جمال الدين والثورة العرابية
لم يكن جمال الدين الأفغاني مناصرًا لإسماعيل، بل كان ينقم منه استبداده وإسرافه وتمكينه الدول الاستعمارية من مرافق البلاد وحقوقها، وكان يتوسم الخير في توفيق؛ إذ رآه وهو ولي للعهد ميالًا إلى الشورى، ينتقد سياسة أبيه وإسرافه، وقد اجتمعا في محفل الماسونية وتعاهدا على إقامة دعائم الشورى، وقال مرة لجمال الدين على مسمع من الحاضرين: «إنك أنت موضع أملي في مصر أيها السيد.»
ولكن توفيق لم يفِ بعهده بعد أن تولى الحكم في يونيو سنة ١٨٧٩، فقد بدا عليه الانحراف عن الشورى، واستمع لوشايات رسل الاستعمار الأوروبي، وفي مقدمتهم قنصل إنكلترا العام في مصر؛ إذ كانوا ينقمون من السيد روح الثورة والدعوة إلى الحرية والدستور، فغيَّروا عليه قلب الخديو وأوعزوا إليه إخراجه من القُطر المصري، وكان توفيق من الضعف والهوان بحيث لا يخالف أمر رسل الاستعمار الأوروبي.
(١) جمال الدين والخديو توفيق
(٢) نفي جمال الدين من مصر
ولم تتورع الحكومة عن نشر بلاغ رسمي من إدارة المطبوعات بتاريخ ٨ رمضان سنة ١٢٩٦/ ٢٦ أغسطس سنة ١٨٧٩ ذكرت فيه نفي السيد بعبارات جارحة ملؤها الكذب والافتراء، مما لا يجدُر بحكومة تشعر بشيء من الكرامة والحياء أن تسف إليه، فقد نسبت إليه السعي في الأرض بالفساد، ويعلم الله أنه لم يكن يسعى إلا إلى يقظة الأمة وتحريرها من ربقة الذل والعبودية، وذكرت عنه أنه «رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا»، وحذَّرت الناس من الاتصال بهذه الجمعية.
ومن المؤلم حقًّا أن يتقرر نفي جمال الدين ويصدر مثل هذا البلاغ من حكومة يرأسها الخديو توفيق باشا، وهو على ما نعلم من سابق تقديره للسيد، ومن وزرائها محمود باشا سامي البارودي وزير الأوقاف وقتئذٍ، وقد كان من أصدق مريديه وأنصاره، فتأمَّل كيف يتنكر الأنصار والأصدقاء لأستاذهم، وإلى أي حد يضيع الوفاء بين الناس! ولا ندري كيف أساغ البارودي نفي السيد جمال الدين واشترك في احتمال تبعته، وإذا لم يكن موافقًا على هذا العمل المنكر فَلِمَ لم يستقل من الوزارة احتجاجًا واستنكارًا؟ لا شكَّ أن موقف البارودي في هذه الحادثة لا يمكن تسويغه أو الدفاع عنه بأي حال.
(٣) جمال الدين أبو الثورة العرابية
نُفي جمال الدين من مصر، على أن روحه ومبادئه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري، وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلى إصلاح نظام الحكم، وإقامته على دعائم الحرية والشورى.
فجمال الدين هو من الوجهة الروحية والفكرية أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه، وحسبُك أن خطيب الثورة العرابية عبد الله نديم كان تلميذًا له، ومحمود سامي البارودي رئيس وزارة الثورة كان من أصدقائه ومريديه، والشيخ محمد عبده هو تلميذه الأكبر، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان لجمال الدين الفضل الكبير في ظهورها على عهد إسماعيل، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزًا أن يمدها بآرائه الحكيمة، وتجاربه الرشيدة، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار والدسائس الإنكليزية أن يُنفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور.
أقام المترجَم بحيدر أباد الدكن، وهناك كتب رسالته في (الرد على الدهريين)، وألزمته الحكومة البريطانية بالبقاء في الهند حتى انقضى أمر الثورة العرابية.