ماري ملكة اسكوتلاندا
بين كليوبطرة وماري شَبَه عظيم من جملة وجوه؛ كلتاهما كانت ملكة، وكانت الفتنة في جمال كل منهما ناشئة عن الشخصية لا عن قسامة الوجه ووسامة الأعضاء، فكان أول ما يراهما إنسان لا يجد فيهما شيئًا من الجمال، فإذا ما أخذتا في الحديث رأى من الخفة والرشاقة ما يجذبه إليهما، ويجعله يعترف بفتنتهما، وتتشابهان أيضًا من حيث أن كلًّا منهما لقيت حتفها عن سبيل الحب، وقد كانت حياتهما موضوع الشعراء والقصصيين والدراميين.
كانت ماري ابنة ملك اسكوتلاندا جيمس الخامس، وكانت أمها من نبيلات اللورين الواقعة بين فرنسا وألمانيا، امرأة ضخمة طوالًا، يزيد ارتفاعها عن ست أقدام. وكان ملك إنجلترا يحاول أن ينال يدها، ويبعث إليها بالسفراء لكي تقبل الزواج به، وكان يقول: «أنا رجل ضخم، أحب أن أتزوج امرأة ضخمة مثلي.»
ولكن ملك اسكوتلاندا كان أذكى منه وأركن فطرة؛ فقد عرف أن العامل الشخصي في الزواج هو أهم العوامل؛ ولذلك عمد إلى اجتذابها بنفسه، ورحل إليها، وأخذ في تعشقها حتى رضيته زوجًا وتزوجته وجاءت ابنتهما ماري مديدة القامة بيضاء، تكاد تكون شاحبة، حتى كان يُقال عندما شبت وتزوجت، إنها كانت عندما تشرب النبيذ يتراءى للناظر بلونه الأشهب خلال عنقها الصافي البشرة. ومات أبوها في السنة الأولى من عمرها، فصارت بذلك ملكة اسكوتلاندا. وكانت فرنسا في ذلك الوقت بلاد الحضارة، يرسل أشراف ألمانيا وإنجلترا أبناءهم إليها للتعلم فيها، والتأديب بآداب باريس، والحذق في معرفة عوائد الأشراف والطبقات الراقية، فما كادت ماري تشب حتى أُرسلت إلى ملك فرنسا. وكان حاكم فرنسا الحقيقي زوجته الإيطالية كاترين دومديشي، وكان البلاط الفرنسي في ذلك الوقت شبكة عاتية من الدسائس السياسية ومسارقات الغرام، والتأنق في إشباع الشهوات الجنسية. ونشأت ماري في هذا الوسط، فاصطبغت أخلاقها به، وعرفت منه شجرة الخير والشر.
وكانت ذكية الطبع، فلم يمضِ عليها وقت طويل حتى حذقت الفرنسية والإيطالية واللاتينية، وتدربت على الفروسية، وتعلمت الرسم والنظم، ثم حدث لها ما عجَّل في إذكاء قريحتها؛ فقد صارت زوجة لولي عهد فرنسا ولما تبلغ السابعة عشرة، ولم يكن زواجها به عن حب، وإنما رُوعيت فيه المصلحة؛ فقد كانت هي ملكة اسكوتلاندا، وكان هو ملك فرنسا. وكانت إليصابات ملكة إنجلترا عانسًا لم تتزوج، فكان عرش إنجلترا لا بد مقضيًّا عليه بأن يئول إلى السلالة الحاكمة في اسكوتلاندا للصلة القديمة بين ملوك إنجلترا واسكوتلاندا، فكانت النية من هذا الزواج أن تُجمع الأقطار الثلاثة في مملكة واحدة يحكمها هذان الزوجان.
كانت ماري عند زواجها في السادسة عشرة، وكان زوجها في الخامسة عشرة، ولم يكن بينهما حب، بل كانت تحتقر زوجها، ولا تبالي أن تُظهر ذلك؛ فقد كان عليلًا يقضي ليله في التأوه، وكان في أذنه خراج، يقض مضاجعه، ولم يكمل عامه الأول حتى مات، ولم تكن علاقتها مدة حياة زوجها بحماتها حسنة؛ فقد كانت كلتاهما تبغي الاستئثار بالحكم في فرنسا، وكانت ماري تعيرها بأنها «ابنة صيدلي».
