ماري لويز
في سنة ١٨٠٩ كان نابليون في أوج عزه وسلطانه، قد خضعت له أوروبا كلها أو معظمها، وعندئذٍ أخذ صباغ الثورة الذي تخضب به ينصل عنه، وصار يرتدي رداء الملوك، ويحمل شعارهم، ويبحث عن زوجة تلد له ولي عهده الذي يحمل اسمه ويخلد ذكره.
وكان إلى هذا الوقت متزوجًا جوزفين، تلك الأرملة الجميلة التي عشقها وهو بعدُ ضابط فقير، فانفصل منها، وحصل على طلاقها، وأجال نظره في قصور الملوك في أوروبا، ينشد أميرة من سلالة ملوكية قديمة، تكون أمًّا لملك أو إمبراطور، يحمل اسم نابليون.
وكان لقيصر روسيا أخت جميلة، فطلبها نابليون من القيصر، فأبى أنفة من مصاهرة هذا الإمبراطور المحدث، وإشفاقًا على أخته أن تقع بين براثن هذا النمر، فتحول عنه إلى إمبراطور النمسا والمجر، ولم يكن له بين ملوك أوروبا وأمرائها مَن هو أعدى له منه؛ فقد حاربه خمس مرات وهزمه، ودخل نابليون مدينة فينا على رأس جيشه الظافر، وأذاق أهلها ذل الهزيمة ومهانة الانكسار، فكان الإمبراطور فرانسز يكرهه كما يكره الإنسان مبدأ ومذهبًا يريد أن يمحقه من الوجود.
ولكن سياسة النمسا في ذلك الوقت كانت في يد الأمير مترنيخ، وكان داهية عظيمًا، فلما علم برفض قيصر روسيا اغتنم هذه الفرصة وعرض على نابليون أن يتزوج ابنة الإمبراطور فرانسز، وكان يقصد من هذا الزواج ضمان العرش النمسوي، وتأمين الإمبراطورية من غزوات نابليون، وإن كان في ذلك يضحي بهذه الفتاة الغريرة.
ولم تكن هذه الفتاة، ماري لويز، قد بلغت التاسعة عشرة من عمرها، ولم تكن قد رأت نابليون، وإنما كانت تسمع عنه ما كان يحكيه أبوها وعمومتها، وكانوا كلهم يدعونه «الغول».
وكانت ماري لويز مديدة القامة، بيضاء يجلل وجهها شعر كستنائي اللون، يميل إلى البياض، وكانت وجنتاها متوردتين، يتدفق ماء الشباب بل الصبا من وجهها. وكان فمها واسعًا، عليه طابع آل هابسبورغ في تلك الشفة السفلى المتدلية، التي تُرى للآن في ألفونسو ملك إسبانيا.
وأدرك أبوها قيمة الاتحاد مع نابليون، فرضي بذلك. وقبل نابليون الزواج، وحدد له ميعادًا. وذهب الإمبراطور فرانسز إلى ابنته وكاشفها بهذه النية، فارتاعت لأول وهلة، وسألتهم كيف كانوا يدعونه «غولًا»، وكيف تتزوج برجل هذه صفته؟!
فأخذ أبوها في طمأنتها، حتى استكانت إلى حظها، ورضيت بالتضحية بنفسها لأجل أمان بلادها. وكان مما قالته لمترنيخ عندما كان يغريها بأن يقدم لها جميع ما تطلب: «لست أطلب سوى ما يأمرني الواجب أن أطلب.»
وأُعلنت بعد ذلك خطبة نابليون لها، وصارت فينا وباريس كلتاهما تتنافس في الاحتفال بالزواج القادم وتعد له معداته.
يا ابنة عمي
إن الصفات الباهرة التي يتزين بها شخصك قد أوحت إلى نفسي الرغبة في أن أخدمك، وأكون على ولائك. وعندما عرضت رغبتي هذه على والدك الإمبراطور، ورجوته في أن يأتمنني على سعادتك، كنت أُمني نفسي بأنك سوف تدركين العواطف التي دفعتني إلى هذا العمل، فهل لي بأن أملق نفسي، وأقول بأن قرارك لن يكون عائدًا إلى الطاعة الأبوية فقط، ومهما يكن إحساسك من ناحيتي، أو ميلك إليَّ ضعيفًا، فإني أريد أن أحتفظ بهذا الإحساس وهذا الميل، وسأجتهد في أن أكون سبب مسرتك، حتى إني من الآن أملق نفسي، ومعتقدًا بأنك سوف تستحسنين شخصي، وهذا غاية ما أريد أن أصل إليه، ولأجل هذه الغاية أريد من سموك التعطف عليَّ.
وكثيرًا ما فوجئت الأميرة وهي تبكي في تلك الفترة قبيل الزواج بأيام، وقد قضى أبوها معها يومًا كاملًا وهو يطمئنها ويقويها، وكان الجميع يشعرون أنها قد ضُحي بها في سبيل سلامة الإمبراطورية.
