ابن زيدون وولَّادة
عاشت دول الإسلام في الأندلس (إسبانيا) من سنة ٧١١ﻫ إلى سنة ١٤٩٢ﻫ. وكان الأندلسيون عربًا مسلمين من حيث اللغة والدين، ولكنهم كانوا آريين من حيث الدم والعنصر، ليس فيهم إلا القليل من الدم العربي.
وقد زكت الفنون والعلوم فيها حتى كان الأوروبيون ينحون إليها للتعلم في مدارسها، وظهر فيها عدد كبير من الفقهاء واللغويين والمؤرخين والشعراء والفلاسفة.
ويبدو من استقرار تاريخ الأندلسيين أن النساء لم يكن يخضعن للحجاب تمام الخضوع، كما كن يفعلن في الشرق، ولعل ذلك من أثر الجو البارد عليهن؛ لأن الحجاب وليد الجو الحار؛ فقد ذكر المؤرخون أن النساء كن يقعدن في ميادين قرطبة وغيرها، ويحترفن نسخ الكتب!
وكانت الأندلس دولة واحدة في عصر خلفائها الأمويين، ثم تمزقت الدولة فصارت دويلات صغيرة، على كل منها ملك أو أمير، لا يفتأ في شجار ونزاع مع جيرانه. وقد تتجزأ الدويلة عند موته إمارات صغيرة، يستبد على كل منها أمير، ينعت نفسه بنعوت الملك والإمارة، حتى قال أحد شعراء الأندلس يصف هذه الدويلات:
ففي هذا الزمن نشأ رجل يُدعى أبا الوليد أحمد … بن زيدون، وُلد بقرطبة سنة ٣٩٤ﻫ وترقَّى بإشبيلية سنة ٤٦٣ﻫ. وقد اشتهر بحبه لامرأة تُدعى ولَّادة، من نسل الخلفاء الأمويين. وكان كلاهما أديبًا، فكانا يتراسلان، ويؤلفان قصائد الغزل، ويجتمعان سرًّا وعلانية.
قال ابن نباتة عن ابن زيدون: «كان من أبناء الفقهاء المتعينين، واشتغل بالأدب، وفحص عن نكته، ونقَّب عن دقائقه، إلى أن برع، وبلغ من صناعتي النظم والنثر المبلغ الطائل. وانقطع إلى أبي الوليد بن جهور أحد ملوك الطوائف المتغلبين بالأندلس، فخف عليه وتمكن من دولته، واشتهر ذكره وقدره، واعتمد عليه في السفارة بينه وبين ملوك الأندلس، فأُعجب به القوم وتمنوا ميله إليهم، لبراعته وحسن سيرته. واتفق أن ابن جهور نقم منه أمرًا فحبسه، واستعطفه ابن زيدون برسائل عجيبة وقصائد بديعة، فلم تنجح، فهرب واتصل بعباد بن محمد صاحب إشبيلية الملقب بالمعتضد، فتلقاه بالقَبول والإكرام، وولاه وزارته، وفوَّض إليه أمر مملكته. وكان حسن التسيير، تام الفضل محببًا إلى الناس، فصيح المنطق جدًّا.»
وقال عن ولادة: «كانت بقرطبة امرأة ظريفة من بنات خلفاء العرب الأمويين المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل من بني عبد الملك بن مروان، تُسمى ولادة … ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، وتغلب ملوك الطوائف، ثم صارت تجلس للشعراء والكتاب، وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت ذات خلق جميل، وأدب غض، ونوادر عجيبة، ونظم جيد.»
واتصل الحب بين ابن زيدون وولادة، وكان كل منهما ينظم القصائد ويتغزل بصاحبه، فمن ذلك ما قالته ولادة فيه:
وكانت كثيرة العبث والدعابة، تضمِّن أشعارها اللطائف الحلوة. ومن أقوالها عن نفسها، وفيه جرأة عجيبة:
ولا تُعرف ماهية الحب الذي كان بينها وبين من قيل إنهم أحبوها، هل كان عشقًا صحيحًا أم كان حبًّا أفلاطونيًّا بريئًا؟ ومَن يقرأ سيرتها يرجِّح أنها لم تعشق أحدًا. وقد يكون بعض محبيها قد عشقها وكلف بها، ولكن لا ندري هل نال وطره منها أم لا.
فقد قال ابن نباتة: «وكان ابن زيدون كثير الشغف بها والميل إليها. أكثر غزل شعره فيها وفي اسمها. ثم إن الوزير أبا عامر بن عبدوس أيضًا هام بها، وكلف بعشرتها، وكان قصدهم الظرف والأدب.»
ومما يؤكد هذا الظن قول ابن زيدون:
ولما هجرت ولادة ابن زيدون، وواصلت ابن عبدوس ولزمته، قال ابن زيدون يتشفى وينتقم منها:
و«الفار» هو لقب ابن عبدوس.
ومما يُحكى عن ولادة أنها مرت يومًا بدار ابن عبدوس وهو جالس بالباب وحوله جماعته من أصحابه، وأمامه بكرة تتولد من مراحيض وأقذار، فوقفت عليه وقالت:
فلم يحر جوابًا، فمضت وحُفظت هذه النادرة واشتغل بها الناس. وهذا البيت لأبي نواس، قاله عندما جاء مصر يمدح واليها فتمثلت به ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء.
ودامت على ولاء ابن زيدون أكثر مدة إقامته بقرطبة، فلما فر إلى إشبيلية تودد إليها ابن عبدوس، فاتصل بينهما وداد ربما قد بلغ درجة الحب. وكان ابن عبدوس قبل فرار ابن زيدون يسعى في استمالتها إليه، فلم يكن يقدر على ذلك. وبلغ خبر سعيه هذا مسامع ابن زيدون، فألَّف رسالة إليه على لسان ولادة، قرَّعه فيها وتهكم به، حتى صار يحفظها الناس لبلاغتها وقوة لذعها. وهي مشهورة تُعرف باسم: «رسالة ابن زيدون» وهي مطبوعة في كتاب على حدة، مشروحة بقلم ابن نباتة المصري.
ولابن زيدون قصيدة عصماء شهيرة نظمها في ولادة، يتشوق إليها بعد فراره إلى إشبيلية، ويذكر لها ما يعانيه من فراقها ويأسه من لقائها، ويستديم عهدها، وقال فيها: