رأي العرب في الحب
أول ما يتجدد الاستحسان الشخصي، تحدث إرادة القرب منه ثم المودة، ثم يقوى فيصير محبة، ثم يصير هوًى، ثم يصير عشقًا، ثم يصير تتيمًا، ثم يزيد التتيم فيصير ولهًا.
وأما سبب العشق، فهو مصادفة النفس ما يلائم طبعها، فتستحسنه وتميل إليه، وأكثر أسباب المصادفة النظر، ولا يكون ذلك باللمح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرب منه، وتمنت الاستمتاع به، فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرًا، وشغلها كلها به، فيتجدد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى، وكلما قويت الشهوة البدنية قوي المفكر في ذلك.
وذكر بعض الحكماء أنه لا يقع العشق إلا لمجانس، وأنه يضعف ويقوى على قدر التشاكل. واستدل بقول النبي ﷺ: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.» قال: وقد كانت الأرواح موجودة قبل الأجسام، فمال الجنس إلى الجنس، فلما افترقت الأجسام بقي في كل نفس حب ما كان مقارنًا لها، فإذا شاهدت النفس من نفس نوع موافقة ما، مالت إليها ظانة أنها هي التي كانت قرينتها، فإذا كان التشاكل في المعاني كانت صداقة ومودة، وإن كان في معنى يتعلق بالصورة كان عشقًا. وإنما يوجد الملل والإعراض من بعض الناس؛ لأن التجربة أبانت ارتفاع المجانسة والمناسبة.
وقال بعض الحكماء: «ليس العشق من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من أمراض الخلعاء، الذين جعلوا دأبهم ولهجتهم متابعة النفس، وإرخاء عنان الشهوة، وإمراح النظر في المستحسنات من الصور، فهنالك تتقيد النفس ببعض الصور فتأنس، ثم تألف، ثم تتوق، ثم تلهج.»
وقال ابن عقيل: العشق مرض يعتري النفوس العاطلة والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواعٍ من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الألفة، ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفًا. وما عشق قط إلا فارغ، فهو من علل البطالين، وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر وطلب الحقائق، المستدل بها على عظم الخالق؛ ولهذا قلما تراه إلا في الرعن البطرين، وأرباب الخلاعة النوكى. وما عشق حكيم قط؛ لأن قلوب الحكماء أشد تمنعًا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدة طلبها؛ فهي أبدًا تلحظ وتخطف ولا تقف، وقلَّ أن يحصل عشق من لمحة، وقلَّ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة؛ فإنه مار في طلب المعاني، ومن كان طالبًا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب؛ لأنها تحجبه عن الصور.
وقال الربعي: سمعت أعرابية تقول: مسكين العاشق، كل شيء عدوه؛ هبوب الريح يقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الديار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكر يسقمه، والبعد والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يهرب منه. ولقد تداويت بالقرب والبعد، فلم ينجح دواء ولا عز عزاء.
العشق فضيلة، تنتج الحيلة، وتشجع الجبان، وتسخي كف البخيل، وتصفي ذهن الغبي، وتطلق بالشعر لسان الأعجم، وتبعث حزم العاجز الضعيف، وهو عزيز يذل له عز الملوك، وتضرع له صولة الشجاع، وهو داعية للأدب، وتأويل باب تفتق به بالأذهان والفطن، ويستخرج به دقائق المكايد والحيل، وإليه تستريح الهمم، وتسكن به فواتر الأخلاق والشيم، يمتع جليسه، ويؤنس أليفه، وله سرور يجول في النفوس، وفرح يسكن في القلوب.
ونقل ابن خلكان في ترجمة العلاف ما ملخصه أن العشق جرعة من حياض الموت، وبقعة من رياض النكل، لكنه لا يكون إلا عن أريحية في الطبع، ولطافة في الشمائل، وجود لا يتفق معه منع، وميل لا ينفع فيه عذل.
وقال بعض «العارفين»: شرط المحبة أن تكون ميلًا، بلا نيل، وشرطًا لا جزاء، تزول عند زوال العرض، ويتأكد ذلك في أحباء الله عز وجل.