لاساله وصاحبته
كان القرن التاسع عشر بدء نهضة الاشتراكية وقيام العمال، الذي نرى أثره الآن في ظهور الأحزاب الاشتراكية على مسرح السياسة، وتقلدها زمام الحكومات، وهذا الانقلاب الهائل في روسيا.
وقد كان أكبر زعماء الاشتراكية في ذلك القرن يهوديين، أحدهما كارل ماركس، والآخر فرديناند لاساله.
وكان لاساله من يهود ألمانيا، نبت في عائلة غنية، وتربى أحسن تربية يحصل عليها شباب تلك الأيام في جامعات ألمانيا. وقد أراده أبواه على أن يسلك سبيل والده في تجارة الحرير فأبى، واختط لنفسه خطة خاصة، آثر فيها المجد على الثروة، ووجاهة الاسم على وجاهة المادة، فأخذ على نفسه أن يُعين العمال في نهضتهم نحو تحقيق الاشتراكية، وأخذ يدعو إليها بماله وقلمه، يخطب ويكتب في كل مكان، ونشر النشرات، ويؤلف الرسائل في تحبيذها والدعوة إليها، حتى صار محور الحركة الاشتراكية في ألمانيا، ينضوي إلى لوائه آلاف العمال في جميع أنحاء ألمانيا.
صديقي لاساله، الذي يحمل إليك هذه الرسالة، هو رجل ذو مواهب ذهنية عظيمة؛ فهو يمزج قوة الإرادة إلى كفاية العمل، ويضمهما إلى أبعد مدى من الثقافة وأكبر مقدار من العلم. وهذا كله إلى ميزة الفهم والإفهام بما لم أرَ لهما شبيهًا. ولست أعرف أحدًا قد اجتمع فيه مثل هذا المقدار من الحماسة إلى هذا المقدار من الذكاء.
إني أحب هينه، فهو شخصي الثاني، ما أبلغ جرأته وما أعظم فصاحته! فهو يعرف كيف يهمس همس الصبية عند تقبيلها الورد في كلماته، وكيف يتنفس اللهب عندما يجيش ويحصد ما حوله. وهو يستثير أرق العواطف وألطفها، كما أنه يستنهض منها أكثرها شراسة وأبعدها جسارة، فهو يملك ناصية القيثارة، يعزف على جميع أوتارها.
وبلغ لاساله من الشهرة والقوة، أن صار بسمارك يدعوه ويفاوضه في الحض على حركة الاتحاد بين الإمارات الألمانية، يستغل بذلك نفوذه لترويج الدعوة إلى الإمبراطورية الألمانية.
وفي حياة لاساله امرأتان، قد كان لهما أكبر أثر في تاريخه؛ أولاهما تُدعى الكونتس هاتزفلد، ولم يكن لاساله يعشقها؛ فقد كانت تبلغ من العمر ضعفي عمره، وكانت تخاطبه في رسائلها إليه بقولها: «يا ولدي العزيز»، وكان هو الآخر عندما يكتب إليها يذكر لها أسماء مَن التقى بهن من النساء، وما قاله لهن، ويصف جمالهن لها، وليس هذا شأن مَن يحب.
وقد نُشرت بعض الكتب لبث الاعتقاد بأنه كان يحبها، ولكن فحص خطابات كل منهما للآخر يثبت أنه كان هناك ود بينهما، لم يصل إلى درجة العشق، ولا فكر أحدهما في ذلك.
وخلاصة علاقته بهذه المرأة أنه عرفها في سنة ١٨٤٦، وكان عمره إذ ذاك ٢١ سنة، وهي تناهز الأربعين، وامتدت صلة الصداقة بينهما حتى صارت تبثه شكايتها من زوجها. وكان زوجها قد عرف خليلة ملكت لبه، واستأثرت بأمواله، حتى خشيت الزوجة أن يوصي بأمواله لها دون أولاده، وعرفت أنه أوصى بالفعل بجزء كبير من أمواله لها، وأن وثيقة الوصية موجودة عند هذه الخليلة، فأعمل لاساله فكرته لكي يحصل على هذه الوثيقة، وعرف أن الكونت وخليلته ذاهبان إلى أكس لاشابل، فاندس وراءهما يصحبه صديقان، حتى نزلوا في الفندق الذي نزل فيه الخليلان، وسرقوا هذه الوثيقة، ولكن لسوء الحظ تنبهت المرأة للسرقة، وصاحت بخدم الفندق، فقبضوا عليهم، وساقوهم إلى مركز البوليس؛ حيث أخذ التحقيق مجراه، وانتهى بالحكم على الصديقين دون لاساله؛ لأنه لم يثبت عليه شيء. وعاد لاساله إلى الطرق السلمية لمكافحة هذا الزوج، وبقي في مكافحته تسع سنوات، ربح فيها القضية لأبناء الكونتس، وأُلغيت الوثيقة. ولكن ذلك بعد أن أضاع مقدارًا كبيرًا من ماله الخاص.
أما المرأة الثانية فتُدعى هيلين فون دوتنجس، وكانت فتاة قد نالت حظًّا كبيرًا من التربية، ونشأت نشأة حرة طليقة، وكانت وهي فتاة قد ساحت في سويسرا وإيطاليا، فأكسبتها الغربة من التجارب ما جرأها على الحديث والاختلاط، وكانت مخطوبة إلى رجل إيطالي في سن الأربعين، فقبلته مكرهة بضغط من أبويها، ثم انخلعت منه، وعرفت شابًّا شريفًا من أهل الفلاح، فمالت إليه حتى خُيل إلى مَن حولهما أنهما لا بد متزوجان قريبًا.
