر مع الوقت. أحد الأسباب المهمة لهذا التشعُّب هو الانتخاب الطبيعي، فالأنواع التي تجمعها علاقةُ قرابةٍ وثيقة تتباين عادةً في العديد من السمات البِنَوية والسلوكية التي تُمكِّنها من التكيُّف مع سُبُل حياتها المختلفة، كما ذكرنا من قبلُ في حالة شرشوريات جالاباجوس. لكن في بعض الأحيان تكون الاختلافات الواضحة قليلةٌ للغاية بين الأنواع المتقاربة. هذا هو الحال عادةً مع الحشرات، فنوعَا ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا سيمولانز» و«دروسوفيلا ماوريتيانا» يمتلك كلٌّ منهما بنيةً جسمانية مشابِهة للغاية للآخَر، ويتباينان فقط خارجيًّا من حيث بنية الأعضاء الجنسية للذكر؛ ومع هذا فهما نوعان منفصلان ويعزف كلُّ نوع منهما بشدة عن التزاوج مع الآخَر. وعلى نحو مشابه، اكتُشِف حديثًا أن الخفاش الأوروبي الصغير منقسم إلى نوعين مختلفين؛ لا يتزاوج هذان النوعان في الطبيعة، وهما يختلفان من حيث نداءات التزاوج مثلما يختلفان في تتابعات الدي إن إيه. وعلى العكس، كما وصفنا للتو، توجد أمثلة عديدة لاختلافات ملحوظة بين تجمعات للنوع ذاته، لكن دون أن توجد حواجزُ تمنع التزاوجَ المختلط.
تُظهِر النماذج النظرية، علاوةً على التجارب المعملية، أن الانتخاب القوي يمكن أن يُنتِج تغيراتٍ عميقةً في أي سمة عبر ١٠٠ جيل أو أقل (الفصل الخامس)؛ على سبيل المثال: انتُخِب تجمُّعٌ من ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا ميلانوجاستر» صناعيًّا بهدف زيادة عدد الشعيرات الموجودة في بطون الذباب، وقد أنتَجَ التطورُ زيادةً مقدارها ثلاثة أضعاف في متوسط عدد الشعيرات على امتداد ٨٠ جيلًا، وهذا هو تقريبًا نفس معدل الزيادة في متوسط حجم الجمجمة بين أسلافنا الأوائل الشبيهة بالقرود وبيننا، وهو ما استغرق نحو ٤ ملايين عام (نحو ٢٠٠ ألف جيل). وعلى العكس، لن تتغيَّر السمات بشكل كبير ما إن يأخذ النوع الذي يعيش في بيئة مستقرة الوقتَ الكافي للتكيُّف معها؛ فمن المستحيل عادةً أن نعرف من السجل الحفري ما إذا كان أيُّ تغيُّرٍ تطوري «مفاجئ» مرصودٍ يعني ضمنًا بدايةَ نوعٍ جديد (لا يستطيع التزاوُجَ مع النوع الذي انحدر منه)، أم أنه ينطوي على سلالة واحدة، تتطوَّر استجابةً إلى التغيرات البيئية. في كلتا الحالتين، لا يوجد لغزٌ يكتنف التغيرَ الجيولوجي السريع.
وأخيرًا، ما الذي تعنيه الأنواعُ حين يكون هناك تكاثر لا جنسي، يحدث في العديد من الكائنات الوحيدة الخلية كالبكتيريا؟ في هذه الحالة يكون معيارُ التزاوج المختلط عديمَ المعنى. ولأغراض التوضيح في هذه الحالات يستخدِم علماءُ الأحياء ببساطة معاييرَ اعتباطيةً قائمة على التشابه، مبنيةً إما على سمات لها أهمية عملية (مثل تركيب الجدران الخلوية البكتيرية)، وإما على الاعتماد — على نحو متزايد — على تتابُعات الدي إن إيه. والأفراد المتشابهة بدرجة كافية، التي تشترك معًا في السمات المستخدَمة في التصنيف، تُصنَّف معًا كنوع واحد، بينما المجموعات الأخرى من الأفراد التي تشكِّل تجمُّعًا مختلفًا تُصنَّف بوصفها نوعًا مختلفًا.
التطوُّر الجزيئي وتشعُّب الأنواع
في ضوء العلاقة المضطربة بين الزمن المنقضي منذ انفصال أي نوعين وبين تشعُّبهما من حيث سمات الشكل، يستخدم علماءُ الأحياء على نحو متزايد المعلوماتِ الآتيةَ من تتابعات الدي إن إيه للأنواع المختلفة في عمل استنتاجات بشأن العلاقات بين هذه الأنواع.
