أنطونيوس وكليوبطرة
ليس في سير الحب القديمة ما هو أشهر من سيرة كليوبطرة ملكة مصر الإغريقية أو بالأحرى المقدونية؛ فقد وضع المؤلفون القصص والدرامات والتواريخ والقصائد، ومثَّل غرامها المصورون والنقاشون والمثالون. وأكبر ما يجذب الناس إلى قراءة سيرتها، غرابة الأطوار التي تطورتها حوادثها، والنهاية المفجعة التي انتهت إليها، وعِظم التضحيات التي ضحى بها كل من المحبين أنطونيوس وكليوبطرة.
وكثرة هذه السير تزيد تاريخها إبهامًا بدلًا من أن توضحه؛ فقد ضرب أكثر مَن كَتَب عنها بسهم في الخيال، وأكثر من التزويق والتزيين، شأن القصاص، حتى صارت الحواشي تغطي على المتن، وحتى صار يشق على المؤرخ استخلاص الحقائق من الأوهام.
فقد كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم البطالمة، وهم سلالة مقدونية إغريقية كانت تمت إلى الإسكندر بالقرابة. وكان مؤسس أسرة البطالمة قائدًا عند الإسكندر، وكانت الإسكندرية في وقت كليوبطرة أكبر ميناء على البحر الأبيض المتوسط، ومركز التجارة بين آسيا وأوروبا وأفريقيا، وكان أكثر سكانها من الإغريق، وكانت لهم مكتبة كبرى وجامعة يتعلمون فيها، فكان الوسط كله إغريقيًّا، تكسوه الحضارة الإغريقية، وتُسمع فيه اللغة الإغريقية، وتسيطر عليه الثقافة الإغريقية في الفنون والعلوم.
وارتفعت كليوبطرة إلى عرش مصر وهي في السابعة عشرة، وكانت الإسكندرية قاعدة البلاد وكرسي الحكومة، وكان يبلغ سكانها نحو مليون نفس، وتبلغ المكوس المضروبة على البضائع في جماركها نحو خمسة ملايين جنيه، وكانت صناعات الكتان والبردي والزجاج والأقمشة رائجة فيها، وكان خُمس مساحة المدينة خاصًّا بقصور الأسرة المالكة والمكتبة والمتحف، تحفها وتتخللها جميعها البساتين والتماثيل والمسلات وما إليها، وقد شبهها المؤرخ الإيطالي فيريرو بباريس هذه الأيام، لوفرة ما كان فيها من وسائل الحضارة والترف.
ولما ارتقت كليوبطرة إلى العرش كانت تبعًا للسنن المتبعة في الأسرة المالكة مخطوبة إلى أخيها، وكان لا يزال بعدُ صبيًّا في الثانية عشرة من عمره، وكان عليه أوصياء سوء، أرادوا أن يستفيدوا من صغر سنه، فنفوا أخته عن المدينة، وولوه العرش وحده.
وكانت هذه النكبة الأولى مهمازًا لكليوبطرة، تنبهت منه أعصابها وتذكى عقلها، فبادرت إلى الذهاب إلى سوريا حيث ألَّفت جيشًا وعادت به إلى مصر.
وفي هذه الأثناء كان يوليوس قيصر القائد الروماني قد احتل الإسكندرية، ولم تكن تجدي فيه المقاومة؛ لأن جيشه — فضلًا عما كان له من شهرة بالبسالة والصمود في القتال، وسائر الصفات التي تتسم بها الجيوش الرومانية — كان يقوده أبرع قائد في ذلك الزمان وهو قيصر. واقتصر الملك ونصحاؤه على كسب رضاه وثقته، وجاءت كليوبطرة تنافس أخاها في اكتساب هذه الثقة، وكان أخوها أكثر منها ناصرًا، ولكنها كانت تمتاز عليه عند قيصر بجمالها وفتنتها.
لم يكن جمالها بحيث لا يمكن أن يُقرن إلى جمال غيرها، ولم يكن من الروعة بحيث يؤثر في الناظر عند أول رؤيته لها، ولكن تأثيرها في الإنسان إذا بقي مدة قصيرة في حضرتها لم يكن مما تمكن مقاومته؛ فقد كانت شخصيتها، وحلاوة حديثها، وذلك الطابع تطبع به ما تقوله أو تعمله، من السحر بحيث تستأثر الإنسان. وكان مما يلذ للإنسان أن يسمعه موسيقى صوتها الذي كان يشبه آلة وترية تختلف فيه الأنغام.
واحتالت كليوبطرة لكي تصل إلى يوليوس قيصر وتضمه إلى حزبها، فينصرها على أخيها، وكانت جيوش أخيها تحجز بينها وبينه، فوضعت نفسها في بساط لفته حولها ورُبط عليها، واحتملها خادم أمين لها، ونزل في زورق صغير حتى وصل إلى حيث كان قيصر، فأنزل الخادم البساط، وطلب إلى حرس قيصر أن يؤذنوه بوصول هدية إليه، فأذن قيصر في حمل الهدية، فما هو أن وضع البساط أمامه، وفُكت الحبال المربوطة حوله، حتى خرجت منه كليوبطرة.
وكان قيصر شجاعًا جريئًا، فلا يدع أن يعرف قيمة الشجاعة والجرأة في غيره، فأحبها وأقرها على عرش مصر دون أخيها، وحكمت البلاد منذ تلك الساعة ونحو ست سنوات حكم العدل والحكمة. ثم مات قيصر في رومية مقتولًا، متهمًا بالطموح إلى الاستبداد وإلغاء الجمهورية، وكانت كليوبطرة قد ولدت له ولدًا سماه قيصرون.
وظهر في العالم الروماني عقب موت قيصر رجلان اقتسما هذا العالم بينهما؛ أولهما: أوكتافيوس الذي استولى على الجزء الغربي منه، وثانيهما: أنطونيوس الذي استولى على الجزء الشرقي.
وأخذت كليوبطرة تحسب وتقدر أيهما أفضل، لكي تنضم إليه وتستعين بقوته، فبقيت في ترجيح وتردد حتى توجس منها أنطونيوس فاستدعاها، وكان في ذلك الوقت ضاربًا خيامه في كيليكة وجيوشه تحوطه، وكان أنطونيوس يمت بصلة الرحم إلى يوليوس قيصر نفسه، وكان شجاعًا من هواة الجندية، وقد قضى بعض شبابه في لذاذات الشباب وسرف الفتوة، فأنفق نحو مائة ألف جنيه على الخمور والنساء وما إليهما، ولكنه كان عندما يجد الجد وتعلن الحرب يصير من مساعيرها، يقاتل فيها ويدبِّر لعدوه المكايد ويصمد له حتى يفوز.
ولم تكن ثم مندوحة لكليوبطرة من أن تلبي دعوته، فألَّفت أسطولًا صغيرًا وسارت إلى كيليكية عبر البحر الأبيض المتوسط حتى بلغتها وصعدت إلى نهر كيدنوس حيث كان أنطونيوس وجيوشه. وكانت سفينتها غاية في الزينة، وقد توسطتها في أفخر لباسها، ووقف جواريها سامطين أمامها في أبهى الحلل وأجمل الزينات. ولما وقفت سفينتها وجَّه إليها أنطونيوس يدعوها إلى العشاء، فأرسلت هي إليه تدعوه إلى السفينة.
وكانت الوليمة المعدة لأنطونيوس قد هُيئت بضروب من الألوان الشرقية والغربية، وصُفت على المائدة أكواب الشراب، وأُضيئت آلاف الشموع تحترق فتخرج منها أنفاس الطيب، وتعبق فوقها سحابات من دخان العطور المختلفة. وجاء أنطونيوس من خيامه، وكان قد مضى عليه زمن وهو يعيش عيشة المعسكرات، بما فيها من شظف وخشونة، فرأى في الفراش الوثير، والطعام اللذيذ، والشراب الفاخر، والجمال الفتان، ما سحر لبه، وأسر قلبه وقيده إليها.
ولم تكن كليوبطرة قد أحبت قبلًا؛ لأن علاقتها بيوليوس قيصر كانت قائمة على المصلحة لا على العشق، أما الآن، فقد وجدت في أنطونيوس شخصًا فتيًّا، يلبي شهواتها ويعشقها، لا يبرحها طوال ليله ونهاره، فعشقته وعلقته. وربما كان يشوب هذا العشق شيء من مراعاة المصلحة من كلا الجانبين، ولكن ليس شك في أنهما أخلصا الحب، وتصافيا كئوسه حتى الممات.
وبقي كلاهما معًا نحو عشر سنوات لم يفترقا إلا مرة واحدة، حين ذهب أنطونيوس في حملة في إحدى جهات آسيا. وقد ذكر بلوتارخ أن أنطونيوس قال مرة: إن التمليق أربعة أنواع، أما كليوبطرة فعندها منه ألف نوع. وهذا وحده يدل على سحر حديثها.
كانت كليوبطرة على استعداد دائم لأن تسر أنطونيوس وتمتعه سواء أكان في حال الجد أم في حال اللهو. وكانت تلازمه ليل نهار، تلاعبه النرد، وتشرب معه، وتخرج معه إلى الصيد تقتنص معه، وإذا كان وقت المران على القتال وقفت أمامه تعجب به وتصفق له.
ثم حدث النزاع بين أكتافيوس وأنطونيوس، أيهما يسود العالم. وقد كان أكتافيوس يضمر السوء لأنطونيوس، ويتربص به الدوائر؛ لأن أنطونيوس كان متزوجًا أخت أكتافيوس، وكان قد هجرها عندما علق كليوبطرة. وتهيأ كلا الفريقين للقتال، وأعد كل منهما أسطولًا، والتقيا في أكتيوم. وكانت كليوبطرة تصحب أنطونيوس؛ إذ لم يكن يقدر على فراقها. ودار القتال برهة، ظنت فيها كليوبطرة أن أسطول عشيقها قد انهزم، فأمرت ربانها بالفرار. ولم تكن الهزيمة قد تأكدت ولكن قلب المرأة يساوره الهلع في ساعة الشدة، التي لم يُخلق لها إلا الرجال. ورأى أنطونيوس سفينة كليوبطرة تولي الإدبار، فجُنَّ جنونه واستطير، وأمر أسطوله أن يدركها، وهنا بانت الهزيمة الأولى.
وتحصن أنطونيوس بالإسكندرية، ولكن أكتافيوس هزمه مرتين، حتى سلمت له جميع جيوشه. وعرفت كليوبطرة عندئذٍ أنه قد قُضي عليها هي وحبيبها، وأنها لا بد أن تقع أسيرة، وتُقاد في شوارع رومية مقيدة بالأغلال من الذهب، وينظر إليها جمهور تلك العاصمة بين الاستهزاء والتشفي، فأشاعت في الإسكندرية أنها ماتت، حتى يكف أكتافيوس عن البحث عنها، وتبحث هي في خلال ذلك عن طريقة للنجاة. وبلغت الإشاعة أنطونيوس فانتحر، بأن غرز سيفه في بطنه وبلغ ذلك كليوبطرة فانتحرت هي الأخرى.