بيرون وتيريزا
كان بيرون من أكبر شعراء إنجلترا. كان ينظم الشعر عن سليقة عجيبة، تؤاتيه في التعبير والخيال عن جميع ما تناوله من الموضوعات، وكانت حياته أيضًا أشبه شيء بقصيدة حافلة بمجازفات الحب والحرب والسياحة.
وقد كان بيرون، وهو بعدُ صبي، يشعر بدوافع الغريزة الجنسية، قبل أن يتم نموها فيه، فكان وهو في الثامنة من عمره متعلقًا بصبية تُدعى ماري دف أشد تعلق. ولما بلغ العاشرة أحب ابنة عمه، وعندما بلغ الخامسة عشرة أحب فتاة في السابعة عشرة حبًّا أعمى، فكان يقفو أثرها أينما ذهبت، لا يسمع لنصيحة ولا يرعوي إلى كلام أصدقائه وذوي قرباه.
وقد وُلد في يسار، من أصل نبيل، فهوى الشعر ثم احترفه. وما بلغ الرابعة والعشرين، ونشر على الجمهور علياءته الكبرى (تشايلد هارولد) حتى صار شاعر إنجلترا الأول. وقد ربح من هذه العلياءة نحو أربعة آلاف جنيه، فقويت عزيمته في الشعر والحب، فلم يكن له من شغل وسلوى سواهما، يراوح بينهما، حتى أجمهما في النهاية، كما يأجم الإنسان نوعًا طيبًا من الطعام قد لزمه مدة طويلة.
وقام في نفسه في النهاية أن يحقق حياة الخيال التي يصفها في أشعاره، فخلع عن نفسه رداء الترف، وشخص إلى بلاد الإغريق، حيث انضم إلى الجيش اليوناني الوطني، الذي تألَّف لطرد الأتراك واستقلال البلاد وبقي يجاهد حتى مات.
وكان مما امتاز به بيرون، صورة وجه قال عنها سير والتر سكوت القصصي المعروف: «إنها شيء يحلم الإنسان به.» فكانت النساء يشغفن به لأول مرة يشاهدنه، وكن يتصدين ويستهدفن له، حتى ينلن منه كلمة مديح أو إشارة حب. وزاره أحد الألمان، فقال: إن النساء يحاصرنه حصارًا لافتتانهن به.
وكانت لذلك حوادث حب عديدة، كان هو فيها المطلوب لا الطالب؛ فقد رأته السيدة كارولين لام، زوجة رئيس وزراء إنجلترا، فهامت به أشد هيام، حتى كان يهرب منها. وعندما رأته لأول مرة صاحت قائلة: «هذا الوجه الشاحب هو ما قدرته لي المقادير.» فلما أنست به قليلًا قالت: «كله سوء، وكله جنون، وكله خطر.»
وكان مما يغيظ بيرون منها أنها كانت تنظم الشعر وتطلب منه الإطراء الدائم لنظمها وجماله، وكانت تلح عليه في حبها، حتى سئمها، وصار يهرب منها. ودخلت عليه مرة متنكرة في هيئة غلام، ورأت منه إعراضًا، فقبضت على مقص، وحاولت أن تطعن بطنها به.
وتخلص منها بيرون أخيرًا في سنة ١٨١٥؛ إذ عقد زواجه على آنسة إنجليزية، ولم يكن الدافع إلى هذا الزواج حبًّا صادقًا لها، وإنما كانت الحقيقة أنه اعتزم أن ينتهي من حياة الحب المحرم، ونزغات الهوى، ويدخل في حظيرة المتزوجين الهادئين، ولكنه لم يحسن الفراسة في هوى قلبه، ونزعة نفسه؛ فقد كان يجيب على أسئلة الكاهن وقت الإكليل أجوبة خطأ، وتفلت من لسانه عبارات يعتبرها الناس في مثل تلك الظروف نذير شؤم للحياة الزوجية؛ وذلك لأنها دليل على أن العقل الكامن لا يطابق الوجدان في أغراضه ومناحيه.
وافترق الزوجان بعد ولادة أول طفلة لهما فراق الأبد، وأخذ الناس بالتشهير ببيرون لسوء معاملته زوجته، وصار أكثرهم يتحامون لقاءه، حتى هجر إنجلترا إلى القارة الأوروبية، وقضى معظم حياته بعد ذلك بعيدًا عن بلاده.
