تلحين الأوبرا
أيصدِّق القارئ أن المكافأة التي طلبها ملحِّن مصري معروف لوضع موسيقى هذه الأوبرا لا يقل عن ألف جنيه، بينما يعلم أن الشاعر المؤلف لن ينال عُشر هذا القدر جزاء تفكيره وإيحائه ونظمه؟ … لا شك في أنه يصعب على القارئ هذا التصديق … ولنزده علمًا بأن ملحنًا آخر مشهورًا لم يستطع تخفيض مكافأته المطلوبة عن خمسمائة جنيه! وهكذا تقام العراقيل عن غير قصد في سبيل نهضة الأوبرا المصرية …
لسنا مَن يعترض على حسن مكافأة الملحنين بل نرى هذا واجبًا على الفرق التمثيلية تشجيعًا لهم على الإتقان الذي تعود نتيجته بالربح الجزيل على هذه الفرق ذاتها، ولكننا في وقتنا الحاضر تعوزنا روح التعاون والتضحية في سبيل النفع العام، وما دام المؤلف يضحي وقلما يتناول أكثر من خمسين جنيهًا ثمنًا لجهده في قصته المسرحية، فالمنتظر من الزملاء الملحنين الأفاضل أن يجاروا هذا الروح إلى أن تتكون وتنهض الأوبرا المصرية الصحيحة، وليس المنشود المراعاة المادية فقط بل العمل على بلوغ أسمى المستطاع من إتقان، واستدراج الجمهور شَطْرَ الروح الغربية الراقية الواجب بَثُّها في موسيقانا، ولا سيما في موسيقى الأوبرا.
وهنا أقفُ قليلًا لأترحَّم على روح نابغة الموسيقى المصرية المغفور له الشيخ سيد درويش الذي أهديتُ إلى روحه وفَنِّهِ نظيمَ هذه الأوبرا، فقد كان الموسيقيَّ الوجدانيَّ المطبوع المعبِّر عن العواطف والمواقف والمعاني أجمل تعبير، المتنقِّل في غير كلفة بإبداع ساحر من موقف إلى آخر.
والأديب الذي يشهد الهزليَّات الموسيقية التي ظفرت بتلحينه لا يشق عليه أن يحكم — دون سابق معرفة — بأنَّ أنغامها من وضع الشيخ سيد درويش، لما يتبيَّنه فيها من روح جديد آخذ باللب، ومن تعبير حي لا يسأمه سامعوه، ومن نزعة أوروبية شائقة. وللأسف ترك الشيخ سيد درويش بموته فراغًا لم يشغله ملحن نابغة ناشط حتى الآن، ولم يُقلَّد إلا فيما كان يقدِّره لعمله من أجر عال! ولا تزال موسيقى التخت العقيمة متفشية في المسرح قاتلة للأوبرات، وواقفة في سبيل كل نهضة ميسورة.
وكم اعتذر الملحنون عن قصورهم بجهل الجمهور المصري، وحاجتهم إلى مجاراته، وهذا عذر أقبح من الذنب، لا سيما والأوبرات تُلَحَّنُ وتُمَثَّلُ لخاصة الشعب ومتعلِّميه قبل عامته وجهلائه … وهذه المسألة تذكرني بواقعة لا بأس من التنويه بها، فقد كنت أشهد (فرقة الكسار) وهي تمثل رواية (ملكة الجمال) فكان الجمهور مسرورًا من فكاهات الرواية، متابعًا مشاهدها وأغانيها بعض المتابعة، إلى أن غنَّى الشيخ حامد مرسي في (دور بيكولو) ومن معه (البنات الثلاث) الأناشيد الآتية، وحينئذ دوى المسرح بالتصفيق العظيم … وما السر الأول في ذلك إلا موسيقاها الجديدة الأوروبية النفحة المخالفة مخالفةً ظاهرة لبقية أغاني الرواية! فهل بعد ذلك يصح أن يلام الجمهور المصري على تقصير ملحِّنينا وجمودهم، وهل يسوغ عدلًا أن يتهم في استعداده الموسيقي وفي ذوقه الفني؟!
أما الأغاني المشار إليها فها هي بنصها العامي معدلة قليلًا كما سمعتها:
وليست معاني ولا مباني هذه الأغاني بأحسن ما في الرواية من نظم الأستاذ بديع خيري، ولكنها جاءت معبرة عن الموقف وعاونتها الموسيقى في ذلك بإخلاص تام، فنجحت نجاحًا عظيمًا وصفق لها النظارة المستمعون طويلًا واستعادوا بتصفيقهم الحار. ولا أدري كيف فات حضرة الملحن وحضرة مدير الفرقة ملاحظة هذه الظاهرة سواء في هذه الرواية أو في غيرها من الهزليات الموسيقية، مما يعزز رأيي في أن صفوة الجمهور المصري أصبحت أكثر تعلقًا بالتجديد والتنويع والنفحة الأوروبية، وأكثر عزوفًا عن موسيقى التخت السقيمة.