الإنسان في مقابل | الحمض الأميني نفسه (اختلافات صامتة) | حمض أميني مختلف |
---|---|---|
الشمبانزي | ١٧ | ٩ |
الكلب | ١٣٤ | ٥٣ |
الفأر | ١٦٩ | ٦٣ |
الخنزير | ١٠٧ | ٥٦ |
وقد أوضحت دراسة حديثة أن تشعُّب التتابع بالنسبة إلى ثلاثة وخمسين من تتابعاتِ الدي إن إيه غيرِ المشفِّرة التي جَرَتْ مقارنتها بين الإنسان والشمبانزي؛ تراوَحَ بين ٠ و٢٫٦ بالمائة من إجمالي عدد الحروف، بمتوسطٍ قدرُه ١٫٢٤ بالمائة (١٫٦٢ بالمائة في حالة الإنسان والغوريلا). هذه التقديرات تبيِّن لماذا يُعَدُّ الآن مقبولًا أن الشمبانزي، وليس الغوريلا، هو أقرب الكائنات الحية إلينا. تصير الاختلافات أكبر بكثير عند مقارنة الإنسان بالأورانج أوتان، وأكبر من ذلك عند مقارنته بالسعادين. الثدييات الأبعد من ذلك، مثل اللواحم والقوارض، تختلف على مستوى التتابعات بدرجة أكبر بكثيرٍ من اختلاف الرئيسيات المتنوعة؛ والثدييات تختلف عن الطيور بدرجة أكبر بكثير من اختلاف بعضها عن بعض، وهكذا دواليك. إن أنماط العلاقات التي تكشف عنها مقارناتُ التتابعات تتفق إجمالًا مع ما هو متوقَّع من الأزمنة التي شهدت ظهورَ مجموعات الحيوانات والنباتات الكبرى في السجل الحفري، وهو الأمر المتوقَّع وفق نظرية التطوُّر.
يُظهِر جدول اختلافات التتابعات أن التغيرات الصامتة تكون أكثر شيوعًا في المعتاد من تغيرات الإحلال، حتى بالرغم من أن التغيرات الصامتة تكون نادرةً بين الأنواع الأكثر قربًا بعضها من بعض، مثل الشمبانزي والإنسان. والتفسير البديهي لذلك هو أن غالبية التغيرات في تتابعات الأحماض الأمينية الخاصة بأحد البروتينات تُعِيقه عن أداء وظيفته بشكل ما. وكما أوضحنا في الفصل الخامس، فإن من شأن تأثير ضار صغير تسبِّبه طفرةٌ ما أن يؤدِّي إلى تخلُّص الانتخابِ الطبيعي بسرعةٍ من هذه الطفرة داخل التجمع؛ ومن ثَمَّ فإن أغلب الطفرات التي تغير التتابعات البروتينية لا تسهم مطلقًا في الاختلافات التطورية في تتابعات الجينات التي تتراكم بين الأنواع. بَيْدَ أن هناك أيضًا أدلةً متزايدةَ القوةِ على أن تطوُّرَ تتابعات بعض الأحماض الأمينية مدفوعٌ من جانب الانتخاب الذي يؤثِّر على الطفرات الملائمة أحيانًا، بحيث يحدث تكيُّفٌ جزيئي (انظر الفصل الخامس).
على النقيض من التأثيرات الضارة عادةً للطفرات التي تغيِّر الأحماضَ الأمينية، فإن التغيرات الصامتة في تتابعات الجينات لم يكن لها سوى تأثير طفيف على الوظائف البيولوجية، هذا إن كان لها تأثير على الإطلاق؛ ومن ثَمَّ فمن المنطقي أن يكون السوادُ الأعظم من التشعُّب في التتابعات الجينية بين الأنواع هو تغيراتٍ صامتةً. لكن حين تظهر طفرةٌ جديدة صامتة في أي تجمُّعٍ، فإنها تكون مجرد نسخة وحيدة بين آلاف أو ملايين نُسَخ الجين المعنيِّ (إذ يحمل كلُّ فرد من أفراد التجمع جينين). كيف يمكن لمثل هذه الطفرة أن تنتشر بين أفراد التجمع لو أنها لا تقدِّم أيَّ مزيةٍ انتخابية لحاملها؟ الإجابة هي أن التغيرات العشوائية في معدلات النُّسَخ البديلة (الانحراف الوراثي) تحدث في مجتمعات محدودة، وهو المفهوم الذي ناقَشْناه باختصار في الفصل الثاني.
وهذا يوضِّح تأثيرين من تأثيرات الانحراف الوراثي؛ التأثير الأول هو أنه بالرغم من أن أي نسخة بديلة تنحرف إما إلى المحو التام وإما إلى معدلٍ قدرُه ١٠٠ بالمائة (ترسيخ)، فإن السمة التي يؤثِّر عليها الجينُ تتفاوت داخل التجمع؛ فاستحداث نُسَخ مختلفة جديدة بفعل الطفرة والتغيرات في معدلات وجود النُّسَخ البديلة (وكذلك، من وقت لآخَر، فقدان الجينات المختلفة) بفعل الانحراف، يحدِّد مدى التنوع داخل التجمع. وتكشف دراسةُ تتابعاتِ الدي إن إيه للجينات نفسها في أفراد مختلفين داخل التجمُّع عن تبايُن المواقع الصامتة بسبب هذه العملية، كما ذكرنا في الفصل الخامس.
