جامبتا وصاحبته
مضى على الجمهورية الفرنسية أكثر من نصف قرن. وقد ماتت النزعة الملوكية في فرنسا أو كادت. وليس يُعزى انتشار الفكرة الجمهورية، وخمول المذهب الملوكي، إلا إلى جامبتا.
كان ليون جامبتا من أهل جنوب فرنسا، ولم يكن خالص الدم الفرنسي؛ إذ كان أبوه إيطاليًّا. وكانت صفات أهل الجنوب متجسمة فيه. ومن الناس مَن يقول إنه كان بدمه عرق شرقي. وعلى كل حال، فإنه من حيث الخلق، كان مندفع العواطف ثائرها، يميل إلى البلاغة الخطابية شأن الفرنسيين والشرقيين. والفرنسي أقرب الناس طبعًا وخلقًا إلى الشرقيين.
ونال جامبتا شهادة المحاماة وهو في الحادية والعشرين، وسار توًّا إلى باريس، حيث أخذ في مقاومة نابليون الثالث، فكان يخطب في تبيان الأضرار الناشئة عن نظام الإمبراطورية، وعرقلته للحرية ولرقي البلاد، ووجوب استبدال هذا النظام بالجمهورية.
وكان جامبتا في هيئته يخالف الفرنسيين بعض المخالفة؛ فقد كان لون بشرته زيتونيًّا، وكان جافي الطبع، مغرمًا بالثوم والزيت، إذا خطب تحركت جميع جوارحه، كأنه كان يترنح ببلاغته، وكان لعابه يتطاير من فيه، فكان أعداؤه لهذا السبب يلقبونه بلقب: «المجنون الغضبان».
ولكن هذه الصفات نفسها كانت تحببه إلى الجمهور المؤلف من العمال والصناع، فكان يلتف حوله، ويزيد سخطه على النظام الإمبراطوري، يعزو إليه كل نقيصة في الحالة الاجتماعية أو الاقتصادية.
وفي سنة ١٨٦٩ انتُخب جامبتا عضوًا في المجلس الاشتراعي، وأخذ أيضًا في متابعة حملاته على الإمبراطورية، حتى صار له حزب في المجلس يناوئ الحكومة، ويفتش عن عيوبها ويشهِّر بها. وكانت قاعة المجلس مبنية بهيئة دور التمثيل؛ فهي من جانب نصف دائرة يجلس فيها النواب، ويجلس فوقهم الجمهور والصحفيون، فإذا وقف الخطيب لم يوجَّه كلامه إلى رئيس المجلس كما هو الشأن في إنجلترا أو أمريكا، وإنما يواجه النواب والجمهور. ومثل هذا يستثير الروح الخطابية، ويبتعث في الخطيب الفصاحة والذلاقة، بخلاف ما يجري في إنجلترا مثلًا؛ حيث الخطيب يواجه الرئيس الذي يطالبه بالموضوعية ويمنعه من الاستطرادات أيًّا كانت.
وحدث أن جامبتا وهو يخطب، جالت عيناه بين الجمهور، فرأى فتاة هيفاء تكاد تكون نحيفة، قد كست يديها بقفازين أسودين، وكان سائر ملابسها قاتمًا، فتأكدت من ذلك نصاعة لون بشرتها. وكانت هذه الفتاة تحدق فيه بنظرها، فإذا حملته موجة الحماسة وهو يخطب رأى الفتاة تتحمس لحماسته، يرتفع صدرها ويهبط، وتختلج أعضاؤها، وتحمر وجنتاها، كأنها هي التي تخطب.
واطرد الحال على هذا المنوال جملة أشهر، حتى لم يشكَّ جامبتا في أنها تحبه كما يحبها. وحدث في سنة ١٧٨٠ أن وقف جامبتا خطيبًا في المجلس، وأخذت فصاحته تتدفق عن فضائل النظام الجمهوري. وأخذ يصرِّح بهذه الفضائل، ويجهر بصوته عاليًا، بما لم يسبق أن فعل مثله قبلًا. وكان وزراء الإمبراطور يسمعون له وهم خانسون، وقد تقنفذ كل منهم في مكانه، وسائر الأعضاء صامتون، قد ذُعر بعضهم بهذه الصراحة حتى وُجم، وسُحر البعض الآخر بحسن بيانه وبلاغته حتى بقي مبهوتًا يحدق النظر في الخطيب وكله آذان مستمعة.