إني أفكر فيك على الدوام، وسوف أفعل ذلك دائمًا؛ فقد منحني الله القوة لأن أتحمل هذه الصدمة الأخيرة، وفيه وحده أضع كل ثقتي، فهو سيكون في معونتي، ويمنحني الشجاعة، وبذلك أتقوى في تأدية واجبي نحوك؛ إذ إني قد ضحيت بنفسي لأجلك.
وبهذه الحالة العقلية دخلت ماري لويز فرنسا. وكان نابليون يذكر ماري أنطوانيت وحاشيتها النمسوية، وكراهة الفرنسيين لهذه الذكرى؛ لهذا أمر جنوده بمنع النمسويين المصاحبين للأميرة من دخول فرنسا، فرجعوا من الحدود، وبقيت الأميرة وحيدة بين هؤلاء الأغراب، وشعرت بوحشة بينهم آلمتها، وأعادت إليها ذكرى صباها وشبابها بين بني وطنها.
فلما صار بينها وبين باريس نحو ستين ميلًا، تلقاها نابليون في ليلة مكفهرة عاصفة ممطرة، فركب إلى جانبها، وهي لا تتبين وجهه، حتى وصل إلى قصره في ساعة متأخرة من الليل.
•••
واستيقظت في الساعة الحادية عشرة، ولم تقدر على مبارحة سريرها وعاشا معًا في وقار الملوك. وكان نابليون في سن والدها، ولذلك لم يكن يأذن لرجل أن يخاطبها إلا في حضرة إحدى وصيفاتها.
وفي عام ١٨١١ نال مبتغاه، وولدت له زوجته ولي عهده «ملك رومية». ثم جاءت سنة ١٨١٢، وبدأ حملته المشئومة على روسيا.
وفي ذلك العام عرفت ماري لويز الكونت نيبرج، وكان نمسويًّا، وعدوًّا لدودًا لنابليون ولجميع الفرنسيين، جُرح في إحدى المعارك، ففقد إحدى عينيه، وتأثر وجهه بندوب الجرح، فكان يخفي عينه وهذه الندوب بعصابة سوداء، وكان يمت إلى أسرة نبيلة في النمسا، وكان شجاعًا مقدامًا، يجيد البراز ويفهم الأساليب السياسية، ويعمل بعقله وقلبه في أن يعكس على نابليون أغراضه. وكان مع ما أصاب وجهه من التشويه، يجذب إليه النساء بحلاوة حديثه، وشرف سمته، ونبالة حركاته.
ثم كانت سنة ١٨١٤ عندما ترك نابليون السياسة والحروب، وذهب إلى جزيرة إلبا كأنها منفى اختياري؛ فقد رأى الساسة النمسويون أن زمان التضحية بفتاتهم قد انتهى، وعقدوا النية على ألَّا ترجع ماري لويز إلى زوجها ثانيًا، وذهبت ماري لويز إلى فينا، ولم ترَ نابليون بعد ذلك.
وعقدت لها حكومة النمسا دوقية بارما في إيطاليا، بما يلحقها من الأرضين والأملاك، وسافرت إليها بصحبة الكونت نيبرج.
وكان نابليون وهو في جزيرة إلبا يرسل في طلب زوجته وابنه، فلا تصل الرسائل؛ إذ كانت حكومة النمسا تتسلمها وتمنع وصولها. ورأى الكونت نيبرج أن ينتقم من نابليون، فصار يتودد إلى ماري لويز، يغني لها في لغتها، ويتندر لها القصص، ويتنزه معها في الجبال والوديان، ويتلطف لها في الرعاية والخدمة، وكان قلبها أجوع ما يكون إلى مثل هذه المعاملة، بعد أن رأت من نابليون جفاء الطبع وقساوته.
لذلك مالت إلى الكونت نيبرج، وتزوجت به زواجًا سريًّا بعد وفاة نابليون، وولدت له ثلاثة أولاد، قبلما مات سنة ١٨٢٩.
ونسيت نابليون، ولم تعد تفكر فيه، ولما بلغها موته لم تعر الخبر أقل أهمية، بل خرجت على الفور في نزهة مع الكونت نيبرج.
أما نابليون فكان في جزيرة سانت هيلانة يتحرق غيظًا لمنعه من مراسلة زوجته، ولم يكن يعرف قصة حبها لنيبرج، ولكنه عندما عرف لم يقل شيئًا في ماري لويز، ولم يقدح في عرضها.
وقبيل موته قال لطبيبه: «أرجو أن تأخذ قلبي بعد موتي، وتضعه في كئوس، وتحمله إلى بارما حيث حبيبتي ماري لويز، وأرجو أن تخبرها بأني أحببتها، وأن حبي لها لم ينقطع، وأخبرها بما رأيت، وجميع ما يختص بمركزي ومودتي.»
وتكاد تكون قصة نابليون وامرأته أن تكون مأساة، لولا أنها مشوبة بفظاظة نابليون وجمود ماري لويز، ومع ذلك ففيها عبرة جديرة بأن يفهمها كل إنسان، وهي أن الحب لا يأتي اقتسارًا، ولا يُؤخذ غصبًا؛ فإن مفاتيح القلوب هي العطف والحنان والولاء.