موضوع القصة
كان بمدينة (شيراز) ملك عظيم يسمى (السيف الأعظم شاه) وكان قد كبر سنه ولم يزرق ولدًا، ثم خدمه الحظ أخيرًا ورزق وليًّا لعهده فسماه (أردشير)، وكان جميل الطلعة فهذبه والده وعلمه إلى أن شب وترعرع، وكان قبلة آماله ورعايته. وكان بالعراق ملك يسمى (الملك عبد القادر)، وكانت لهذا الملك بنت جميلة تسمى (حياة النفوس)، وكانت تبغض الرجال وترفض الزواج، وقد خطبها من أبيها الملوك الأكاسرة دون نجاح، وكانت تهدد والدها بالانتحار إذا ما اضطرها إلى الزواج.
فسمع ابن الملك (أردشير) بذكرها فتعلق بها، ثم ازداد كلفه فأعلم والده بذلك، فنظر إلى حاله ورقَّ له وصار يكرر له وعده بالزواج منها، ثم أرسل وزيره إلى أبيها ليخطبها فأبى، فلما رجع الوزير من عند الملك (عبد القادر) وأخبره بما اتفق له معه وأعلمه بعدم قضاء حاجته شقَّ ذلك على الملك (السيف الأعظم شاه) واغتاظ غيظًا شديدًا، وكاد يعقد نيته على غزو بلاد الملك (عبد القادر) وتخريبها، وقال: هل مثلي يرسل إلى أحد من الملوك في حاجة فلا يقضيها له؟! ثم أمر بالاستعداد العظيم لمحاربته، فلما بلغ ولده (أردشير) هذا النبأ الخطير قال لأبيه الملك: «أيها الملك الأعظم لا تكلف نفسك بشيء من هذا وتجرد هؤلاء الأبطال والعسكر وتنفق مالك فإنك أقوى منه، ومتى جردت عليه هذا العسكر الذي معك أخربت دياره وبلاده، وقتلت رجاله وأبطاله، ونهبت أمواله ويقتل هو أيضًا، فيبلغ ابنته ما يقع لأبيها وملكه من جرائها فتقتل نفسها، وحينئذ أموت أنا أيضًا بسببها، إذ لن أعيش بعدها أبدًا.» فقال له الملك والده: «فما يكون رأيك يا ولدي؟» قال له: «أنا أتوجه في حاجتي بنفسي، وألبس لبس التجار، وأتحايل للوصول إليها، وأنظر كيف يكون قضاء حاجتي منها.» فقال أبوه: «هل صممت على اختيار هذا الرأي؟» فقال له: «نعم يا والدي!» فدعا الملك بالوزير وقال له: «سافر مع ولدي وثمرة فؤادي، وساعده على مقاصده، واحتفظ عليه، ودبره برأيك الرشيد، فإنك معه عوضًا عني.» فقال الوزير: «سمعًا وطاعة!»
ثم إن الملك والملكة أعطيا الأمير فوق حاجته من الذهب وأعطياه أيضًا جواهر وفصوصًا ومصاغًا ومتاعًا وذخائر وقلائد وملابس وتحفًا، وجميع ما كان مدخرًا من عهد الملوك السالفين مما لا تعادله أموال، ثم أخذ معه من مماليكه وغلمانه ودوابه جميع ما يحتاج إليه في الطريق وغيره، وتزيَّا بزي التجار هو والوزير ومن معهما، وودع والديه وأهله وقرابته وساروا يقطعون القفار آناء الليل والنهار إلى أن بلغوا (المدينة البيضاء)، وهناك توطنوا ثم استأجر الأمير بمشورة الوزير دكانًا فخمًا في سوق البزازين ونقلَا إليه البضائع والتحف، وأقام فيه الأمير (أردشير) وغلمانه كتاجر ومساعديه، فكان يلفت الأنظار الكثيرة إليه لبهاء طلعته، وكانت الناس تتسامع به وبحسنه فيأتون إليه لغير حاجة ويحضرون السوق حتى ينظروا إلى حسنه ويتمتعوا بمرآه، وكثيرًا ما ازدحم السوق براغبي التطلع إليه!
ولم يزل على هذه الحالة مدة إلى أن جاءته في إحدى الأيام سيدة عجوز ذات حشمة وهيبة خلفها جاريتان، وطلبت إليه أن يعرض عليها شيئًا نفيسًا فعلم بالتحري منها أنه للأميرة (حياة النفوس) فأراد إهداءه إليها، وقدم لها حلة نفيسة تساوي عشرة آلاف دينار، فتعجبت العجوز وحاولت معرفة سره، وأخيرًا بعد المعاهدة على الكتمان حدثها بحديثه كله، فعطفت عليه وإن رأت أمنيته شبه مستحيلة، ووعدته بالمساعدة على أية حال.
