صبيحة وابن أبي عامر
في منتصف القرن الرابع الهجري كان الخليفة في قرطبة بالأندلس رجلًا من الأمويين يُدعى الحكم، وكان من رعاة العلوم والآداب، مغرمًا بالموسيقى والغناء. حدث أنه كان في أحد الأيام بمكتبه، فسمع غناء أشجاه وأثَّر في نفسه، فسأل عن صاحب هذا الصوت، فعرف أنه لفتاة تُدعى صبيحة. فطلب حضورها وتحظاها، وكانت على شيء من الأدب والتفنن في الحديث، فعلقها وشغف بها، وصار لا يقضي وقته إلا معها. ورُزق منها غلام في سنة ٣٥٢ﻫ ففرح به فرحًا شديدًا، حتى عقد زواجه عليها. وصارت هذه الجارية أميرة الأندلس وأم ولي العهد.
وكان الحكم مسنًّا، بينما كانت صبيحة فتاة لا تزال في مقتبل العمر. وكانت تدري من شئون الدولة مثل زوجها، وتمتاز عليه بنشاطها، فكانت تتدخل في إدارة البلاد، ويسمع لرأيها الخليفة. وحدث أنها احتاجت إلى كاتب لكي تستعين به في إدارة ضياع القصر الخاصة، وفي سائر مراسلاتها وحساباتها مع موظفي القصر.
فابتغى لها زوجها كاتبًا من أولئك الكتبة الذين كانوا يحوطون القصر، يكتبون العرائض للخليفة من المتظلمين من الرعية. ووقع الاختيار على فتى يُدعى محمد بن أبي عامر، كان له حانوت بجانب القصر ينشئ فيه قصص الشكاوى وعرائض التظلم للخليفة.
وكان هذا الفتى شابًّا وسيمًا ذكيًّا نشيطًا، وقد تردد الخليفة أولًا في قبوله عندما رأى شبابه. وأخيرًا وكَّل مهمة الاختيار إلى زوجته فاختارته.
وابتدأ كاتبًا عند الأميرة، ثم لم تمضِ عليه مدة حتى صار وكيلًا لضياعها، وارتقى من ذلك أيضًا حتى ضمت إلى إدارته ضياع ولي العهد. وكان ابن أبي عامر يطمع في أكثر من ذلك، فأخذ يستميل الأميرة إليه، ويُرضي جميع مَن في القصر، حتى أحبه الجميع، وعيَّنه الخليفة ناظرًا لخزانة الدولة. ثم عيَّنه أيضًا مديرًا مطلقًا لإدارة سك النقود. وهكذا صار ابن أبي عامر أكبر رجل يُشار إليه في الأندلس بعد الخليفة.
وكانت الأميرة في خلال ذلك تلحظه برعايتها، ولا تذكره عند الخليفة إلا بما يسُر، حتى تفتح له قلبه وسبغ عليه نعمه.
وحقيقة الأمر أن هذا الرقي السريع الذي ناله ابن أبي عامر كان يرجع إلى حب الأميرة صبيحة له أكثر مما يُعزى إلى نشاطه وبراعته.
فقد أحبته الأميرة صبيحة، وكان يؤكد هذه الصفات في نظرها شيخوخة زوجها، وكان هو يطمعها في نفسه، ويظهر لها الحب نفاقًا ومكرًا؛ طمعًا في الصعود إلى أعلى المراتب التي كان يشتهيها؛ فكان إذا غاب عنها تواترت منه الهدايا، وكان مما أهداها نموذج لقصرها «الزهراء» مصنوع من فضة، وقد نُقشت جدرانه أبدع نقش، وقد حُملت هذه الهدية باحتفال كبير، اصطف فيه الجمهور على جوانب الشوارع، وهو يعجب برؤية هذه التحفة الغريبة.
وأخذ الناس يتساءلون من أين يأتي ابن أبي عامر بكل هذه الأموال، ينفقها في بذل الهدايا إلى الأميرة. ولما كان أمينًا على خزانة الدولة، لم يكن بد من الشك في أنه يختلس الأموال منها، فسعوا عند الخليفة حتى جعلوه يطلب من ابن أبي عامر أن يقدم حساب خزانة الدولة، وأمر أن ينظر في مطابقة الحساب على ما فيها من الأموال.
فكاد يُسْقَط في يد ابن أبي عامر، ويأفل نجمه في هذه الصدمة؛ لأنه ينفق عن سعة من هذه الخزانة، ولم يكن مرتبه يكفي إنفاقه، ولكن التوفيق كان لا يزال ملازمه؛ إذ تذكَّر أحد أصدقائه المخلصين ابن خضير، فقصد إليه وناشده الصداقة أن ينجيه من هذه الورطة، فدفع إليه ابن خضير جميع ما ينقص خزانة الدولة، وعُمل الحساب وطُوبق على الموجود من الأموال، فظهرت للخليفة أمانته، وأعاده إلى مركزه.
وكان الخلفاء في مثل تلك الظروف يتوجسون من الشبان، ورأى الذين كانوا يحبون ابن أبي عامر أن الخليفة يوشك أن يجفوه ويقصيه، فأوعزوا إليه أن يبرح قرطبة إلى إشبيلية، ويسافر منها إلى مراكش حتى تصفو الحال بينه وبين الخليفة، ثم يعود.