فلما مات زوجها زالت سلطتها عن فرنسا، وعزمت على أن ترحل إلى اسكوتلاندا، حيث عرشها الشرعي الذي ورثته عن أبيها. وكان يستغرق لبها الآن عاطفتان قويتان؛ إحداهما: الطموح إلى القوة والسيادة، بحكم هذا الدم الذي ورثته عن سلالة ممتدة من الملوك. والأخرى: عاطفة الحب التي هاجها الوسط، وأثارها الزواج، دون أن تجد فيه ما يرضيها. وحُكي أنه عندما بلغت الثامنة عشرة اهتاجت عواطفها اهتياجًا عظيمًا، فكانت تخفف شدتها بتقبيل الأطفال ومعانقة الفتيات، وتأذن للشعراء في إنشادها ووصف محاسنها وتقبيل يديها.
وكانت كاثوليكية المذهب، في حين أن رعاياها الاسكوتلانديين كانوا من غلاة البروتستانتية، فلما نزلت أرض بلادها استقبلها الناس بفتور، وبخاصة لأنها كانت محوطة بحاشية من الأجانب الذين كانوا يخدمونها وهي في فرنسا، وكان رعاياها يخشون منها، ويتوجسون خيفة أن تغيِّر المذهب الرسمي الذي اختارته البلاد.
كان رجلًا مفراحًا يتوهج بالدم، عريض الكتفين مربع الفكين، وكانت ضحكته عاجلة عالية، يحسب مَن يسمعها أنه لن يكون غم حيث تكون هذه الضحكة، وكان يتفنن في اللباس والركب ومصاحبة الإخوان، له على الدوام سيماء الشجعان، وكان لون وجهه يدل على حبه الطعام، ولكنه كان يدل أيضًا على موفور العافية والقوة، وكانت أرنبة أنفه قد هُشمت، ولكن قلَّ مَن كان يلحظ ذلك، أو يفكر في العربدة التي أدت إلى هذا الهشم، وكانت صراحته وعدم اكتراثه لشيء، من أكبر أسباب فتنته.
وكان إلى شجاعته وفتوته وحبه للنساء، وتسرعه إلى تجريد سيفه عند الغضب، يعشق الآداب، يقرأ الإيطالية والفرنسية، ويكتب اللاتينية، ويقتني الكتب، فكان شخصه لذلك جماع ما تطلبه ملكة متوثبة العواطف من عشيقها؛ ولذلك أقبلت عليه ماري ومحضته حبها فلازمها، وصار أحد بطانتها.
وكانت كراهية الاسكوتلانديين حافزًا على أن تسير سيرة العدل معهم، فلم تمضِ سنوات حتى عرف لها رعاياها عدلها فأحبوها. وكان جون نوكس نفسه — وهو من غلاة الشيعة البروتستانتية — يضطر إلى الإشارة إليها باللطف والأدب.
وأرادت ماري أن تبالغ في اجتذاب عطف رعيتها عليها، فتزوجت من ابن عمها البروتستانتي اللورد دارنلي، واعتزمت من ذلك الوقت أن تصرم حبل صلتها السابقة باللورد بوثول، حتى طلبت إليه أن يتزوج، وأطاع اللورد بوثول نصيحتها، وتزوج بالفعل.
ولكن ماري كانت مخطئة، لم تصدق الحدس عن دخيلة قلبها، ولم تبحث البحث الكافي لمعرفة حقيقة خلق زوجها وابن عمها اللورد دارنلي؛ فقد دخل عليها في أول ليالي زواجها وهو سكران لا يعي، وكان خلوًا من العقل، قد حُشي رأسه بالغرور وقلبه بالأنانية، وكان يعتقد أن الملكة قد ترامت عليه لكي تتزوجه افتتانًا به، فكان يتيه عليها ويبرمها.
وحدث أن خرج عليها بعض لورداتها عقب زواجها، فجندت بضعة من الرعاع، وقامت على رأسهم، وسارت نحو هؤلاء الخارجين فأخضعتهم، ومزَّقت شملهم، وعادت منصورة إلى عاصمة البلاد، فعلت ذلك كله دون أن يشاركها زوجها الذي امتلأ جبنًا ونذالة.