التأثير الثاني للانحراف الوراثي هو أن أي نسخة مختلفة محايدة انتخابيًّا كانت في البداية نادرةً للغاية، تكون لها فرصةٌ للانتشار بين أفراد التجمع كله والحلول محلَّ النُّسَخ البديلة، على الرغم من أن احتمالات أن تتعرَّضَ للمحوِ التام تكون كبيرةً؛ ومن ثَمَّ يؤدي الانحراف الوراثي إلى تشعُّبٍ تطوري بين التجمعات المنعزلة، حتى دون أن يعزِّزَ الانتخابُ هذه التغيرات. هذه العملية بطيئة للغاية، ويعتمد معدلُ حدوثها على المعدل الذي تنشأ به طفرات جديدة محايدة، علاوةً على المعدل الذي يؤدِّي به الانحرافُ الوراثي إلى إحلال إحدى نُسَخ الجين والاستعاضة عنها بنسخة جديدة. ومن الجدير بالذكر أنه يتبيَّن أن معدل تشعُّب تتابعات الدي إن إيه بين أي نوعين، إنما يعتمد فقط على معدل الطفرات لكل حرف من أحرف الدي إن إيه (أيِ المعدل الذي يصير به أيُّ حرفٍ بعينه لدى الأب طافرًا في النسخة المنقولة للنسل). ثمة تفسير بديهي لذلك يقضي بأنه في غياب أي تأثير للانتخاب، فلا شيء يؤثِّر على عدد الاختلافات الراجع حدوثها لطفرات بين أيِّ نوعين، فيما عدا المعدل الذي تظهر به الطفرات في التتابعات، ومقدار الوقت المنقضي منذ أنْ كان للنوعين سلفٌ مشترك. يكون لدى التجمع الكبيرِ المزيدُ من الطفرات الجديدة في كل جيل، وهو ما يرجع ببساطة إلى وجود المزيد من الأفراد الذين قد تحدث طفرات لهم. بَيْدَ أن الانحراف الوراثي يحدث بسرعة أكبر في التجمعات الصغيرة، كما شرحنا آنفًا. ويتبيَّن لنا أن التأثيرَيْن المتعاكسَيْن لحجم التجمع يلغي أحدهما الآخَر تمامًا؛ ومن ثَمَّ يحدِّد معدلُ الطفرات معدلَ التشعُّب.
هذه النتيجة النظرية لها تبعات مهمة بالنسبة إلى قدرتنا على تحديد العلاقات بين الأنواع المختلفة، وهي تعني ضمنًا أن التغيرات المحايدة تتراكم داخل أي جين مع مرور الوقت، بمعدلٍ يعتمد على معدل تطافُر الجين (مبدأ الساعة الجزيئية الذي ذكرناه في الفصل الثالث دونَ أن نتعرَّض له بالشرح). ومن ثَمَّ فإن تغيرات التتابعات داخل الجينات من المرجح أن تحدث على نحوٍ أكثر انتظامًا أشبه بعمل الساعة، مقارَنةً بالتغيرات في السمات المعرضة للانتخاب؛ فمعدلات التغيرات في الشكل تعتمد بقوة على التغيرات البيئية، ومن الممكن أن يحدث التغير بمعدلات متفاوِتة، وأن يحدث انعكاس في اتجاه سير التغير.
حتى الساعة الجزيئية نفسها ليست دقيقة للغاية؛ فمعدلات التطور الجزيئي يمكنها أن تتفاوت مع الوقت داخلَ خط السلالة نفسه، كما تتفاوت بين خطوط السلالات المختلفة. ومع هذا، فإن استخدام الساعة الجزيئية يمكِّن علماءَ الأحياء من أن يؤرِّخوا بشكلٍ تقريبي عملياتِ التشعُّب بين الأنواع التي لا يوجد لها سجل حفري. ولضبط هذه الساعة، نحتاج إلى تتابعات من أقرب الأنواع المتاحة التي تكون تواريخُ تشعُّبِها معروفةً؛ أحد أهم التطبيقات لهذه الطريقة هو تأريخ زمن الانفصال بين السلالة التي نشأ منها الإنسان الحديث وتلك التي أدَّتْ إلى ظهور الشمبانزي والغوريلا، والتي لا يوجد لها سجل حفري متاح. وقد مكَّنَنا استخدامُ الساعة الجزيئية مع عدد كبير من التتابعات الجينية من تقدير الفترة الزمنية لهذا الانفصال بقدرٍ مقبولٍ من الثقة بنحو ٦ أو ٧ ملايين عام. ولأن معدل تطور التتابعات المحايدة يعتمد على معدل التطافر، فإن الساعة الجزيئية تكون بطيئةً للغاية؛ نظرًا لأن المعدلَ الذي يتغيَّر به حرف واحد من أحرف الدي إن إيه بفعل الطفرات بطيءٌ للغاية. وحقيقةُ أن نسبةً نحو ١ بالمائة من أحرف الدي إن إيه هي المختلفة فقط بين الإنسان والشمبانزي، تعني أن الحرف الواحد يتغير مرةً واحدة كلَّ فترة تزيد عن المليار عام؛ وهذا يتفق مع القياسات التجريبية الخاصة بمعدل التطافر.