نابليون وماري فالفسكا
كانت هموم نابليون في الفتح والحروب، ومشاغله في مكايدة أمراء أوروبا وملوكها، وسوس رعاياه، تحول دون صرفه اهتمامه إلى الحب والغرام، فكان لا ينظر إلى المرأة إلا بمقدار ما فيها من المحاسن التي تلبي شهواته الدنيا، فكان يشتهي دون أن يحب. ولكن المرأة التي كان يشتهيها كانت تجد فيه من صفات الرجولة وسمات العظاميين والتفوق النادر والطموح الدائم إلى السيادة، ما كان يجعلها تتعلق به وتعشقه وتحبه حب التضحية. وقد عرف نابليون جملة نساء قلَّ منهن من خنه، وكثر منهن من أخلصن له وعشن على ولائه.
ومن هؤلاء النساء مدام ماري فالفسكا، كانت فتاة بولندية في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت غاية في الجمال، كأنها دمية إغريقية. وكان في عينيها حور، وفي أهدابها طول يزيد قوة هذا الحور وأثره في نفس الناظر. وكانت تنتمي إلى أسرة فقيرة، ورآها أحد أشراف بولندا، وكان رجلًا فانيًا مسنًّا فأحبها حب العشق والوله، وتزوج بها.
وحدث أن دخل نابليون بولندا في سنة ١٨٠٧ بعد أن هزم النمسا وقضى على جيوش ألمانيا. وكان البولنديون يتوسمون فيه المخلِّص لبلادهم، المعيد لهم استقلالهم من الأمم الثلاث التي اقتسمتها، وهي روسيا والنمسا وألمانيا، فقابلوه بمظاهر الحماسة والتهليل، وكانت عربته لا تدخل إلى بلدة من بلادهم، حتى كانت طاقات الزهر تغمرها وتُنثر تحت أرجل خيولها. وكان قد تطوع في الجيش الفرنسي آلاف من البولنديين، الذين كانوا يرجون أن يحققوا استقلال بلادهم على يدي نابليون، وكان نابليون يعرف قيمة هذا الأمل في تقوية جيشه، فكان يُمنِّي البولنديين بالوعود الخلابة، ويعللهم بالأماني التي كان يعرف هو نفسه كذبها، وعدم إمكان تحقيقها.
فبينما كان نابليون في مدينة برونية، سائرًا في عربته والهتاف يتعالى والنساء يزحمن الرجال، وعطر الزهور يعبق في الهواء، إذا بصوت حلو يقول: دعوني أمر حتى أراه ولو لحظة واحدة.
وكان هذا الصوت ماري فالفسكا. وما هو أن شقت طريقها إليه، وصارت أمام العربة حتى قالت: أرحب بك ثلاثًا يا مولاي، إننا مهما قلنا أو فعلنا، فلسنا نقدر على أن نترجم عن شعورنا بالفرح لمقدمك، وعن رجائنا بأن تخلص بلادنا من الظلمة.
فتأثر الإمبراطور من جمالها، وانحنى أمامها، وأخذ طاقة من الورد وقدمها إليها قائلًا: خذي هذه برهانًا على إعجابي. وإني أرجو أن ألتقي بك في فارسوفيا لكي أسمع من هاتين الشفتين كلمات الشكر.
ولم يكن نابليون ممن ينسون شيئًا يسر أو يضر، فما هو أن وافى فارسوفيا حتى سأل عن الفتاة، وطلب قدومها إليه.
ولم تمضِ ساعات حتى كان الأمير بونياتفسكي، يرافقه آخرون من نبلاء بولندا، قد وصل إلى منزل الفتاة، يسألها التوجه إلى الإمبراطور. وتعجبت الفتاة من هذه الدعوة، وحرص نابليون على معرفة منزلها، واحتفاله بها حتى يرسل إليها بضعة من أشراف قومها، لكي تحضر معهم إليه، فغمرها الحياء حتى صبغ وجنتيها، ثم قال الأمير: «هذا يا سيدتي هو ما أمرني به جلالته؛ طلب إليَّ أن أدعوك إلى الحضور إلى الاحتفال الذي سيعقد للرقص هذه الليلة، ولعل الله قد قدر أن تكون نجاة بلادنا على يديك.»