وبعد، فلا أرى مفرًّا من طرح هذا السؤال وهو: إذا كان الملحنون المصريون لا يقدرون المسئولية الفنية الملقاة عليهم، ولا يحفلون بواجبهم الوطني التهذيبي، ولا يعنون بالاستمرار على تكوين أنفسهم بالدرس والاطلاع والإنتاج الصالح، ولا يهتمون بالتعاون مع المؤلف الشاعر على إنشاء وترقية الأوبرا المصرية، فماذا يبقى للأخير؟ أيكتفي بجهده الأدبي ويقنع بأداء نصيبه من التأليف؟ أم يبحث بين الأوروبيين على موسيقار مستعرب مجيد ويتعاون معه على الإخراج الموسيقي؟ أم يظل متعلقًا بخيط من الأمل الضعيف زمنًا أطول؟
وكما أُبَرِّئ الجمهور من حب الجمود فكذلك لا أرى من العدل أن يكال اللوم لمغنِّياتنا ومغنِّينا المسرحيِّين، فقد أظهر الجميع استعدادًا مشكورًا للتنقل إلى الأمام نحو الأكمل كلما أتحفهم المؤلفون والملحنون بشيء جديد راق، وإذا صح أن أغلبية الشعراء في مصر محافظون فالأصح أن كل الملحنين المصريين تقريبًا جامدون، وماذا يجدي مثلًا استثناء الدكتور صبري وعبد الوهاب أو غيرهما إذا كانا لا ينتجان، أو ما دام إنتاجهما قليلًا جدًّا؟!
قدموا يا سادتي النقاد للسيدة منيرة مثلًا أوبرا راقية التلحين ثم لُوموها بعد ذلك إذا ما هي قصرت في التمرُّن الوافي على غنائها بالإتقان الفني المطلوب. أما والأغاني التي تُعرض عليها عادية، وهي مقيدة بأنغامها، فلا وجه للومها إذا هي اضطرت إلى مراعاة تلك القيود … وإذا كانت الروايات الغنائية المصرية لا تعمر طويلًا فلوموا الملحن قبل لوم المؤلف الأمين المجتهد، وقبل لوم المغنية والمغني، ما دام ما ينتجه فنه لا يصلح للحياة، بينما المنتجات الأوروبية الراقية تعيش خالدة، وتسمع في دور التمثيل كما تسمع في القصور والمنازل، وفي الأندية والحفلات والمشارب، وفي جميع الحواضر المتمدنة بلا تمييز بين قطر وقطر وبين أمة وأخرى.
فاليوم الذي يُتقَن فيه تلحين الأوبرا في مصر لهو فتح جديد لثقافتنا الأدبية لأنه سيزيد نشاط الشعر العصري الجديد، كما أنه سيخرج لنا بدائع فنية جديرة بالذيوع القومي، وربما استحق بعضها الذيوع العالمي أيضًا، فيكون بمثابة دعاية صالحة للثقافة المصرية تكسبنا تقدير واحترام الشعوب الراقية.
وقد بذل الخلعي مجهودًا في ذلك الوقت (١٩٠٤–١٩٠٦م) بدون جدوى ولم تنفعه (جمعية المعارف) التي كان رئيسًا لها. والآن وقد تطور الزمن وأخذنا نعمل على تحبيب الأوبرا إلى الجمهور فقد وجب على الخلعي أن يعمل، ووجب على مثل السيدة منيرة المهدية أن لا تضن بالمساعدة الواجبة له. لقد رزقت الأمة المصرية شخصيات ثلاثًا بارزة أو مشهورة في مجال السياسة والأدب والفن، وأعني بها سعد زغلول وأحمد شوقي ومنيرة المهدية. فأما سعد فلم يجبن لحظة عن أداء رسالته فصار الروح السياسي لشعبه، وأما شوقي فقد خذل آمالنا الأدبية في قيادته بحكم انصرافه إلى أهوائه وبحكم تذبذبه وضعف إخلاصه لأدبه، وأما السيدة منيرة فهي طموحة مجتهدة حديدية الإرادة وقد بدأت تبث روحًا فنية جديدة في الأمة وفي وسعها التقدم الباهر في هذا السبيل. فقد بلغت قمة الشهرة ولا ينقصها من زخرف الدنيا شيء، وعليها الآن واجب تهذيب الشعب عن طريق الفن بالتعاون الكلي مع أمثال كامل الخلعي والدكتور صبري وعارف ذي الفقار وغيرهم من الملحنين المجددين النابهين من المصريين وإن كانوا قلائل. وأما إذا ترددت واكتفت بمجاراة الجمهور الذي يحبها حبًّا جمًّا بدل أن ترشده وتقوده وتهذبه فسيكون حكم التاريخ عليها حكمه على شوقي بك، وأملنا أنها أعقل وأحصف من أن تكون كذلك.