قصة كارل ماركس
ولد سنة ١٨١٨، وكان أبوه يهوديًّا قد احترف المحاماة. وكان قد تنصَّر سياسة لا دينًا، وذلك لكي يقبل على مكتبه الناس. وكان أهله يعيشون في بلدة تريف في الموزيل في فرنسا، قريبًا من التخوم الألمانية، وهذه البلدة كثيرًا ما تناوبتها سيادة فرنسا وألمانيا على التوالي.
وكانت أمه مؤمنة دينة، تميل إلى الهدوء، والجري على أوضاع العرف، فعاشت طول حياتها وهي في أشد الحزن والأسى لنزوع ابنها إلى أفكاره الثورية، ومطاردة الحكومات له. ونشأ ماركس عبلًا مديد القامة. وكان أسمر اللون، يكاد يكون آدمًا، حتى كان إخوانه يسمونه الزنجي. ولكن ملامحه كانت أبعد ما تكون عن الملامح اليهودية المألوفة.
وكانت مدينة تريف بعد سقوط نابليون، قد انتقلت إدارتها من فرنسا إلى ألمانيا. وكان يسكن بجوار منزل ماركس المستشار الألماني البارون وستفالين. وكان والد ماركس قد عرف هذا البارون، وصارا صديقين يتزاوران. وتعرَّف عائلة كل منهما إلى عائلة الآخر. وكان للبارون ابنة جميلة تُدعى برتا، وكانت سنها أكبر من كارل ماركس بأربع سنوات، ولكنه شب معها، وقضيا عصر الصبا معًا، فلما بلغا سن الشباب، تعلق ماركس بها، وصار يلهج بذكرها، ولا يطيق فراقها. وكانت هي أعقل منه بحكم سنها، وكانت تجد في نفسها له، مثل ما يجد هو أو أكثر، ولكنها كانت تداري وتطاول.
وأرسله أبوه إلى جامعة بون، ولكنه لم يكن خليًّا، فاشتغل باله بحبيبته، وانتشرت عليه لذلك دروسه، فلم يأتِ بنتيجة. وصارت أخباره تصل إلى والده، فيبعث إليه يبكته ويؤنبه بلا طائل. وأخيرًا استدعاه والده، ومنعه من الذهاب إلى بون.
فلما حضر أخذ في حض حبيبته على الزواج منه، وألحَّ عليها في ذلك، وأظهر لها من الحب والإخلاص ما جعلها تقبِّل يده، وتعده بالزواج بعد تردد طويل وممانعة جدية؛ فقد كانت برتا لزيادة سنها على سنه، تخشى أن يكون تعلقه بها عن هوى زائل لا عن حب مقيم.
إنك في تشوش هائل، تكثر من التجوال في مختلف العلوم، وتقضي وقتك عبثًا في التأمل حول المصباح.
ولكنه مع هذا التشوش استطاع أن ينال شهادة الجامعة. وكان أبوه قد مات في هذه الفترة، فعزم على أن يحترف التعليم، ولكنه عدل عنه إلى الصحافة، وتعين محررًا في إحدى الجرائد الحرة. ثم غلا في سياسته حتى اضطر أصحاب الجريدة إلى فصله.
وكان أهل برتا قد عرفوا علاقتها بماركس، وصاروا يمانعون في عقد هذا الزواج، ولكن حب الحبيبين كان أوثق من أن تفكه شكوك العائلة، وتزوجا على الرغم من استياء أهل الفتاة في سنة ١٨٤٣.
وخرج بها ماركس مهاجرًا إلى باريس، حيث تعرَّف إلى برودون وباكونين وسان سيمون، وكان هؤلاء الثلاثة من أقطاب الاقتصاد في ذلك الوقت، ومن غلاة الحاملين على مبدأ الملكية، فأُشرب ماركس آراءهم، وأخذت هذه الآراء تتطور في نفسه وتتكشف، حتى تفتحت أزهارها عن الاشتراكية الحديثة.
وعرف ماركس في ذلك الوقت أيضًا هَينه، الأديب الألماني الذي لا يفوقه في الأدب الألماني سوى جوته. وكان هينه يفتن كل مَن يقترب منه أو يقرأ له، بل كان بيته يُحاصر أحيانًا بمن أحبه من النساء والرجال.
وتعلقت زوجة ماركس بهينه بعض التعلق، وكان هينه يحبها، ولكن أكثر الرواة يجمعون على أن هينه احترم في ماركس صداقته، ولم يخنه في زوجته، وأن الزوجة عاشت أمينة للزوجية، لم تخل بشروطها، ولم يكن حبها لهينه إلا حبًّا أفلاطونيًّا بريئًا.
وأوعز ملك روسيا إلى حكومة فرنسا أن تنفي ماركس من بلادها، فنفته، وبقي من ذلك الوقت إلى حين وفاته، وهو في فقر مدقع، دائم الرحلة من بلد إلى بلد، لا ينزل مكانًا حتى يرى الشرطة قد احتاطته، وأخذت في إعناته بضروب من المكايدات، وانتهى به المطاف إلى لندن؛ حيث طبع كتابه «رأس المال» بعد أن عانى المشاق في وجود مَن رضي بطبعه.
ولم يكن يعوله سوى جريدة التربيون بنيويورك؛ إذ كانت ترسل إليه جنيهًا كل أسبوع، لكي يوافيها ببعض المقالات.
وانتهت هذه الحياة المعذبة بشيخوخة غير مطمئنة، فقد ماركس إيمانه بالله، وكفر بقوانين الزواج، وصارت الحكومات في نظره شرًّا عظيمًا، يجب أن يُزال من الوجود. وماتت زوجته قبل وفاته بعام، ويُحكى أنه عندما ذهب هو وأولاده الستة لكي يدفنوها، عثر فوقع في حفرة قبرها، ومنذ ذلك الوقت إلى يوم وفاته، انطفأت حماسته، ولم يعد يهتم لشيء في هذا العالم.