وكانت ماري تغالي في وطنيتها، وتتوق إلى استقلال وطنها، فكانت هذه الوطنية تغريها بالذهاب إلى نابليون، ولكن شيئًا وسوس في صدرها بأن نابليون لا يبغي خيرها من هذه الزيارة، فترددت ثم أحجمت.
وما كاد هؤلاء الأشراف يخرجون حتى جاءها فوج آخر من الأهالي الذين عرفوا بخبر هذه الدعوة، وصاروا يلحون عليها في تلبية دعوة الإمبراطور، حتى زوجها نفسه لم يحجم عن التضحية بعرضه الشخصي لأجل منفعة وطنه، فأخذ هو الآخر يلح عليها بالذهاب.
فذهبت تلك الليلة إلى الاحتفال، وقعدت منزوية في إحدى نواحيه؛ لأنها كانت تجهل فن الرقص. وبينما هي تكلم الأمير بونياتفسكي، وإذا بشخص قد وقف إلى جانبها، شعرت هي أنها لا تجسر أن ترفع نظرها في وجهه. وكان هذا الواقف نابليون، الذي فاجأها بقوله: لقد أخطأت في اختيارك هذا اللباس الأبيض؛ لأن الأبيض لا يشاكل الأبيض.
ثم انحنى عليها، وقال وهو يهمس: كنت أنتظر استقبالًا آخر.
فلم تقوَ ماري على التبسم، أو على التطلع إلى وجهه. ثم تركها في مكانها، وسار بعيدًا عنها. وانتهت الحفلة، وخرج المدعوون، وذهبت ماري إلى دارها، وقلبها مفعم بالإحساسات المختلفة.
لم أرَ أحدًا غيرك. لم أُعجب إلا بك. لا أرغب إلا فيك. أجيبي فورًا وهدئي روعي.
فلم يبقَ شك عند ماري في الغرض السافل الذي يطلبها من أجله نابليون، فأخذتها العزة بالعرض، وشاع الغضب في جسمها، وحمي رأسها، ثم تفجرت عيناها بالدموع، فأخذت تنشج أحر نشيج، وتبكي مر البكاء، وتندم على تحيتها له وهو مارٌّ في العربة.
ولم تُجِب على رسالة نابليون، وبقيت إلى اليوم التالي. ولكن ما أتى عليها صباحه حتى سلمتها الخادمة خطابًا آخر، فأخذته ورفضت أن تفتحه. ثم توافد الزائرون إلى بيتها، وهي راقدة في سريرها ترفض استقبالهم، وكان جميع الزائرين يعرفون غرض نابليون، ويستهينون بعرض المرأة يُبذل في سبيل تحرير الوطن، حتى زوجها نفسه، صار يعنفها على عدم تلبيتها دعوة الإمبراطور. وأخذ الناس من أهالي بولندا، المشتغلين بتحرير بلادهم، يرسلون إليها الخطابات، يسوِّغون لها فيها التضحية بالعرض، من أجل رفعة الوطن وكرامته واستقلاله.
وهكذا قضى أن تتألب جميع القوى على هذه المرأة، لكي تذعن لإرادة نابليون، وكانت قد أُقيمت وليمة كبرى ودُعيت إليها، فأجابت.
فلما التأمت الوليمة مر نابليون على المدعوين، ووقف عندها، وقال: سمعت أن المدام كانت متوعكة، فعسى أن تكون قد شُفيت.
ولم يزد على ذلك كلمة طوال السهرة، يوهمها بذلك أنه لم يعد يبالي بها، وكان نابليون داهية، يرمي إلى غرض بعيد في كل ما يفعل، فأخذ في تلك السهرة ينظر إلى بعض النساء، ويقبل عليهن بالحديث، كأنه مشغوف بهن، وكأنه قد نسي ماري التي أعرض عنها تمام الإعراض، وفي خلال ذلك تلحظه ماري، وتأسف على تلك الفرصة التي عرضت وفاتت، دون أن تنتفع بها.
