شارل الثاني ملك إنجلترا
كانت أمه فرنسية، ونشأ هو يجيد اللغة الفرنسية، فلم تشق عليه المعيشة في ذلك الوطن الثاني. وكان لويس الرابع عشر متبوئًا في ذلك الوقت عرش فرنسا، وكان يعرف أن الأمة الإنجليزية متى ذهبت عنها ذكرى هذه الخصومة بينها وبين ملكها لا بد عائدة إلى الملوكية، وستطلب ملكها الشرعي وتبوئه عرش آبائه، فرتَّب لذلك معاشًا سنويًّا لهذا المليك الطريد، وأسكنه في قصره، وحاطه بحاشية، بحيث لم يكن شارل يشعر بأنه منفي غريب عن بلاده.
واجتهد شارل في أن ينجو أبوه في إنجلترا من القتل، وصار يكاتب أعضاء البرلمان في ذلك، بل بلغ من شدة رغبته في تخليص أبيه أن أرسل إليهم ورقة بيضاء موقَّعة باسمه، طلب إليهم فيها أن يضعوا جميع شروطهم وينزلوا عن قتل الملك.
فلما أخفق في ذلك هيأ أسطولًا به ١٨ بارجة، وصار يغزو به الشواطئ الإنجليزية، ثم ذهب إلى اسكوتلاندا، وتتوج فيها ملكًا في سنة ١٦٥١، وانحدر إلى إنجلترا، ولكن كرومويل كان في أوج قوته، فتلقاه وصمد له وهزمه، ففر ناجيًا بنفسه إلى فرنسا، وعرف شارل من ذلك الوقت أنه يجب عليه أن ينتظر حتى يموت كرومويل، ويعود عندئذٍ إلى عرشه.
وكانت ملكة البرتغال امرأة حصيفة، بصيرة بالسياسة الأوروبية، وكانت بلادها في ذلك الوقت في الصف الأول بين الدول الكبرى، وكانت تعرف، مثل لويس الرابع عشر، أن شارل سيعود إلى عرشه، وتصير لكلمته تلك المكانة العظيمة في المفاوضات السياسية، وكانت البرتغال تسعى في الاهتداء إلى حليف يعينها على جارتها إسبانيا، فعزمت على أن تزوج ابنتها لشارل، وتغريه في الوقت نفسه بمليون جنيه.
وكانت ابنتها قليلة الجسم سوداء الشعر، وقد تربت تربية الأديار، فكانت فتاة ساذجة متدينة، لا تعرف سوى العبادة وأعمال البيت، ولكن شارل كان يقدر المليون جنيه حق قدرها في ذلك الوقت، فلم يرفض هذا الزواج.
وكان الإنجليز قد ضجروا من حكم كرومويل، الذي أبطرته القوة فطغا، وارتكب هو نفسه الجناية التي قتل من أجلها شارل الأول؛ إذ طرد أعضاء البرلمان واستبد بالحكم، فلما مات تنفس الناس الصعداء، وطلبوا شارل، فدخل إلى لندن بين الموسيقى والطبول، تخفق فوقه الرايات. وكان فرح الناس عظيمًا، حتى يُقال إنه مات كثيرون لشدة ما أثَّر فيهم الطرب بعد أن ثابت الملوكية إلى عرشها.
وانعقد البرلمان، وقرر اعتماد مبلغ سبعين ألف جنيه لإقامة تمثال للملك المقتول شارل الأول، ولكن شارل الثاني لم يكن حريصًا على ذكرى والده، فأخذ المبلغ وأنفقه في ملذاته الشخصية.
وكان شارل شهواني المزاج، لا يفتأ يبحث عن امرأة جديدة مكان أخرى مملولة، وكان له جملة عشيقات قد تقسمن حبه. وعرف فيه لويس الرابع عشر ملك فرنسا هذه الخصلة، فأرسل إليه امرأة جميلة تتعشقه وتكون في الوقت نفسه عينًا عليه، وكانت تُدعى لويز دو كيرواي، وقد رُزقت منه بولد صار فيما بعد دوق لوتوكس.
