أهواء جورج صاند
جورج صاند اسم مستعار لأديبة شهيرة.
لم يكن لجورج صاند هوى واحد، وإنما كانت لها أهواء، تقسم الحب قلبها، وتتنقل من خليل مملول، إلى آخر طريف محبوب، لا تمضي عليه برهة حتى تصير طرافته سآمة وحبه قلى. وكان لها قدم راسخة في الكتابة، وبخاصة في الفن القصصي، الذي كانت تبذ فيه فيكتور هيجو؛ فقد كان هيجو لغرامه بالصناعة اللفظية، وتيهه بنفسه، يميل إلى الضخامة والأبهة في وصف أشخاص قصصه؛ فإذا وصف شقيًّا، بالغ في شقائه، حتى يخرج عن الصورة المألوفة للشقاء. أما جورج صاند فكانت كاتبة ملهمة، ترسم الناس كما هم، وتخطط أخلاقهم تخطيطًا صحيحًا، فإذا قرأ الإنسان إحدى قصصها شعر أنه في وسط أناس حقيقيين، يقرأ قلوبهم، وتطالعه سرائرهم في أحاديثهم وسلوكهم.
ولدت جورج صاند سنة ١٨٠٤، وكان اسمها أورور، وكان أبوها ينتمي إلى أسرة شريفة قديمة، في حين أن أمها كانت من العامة؛ ولذلك لم تعش أورور كثيرًا مع والدتها؛ فإن جدتها الشريفة أبت أن تؤوي هذه المرأة العامية إلى بيتها. ولكن الجدة عُنيت أكبر عناية بتربية أورور، فعيَّنت لها معلمًا خاصًّا، ثم أرسلتها إلى مدرسة ملحقة بأحد الأديار في باريس، بقيت فيها مدة طويلة، أتقنت فيها اللغة الفرنسية، وانكبت على قراءة آدابها القديمة والحديثة.
ونشأت أورور على أذواق غربية، قلما تنشأ عليها الفتيات؛ فقد تخلقت بأخلاق الرجال، تلبس لباسهم، وتدخن مقادير هائلة من التبغ. وكان لها أخ، رُزق به أبوها عن طريق غير شرعي، تعلمت منه ركوب الخيل كما يركبها الرجال، حتى لهجت الألسنة بانتقادها.
وماتت جدتها سنة ١٨٢١، وأوصت بترك جميع أموالها لها، وكانت تقدر بمبلغ ٢٥٠٠٠ جنيه، فرغب في زواجها مزارع، سليل بيت شريف قديم، قريب من مدينتها نوهان في إقليم أندر، فتزوجت منه في سنة ١٨٢٢ زواج المصلحة لا الحب، ورُزقت منه بعدة أولاد، ولكنها سئمت العيشة الريفية، ولم تكن ترى في زوجها شيئًا من رقة الطباع، وذكاء القريحة، وتنبه الذهن، وهي صفات كان لها منها حظ كبير في نفسها. وكانت هي في حديثها تميل إلى الفكاهة والمداعبة، بينما كان هو يكره ذلك، فلم تتفق رقتها وجفوته، حتى لقد حدث بينهما مرة جدال، انتهى أن عمد إلى ضربها، فلكمها على وجهها بقبضة يده جملة لكمات، كانت القاضية على علاقتهما الزوجية.
وارتضت على أن تترك أولادها عنده، وترحل هي إلى باريس مع ابنتها فقط، وتترك له ريع جميع أملاكها، لا تأخذ منه سوى ٦٠ جنيهًا في العام.
وعندما ذهبت إلى باريس، ذهبت إلى جريدة «الفيجارو» فاشتغلت فيها بأجر بسيط، ولم يمضِ عليها زمن كبير حتى عرفت الحي اللاتيني؛ حيث وطن الأدباء، فنفضت عن نفسها جميع اللياقات التي يحتمها العرف على النساء، ولبست لباس الرجال، وتخلقت بأخلاقهم، تغشى القهوات والحانات، وتشرب النبيذ الحار، وتدخن السيجار الكبير.