فلما كانت سنة ٣٥٨ﻫ سافر إلى إشبيلية، ثم برحها إلى مراكش، حيث بقي عامًا، هدأت فيه العاصفة التي أثارها عليه أعداؤه في قرطبة، فعاد في سنة ٣٥٩ﻫ، والخليفة عنه راضٍ وبقدره عارف؛ فقد رأى وقت غيابه مبلغ الارتباك الذي نال شئون الدولة على أيدي من قاموا بعمله، وهم لم يحصلوا على دربته وتجاربه.
وبقي في مركزه إلى سنة ٣٦٥ﻫ.
•••
مرض الخليفة وأشفى على الهلاك، وكان ابنه هشام يبلغ من العمر ١١ عامًا. وكان للخليفة أخ يُدعى المغيرة، وكان عمره نحو ٢٧ عامًا، وكان هو أحق بالخلافة من هشام؛ لأن تقاليد الشرع تشترط الخلافة للأرشد من الأسرة، بخلاف الحال عند سائر الأمم، حيث يرتقي العرش الابن عن الأب، كائنًا ما كان عمره.
وكان هذا الخاطر يجول برأس الحكم وهو في مرض الموت فيزعجه، فأفضى بسريرة نفسه إلى ابن أبي عامر، ولم يكن أسرع من أن يجمع ابن أبي عامر مجلسًا من كبراء الدولة ووجوهها، حملهم فيه على أن يقروا بولاية العهد لابنه هشام دون المغيرة.
وكان ابن أي عامر يرمي إلى مطامعه الشخصية في ذلك؛ لأنه كان يعرف أنه بعد وفاة الخليفة، لا تجد الأميرة صبيحة مَن تعتمد عليه سواه في إدارة الدولة ما دام الخليفة لم يبلغ سن الرشد، فإذا صار وصيًّا، اتسعت أمامه الفرص لكي يصير هو نفسه خليفة.
ومات الخليفة في سنة ٣٦٦ﻫ، ولكي يخلو الجو لابن أبي عامر ذهب في الحال إلى قصر المغيرة بثلة من الجنود، واقتحم عليه القصر وخنقه.
وهنا بدأت أطماعه تظهر، وصارت الأميرة صبيحة يتمزق قلبها غيظًا من هذا الرجل الذي رفعته من أحط المراتب إلى أعلاها، وأتمنته على مستقبل ابنها فانقلب عليها يبغي إنكار ابنها وإزالته هو وأمه من الوجود!
ومما كان يقرح في صدرها ويسهدها ويروعها، أن ابن أبي عامر لم يكن ماكرًا ذكيًّا فحسب، بل كان أيضًا شجاعًا محبوبًا عند جميع أفراد الأمة؛ فقد كان يقود المسلمين بنفسه في حروبهم مع الإفرنج، وينتصر بحسن تدبيره وإحكام مكايده عليهم، حتى صار يسمونه المنصور، ونسي الناس اسمه القديم، وصار لا يُعرف إلا بهذا الاسم.
وأخذ المنصور في تدبير أمره لكي يصل إلى الخلافة، فأخذ يرسل الأوامر ويُنفِذ الرسائل، موقعة بتوقيعه دون ذكر للخليفة أو الأميرة. وشعرت الأميرة صبيحة بأفاعيل هذا الولي القديم، الذي قلبته المطامع فصار عدوًّا، فأخذت تحاربه سرًّا. وكانت خزانة الدولة في القصر، وبها نحو ستة ملايين دينار، فأخذت نحو ٨٠ ألف دينار، وضعتها في جرار ملوثة بالعسل كي تزيل عنها الشكوك والشبه، وأنفذتها إلى الموالين لها في الأمصار والبلاد، حتى يخرجوا على المنصور، ويردوا السلطة إلى الخليفة.
وعلم المنصور بذلك فأخذ عددًا كبيرًا من أعيان الدولة، وذهبوا جميعًا خفية إلى الخليفة القاصر، وجعلوه يقر ويوقع على أنه عاجز عن حكم الدولة، وأنه ليس له سيطرة أو سلطان، وأنه يرضى بنقل الخزانة إلى خارج القصر. وخرج المنصور وقد حصل على هذه الوثيقة، فحقق بذلك أطماعه القديمة، وصار حاكم البلاد الحقيقي، وذلك في سنة ٣٨٧ﻫ وذاع خبر هذه الوثيقة، ففرح الناس لأنهم كانوا يحبون المنصور. وكان أكثر ما يحببه إليهم شجاعته وفروسيته؛ فقد حارب الإفرنج ٥٢ مرة، فاز عليهم فيها جميعًا، وعاد منهم بالغنائم. ويُحكى أنه سمع عن أمير إفرنجي حبس امرأة مسلمة، فحاربه وهزمه، حتى أجبره على أن يركع أمامه مستغفرًا عن حبسه هذه المرأة، التي أُخرجت من سجنها، وعُوضت عما نالها فيه من الأذى.
وفي سنة ٣٩٢ﻫ خرج لكي يقمع فتنة بالقرب من مدينة سليم في ولاية قشتالة، فاستبسل العصاة وصمدوا له حتى أشكل عليه الأمر، ورأى من جيشه تثاقلًا، فلم يكن منه إلا أن شهر سيفه، وتقدم بنفسه إلى صفوف العدو، والتحم بها، فابتعثت نجدته الحماسة في قلوب جنوده، فهبوا إلى الهجوم وانتصروا، ولكنه جُرح جراحات بليغة مات بعدها بأيام.
فبكى عليه الأندلسيون، وعاشت صبيحة بعده ست سنوات؛ إذ ماتت سنة ٣٩٨ﻫ، ورأت ابنها خليفة مؤمرًا بعد أن كان صورة لا قيمة له.