جميل وبثينة
كان جميل شاعرًا، نشأ في قومه بني ربيعة بوادي القرى بين المدينة ومكة، فأحب فتاة تُدعى بثينة من بنات قومه. وكان قد علقها صغيرًا فاشتهر حبهما، ووصل خبره إلى أبيها. وكان من شر العادات عند العرب أنه إذا اشتهر حب بين اثنين منع أبو الفتاة المحبوبة زواجها من حبيبها؛ وذك خشية أن يتقول الناس عن سابق العلائق التي كانت بينهما قبل الزواج.
فامتنع أبوها عن تزويجه، فصار جميل يشبب بها، ويؤلِّف القصائد في وصفها ومقدار حبه لها، وربما كان غرضه من ذلك أن يلقي الشك في قلوب الأغراب، فيشعرهم بأن علاقته بها شديدة، ويكون من أثر ذلك فيهم أن يمتنعوا عن طلبها لأنفسهم من أبيها.
وكان ذلك في عصر الدولة الأموية في خلافة عبد الملك بن مروان، فاستعدى أهل الفتاة الوالي لكي يكف جميل عن التشبيب ببثينة. وبلغ ذلك جميلًا، ففر إلى الشام، ونزل عند أحد وجوه بني عذرة، وكان يعرف خبره ويرحمه لما هو فيه من البلوى. ومما يُحكى أن هذا الرجل احتال على جميل لكي ينسيه حبه، فزين سبع بنات، فكن يتصدين له متبرجات، ويعاودن ذلك حتى يعلق إحداهن، ففطن جميل للحيلة، وصد عنهن، وقال في ذلك:
وكان جميل يضرب المواعيد لبثينة ويلتقيان في الخلاء. وقد روى الأغاني: «إن بثينة لما أخبرت أن جميلًا قد نسب بها، حلفت بالله لا يأتيها على خلاء، إلا خرجت إليه لا تتوارى منه، فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث إليها ومع أخواتها.»
وهذا يدل على أنهما تصافيا الحب، وكان كلاهما محبًّا. وقد أكثر فيها من نظم القصائد التي كانت تنال إعجاب الفرزدق وعمر بن أبي ربيعة.
من ذلك قوله:
روى الأغاني: لقي جميل بثينة، بعد تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلًا فقالت له: ويحك يا جميل، أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول:
فأطرق طويلًا يبكي، ثم قال: بل أنا القائل:
فقالت له: ويحك! ما حملك على هذه المنى؟ أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعًا؟
ومما ذُكر عنهما هذه الحكاية التالية:
«سعت أَمَة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما: إن جميلًا عندها الليلة. فأتياه مشتملين على سيفين، فرأياه جالسًا حجزة منها يحدثها ويشكو إليها بثه. ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت ودي إياك وشغفي بك، ألا تجزينه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين. فقالت له: يا جميل أهذا تبغي؟ والله لقد كنت عندي بعيدًا منه، ولئن عاودت تعريضًا بريبة لا رأيت وجهي أبدًا. فضحك وقال: والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه. ولو علمت أنك تجيبينني إليه لأدركت أنك تحبين غيري. ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك بسيفي هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد، أَوَما سمعت قولي:
فقال أبوها لأخيها: قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها. فانصرفا وتركاهما.»
وتزوجت بثينة من آخر غير جميل، ولكنها بقيت تحفظ عهده ويزورها خفية في بيت زوجها، إلى أن علم زوجها بذلك فشكاه للوالي، فأهدر دمه إذا عاود، فانقطع جميل عن الزيارة.
روى بعضهم أنه لما مُنع جميل من زيارة بثينة ضاقت به الدنيا، فكان يصعد بالليل على ربوة عالية يتنسم منها الريح من نحو حي بثينة ويقول:
فإذا بدا وضح الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوارٍ من الحي عندها: ويحكن! إني لأسمع أنين جميل من بعض الغزلان. فيقلن لها: اتقي الله، فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له.
وقد كان يتنكر أحيانًا ويتخذ من اللباس ما يخفي به حقيقة شخصه، ثم يزورها ويجلس مع سائر الضيوف، فلا يعرف أحد أمره سواها؛ فمن ذلك ما رواه بعضهم أن جميلًا جاء إلى بثينة ليلة، وقد أخذ ثياب راعٍ لبعض الحي، فوجد عندها ضيفانًا لها، فانتبذ ناحية، فسألته: مَن أنت؟ فقال: مسكين. فجلس وحده. وعشَّت ضيفانها، وعشَّته وحده. ثم جلست هي وجارية لها على صلاتهما واضطجع القوم منتحين، فقال جميل: هل البائس المقرور دانٍ فمصطلٍ من النار، أو معطًى لحافًا فلابس؟
فقالت لجاريتها: صوت جميل والله، اذهبي فانظري. فرجعت إليها وقالت: هو والله جميل. فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون، وقالوا: ما لك؟ فطرحت بردًا لها من حيرة في النار وقالت: احترق بردي. فرجع القوم. وأرسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به. فحبسته عندها ثلاث ليالٍ. ثم سلَّم عليها وخرج.
قال الأغاني: لما أهدر أهل بثينة دم جميل، وأباحهم السلطان قتله، أعذروا إلى أهله، وكانت منازلهم متجاورة، فمشت مشيخة الحي إلى أبيه، وكان يُلقب صباحًا، وكان ذا مال وفضل وقدر من أهله، فشكوه إليه، وناشدوه الله والرحم، وسألوه كَفَّ ابنه عما يتعرض له ويفضحهم به في فتاتهم، فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع، ثم انصرفوا، فدعا به وقال له: يا بني، حتى متى أنت عَمِهٌ في ضلالك، لا تأنف من أن تتعلق بنات بعل يخلو بها وأنت عنها بمعزل، ثم تقوم إليك فتغرك بخداعها، وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها، فيكون قولها لك تعليلًا وغرورًا، فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة. إن هذا لذل وضيم، ما أعرف أخيب سهمًا، وأضيع عمرًا منك، فأنشدك الله ألا كففت وتأملت أمرك، فإنك تعلم أن ما قلته حق، ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها، ولكن هذا أمر قد فات واستبد به مَن قُدر له، وفي النساء عوض. فقال له جميل: الرأي ما رأيت، والقول كما قلت، فهل رأيت قبلي أحدًا قدر أن يدفع عن قلبه هواه، أو ملك أن يسلي نفسه، أو استطاع أن يدفع بما قُضي عليه. والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي، أو أزيل شخصها عن عيني، لفعلت، ولكن لا سبيل إلى ذلك، وإنما هو بلاء بُليت به لحين قد أُتيح لي، وأنا أمتنع من طروق هذا الحي، والإلمام بهم، ولو متُّ كمدًا، وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه. وقام وهو يبكي، فبكى أبوه ومَن حضر.
ويُروى أنه على الرغم من هذه الأخطار التي كانت تحول دون لقاء بثينة بجميل، فقد التقيا وودَّعها، وانصرف من وادي القرى إلى مصر حيث مات!
وجميل من الشعراء الذين يمتازون بصدق اللهجة والإحساس، فكان نسيبه يعبر عن عاطفة صادقة لا رياء فيها، وكثيرًا ما يحس الإنسان آلامه وهو يشكو. ومن أجمل ما نظم حين صدت عنه بثينة قوله: