خمس نسوة وبرنارد شو
تُوفي برنارد شو وله من العمر ست وتسعون سنة. وهذا الامتداد المسرف في عمره يجيز لنا أن نعالج ناحية الحب في حياته كما لو كان قد مات ودُفن قبل سبعين سنة؛ لأن القسم الأكبر من حياته قد أصبح جزءًا من التاريخ.
وبرنارد شو هو فيلسوف هذا العصر، وسوف يخلد الكثير من مؤلفاته التي انتفع بها معاصروه. ولكن حياته نفسها هي خير مؤلفاته؛ فإنه اختط لنفسه خطة في هذه الدنيا، واتخذ أسلوبًا للعيش، وانفرد بميزات أخلاقية جمعت حوله الكثيرين، وجعلته موضع إعجاب الآلاف الذين يتسقطون أخباره ونوادره.
وكان مديد القامة، أشهب، أشهل، ولحيته حمراء قبل المشيب، وقد اقتصر على الطعام النباتي ومشتقات اللبن مثل غاندي منذ ثلاث وستين سنة. وهو أيرلندي الأصل، احترف الأدب، وعاش في لندن معدمًا إلى الأربعين تقريبًا، حين انفتحت له أبواب الحظ، فمُثلت دراماته على المسرح الإنجليزي والمسارح الأوروبية والأمريكية.
وقد عرف كثيرًا من النساء، أو بالحري عرفته نساء كثيرات. ولا يستطيع مَن ينظر إلى صورة برنارد شو في شبابه أن يقول إنه كان جميلًا، ولكنه على الأقل كان غريبًا، يغري بغرابته، ويجذب بشذوذه؛ شاب أصهب اللحية، يتجنب اللحوم والخمور والشاي والقهوة والدخان، إذا تحدث امتلأ حديثه بفقاقيع النكات المؤلمة، وأحيانًا المحزنة، وهو فوق ذلك اشتراكي، يقف في صف المعارضة الاجتماعية للدولة والمجتمع والأخلاق، وينتقد بحرارة تخفف من وقعها الفكاهة. وكان هو نفسه دائبًا في نشر اسمه وإذاعة صيته حتى لم يكن يمر أسبوع دون أن تتحدث عنه إحدى الصحف، مادحة أو قادحة. وانتشر له صيت بأنه ذكي، ينطق بالكلمات التي تُؤثر وتُروى.
ومما يُروى أن الراقصة «إيزادورا دونكان» عرضت عليه عرضًا فاجرًا، بقولها إنها أجمل النساء، وإنه هو أذكى الرجال، وأنها لو أنجبت منه طفلًا، لجمع بين جمالها وذكائه، فرفض برنارد شو العرض، وقال إنه يخشى أن يخرج الولد وقد جمع عقلها هي إلى جسمه هو!
وحياة برنارد شو حافلة بالأدب الكفاحي، الذي ينأى عن البرج العاجي. وهو لم يعش قط محايدًا، يتجنب الأحزاب أو يكره الانغماس في المشكلات؛ ولذا كانت جميع دراماته مشكلات اجتماعية، تخلو أحيانًا من الحب، الذي هو الموضوع الرئيسي للقصة أو الدراما، أو هي تضع الحب أحيانًا كثيرة في المكان الثاني، أما المكان الأول فللمشكلة الاجتماعية أو الفلسفية أو السياسية.
ويجب أن نستنتج من هذا أن حياة برنارد شو نفسه كانت مليئة بالكفاح الاجتماعي والسياسي والفلسفي، وأن التفاته إلى الحب كان عابرًا، يطفو على السطح، ولا يتعمق حياته، وكان ينشد به السرور لا السعادة؛ لأن سعادته كانت ولا تزال في كفاحه لتغيير المجتمع البشري. وقد أفلتت منه كلمة في إحدى دراماته، دلت على موقفه من الحب، حين قال: إن البشر يتعلقون أحيانًا، ولكنهم يسلكون سلوك الحمير حين يحبون.
ويذكر برنارد شو أنه بقي إلى الثلاثين تقريبًا وهو بكر كالفتاة العذراء، إلى أن تعرف إلى أرملة، أو تعرفت هي إليه، فكان بينهما حب بقي سنين كثيرة لم تَشُبه سوى علاقته — في نفس الوقت — بامرأة أخرى؛ إذ شبت بين المرأتين غيرة جنونية، كانت تحمله على المصالحة بينهما، أو على الملق في إيثار إحداهما وقت غيبة الأخرى. وواضح أنه في هذا «الحب» كان يسلك سلوك الحمير الذي ذكره في إحدى دراماته!
على أننا هنا يجب أن نفهم أن «سلوك الحمير» هذا، لم يكن ينطوي على إسراف، فلم تتأجج فيه شهوة، أو يستمر فيه شوق؛ فإنه في تلك السنين كان قد شرع في اتخاذ النظام النباتي في طعامه، وشهوات الإنسان «تتكيف» بطعامه إلى حد بعيد. وقد أومأ فرانك هاريس في ترجمته لبرنارد شو إلى أنه كان ناقصًا من الناحية الجنسية، وكاد يقول إن التزامه للطعام النباتي هو علة ذلك. وقد أنكر برنارد شو في صراحته المألوفة هذه الشبهة. والواقع أنه ليس هناك ما يدل عليها بتاتًا، وإن كان هناك بالطبع ظن بأن انغماس هذا الأديب الكبير في المشكلات الأدبية، ووقوفه منها على المستوى العالي في التبعات الاجتماعية والفلسفية، قد خفف عنده من هذه الحدة الجنسية التي تكون عند نظرائه من الناس. أما تجنبه اللحم والخمر، فيأتي بعد ذلك في تخفيف حدته الجنسية.
وقد عرف برنارد شو ثلاثًا من النساء ارتفع بينه وبينهن الحب إلى درجة سامية؛ إذ كان ينطوي على كثير من الألم والتضحية، وما نصطلح على تسميته أحيانًا بالروحية. وقد كان «لاروشفر كول» يقول إن هناك كثيرًا من الناس، ما كانوا ليعرفوا الحب لولا أنهم قرءوا أو سمعوا عن قصصه. ومعنى هذا الحب أن الحب «يتكيف» بثقافتنا، وأن لكل منا طريقة في معالجته أو معاناته، هي ثمرة الثقافة التي حصلنا عليها من بيئتنا الاجتماعية، ومن آدابنا الموروثة؛ ولذلك يجب أن نجزم بأن هناك فرقًا عظيمًا، بين الشاب الذي لم يقرأ من قصص الحب سوى ما جاء في كتاب «ألف ليلة وليلة» وبين شاب آخر قد قرأ «أبيلار وهيلوئيز»؛ فإن ما يستنبطه أحدهما من معاني الحب ولذاته، تختلف اختلافًا جوهريًّا عما يستنبطه الآخر. ولكل منهما أسلوبه في الحب تبعًا لهذا الاختلاف.
وأحس برنارد شو لوعة الحب الأولى حين عرف آنسة تُدعى ماي موريس، وكان أبوها اشتراكيًّا من طراز تولستوي، ينزع إلى الاشتراكية؛ لأنه يجد فيها المجال للفنون الجميلة والرحمة بالفقراء. وكانت ماي تختلط بالاشتراكيين الفابيين، الذين كان برنارد شو يُعد زعيمهم. وكان يزور منزل والدها ويستمتع بالحدث إليها. وكانت مديدة هيفاء، تحسن لقاء برنارد شو ولكنها كانت تجهل ما يكنه نحوها من حب غامر، يلجم لسانه، ويربك حركته، عندما يلتقي بها. وكان في ذلك الوقت فقيرًا، يكاد يكون محرومًا من الكسب. وكان موريس ميسور الحال، فلم يجرؤ برنارد شو على أن يطلب يد ابنته، ولكنه لم ينكر على نفسه زيارتها، على أننا مع ذلك لا نحس أنها قد التفتت إليه أكثر مما كانت تقتضيها مجاملة الضيافة. وهو يروي عن نفسه أنه ذات مرة كان يهم بالخروج من منزل أبيها، فبرزت إليه في أناقة، وودعته في رقة وحنان، حتى أحس أنه تمت بينهما الخطبة «في السماء». وفي هذا التعبير ما يدل على أنه هام بها هيامًا عظيمًا، ولكن هيامه كان مكتومًا في نفسه!
وذات يوم عرف أنها خُطبت إلى أديب اشتراكي يُدعى سبارلنج، ثم تزوجته، واستكان إلى حظه، وتقبل هذا الحرمان من حبيبته التي كان يعدها خطيبته «في السماء». ولكن حدث بعد ذلك أن هذين العروسين اللذين سكنا في دار نائية، دعوا برنارد شو إلى زيارتهما، فزارهما على براءة وأمانة، وبقي معهما أسابيع، والجميع هانئون، من دون أدنى دليل على خيانة أو مخالفة زوجية. ولكن الناقد لا يشك في أن ماي موريس قد وجدت في برنارد شو من روعة العبقرية والعظمة ما جعلها تفكر، وتقارن بينه وبين هذا الزوج الأليف؛ لأنه ما كاد برنارد شو يتركهما، حتى وجد الزوج أن زوجته قد استحالت إلى حجر مثلج لا يتحرك، كأن كل عواطفها قد جمدت. وغشي البيت جو من المرارة، يكاد كل من الزوجين يطعم علقمه، حتى لم يجدا مندوحة عن الفراق!
ولم يتهم الزوج برنارد شو بإغراء زوجته، ولكنه قال إن زيارته كانت سبب هذا الفراق. وبقيت ماي بعد ذلك في عزبتها حتى ماتت.
أما المرأة الثانية التي أحبها برنارد شو فهي ألين تري، الممثلة الإنجليزية، وكانت رائعة في جمالها وفنها، وهي عند الإنجليز بمقام سارة برنار عند الفرنسيين. وأحب كل منهما الآخر على بُعد، لا يلتقيان، وإنما كانا يتراسلان. وقد طُبعت بعد ذلك هذه الرسائل، فكانت كشفًا رائعًا عن أسلوب في الحب لا يُطاق بين المحبين.
وقولنا إنهما «لا يلتقيان» ليس بمعنى أنهما لا يتقابلان بالعين؛ فقد كانت «ألين تري» تظهر على المسرح كل مساء، وكان برنارد شو يواظب على الحضور، ويتخذ مقعده قريبًا من خشبته، فكانت العين تلتقي بالعين لقاء صامتًا، حتى إذا بلغ برنارد شو منزله، كتب إليها رسالته، وبثها فيها لوعته وشجنه، فإذا كان الصباح ردت هي عليه في رسالة أخرى.
ومثل هذا الحب الذي لا يعرف لقاء جدير بأن يحتدم ويدوم احتدامه. وقد بقي الاثنان على هذا البعد، يستمتعان ويعانيان لذة الفراق الأليمة. وكانت ألين تري تمثل درامات هذا الصديق أو الحبيب النائي، ومع ذلك لم يكن برنارد شو يختلس الزيارة من خلف الستار، كي يشكر أو ينبه أو ينتقد، كما هو المألوف بين المؤلفين، بل كان يقنع برسالته التي يسكب فيها نفسه، ويبعثها إليها، وبقيت على ذلك حتى ماتت. ولما نُشر الكتاب الذي يحوي هذه الرسائل كتب ابن ألين تري نقدًا لها فقال: إن برنارد شو لم يكن يحب أمه وإنما كان يخدعها بهذه الكلمات العذبة كي تمثل دراماته، وإن أمه خُدعت، فأحبته، وخدمته بتمثيل هذه الدرامات. ولكن المتأمل لهذه الرسائل يحس فيها طابع الصدق والإخلاص، ويكاد يكون من المستحيل للأديب الكبير أن يخدع ويكتب، كاذبًا على إحساسه وعاطفته. ولكن يمكن أن يُقال إن برنارد شو لم يكن يعجب بما نسميه الجمال في جسم ألين تري، وإنما كان إعجابه ينصب على شخصيتها الرائعة، التي كانت تتلألأ على المسرح. ولعل هذا هو السبب في أنه استطاع أن يحب على بُعد، وأن يحجم عن اللقاء؛ لأن جمال الجسم يثير الشهوة، ويغري بالقرب. ولكن جمال الشخصية يبعث الإعجاب، والعبادة عن بُعد. ولعل هناك تفسيرًا آخر، هو هذه الرغبة العامة التي يحسها الأديب الصادق في التجربة؛ كيف يكون الحب على بُعد، وكيف تستحيل اللوعة إلى فن، وكيف تستغني عن العناق المطفئ للشهوة، بالخيال الذي يشبع في النفس ويملؤها بمباهج الألوان والأشكال؟
وكانت ألين تري رائعة الجسم، يدل على ذلك أن خمسة تزوجوها واحدًا بعد آخر، ولكن برنارد شو على ما يبدو، كان يفتتن بها وهي تمثل؛ أي إنه كان يعشق ميزاتها الفنية، وليس ميزاتها النسوية، وهو يقول: «إن الحب الأمثل هو الذي يجري عن طريق البريد. وقد كان تراسلنا حبًّا كاملًا شافيًا. وكنت أستطيع أن أقابلها في أي وقت أردت، ولكني لم أشأ أن أعكر هذا الحب الصافي.»