وما انتهى جامبتا من خطبته حتى التقى النظران، فرأى وجه هذه الحبيبة ينطق بالإعجاب والعطف.
وقد قلنا إن جامبتا كان جافي الطبع، لم يعاشر من الناس إلا طبقات العمال والصناع، ولذلك لم يكن يعرف ذلك العرف الذي يجري بين الطبقات العليا، وتلك العادات المألوفة بينهم في احترام الإحساس ومراعاة الذوق، والتلطف في الإشارة والكياسة في السلوك. ولذلك عندما انتهى جامبتا من خطبته أخرج ورقة من محفظته، وكتب سطرًا أو سطرين، ثم هتف بأحد الخدم، وأعطاه هذه الورقة، وطلب إيه أن ينفذها إلى السيدة، وكان هذا حدث علنًا أمام الأعضاء والجمهور.
ولكن الفتاة كانت أرق حاشية وأوفر أدبًا من جامبتا؛ فإنها أخذت الورقة والعيون ترقبها، فلم تفتحها، بل مزقتها وألقتها على الأرض، وهي صامتة هادئة، كأن لم يحدث لها شيء. وتنبه بعد ذلك جامبتا، وعرف أنه يعامل امرأة لها كرامة النساء الشريفات.
ثم حدثت حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا، وحُوصرت باريس، وكان جامبتا بها يهيئ وسائل الدفاع. وبقي على ذلك مدة، ثم رأى أن يجهز جيشًا لاستخلاص باريس ورد الألمان عن فرنسا، فركب بالونًا طار به من باريس في جنح الظلام، وهبط في جنوب فرنسا؛ حيث أخذ يؤلف الجيوش لمحاربة الألمان. وكانت الهزائم من نصيبه في أكثر ما وقع بينه وبين جيش العدو، ولكنه كان مع ذلك دءوبًا على حشد الجيوش ومناوأة الألمان، وكان يقول في ذلك: «يجب ألا نرضى بالصلح، ما دام في فرنسا مائتا ألف جندي قد عُبئوا للقتال، وما دام عندنا ألف مدفع نسددها نحو خطوطه.»
ولكن فرنسا كانت قد ملت القتال، وفترت عن مجاهدة عدوها ورضيت بالصلح الذي عُقد في فرساي!
واجتمعت «الجمعية العمومية» في فرساي، وصار جامبتا عضوًا فيها. وبينما هو في إحدى خطبه، لاحت منه نظرة إلى مكان الزائرين، فرأى الفتاة، فتحول إلى إحدى غرف المجلس، وكتب لها هذه الرقعة: «ثم ها أنا ذا أراك مرة أخرى، فهل حقيقة أنك أنت هي؟»
وذهب الخادم، وناولها الرقعة في لطف وخفية، فأخذتها ودستها بين صدرها وملابسها ولم تجب.
وكان جامبتا قانعًا بهذه المعاملة، راضيًا منها بهذا المقدار من العطف، بعد أن ارتكب غلطته الوقحة منذ سنوات، فاستبشر خيرًا، وامتلأ قلبه آمالًا، ولكنه سُقِطَ في يده عندما رآها قد انقطعت عن زيارة الجمعية.
ولكنه مع ذلك بقي يشعر في نفسه بأنه لا بد ملاقيها في المستقبل، وأنها قد كُتبت له في لوح القدر، وكانت نفسه صادقة البصيرة في ذلك.
فقد حدث أن أحد أصدقائه أُصيب بجرح ولزم فراشه، فذهب يعوده. وبينما هو في منظرة البيت، وإذا به يرى الفتاة التي كانت موضوع خياله، وحديث هواجسه، ماثلة أمامه.
فتقدم منها، وجعل يحادثها بتحفظ، وهي تجيب بأخصر الألفاظ. ثم استأذنت وخرجت، وخرج جامبتا في أثرها حتى أدركها في الشارع.
ثم قال لها بلهجة التوسل والتضرع: «لم مزقت خطابي، وكيف وأنت تعرفين حبي لك طول هذه السنين، تلزمين الصمت ولا تجيبينني؟»
فترددت الفتاة وتلعثمت، وشرقت عيناها بالدموع، ثم قالت: «لا يمكنك أن تحبني لأني غير جديرة بك، فلا تلح عليَّ، ولا تعدني شيئًا، فليودع كل منا الآخر. ويجب على الأقل أن أفضي إليك بقصتي؛ لأني من أولئك النسوة اللاتي لا يتزوجن أحدًا.»
ثم أخذت تشرح له قصتها، وخلاصتها أن أباها كان ضابطًا في الجيش، تُوفي فجأة، ولم يترك لها شيئًا تعيش منه، فاشتغلت مربية في بيت أحد قادة الجيش مدة الإمبراطورية، فأُغري بجمالها، وفسق بها، وهي بعد في غرارة الشباب، لا تحسب للمستقبل، ولا تدرك قيمة عذرية الفتيات، فلما تفكرت وتدبرت في أمرها اتضح لها مبلغ جرمها، فأخذت تشتغل في أعمال وضيعة، وقد اعتزمت على أن تقضي حياتها في هذه الأعمال، لا تفكر بزواج أو رفاهية، تكفِّر عن ذلك الذنب القديم، حتى تنتهي حياتها.
ولكن جامبتا كان قد تعلق قلبه بها، لم تؤثر فيه هذه الأقوال، وطلب إليها أن تتزوج منه، فلما ألح عليها في ذلك قالت له: «إن زواجنا يؤثر في شهرتك؛ فإن شرفي قد ضاع، وحياتي قد ذهبت، فليس لي مستقبل، وخير لكل منا أن يفارق صاحبه.»
ولكن الحب كانت قد لج بينهما، واشتد تعلقهما الواحد بالآخر، وكانا يلتقيان على مواعيد، وفي أمكنة بعيدة عن الأعين. وأخيرًا رضيت ليوني (وهو اسم حبيبته) بأن تعقد معه خطبة كاثوليكية تقوم بمقام الزواج، فيعيشان بعيدين منفصلين، ولكن تكون الخطبة بمثابة الزواج، ينال منها المحبان جميع ما يناله المتزوجان.
وكانت ليوني شديدة الإيمان بالدين، وكانت تعتقد أنه لا يغسلها من خطيئتها الماضية سوى عقد كنسي يُعقد بينها وبين حبيبها، محوطًا بجميع ما في الدين والكنيسة من الروعة والهيبة والوقار.
وكان جامبتا في ذلك الوقت يعارض الكنيسة، ويدعو إلى فصلها عن الدولة، فطلب أن تتزوج منه أولًا زواجًا مدنيًّا، ولكنها رفضت هذا بتاتًا، ولكيلا يقوم عليه خصومه، ويعيرونه بزواج كاثوليكي من جهة، ولكي يرضي ضمير حبيبته، اتفق كلاهما على هذه الخطبة الكاثوليكية.
وعند الكاثوليك نوعان من الخطبة، إحداها عادية لا تجيز بين الخطيبين أية علاقة زوجية، والأخرى تجيز هذه العلاقة. وقبل جامبتا أن تعقد هذه الخطبة الأخيرة بينهما، وذلك بعد أن حصل من حبيبته على وعد بأن تتزوج منه زواجًا رسميًّا عندما يترك الحياة السياسية.
وتمت الخطبة، واستأجرت ليوني بيتًا منعكفًا، وصارت تلتقي بحبيبها في الأماكن التي يقل غشيان الناس لها، دون أن يزورها جامبتا في منزلها. وبقيت على ذلك مدة طويلة، لا يدري أحد من خصوم جامبتا بعلاقتها به.
