شارلوت كورداي
كانت شارلوت كورداي فتاة فرنسية تنتمي إلى أسرة شريفة قديمة، يُعد منها كورناي الشاعر. ولكن الدهر أخنى على الأسرة، حتى صار جملة من أفرادها في عداد الأكَّارين، ولكنها نشأت في وسط بعيد عن الريف والطبيعة؛ فقد قضت صباها في أحد الأديار، حيث لُقِّنَت القراءة والكتابة، وجال فكرها جولة صغيرة في الكتب المقدسة. وخرجت من الدير، فلزمت عمة لها عجوزًا، وكان بمنزلها بعض الكتب فالتهمتها التهامًا، وكان أحب الكتب إليها تراجم فلوطرخس وتاريخ الرومان، حتى امتلأ رأسها بقصص المجد والبطولة والتضحية، فكان مناها أن تخدم بلادها، ويخلد ذكرها في صحف التاريخ، وتُقرن ترجمتها إلى تراجم أولئك الأبطال الذين قرأت عنهم.
وشبت الثورة الفرنسية وهي في حوالي العشرين من العمر، فاهتمت لها، وأخذت تدرس أسبابها، وترقب تطورها، وكانت تعطف على العامة لقيامهم على الحكومة، ورغبتهم في قلبها؛ لأنها رأت بعينها عسف النبلاء والموظفين بالأهالي، الذين كانوا يئنون من الضرائب الباهظة، يلي بعضها بعضًا طوال العام، حتى عم الفقر البلاد، وشمل الشقاء جميع الطبقات، عدا الأشراف والموظفين وكل متصل بالبلاط.
ولكن الثورة الفرنسية تولَّى قيادتها فئة من الغلاة، أخذت في التقتيل واضطهاد المخالفين لمذهبها، القائلين بالتؤدة والاعتدال، فضج الناس من ظلمها؛ إذ بعد أن قتلت الملك والملكة، وأتبعتهما بعدد كبير من الزعماء وقادة الرأي، أخذت تبث العيون بحثًا عن الخونة، و«الخونة» في عرف هذه الفئة لم يكونوا سوى كل معتدل يجرؤ على نقد رجالها وأعمالهم.
وكان «مارات» زعيم الفئة السفاكة، قد بدأ حياته بمزاولة الطب، ودرس العلوم الطبيعية، وبرع في هذا الدرس بعض البراعة، أقر له جوته، الأديب الألماني، وفرانكلين العالم الطبيعي المعروف، بما أداه من الخدمة في درس الكهربائية، ولكن ما نشبت الثورة الفرنسية حتى نفض مارات عنه رداء العلوم، وتقمص ثوب السياسة، وانغمس في حمأتها، حتى جلب على نفسه عداء عدد كبير من الناس، لغلوه في الدعاية إلى الجمهورية، واضطهاد المعتدلين القائلين بتقييد الملكية بدستور على النحو الإنجليزي. وأخذ أعداؤه في مناوأته، والبحث عن أذاه، حتى اضطر إلى الهجرة إلى الريف خوفًا منهم، وبقي هناك مدة، عاد بعدها إلى باريس خفية.
ولكنه وجد أعداءه يقظين، يترقبون مجيئه، ويفتشون عنه، فاختفى منهم في مكان لا يخطر ببالهم أن الكلاب تعيش فيه؛ إذ لم يكن هذا المكان سوى سرداب تجري فيه أوساخ مراحيض باريس، فكمن فيه مختبئًا، يرسل على أعدائه منه سهامًا من المقالات المسمومة، ويحرِّض عليهم، ويغوي العامة بهم. وناله من مقامه في ذلك السرداب مرض جلدي شنيع، يُقذي عين الناظر، ويُؤلمه أشد الألم، حتى انتهى به الحال أن يخفف وطأته عليه بأن يقعد طول نهاره في حوض ماء دافئ.
وكانت شارلوت تسمع عن مارات أنه زعيم الفئة السفاكة، وأن المقصلة لا تهدأ عن قطع الرءوس، ما دام هذا الرجل حيًّا، وكانت تعيش في نورماندي، حيث أكثر السكان من الجيرونديين — أي المعتدلين — «فكانت تغشى اجتماعاتهم، وتتشرب بآرائهم، حتى وقر في ذهنها، وثبت في قلبها، أنه لا نجاة لفرنسا إلا بقتل مارات.»
ففي سنة ١٧٩٣ قر قرارها أن تذهب إلى باريس وتقتله، وحصلت على جواز سفرها من بلدتها كاين في نورماندي إلى باريس (ولا يزال هذا محفوظًا). وقد جاء فيه ما يلي: «أجيزوا مرور ماري كورداي عمرها ٢٤ عامًا، وطولها خمسة أقدام وبوصة، ولون شعرها وحاجبيها كستني، وعيناها سنجابيتان، وجبهتها عالية، وفمها متوسط، وفي ذقنها ندبة، ووجهها بيضوي.»
ويوجد أيضًا لها رسمان باقيان للآن، يتبين منهما أنها كانت جثلة الشعر، عيناها تنطقان بالإخلاص والشجاعة، وكان قوامها معتدلًا، ينطوي على الجمال والرشاقة.
