لماذا يتشابه المحبان؟
كثيرًا ما يحدث أننا نلتقي بزوجين، فنظنهما للتشابه العظيم بينهما أنهما شقيقان، مع أنهما قد يكونان غريبين، لا تربطهما قبل الزواج أية قرابة عائلية تبرر هذا التشابه؛ ذلك أن أحدنا قد يشبه ابن عمه أو ابنة خالته، وقد يتزوجها، فيكون التعليل واضحًا للتشابه بينهما، ولكنا كثيرًا ما نجد أن الزوج الذي نشأ في الإسكندرية، قد تزوج فتاة من قنا أو القاهرة، ومع ذلك نجد عندما نتأملهما أنهما يكادان يكونان شقيقين، فما هي علة ذلك؟
علة ذلك أن الشاب عندما يبلغ سن المراهقة ثم الشباب، إنما يتخيل صورة معينة من الجمال تلازمه مدى حياته، مهما تأثر ببعض الظروف الاجتماعية أو الفنية، وهذه الصورة هي صورة أمه وقت الرضاع، وفي أثناء السنوات الثلاث أو الأربع التالية؛ وذلك لأنه في هذه السنين لا يجد في عالمه شخصًا أكثر عطفًا عليه، والتفاتًا إلى حاجاته، وحبًّا له من أمه، فوجه أمه إذن هو أجمل الوجوه، وصوتها هو أرخم الأصوات، وقامتها هي القامة المثلى للنساء الجميلات. وتبقى هذه الصورة كامنة في ذهنه، بل في نفسه إلى أن يبلغ المراهقة فالشباب، فإذا جاء ميعاد الزواج صارت جميع الوجوه قبيحة أو سمجة أو غير جميلة، ماعدا تلك الوجوه التي أشبهت وجه أمه، فهو يستلطف هذا الوجه، ثم يعشقه، ويختار تلك الفتاة التي تشبه أمه، أو على الأقل تقاربها في الوجه واللون والقامة والصوت والبدانة أو النحافة.
ولذلك نجد أن الرجل السمين يتزوج الفتاة السمينة ويستلطفها، بخلاف الشاب النحيف الذي لا يستلطف غير الفتاة النحيفة. ومرجع ذلك أن أم السمين كانت سمينة مثله أيام طفولته، وكان يحبها لأنها أمه، وكان يعتقد أن السمن الذي هو صفة أمه من علامات الجمال، فلما كبر وسمن هو نفسه بحكم الوراثة من أمه، أو بحكم المعيشة ونظام الغذاء معها، لم يعد يجد الجمال إلا في المرأة السمينة. وقل مثل ذلك عن الرجل الأبيض، لا يرضى بأن يتزوج فتاة سمراء، أو الرجل الطويل لا يرضى بأن يتزوج فتاة قصيرة؛ لأن أم الأول كانت بيضاء، وقد غرست فيه حب البياض، ولأن أم الثاني كانت طويلة، وقد غرست فيه حب الطويلات.
فالرجل يشبه زوجته لسبب واحد هو أنه قد انغرست فيه قيم الجمال منذ طفولته، وكأن الأنموذج الذي رسم عليه، وأخذ عنه هذه القيم، هو أمه. ولما كان هو يشبه أمه بحكم الوراثة إلى حد بعيد، ثم لأنه عندما يتزوج يختار فتاة تشبه أمه، فإننا نجد الاثنين بعد الزواج متشابهين كأنهما شقيقان.
وهنا قد يرد بعض القراء: ولكنَّ هناك أزواجًا يختلف فيها الزوج عن زوجته، فهو طويل وهي قصيرة، وهو أسمر وهي بيضاء، وهو سمين وهي نحيفة، فما هو تعليل هذا الاختلاف؟
فللإجابة على هذا السؤال نقول: إن هذا الاختلاف بين الزوجين قليل الحدوث جدًّا، وهو حين يوجد يكون مرجعه إلى أن الزوج لم يختر زوجته لجمالها، ولكن لأغراض أخرى، كأن تكون ثرية، أو من عائلة معينة لها مكانة اجتماعية أو نحو ذلك؛ أي إنه لم يكن مسوقًا في اختياره بميوله الجمالية التي نشأ عليها منذ الطفولة، وأحيانًا يكون قد تربى بعيدًا عن أمه، كأن كانت هناك له مرضع خاصة جمعت عواطفه نحوها، فهو عندما يشب يختار فتاة تشبه هذه المرضع. أو ربما تكون أمه قد ماتت قبل أن ترضعه، أو قبل أن تتم معه سنتين أو ثلاث سنوات، فهنا ترتبك مقاييسه وتختلط قيمه.
وهناك رأي شائع، وهو أننا نختار من الجنس الآخر من تناقضنا، كأنها بهذه المناقضة تكمل النقص الذي عندنا، ولكن نظرة عابرة شاملة للأزواج توضح لنا خطأ هذا الرأي؛ ففي تسعين في المائة من الحالات نحن نختار تلك الفتاة التي تشابهنا. وكذلك الشأن في الفتاة عندما تختار الشاب، فإنه يجب أن يشبه أباها وأمها معًا؛ وذلك لأن هذا الأب هو البطل الذي نشأت على رؤيته في البيت، وهو السيد المطاع، وقد قيل «كل فتاة بأبيها معجبة»، وليس هذا المثل عبثًا، ولكن لما كانت فتياتنا غير حاصلات على حق الاختيار الكامل، فإن الشاب هو الذي يختار وفق الأنموذج الذي ارتسم في نفسه منذ أيام الطفولة، بل منذ أيام الرضاع. وهو يختار فتاة تشبه أمه، وهو بالطبع يفعل ذلك على غير وجدان؛ أي إنه لا يدري أنه متأثر بجمال أمه؛ لأن صورة أمه كامنة في نفسه، وليست ماثلة.
وعلى القارئ ألا ينسى أن صورة الجمال التي ترتسم للأم في ذهن ابنها، إنما هي صورتها وهي بين العشرين والأربعين تقريبًا؛ أي صورتها وهي شابة جميلة، فإذا شاء القارئ أن يفحص عن نفسه وعن ميوله الجمالية، فيجب أن يتذكر أمه كما كانت قبل عشرين أو ثلاثين سنة. وليست كما هي الآن عجوز درداء متغضنة، كثيرة الرقاد والأوجاع، تسعل وتعطس، وقد ترهل بطنها واسترخت عضلاتها.
بقي شيء آخر هو أن ننصح للشاب بألا ينخدع بصورة أمه فيقع في فتنة هذا الوجه الذي ثبت فيه منذ الطفولة؛ لأن هذه الفتاة التي تشبه أمه في التقاسيم والملامح والقامة والصوت، أو في بعض هذه الصفات، هذه الفتاة قد تكون سيئة الأخلاق، فهو يفتن بخيال يضيفه عليها، ولكنه يجهل أخلاقها. وإذن لا بد في الزواج من أن نطمئن على صفات أخرى كالذكاء والأخلاق.