وقد بدأت مساعدته بنقل كتاب حب منه إلى الأميرة «حياة النفوس» مع هديته وادَّعت للأميرة أنها لا تعرف ما تضمنه الكتاب فاستاءت الأميرة عند الاطلاع عليه، فأشارت عليها مربيتها العجوز بالرد عليه توبيخًا، وهكذا أبقت صلة المراسلة بينهما زمنًا. وأخيرًا فطنت الأميرة إلى حيلتها فأمرت بطردها بعد ضربها ضربًا مبرحًا، ونقلتها إلى منزلها، فلما شفيت من إصابتها ذهبت لزيارة الأمير (أردشير) وأخبرته بما وقع لها، فتكدر جدًّا وقال: «والله عسر علي ما جرى لك. لكن يا أمي ما سبب كون الأميرة تبغض الرجال؟!» فقالت: «يا ولدي اعلم أن لها بستانًا مليحًا ما على وجه الأرض أحسن منه، فاتفق أنها كانت نائمة فيه ذات ليلة من الليالي، فبينما هي في لذيذ النوم إذ رأت في المنام أنها نزلت في البستان فرأت صيادًا قد نصب شركًا ونثر حوله قمحًا وقعد على بعد منه ينظر ما يقع فيه من الصيد. فلم يكن إلا مقدار ساعة وقد اجتمعت الطيور لتلتقط القمح، فوقع طير ذكر في الشرك وصار يتخبط فيه، فنفرت الطيور عنه وأُنثاه من جملتها، ولكن أُنثاه لم تغب عنه غير فترة ثم عادت وتقدمت إلى الشرك، وما زالت تقرضه بمنقارها حتى خلصت طيرها، كل هذا والصياد قاعد ينعس! فلما أفاق نظر إلى الشَّرك فرآه قد انفسد … فأصلحه وجدَّد نَثْر القمح وقعد على بُعد من الشرك، فبعد ساعة إذا بالطيور قد اجتمعت عليه ومن جملتها الأنثى والذكر، فتقدمت الطيور لتلتقط الحَب، وإذا بالأنثى قد وقعت في الشرك وصارت تختبط فيه، فطار الحمام جميعه عنها وطيرُها الذي خلصته من جملة الطيور ولم يعد إليها! وكان الصياد غلب عليه النوم ولم يفق إلا بعد مدة مديدة، فلما أفاق من نومه وجد أنثى الطير في الشرك … فقام وتقدم إليها وخلص رجليها من الشرك ثم ذبحها … فانتبهت بنت الملك وهي مرعوبة، وقالت: هكذا تفعل الرجال مع النساء! فالمرأة تشفق على الرجل وتضحي بروحها لأجله وهو في المشقة، وبعد ذلك إذا قضى عليها المولى ووقعت في مشقة فإنه يفوتها ولا يخلصها ويضيع ما فعلته معه من المعروف … فلعن الله من يثق بالرجال، فإنهم ينكرون المعروف الذي تفعله معهم النساء! ثم إنها أبغضت الرجال من ذلك اليوم».
فقال ابن الملك للعجوز: «يا أمي! أما تخرج إلى الطريق أبدًا؟» قالت: «لا يا ولدي! إلا أن لها بستانًا، وهو متنزه من أحسن متنزهات الزمان، وفي كل عام عند نضوج الأثمار فيه تنزل إليه وتستعرضه يومًا واحدًا ولا تبيت إلا في قصرها، وما تنزل إلى البستان إلا من باب السر وهو واصل إلى البستان. وأنا أريد أن أعلمك شيئًا، وإن شاء الله يكون فيه صلاح لك، فاعلم أنه بقي إلى أوان الثمر شهر ثم تنزل الأميرة إلى البستان، فمن يومنا هذا أوصيك بأن تذهب إلى خولي ذلك البستان وتجتهد في اكتساب مودته وصداقته، فإنه ما يدع أحدًا من خلق الله تعالى يدخل هذا البستان لكونه متصلًا بقصر بنت الملك، وسأُعْلِمُكَ قبل نزولها بيومين فتذهب أنت على جاري عادتك وتدخل البستان وتتحايل لتبيت فيه، فإذا نزلت بنت الملك تكون أنت مختفيًّا في بعض الأماكن فإذا رأيتها فاخرج لها، وهي لا بد مفتتنة بجمالك!»