ولما وصلت باريس أرسلت إلى مارات ورقة تقول فيها: «أيها الوطني، لقد وصلت من كاين هذه الساعة، وليس شك في أن حبك بلادك، يُرغبك في أن تعرف الحوادث التي حدثت في هذا الجزء من الجمهورية، وسأزورك بعد ساعة، فأرجو من إحسانك أن تتكرم بمحادثتي، وسأفيدك بما فيه منفعة فرنسا.»
فرفض مارات أن يتلقاها، فعاودت الطلب، وعاود الرفض. ثم جاءت مرة ثالثة، وأخذت تتكلم مع الخادم، وتلح في رؤية مارات، وسمع مارات صوتها فاستدعاها، وكان قاعدًا في حوض يغمر الماء معظم جسمه، وهو يقرأ ويكتب، فلما دخلت حيَّته، وأخذت تصف له جماعة الجيرونديين المعتدلين في بلدتها وما ينوون فعله، فلما سمع مارات ذلك قال لها: «جميع هؤلاء الذين تذكرينهم سيُقتلون قريبًا في بضعة أيام.»
وكانت شارلوت قد اشترت سكينًا من نوع السكاكين التي تستعمل في المطبخ، فأخرجته من صدرها، وطعنت مارات به عدة طعنات، مزقت قلبه ورئته، وصاح مستغيثًا، فدخلت خادمتاه، وأوثقتا شارلوت وسرعان ما جاءت الشرطة وقادوها إلى المخفر.
والآن قد يتساءل القارئ: أين هو الغرام في هذه القصة الطويلة، وقد أدركنا خاتمتها أو كدنا؟
والحقيقة أن غرام شارلوت كورداي من أعجب ما روته كتب التواريخ؛ فإنها عندما قُدمت للمحاكمة كان قد تسامع الناس عن الجناية، وأخذوا في الحديث والمبالغة في الرواية عن هيئتها وسيرتها، حتى بلغ الخيال من بعضهم أن صار يصفها كأنها غول بشع، فازدحم الناس إلى المحكمة لرؤيتها، وكان بين هؤلاء المتزاحمين شاب ألماني يُدعى آدم لوكس، بعثه الاستطلاع على أن يذهب هو الآخر ليرى هذه الغولة.
ولكنه ماذا رأى؟ رأى وجه فتاة قد جلل وجهها الشعر الجميل، يزيد حسنه منديل أبيض قد رُبط فوقه على عادة الفتيات النورمانديات، ورأى عينين يتجلى فيهما الوقار والجد، وتكاد أن تختفيا وراء الأهداب الطويلة السوداء، ورأى وجهًا ينبض بالصحة الوفيرة، وقد احتقن بفعل الشمس والهواء الطلق، هذا إلى صدر منتفخ، وذقن كأنها ذقن قيصر، كلها إرادة وعزم، تكسو جميع ذلك هالة قدسية من التضحية وبذل النفس، في مصلحة الوطن. ولم يرها آدم لوكس سوى مرة أخرى في ١٧ يوليو وهي تحت المقصلة، ولكنه سُحر بجمالها فأخذته روعته، وافتتن بجلالة نفسها، وذهب يوم إعدامها إلى المقصلة، وسمعها بأذنه وهي تقول قبل أن تهوي على عنقها: «حسبي أني أديت واجبي، وما عدا ذلك فباطل.»
ليست المقصلة عارًا الآن؛ إذ قد صارت منذ ١٧ يوليو مذبحًا قد غُسل من كل دنس بهذا الدم البريء. أجل يا شارلوت المقدسة، اغفري لي إذ لم يبدُ مني في الساعة الأخيرة تلك الشجاعة، وتلك الوداعة، اللتان هما من صفاتك. إنه لمن مجدي أن أجدك تفضلينني؛ لأنه حق أن يفضل المعبود عابده.
وانتشرت هذه الرسالة بين الناس، وقُبض على آدم لوكس، وقُدم إلى المحاكمة، وكان كما قلنا ألمانيًّا، فكان القضاة على الرغم من أن موضوع الرسالة لا يعدو أن يكون شرحًا لعسفهم وسبًّا فيهم، يميلون إلى تبرئته، على شرط أن يجحد ما قاله، وأن يعود إلى ألمانيا.
ولكن القضاة كانوا يجهلون الطور الذي بلغه آدم لوكس في حبه شارلوت؛ فقد كان حبه لها قد بلغ حد العبادة، حتى صار يخشع لذكراها، ويتأوه عندما تخطر بباله، فكانت في الحقيقة وسواسه وهمه؛ ولذلك ما كاد أن يسمع من القضاة اقتراحهم جحد ما قال في الرسالة، حتى انهمرت من فيه ألفاظ السباب، فأخذ يشتمهم ويحقرهم، ويمجد ذكر شارلوت تمجيد العابد لربه.
وحُكم عليه بالإعدام، فأسفر عندئذٍ عن وجهه، وسار إلى المقصلة مستبشرًا، واثقًا أنه أدى ما عليه نحو شارلوت.