وقد كان بيرون فوق حد شهواته، لا يعير الأخلاق العامة قيمة. ومما يُعزى إليه أنه عشق أخته، وقد كان يُظن أولًا أن قالة السوء هم الذين أذاعوا عنه هذه الفرقة، ولكن تبين من خطاباته التي نُشرت حديثًا، أن التهمة ثابتة عليه، لا وجه لنقضها، وفي أشعاره ما يوهم القارئ أنه يسوغ هذا العشق، وكان قد افترق من أخته هذه وهو طفل، وبقي على هذا الفراق إلى سن الشباب، حين التقى بها، فوجد فيها وجهًا أنور كالمصباح، وقامة مديدة، كأنها علم وذكاء يلتقي بذكائه، ثم أنس الأخوان أحدهما إلى الآخر، واشتعل الحب بينهما، وأنجبا طفلًا، ويُقال إن هذا الحادث الأخير كان السبب الأصلي لفراق زوجته، التي بقيت سنين وهي تكتم حب هذين الأخوين.
وفي سنة ١٨١٥ كان في مدينة البندقية، فالتقى بسيدة متزوجة تُدعى تيريزا، كان زوجها كونتًا من أشراف إيطاليا، وكانت هي في التاسعة عشرة، بينما كان زوجها في الستين، ولم يكن وجهها يجري على النمط الإيطالي؛ إذ كان أبيض شديد البياض، وشعرها أصفر ذهبيًّا، وكانت سحنتها أشبه بأهل شمال أوروبا منها بأهل إيطاليا.
وما هو أن عرفت الشاعر وجالسته مرات قليلة، حتى رأت نفسها قد علقته، ولم تعد تقدر على فراقه؛ فقد كانت قبلًا تمزح بالعشق، أما الآن فقد شعرت أنها أَمَة قد استرقها حب بيرون، فإذا نظرت إليه، وتملت من طلعته، شعرت كأن جسمها يتوهج بالرغبة فيه.
وكان بيرون في ذلك الوقت قد جاوز الثلاثين، وكان قد اعتاد الخمر والترف، فظهرت عليه أعراض السمن والترهل، وبدت عليه دلائل الفتور والخمول، وذهبت عن وجهه تلك المسحة الروحانية التي كان يفخر بها الشاعر قبلًا.
وفرت تيريزا من زوجها، وعاشت مع بيرون في بيت واحد، ولم يفترقا بعد ذلك إلا عندما أراد بيرون أن يبدأ حياة جديدة في تحرير اليونان من الأتراك. واستفاد بيرون من عشرة تيريزا، التي قطعته عن إدمان الخمر، وأصلحت عاداته التي كان قد أفسدها الترف، ولم يكن بيرون يحبها أولًا، ولكنه عندما رأى إخلاصها وتعلقها به، مع تلك السحنة الشمالية التي يحبها الإنجليز، تفتح لها قلبه وعشقها هو الآخر.
وكان زوجها يحاول طوال الوقت أن يقتل بيرون، فكان يكتري له الأوغاد لكي يغتالوه، فكان بيرون لا يسير إلا مدججًا بالسلاح.
وقد كانت تيريزا تؤثر حبيبها على نفسها، تحثه على النظم، وتعمل لإذاعة شهرته، وتخلص له الخدمة والولاء، وتمنعه من متابعة عاداته في الانغماس والاستهتار، وربما كانت هي الوحيدة من النساء اللاتي عشقن الشاعر، ولم ترجُ من عشقها اللذة والتمتع؛ فقد كانت تنظر في كل ما تفعل إلى مصلحته دون مصلحتها.
قال أحد المترجمين لحياة بيرون: «لقد أصلحته، ورفعته، وانتشلته من الحمأة، ووضعت على رأسه تاج الطهارة، ثم لما استنقذت هذا القلب العظيم، لم تعمد إلى احتكاره لشخصها، وإنما سخت وجادت به للإنسانية.»
وعاشت بعده ٢٧ عامًا، وماتت في سنة ١٨٧٣، ونشرت كتابًا عنه، ضمَّنته ذكرياتها عن أيام الحب التي قضتها معه في إيطاليا، وبلغ من ولائها له، أن زارت وهي عجوز فانية، بيت بيرون في إنجلترا، وأذرفت الدموع لذكرى حبيبها.
ولا يُذكر اسم بيرون دون أن يُذكر أيضًا شيلي الشاعر، ولا يُذكر الاثنان دون أن تُذكر علاقتهما بالفيلسوف جودرين وبنتيه؛ فإن جودرين هذا كان من دعاة الحرية الفكرية والتنظيم الاجتماعي، وكانت له بنتان، تتلألأن بالجمال والذكاء، وقد تزوجت إحداهما شيلي، أما الأخرى فقد عشقت بيرون. وكان الجميع يقضون وقتهم معًا، سائحين أو مقيمين في إيطاليا، وبقوا على هذا الحال إلى أن غرق شيلي بعيد الساحل الإيطالي، فتبدد الشمل.