إني أود أن أشعرك بهذا الإحساس — إحساس الفرح بالحياة وقوتها — التي أشعر بها في عروقي. الحياة، أجل الحياة، ما أحلاها وما أطيبها، على الرغم مما فيها من عنت، وأزواج، وديون، وأقارب، وقولة سوء، وآلام، ومكابدات! هذه الحياة مسكرة. وهذا الحب أن أُحِب، وأن أُحَب، هذه هي السعادة. هذه هي السماوات.
وقد وضعا بالاشتراك قصة تُدعى «روزوبلانش» وجعلا اسم مؤلفها جول صاند، ونجحت القصة نجاحًا شجعها على احتراف الفن القصصي، فصارت بعد ذلك تؤلِّف وحدها، وجعلت اسمها في التأليف جورج صاند. ووضعت قصة أخرى لفتت نظر النقاد والأدباء، ونالت إطراءهم، حتى اقترحت عليها مجلة العالمين أن تعطيها في العام ١٦٠ جنيهًا؛ لكي تخصها بمقالاتها وقصصها. وعرضت عليها مجلات أخرى أن تكتب لها.
وكان أهم ما يجذب النظر إلى قصصها، أنها كانت تدعو إلى «الحب الطليق» وتدافع عنه. وقد أُثرت عنها عبارة، قالتها عقب انفصالها من زوجها، وهي: «ليس هناك ما يسوِّغ للإنسان أن يمتلك نفس إنسان آخر، كما ليس له أن يمتلك شخص العبد.»
وكانت تقول: إن الرابطة بين الرجل والمرأة يجب أن تكون مقدسة، إذا كان الحب قد قدسها. ومن الحكم التي اشتهرت عنها قولها في التمييز بين الحب والشهوة: «الحب يعطي، أما الشهوة فتأخذ.»
وكانت في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمرها، ولم تكن جميلة، وإنما كان فيها شيء من الملاحة والخفة؛ فقد كانت ربعة، تميل إلى النحافة، وكان بعينيها شيء من الجحوظ. وكان في حركاتها رشاقة تفتن الناظر، فيها شيء من الجرأة والخوف معًا، فإذا تكلمت تفتحت فيسقط بذلك حاجز الخجل بينها وبين مَن يخاطبها لأول تعارف، فإذا جُودلت واستثيرت تدفقت، فتنكشف عندئذٍ شخصيتها عن طبيعة حافلة بالكنوز، تائقة إلى بذلها والسخاء بها.
وانتهت صلتها بجول ساندو بحادثة غريبة؛ فقد سافرت إلى زوجها لكي ترى أولادها، وعادت دون أن تؤذنه قبلًا بعودتها. ولعل غرضها كان أن تفاجئه مفاجأة الحبيبين، ولكنها عندما دخلت عليه وجدته يعانق فتاة، فانتهى هذا الهوى الأول بقطيعة نهائية.
ووقعت خيانة حبيبها في نفسها أشد وقع، حتى شعرت بعدها كأن عواطفها قد ماتت، فصارت تتجنب الرجال، وتتحامى لقاءهم. وتعرفت إلى فتاة ممثلة تُدعى ماري دورفال، كانت ترافقها وتلازمها حتى ذهب عنها أثر تلك الصدمة.
وبعد سنوات من هذه الحادثة عرفت الكاتب الشاعر القصصي ألفرد دو موسيه، وكان غاية في الجمال والذكاء. وكانت جورج صاند أكبر منه بسبع سنوات حين التقت به، وتعلق كل منهما بالآخر، وذهبا إلى إحدى ضواحي باريس لكي يقضيا — كما قالت جورج صاند — شهر العسل، دون زواج. وبعد ذلك عقدا نيتهما على رحلة طويلة في إيطاليا، وسافرا إلى البندقية؛ حيث استأجرا مسكنًا فيها، وأقاما مدة قصيرة، انتهت بقطيعة عاجلة، وكان سبب ذلك أن «دو موسيه» أُصيب بمرض أقعده، ولم يكن حب صاند له إلا حب الشهوة؛ فقد كان شابًّا في الثالثة والعشرين من عمره، وكانت هي في الثلاثين، فلما مرض سئمته، وقد مرَّضته بمعونة طبيب إيطالي وسيم يُدعى باجالو، شفاه من مرضه، وشفاها هي من حب دو موسيه.