وانتهت السهرة، وطلب إلى ماري أن تبقى، فبقيت، فجاءها أحد قواد نابليون وناولها رسالة، فلما فضتها وجدت أن نابليون يضرب لها ميعادًا تلك الليلة للقائه، ويهيئ لها الوسائل اللازمة لإخفاء أمرها.
ثم لم تمضِ برهة قليلة حتى طرق الباب ودخل خادم، وناولها ما تستر به وجهها وجسمها. ثم خرجت معه، وركبت عربة صارت تنهب بها الشوارع، حتى أنزلتها أمام قصر كبير صعدت درجه، وصارت في إحدى غرفه الرحبة.
فما كادت تستريح حتى جاءها نابليون، وجلس قريبًا منها دون أن يلاصقها، وأخذ معها في الحديث حتى اطمأنت، وأنست به، حتى إذا وشك النهار أن يطلع قال لها: «والآن يا حمامتي، اذهبي إلى دارك واستريحي. لا تخشي النسر (نابليون) فسيأتي وقت تحبينه فيه، فينفذ لك جميع أوامرك.
ثم ودعها إلى الباب، ووقف عنده، وقال إنه لن يفتحه حتى تعده بالمجيء في اليوم الثاني. فوعدته ذلك.
وفي اليوم التالي جاءتها منه هدايا الزهر والألماس، فتناولتها وأذرتها في الغرفة وهي مغضبة، ولكنها مع ذلك ذهبت إلى الوليمة، وعندما انتهت السهرة بقيت كما فعلت في الليلة الماضية. وجاء إليها نابليون والغضب يقدح عينيه، وقال لها: «لمَ لم تلبسي الألماس الذي أرسلته لك؟ لمَ كنت تعرضين وتتحامين أنظاري هذه الليلة؟ هذه مسبة لا أطيقها، يجب أن تعرفي أني منتصر عليك، وأنه يجب أن تحبيني، يجب أن تحبيني؛ فإني قد رددت إلى بلادك اسمها، وحظها الآن في كفي.»
ثم أخرج ساعته وقبض عليها، وقال: «انظري إلى هذه الساعة، إن بلادك في يدي الآن مثل هذه الساعة. وإني أقدر على أن أمزقها شذر مذر، إذا لم تجيبي طلبي، وأتركها شظايا كما أفعل بهذه الساعة.»
قال ذلك، ورمى الساعة بكل قوته إلى الحائط، فذهبت شظاياها في كل جانب من الغرفة، وارتاعت ماري لهذا المنظر، فأُغمي عليها، وأفاقت وهي بين ذراعي نابليون.
وبعد ذلك صارت ماري خليلته، لا يفارقها في حروبه أو وقت السلام في باريس. وأحبته هي حب العبادة، فكانت تضحي بكل شيء من أجله، ولم تكن تطمع في شيء سوى حبه، وحتى إنه عندما انهزم واستأسر في سنة ١٨١٥، ونُفي إلى جزيرة القديسة هيلانة طلبت أن تذهب معه، ولكن حيل بينه وبينها، وعاشت مدة وجيزة بعده، وماتت فقيرة. وكانت آخر كلمة لفظتها في نزع الموت هي: نابليون!
وكانت كلما استأدت نابليون وعدها بتحرير بلادها يراوغها ويقول: «إني أحب بلادك، ولكني لا أستطيع أن أسفك دماء الفرنسيين من أجل بلاد أجنبية عنهم.»
وقد ولدت لنابليون ولدًا، هو الوحيد الذي عاش إلى سن الشيخوخة من نسل نابليون، وقد استخدمه نابليون الثالث، وعيَّنه في المناصب العليا، فأداها بذمة وأمانة.