وعاشت على ذلك طول مدة اشتغاله بالسياسة، مضحية بهناء الزواج، وشرف علنيته، مؤثرة أن تكون علاقتها سرية، حتى لا ينال جامبتا شيء من عار تاريخها الماضي.
وكان جامبتا يسرف في إنفاق قوته في الحب والسياسة، وقد قال فيه مرة عدوه اللدود بسمارك: «إنه هو الوحيد الذي يفكر في الانتقام من ألمانيا، وهو أكبر مَن يهدد ألمانيا من الساسة الفرنسيين، ولكنه لحسن الحظ لن يعيش كثيرًا. ولست ألقي هذا القول جزافًا، فإني أعرف من التقارير السرية التي تُرسل إليَّ معيشة هذا الرجل كما أعرف عاداته؛ فهو يجهد نفسه أكثر مما يتحمل، لا يستريح في الليل أو في النهار. وجميع مَن عاش هذه العيشة من الساسة ماتوا صغارًا. ويجب على رجل السياسة، لكي يخدم أمته حق الخدمة أن يتزوج امرأة دميمة، وأن يكون له أولاد كسائر الناس، وأن يكون له مسكن ريفي يستطيع أن يعيش فيه كما يعيش الفلاحون، ويذهب إليه من وقت لآخر للراحة.»
وكان نظر بسمارك صادقًا في جامبتا؛ فقد حدث أنه هُزِمَ في البرلمان في سنة ١٨٨٢، فاعتزل السياسة، وعزم على أن يقترن بليوني، ويعيش معها سائر حياته، مغتبطًا بالحياة المنزلية التي لم يتمتع بها للآن، ورضيت ليوني بالزواج الآن، وصارت تنتظر اليوم الذي يُعقد فيه لكي يعيشا معًا بلا حياء أمام الجمهور.
وبحث جامبتا عن منزل في الريف لكي يكون مسكنهما، ولم يكن يملك من المال بعد طول هذا الجهاد السياسي، وعظيم ما أبلاه في سبيل وطنه، سوى نحو خمسمائة جنيه، وذلك على الرغم من الملايين التي مرت في يديه، وكان ينفقها بلا حساب على الجيوش والأساطيل وغيرها، فاشترى بهذا المبلغ منزلًا كان يسكنه القصصي الشهير بلزاك وأخبر حبيبته بذلك، واستعد كلاهما للانتقال إليه.
وبينما هو في ذلك، وإذا بإشاعة غريبة قد انتشرت في باريس، مؤداها أن جامبتا قد قُتل، فبعض يقول إن أحد الفوضويين قد حاول قتله، وآخرون يقولون بل هو انتحر.
واتضحت الحقيقة بعد قليل؛ فإن جامبتا وهو يتهيأ للانتقال إلى منزله الجديد في الريف، كان ينظف مسدسًا، فغفل عن رصاصة كانت موجودة به، فبينما هو يقلبه ويشد زنده، وإذا بالرصاصة قد انطلقت وخرقت كفه، ولم يكن الجرح مميتًا، ولكن بسمارك كان صادق النظر؛ فإن جامبتا كان قد ضعف من الإفراط في تحميل جسمه ما لا يتحمل، حتى صار مثل هذا الجرح الذي يبرأ منه غيره في أيام، خطرًا كبيرًا؛ فإنه تقيح، وأحدث حمى شديدة، مات منها جامبتا.
وعلمت ليوني بما جرى لحبيبها، فخرجت من بيتها لا تلوي على شيء، تهيم في الغابات، وكأنها قد فقدت رشدها، ثم وجدت ديرًا فدخلت فيه، ولكن نفسها المضطربة بقيت ثائرة حانقة على هذا القدر الذي حرمها من حبيبها في الساعة الأخيرة التي كانت تنتظرها. وخرجت من الدير، وذهبت إلى باريس؛ حيث عاشت في بعض المنازل القذرة بين الفقراء والميئوسين.
إلى نور نفسي، إلى نجم حياتي ليوني ليون، وداعًا يا حبيبتي.