وعلقت هذا الطبيب، فهجرت حبيبها السابق في البندقية، يعض أصابع الندم، وسافرت هي مع هذا الطبيب الإيطالي إلى باريس، وشاعت حكاية حبها مع ألفرد دي موسيه، والمسلك السافل الذي سلكته معه، فصار يحذرها كل أحد، ويتحامى مراوداتها جميع الأدباء. وقد حاولت أن تصيد قلب فيكتور هيجو فأبى، وحاولت أن تفعل مثل ذلك بدوماس الكبير، فقهقه في وجهها. ولم تنل شيئًا من بلزاك.
وحاولت أن تصلح ما بينها وبين ألفرد دو موسيه بعد ذلك، حتى جزَّت شعرها، وأعطته له علامة ولائها وأمانتها، ولكنه منذ حادثة البندقية لم يكن ينظر إليها إلا بالتوجس والحذر.
ونالت مكانة كبيرة في الأدب، حتى ربحت منه نحو خمسين ألف جنيه. وقد كان هذا مبلغًا في عصرها، وعندما أوشكت أن تشعر أن سوقها في الحب قد كسدت، نالت حظوة في عيني الموسيقي العظيم شوبان، فعاشت معه نحو ثماني سنوات، وقد زار كلاهما في بدء غرامهما جزيرة ميورقة، فأُصيب شوبان بسعال، حتى كتبت عنه جورج تقول: «إنه يسعل برشاقة عجيبة.» وقالت أيضًا: «إنه كثير التقلب، وليس فيه شيء ثابت لا يريم عنه، سوى سعاله.»
وقد كُتبت مجلدات عن علاقتهما، وكان لجورج صاند نفسها نصيب كبير فيما كُتب، اعترفت فيه بأشياء وتفصيلات كثيرة عن علاقتهما بما عهد الناس فيها من الصراحة.
وانقطعت علاقتهما في سنة ١٨٤٧. وقال شوبان عنها في ذلك الوقت: «لم ألعن واحدًا قط، ولكني سئمت الحياة حتى أراني أكاد ألعنها.» ومات شوبان في سنة ١٨٤٩.
وبموته تغيرت جورج صاند، فهدأت طبيعتها، وتحول نظرها عن متجهه الأول؛ فقد صارت من حيث العواطف كالبركان الميت، في حين أن ذكاءها تنبه، فأخذت تكتب قصصًا ساذجة عن الحياة الريفية، وقصصًا أخرى للأطفال غاية في الإتقان والبراعة. وماتت سنة ١٨٧٦، فكان لموتها دوي عظيم في جميع أندية الأدب في أوروبا.
كانت أنثى تعيش عيشة الأعزب من الرجال. وكانت أديبة سخية، ولية، طاهرة. وكانت صفاتها السائدة صفات الرجل، وعلى هذا يجب ألا ننظر إليها نظرنا إلى النساء. وكانت أمًّا طيبة، يعبدها أولادها. أما من حيث الآداب، فقد كانت تنظر إليها نظر الشاب في سن العشرين؛ وذلك لأنها كانت في سويداء قلبها طاهرة، بل كانت أكثر من ذلك، كانت حيية خجولًا. لم تكن هذه الفوضى البادية على خلقها إلا شيئًا ظاهرًا على السطح فقط، وما نزقاتها وطيشاتها إلا عنوان المجد في أعين أولئك الذين لهم نفوس شريفة.
وهذا حكم غريب. ولكن بلزاك كان يعرفها أكثر مما يعرفها عامة الناس. وكان ذا بصيرة نافذة إلى النفوس والقلوب، يعرف مستكناتها، ويقرأ ما تضمره مما تظهره.