وستبقى هذه الرسائل المتبادلة بين برنارد شو وألين تري أدبًا خالدًا، وتجربة للبشرية سامية، بين نفسين ارتفعتا إلى مستوى عالٍ من الإحساس والخيال، والتعقل وكظم «نهيق الحمار».
أما المرأة الثالثة التي أحبها برنارد شو، فيبدو أن حبها له أو حبه لها، كان من النوع الذي لا يلتهب، فينير أو يدمر، ولا يسمو، فيقوم الخيال فيه مقام اللقاء، ويغني عنه، وهو النوع الذي يعيش في مجتمعنا وتُبنى به العائلات.
وهذه المرأة هي شارلوت بين تونسهد، وكانت فتاة ثرية، تعرفت إلى «بياتريس ويب» وتعلمت منها الاشتراكية، وكانت قد سئمت أولئك الشبان العديدين الذين طلبوا يدها طمعًا في ثرائها. ووجدت برنارد شو نجمًا يوشك أن يبزغ ويتلألأ، فسعت بياتريس ويب بينهما كي تربطهما بالزواج. وكانت تنشد في هذا الزواج تحقيق مآرب مختلفة؛ منها التخفيف عن برنارد شو من الفاقة التي ألحَّت عليه إلى أن كاد يبلغ الأربعين، ومنها استخدام هذا الثراء الذي كانت تتمتع به هذه الآنسة لترويج المذهب الاشتراكي، ولكن برنارد شو كان — كما هو شأن الأديب المخلص لرسالته — يتوجس خيفة من الزواج؛ إذ لا يستطيع الأديب أن يخدم سيدين معًا: الفن والزوجة.
ولكن شاءت الظروف غير ما شاء برنارد شو؛ فقد مرض، ولزم السرير، وساءت حاله. وكانت شارلوت في نزهة مع بياتريس ويب في البحيرات الإيطالية، فأرسل إليهما صديق ينبئهما بخطورة المرض، وبأن برنارد شو لا يجد مَن يُعْنى به، فلم يكن من شارلوت إلا أن سافرت على أول قطار، وقصدت إليه عقب وصولها إلى لندن، فألفته في حال يُرثى لها من الإهمال.
وهنا يقول برنارد شو في صراحته البشعة: إن النفس وقت المرض تضعف فترق، ويغمرها الحنان؛ ولذلك يسهل غزوها بعروض الحب والزواج، وقد قبل الزواج. وما هو إلا أن سرت في عروقه بوادر العافية، حتى قصد مع شارلوت إلى الكنيسة حيث تم زواجهما. وهو لا يزال يذكر أن رفيقه إلى الكنيسة كان جراهام وولاس، المفكر المشهور والمعروف بكتابه «فن التفكير»، وكان يمتاز بقوام وصحة وإشراق، ويتزين بوردة على صدره، لما رآه القسيس حسبه العريس، ونحَّى برنارد شو عن كرسي الزفاف، مستهينًا به لهزاله وضعفه.
ثم اعتذر القسيس، وأتم الزواج.