ثم عرفته العجوز مكان بيتها وعرفها مكان منزله، وأخذ الأمير (أردشير) بمشورة وزير والده ومساعدة ماله يتودد إلى البستاني (باعتباره ابن الوزير وباعتبارهما غريبين عن المدينة ولا يعرفان شيئًا عن البستان وأصحابه، وإنما يحبان الخلوة والطبيعة)، وكان البستاني شيخًا هرمًا. وأخيرًا أشار الوزير بإصلاح القصر العتيق المقام داخل البستان من مالهما ليكون ذلك مدعاة إلى بر أصحابه به، فشكر لهما هذه المروءة والإنسانية وأحضر البنائين والمبيضين والدهانين لإصلاحه، وأوحى الوزير إلى الأخيرين برسم صورة حلم الأمير كما علمه من (أردشير) نقلًا عن مربيتها العجوز، مع إضافة تصوير الطير الذَّكر (الذي لم يعد لتخليص أنثاه) مختَطفًا في مخالب جارح حيث ذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، وأوصاهم بحسن الدهان والتزويق.
وأما عن الأميرة (حياة النفوس) فقد اعتادت أن تستصحبها مربيتها على الأخص في مشاهدة البستان عند أوان الفاكهة، فلما وافتها أنواع من الفاكهة الجديدة وتاقت إلى النزول إلى البستان تذكرت مربيتها، فوبخها ضميرها على إساءتها إليها، وبعثت في طلبها لتصافيها ثانيًا، وأخيرًا اصطلحتا. ثم آن أوان نزول الأميرة إلى البستان فأخبرت العجوز الأمير (أردشير) بذلك مقدمًا، وتحايل هو بماله على صرف البستاني في ذلك اليوم.
ولما دخلت الأميرة (حياة النفوس) ومربيتها إلى القصر (الذي أُصلح) أثناء التنزه في البستان حيث شاهدت تصوير الحلم دهشت الأميرة أيما دهشة، وتطرقت العجوز من التعليق على ختام الحلم إلى مدح شهامة الذكور وتضحياتهم في سبيل إناثهم بما أدى إلى نفي بغض الأميرة للرجال! وسُرَّت بإصلاح القصر فأمرت بمكافأة ألفي دينار للبستاني، ثم استدرجتها مربيتها العجوز وحدها للتنزه في بقية البستان إلى أن جمعتها بالأمير (أردشير) الذي اتفقت قبلًا معه على الظهور من مخبئه عندما تقول: «يا حنينًا بلطفه» إلخ. فتوثقت المحبة بينهما على الفور! وخشيت العجوز من الافتضاح فأدخلتهما القصر وقعدت على بابه، وقالت للجواري عند ظهورهن: اغتنمن الرياضة والتنزه فإن الأميرة (حياة النفوس) نائمة! وهكذا تمكنا من تبادل كئوس الهوى حتى قبيل الغروب ثم افترقا على وعد التلاقي! وهكذا اشتعلت نار الغرام في قلبيهما، وبمساعدة المربية العجوز ومشورتها تمكن الأمير (أردشير) من التسلل إلى القصر الملكي متخفيًا بزي امرأة، حتى بلغ مقصورة الأميرة التي عرفته بمجرد أن كشفت عن وجهه، فضمته إلى صدرها وفرحت بلقائه، وحرصت على بقائه فاستبقته لديها! ولكن أمرهما اكتشف في ليلة طاب لهما الشراب طويلًا فلم يهجعا ولم يناما، اكتشفهما الخادم كافور (وكانت قد أساءت إليه) وهي راقدة في حضن الأمير، فأبلغ والدها بعد وضع الحراس عليها، فاستشار والدُها الملكُ وزيرَه فأشار بقتلهما جزاء فجورهما … الموهوم، وهكذا دُفِعا إلى الجلاد بأمر الملك (عبد القادر) الذي طلب أن لا يستشار ثانيًا في أمرهما! فجرَّهما الجلاد إلى النطع، ثم آثر تأخير قتل الأميرة رجاء أن يصفح والدها الملك عنها. وبينما يتأهَّب الجلاد لقتل الأمير إذا بوفود الجند الشيرازي وعلى رأسه الملك العظيم (السيف الأعظم شاه) قد ظهرت بوادره بامتلاء الفضاء بالغبار … فيحجم السياف عن تنفيذ حكم القتل، ويبلغ الملك عبد القادر بعد التحري أن من حكم بقتله إنما هو أمير حقيقيٌّ وأن هذا والده الملك العظيم وقد أتى باحثًا عنه بعد أن استبطأ عودته، فيحمد الله على نجاته من القتل، وتتصافى القلوب وينتهي الأمر بخطوبة الأميرة (حياة النفوس) — بعد أن تحقق والدها من طهارتها وعفتها — إلى الأمير (أردشير) برضاء الملكين وسرورهما، وتُقدَّم إليهما أنفس الهدايا ثم تسافر مع خطيبها وحميها الملك الأعظم ووزيره وجنده في أبهة وسعادة لا تُحَدُّ، عائدة معهم إلى مقر ملكهم الكبير، تحفها جواريها وخدمها ومظاهر البذخ والملك الفخم.