ولم تكن إلى ذلك الوقت قد عرفت لاساله، وإنما كانت تسمع به، ففي إحدى الليالي، وهي جالسة وقد تفتحت للحديث، وصارت تجهر بآراء قد جرى العرف على أن تكتمها مَن في سنها، قال لها بارون من الحضور: «هل تعرفين فرديناند لاساله؟»
فقالت: «كلا.»
فقال: «كيف ذلك؟! أحقًّا أنك لم تريه؟ هذا عجيب، فقد خُلِقَ كل منكما للآخر.»
فاستحيت من أن تستزيده عن غرضه. ولكن لم تمضِ برهة حتى قال آخر: «يبدو من حديثك أن أفكارك وآراءك قريبة جدًّا من أفكار فرديناند لاساله وآرائه.»
فتطلعت نفسها من ذلك الوقت إلى رؤية لاساله، وصارت تسأل عن أخباره، وتهجس بذكره قبل أن تراه. وفي إحدى الليالي غشيت «صالون» إحدى العائلات، ورأت شابًّا مديد القامة أشقر، ذهبي الشعر جعده، فرأت نفسها تسير نحوه كأن به قوة قد جذبتها إليه، وكان هذا لاساله، وأخذا في الحديث، وشعر كل منهما أنه يرى في شخص الآخر صديقًا قديمًا، وبلغ من ألفة الواحد بالآخر أنهما عندما خرجا صار لاساله يتحبب إليها ويدللها ويسميها بأسماء الغرام.
ومضت تسعة أشهر بعد ذلك لا يلتقيان. ثم التقيا في «صالون» آخر، وبث كل منهما إلى الآخر لواعجه. ومما قاله لاساله لها في تلك الليلة، وكان الخطر محدقًا به، والحكومة تنوي القبض عليه لمحاكمته، لإثارة الهياج بين العمال: «هبيني حُكم عليَّ بالإعدام، فما أنت فاعلة؟»
فأجابته على الفور: «أنتظر حتى يُقطع رأسك، حتى تتمتع برؤية حبيبتك إلى آخر لحظة من حياتك، ثم بعد ذلك أتناول السم.»
ومضيا في الحب حتى اشتهر عنهما، وصار جميع مَن يعرفونها يرقبون زواجهما، ولكن والدي الفتاة كانا يعارضان في هذا الزواج أشد معارضة، ويعتبرانه مهينًا للعائلة، حاطًّا بكرامتها، فلاساله لم يكن اشتراكيًّا فحسب، بل كان أيضًا يهوديًّا. وكلتا الصفتين كانت من القبائح في نظر العائلة.
ولكن الفتاة لم تكن لتخضع لوالديها الخضوع الأعمى الذي كانت تفرضه عليها التقاليد المأثورة، ففرت إليه، واحتملت معها حقائبها، وطلبت إليه أن يسافرا معًا إلى باريس حتى يتزوجا.
ولكن لاساله لم يكن يحب أن يتزوج منها خفية في بلاد الغربة؛ إذ كان يرى من واجبه نحو حبيبته أن يتمم الزواج علنًا باحتفال وأبهة جديرين بعروسه الجميلة. وكان واثقًا أن معارضة أبويها سوف يتغلب عليها، ويميلهما إلى رأيه.
ولكنه أخطأ في حسبانه؛ فإن والديها كانا قد عقدا نيتهما على أن يزوجاها من ذلك الشريف الفلاخي راكوفتز، فلما رجعت هيلين إليهما أخذا في تقريعها، وحبساها في غرفة لا ترى أحدًا سواهما.
وطالت مدة حبسها، وأهلها وذوو قرابتها يترددون عليها ويترضونها بكل الأساليب. وكانت في نفسها رفعة من لاساله، أحدثها عدم موافقته على السفر والزواج. وأخيرًا بعد طول الجدال رضيت أن تكتب إلى لاساله خطابًا، تقطع فيه ما بينهما من صلة الحب السابق، وتنبئه بعزمها على الزواج، وعقدت خطبتها على راكوفتز.
وبلغ ذلك لاساله فاستشاط غضبًا، وأرسل في الحال إلى راكوفتز يطلب مبارزته. ولم يكن راكوفتز يحسن شيئًا في العالم قدر المبارزة، فسارع إلى تلبية الطلب.
التقى الاثنان في جنيف في سويسرا، وأخذ كل منهما شاهديه، وخرجا بعيدًا حتى جرت المبارزة، وانتهت بأن جُرح لاساله جرحًا بالغًا، كان شديد الألم، لم ينقطع تأوه لاساله منه إلا عند وفاته بعد ثلاثة أيام من المبارزة.
وتزوجت هيلين من هذا الفلاخي، ولم يدم زواجهما سنة؛ إذ مات بالسل بعد نحو خمسة أشهر. وتزوجت بعد ذلك من رجل آخر، ثم احترفت التمثيل. وقد وضعت كتابًا عن ذكرياتها عن لاساله، أدرَّ عليها ربحًا كبيرًا، وصفت فيه زعيم الاشتراكية الألماني، وضمنته أهم خطاباته إليها. وقد ألَّف الكاتب الإنجليزي جورج ميريديث قصة عن حب لاساله وهيلين، وهي من أبدع قصصه.