فاستوثق لها المُلك بعض الاستيثاق بهذا النصر، حتى تراخت له، وعادت إلى سيرتها الأولى في العشق، فاستدعت اللورد بوثول، وأخذت معه في ارتشاف كئوس الغرام، وصارت لا تبالي بما يتقول الناس عنها، حتى بلغ بها تحدي العرف والعادة أن صارت تلبس ملابس الرجال، وبلغ سوء الظن بها من أحد شعرائها الفرنسيين، أن اعتقد لكثرة ما رأى استهتارها ومزاحها معه، أنها تحبه وتؤثره على سواه، فانسرق مرة إلى سريرها ونام تحته، فلما عرفت فعلته أُخرج بالجر والعنف، ثم حدث مرة أخرى أن دخل إلى فراشها، ونام تحت لحافها، فأُخرج أيضًا وحُكم عليه بالموت، فلما وقف على النطع لم يزد على أن قال: «ويحك أيتها الملكة القاسية، ها أنا ذا أموت لأجلك.»
وكان عندها شاعر إيطالي آخر كان ينظم لها المديح ومقطعات الغزل، لتجيبه بمثلها، وأغلب الظن أنه لم يكن بينهما سوى الإعجاب واللذة الفكرية من تقارض النظم، ولكن الغيرة كانت تأكل زوجها، حتى حدث بينما كانت جالسة إلى المائدة تتعشى هي وشاعرها الإيطالي هذا، واسمه ريتسيو، أن دخل عليها اللورد دارنلي زوجها، وجرَّد خنجره وطعنه جملة طعنات كانت القاضية عليه.
ومن هذا الوقت صارت ماري تكره زوجها، وكانت تداريه وتسايره؛ لأنها كانت حاملًا، وتخشى ألَّا يعترف بالطفل الذي على وشك أن تلده، وقد صار بعد ذلك ملكًا على إنجلترا واسكوتلاندا باسم جيمس الأول.
وكان اللورد بوثول يلازمها لا تطيق فراقه، ويُؤثَر عنها قولها عنه، وهي في سَورة الغرام: «ليس كبيرًا عليَّ أن أفقد عرش اسكوتلاندا وعرش إنجلترا معًا ما دام هو لي.»
وقد كتبت إليه في هذه الفترة جملة خطابات، فكانت تفضي إلى حبيبها بدخيلة سريرتها، وتظهره على سويداء قلبها.
وحدث بعد ذلك أن قُتل زوجها في حادثة تفجر بارود لم يُعرف الجاني فيها، ثم عَقَب ذلك أن ماتت زوجة اللورد بوثول موتًا أثار الشكوك، ثم لم يمضِ على موتها قليل، حتى تزوج اللورد بوثول من ماري.
ولكن هذا الزواج لم يدم طويلًا؛ فإن الاسكوتلانديين هاجوا لهاتين الجنايتين؛ فقد خرجا في أدنبره فسارت مركبتهما بين نعيق العامة، وكانت النساء تطلق أوقح الأسماء على الملكة، ونُصبت لها رايات كبيرة، رُسمت فيها صورة دارنلي وهو يُقتل.
ثم ثار عليها النبلاء، فقادت إليهم جموعًا من الرعاع ممن اختارتهم لخدمتها، ولكنها انهزمت أمام جيوش النبلاء المنظمة، وقُبض عليها، واعتُقلت في أحد الآطام، حيث ولدت توأمين هما ثمرة زواجها باللورد بوثول.
وقد قلنا إنه كان لشخصيتها فتنة لا يقوى أحد على مقاومتها، وهذا ما أفادها في معتقلها؛ فقد أغرت الحرس وأغوتهم حتى أطلقوا سبيلها، ومهدوا لها الفرار، وخرجت متنكرة كأنها غسالة، ولكن رقة يديها وجمال أناملها نما عليها، فقُبض عليها وأُعيدت، ولكنها عادت ثانية وفرَّت، يحرسها هذه المرة خمسون فارسًا، وواصلت السير حتى دخلت الحدود الإنجليزية، ولكنها لسوء حظها كانت قد استجارت من الرمضاء بالنار؛ فقد قبض عليها الإنجليز، ولفقوا لها تهمة قتلوها بها، بعد أن اعتقلوها مدة.
أما زوجها فقد فر إلى الدانمرك، حيث اعتقله ملكها أيضًا، ومات غريبًا عن بلاده.