مدام دوستايل
ليس في جميع ما ألفته مدام دوستايل شيء جدير بالإعجاب، وهي إنما تُقرأ الآن للقيمة التاريخية التي لمؤلفاتها، من حيث إنها دليل نزعة فشت قبيل الثورة الفرنسية وبعيدها. وهذه النزعة تتلخص في الميل إلى رفع قيمة الحنان، والنظر إلى شئون العالم عن سبيله. ولم يكن الأدباء في عصر مدام دوستايل يكبرون قدرها، وإنما كان يأتي احترامها من العامة؛ لأنها كانت متطرفة من أكثر العلوم والآداب، تعرف شيئًا يسيرًا عن كل منها، وتستطيع الكلام أو الكتابة عنها، بحيث تسترعي احترام العوام واحتقار الخواص. ومما أذاع شهرتها أن نابليون خاصمها، ونفاها من فرنسا. ونزول نابليون إلى مخاصمة امرأة، جدير بأن يرفعها بعض الرفعة، وكانت أيضًا ابنة نيكر وزير المالية في فرنسا، وقد اشتهرت أمها بأنها وقت أن كانت في سويسرا، عرفت المؤرخ الإنجليزي الشهير جيبون وعلقته، وأوشكت أن تتزوج به.
وقد قضت مدام دوستايل شبابها في باريس، واختلطت بعلية الفرنسيين، وكانت منذ طفولتها مجدة في الدرس، تقرأ كل ما يقع في يديها، وترغب في معرفة كل شيء، فكانت تدرس التاريخ الطبيعي، كما تدرس الأدب، وتقرأ في الاقتصاد والقوانين، كما تقرأ في التاريخ والفلسفة.
وكان جميع الكبراء من رجال السياسة أو الأدب في فرنسا، يرون نذر الثورة قبل وقوعها ويحتاطون لها. وكان نيكر مثريًا عظيمًا، فخشي على ثروته أن تضيع إذا هبت العاصفة، وأزالت الأشراف عن إقطاعاتهم، فعقد الزواج لابنته على البارون ستايل هولستين، سفير أسوج في باريس؛ وذلك لكي تحتمي بدولته فيبقى مالها.
ولم تعش كثيرًا مع البارون؛ فقد رُزقت منه ولدًا، ولما حدثت الثورة انضمت في ابتدائها إلى العامة، تروِّج دعوتهم وتنادي بحقوقهم، فلما أفرط زعماؤها في اضطهاد الأشراف، ومَن خالفهم في الرأي، عادت فصارت ملوكية. وأخذت تؤوي أعداء الثورة إلى السفارة الأسوجية، معتمدة في ذلك على حرمة السفارات. وعرف رجال الثورة ما تفعل فهاجموها، واضطروها إلى الفرار من فرنسا؛ حيث عاشت بقية أيامها بعيدًا عنها.
وكان نابليون يكرهها، وقد أمر بنفيها خارج البلاد. ويُحكى أن ابنها، وكان يبلغ الخامسة عشرة، مثل أمام نابليون، وتوسَّل إليه أن يأذن لأمه بالرجوع إلى فرنسا، فقال نابليون: إذا أذنت لأمك بأن تذهب إلى باريس، فإني أضطر إلى سجنها بعد شهرين في إحدى القلاع، ولست أرغب في أن أعاملها بمثل هذه المعاملة، فلتذهب أينما شاءت، فهذه أوروبا كلها مفتوحة الأبواب أمامها. هاكم رومية والبندقية وبطرسبورج. وإذا كانت تريد أن تؤلِّف عني مقالات القذف، فلتذهب إلى إنجلترا؛ حيث لا يكلفها هذا العمل شيئًا عظيمًا، أما في باريس، فإنها تكون قريبة منا أكثر من اللازم.
وقد أحبت مدام دوستايل جملة رجال غير زوجها الذي لم تحبه قط، وإنما تزوجت به مراعاة لمصلحة ليس غير؛ فقد عرفت هنري كونستان، السياسي الأديب، وعشقته، وتبادل الاثنان الحب، وإن كان حظها منه أكثر من حظه؛ فقد كانت هي قصيرة ممتلئة جاحظة العينين، فكان محبوها، على حد قولها، يحبونها أقل مما تحبهم. وعندما نفى نابليون هنري كونستان سنة ١٨٠٢ التقت به في ألمانيا وعاشا معًا سنوات طويلة.
وليس هناك ما يدل على أنها كانت تخلص الحب لجميع مَن أحبوها؛ فقد كانت تنفضهم من يديها واحدًا بعد آخر؛ ففي سنة ١٨١١ مثلًا، كانت تبلغ الخامسة والأربعين، فعرفت شابًّا إيطاليًّا في الثالثة والعشرين من عمره يُدعى روكا، فتزوجت به، واشترطت عليه أن يكون الزواج سرًّا، وألَّا تحمل اسمه، وذلك ضنًّا باسمها الذي شاع في أوروبا. وقد ساء حظها في هذا الشاب؛ إذ أُصيب بالصمم بعد الزواج بمدة قليلة.
وخلاصة القول أن مدام دوستايل لم تفلح كل الفلاح، لا في الحب ولا في الأدب؛ لأنها كانت تطمع في كل شيء، ومعرفة كل شيء، وكانت تسوم نفسها من الجهد ما لا قِبل لها به؛ فقد كانت لا تنام إلا بضع ساعات في الليل، وتقضي طول النهار في الكتابة، فكتبت شيئًا كثيرًا، دون أن تحسن أو تجيد في بعضه، حتى لقد قيل إن وصيفتها كانت تسرح شعرها، وهي لا تكف طول وقت التسريح عن الكتابة، وأحبت عددًا من الرجال دون أن تخلص الإخلاص كله لأحدهم، فكان حبها على الدوام أشبه شيء بنزعة من نزعات الشهوة، تهيج ثم تخمد.
في شقاوة الزواج نوع من المحنة، يعدو طور جميع الآلام في هذا العالم؛ فإن كيان المرأة يتوقف على الرباط الزوجي. والوحدة التي تعيش فيها المرأة الشقية في زواجها تجالد القدر وحدها، وتُحمل إلى القبر وحيدة، بلا رفيق يودعها أو يأسف عليها، هي وحدة دونها وحدة السائح في صحاري جزيرة العرب. وعندما تشعر المرأة بأن شبابها قد أُنفق وذهب ضياعًا لا فائدة فيه، وأن هذه الأشعة الأولى لن ينعكس منها شيء في نهاية الحياة، وعندما تشعر بأنه ليس في ظلام الغسق ما يذكرها بضوء الفجر، عندئذٍ تثور النفس، وتشعر المرأة أنها قد حُرِمَتْ من عطايا الله على هذه الأرض.
وربما كانت بلاغة هذه الكلمة راجعة إلى إحساسها الشخصي؛ فإنها هي نفسها هذه المرأة.