وكانت زوجته كاترين، تلك الفتاة البرتغالية الساذجة، ترى هؤلاء النساء حوله، وتسمع ما كان يُقال من أنهن قد رُزقن منه أولادًا، فتتحرق غيظًا، وتعاتب زوجها، فيردها خائبة، ويقول لها إن الملكة يجب أن تسكت على أشياء، قد لا تسكت عليها الزوجة العادية. وكانت كاترين في تواضع وتدين وسذاجة، بحيث كانت تجتذب إليها قلب الملك أحيانًا، حتى لقد دافع عنها ووقف إلى جانبها عندما أخذ الرعاع من الإنجليز البروتستانت يتصايحون عن طرد هذه الفتاة الكاثوليكية.
وإلى هنا كان حب شارل الثاني من النوع الشهواني، لم يثبت على ولاء واحدة من النساء اللاتي عرفهن. وليس شك في أنه كان يحب زوجته، ولكن حبه لها كان عطفًا وحنانًا، أشبه بما عند الوالد لولده، منه بما عند المحب لحبيبته.
وفي إحدى الليالي خرج متنكرًا وذهب إلى أحد التياترات، فرأى فتاة جميلة، فأخذ في التحدث إليها، وبينما هما في ذلك إذا بصاحب الفتاة وهو رجل غني قد أقبل، فخرج الجميع إلى مطعم قريب، وتناولوا بعض الطعام، وشربوا بعض القداح من الجعة، وأراد الملك أن يدفع ثمن الطعام والشراب، فلم يجد في جيبه شيئًا، وأخذت الفتاة تضحك من إفلاسه وإملاقه وتطفله على الناس لكي يسكروه ويطعموه.
وكانت هذه الفتاة تُدعى نل جوين، عاشت طوال حياتها وهي لا تعرف لها أبًا أو أمًّا، نشأت على الدعارة، تكري نفسها لمن شاء، لم تعرف قط معنى الطهارة؛ فقد كان يعيش في أيامها عصابات من الأشرار يختطفون الفتيات ويؤجرونهن، وكانت هي إحدى هؤلاء البائسات، فكانت تنتقل من صاحب يملها إلى آخر يستظرفها، ثم يملها، وهكذا.
فلما كان اليوم الثاني من لقائها بالملك استُدعيت إلى القصر، وباح لها شارل بحبه، فعاشت من ذلك الوقت في كنفه، وأخلصت له الحب إخلاصًا لم يجد ما يماثله فيمن عرفهن؛ فقد كان هم كل امرأة عرفها أن تثري، وتثقل نفسها بالجواهر، وتقتني القصور، عدا هذه الفتاة، فإنها على الرغم من أنها عاشت طول حياتها بين الفجرة من اللصوص والغواة، كانت لا تزال نفسها سليمة ساذجة، فلم تتطلع إلى اقتناء الأموال من الملك، بل كانت لا تهتم إلا بمصلحته.
ويُحكى أن شارل جلس يومًا، وأخذ يتضجر من أن الناس غير راضين عن حكمه، فقالت له نل جوين على الفور: «اطرد نساءك، وانظر في الواجبات التي تجب على الملك وهم يحبونك.»
ومما يُؤثر عنها أنها كانت السبب في إنشاء مستشفى كلزي؛ فقد رأت أن الجنود الذين قُتلوا في سبيل شارل الثاني وأبيه المقتول شارل الأول، قد أسنوا وعجزوا عن كسب معاشهم، فأسست لهم هذا المستشفى يأوون إليه.
وربما كان أكبر شاهد على فضل هذه المرأة التي فقدت طهارتها الجسمية ولكنها لم تفقد طهارتها الروحية، أنها عند وفاة شارل لم تكن تملك شيئًا، حتى يُقال إن الملك وهو يحتضر، والناس حوله وقوف، أخذ يعتذر إليهم لأنه أتعبهم لطول ما يقضي من الوقت في الاحتضار، ثم صاح وهو في السكرات الأخيرة: «أرجو ألا تدعوا نل المسكينة تموت جوعًا.»