عمله في أوروبا
(١) العروة الوثقى
أخفقت الثورة العرابية، واحتل الإنكليز مصر، فسمحوا للسيد بالذهاب إلى أي بلد، فاختار الشخوص إلى أوروبا، فقصد إليها سنة ١٨٨٣، وتعلَّم الفرنسية وهو كبير، وأول مدينة وردها مدينة لندن، أقام بها أيامًا معدودات، ثم انتقل إلى باريس، وكان تلميذه الأكبر الشيخ محمد عبده منفيًّا في بيروت عقب إخماد الثورة، فاستدعاه إلى باريس، فوافاه إليها.
(١-١) جمعية العروة الوثقى
وهناك أصدر جريدة «العروة الوثقى»، وقد سُميت باسم الجمعية التي أنشأتها، وهي جمعية تألفت لدعوة الأمم الإسلامية إلى الاتحاد والتضامن، والأخذ بأسباب الحياة والنهضة، ومجاهدة الاستعمار، وتحرير مصر والسودان من الاحتلال البريطاني، وكانت تضم جماعة من أقطاب العالم الإسلامي وكبرائه، وكانت الدعوة إلى اتحاد الشرقيين تتردد وتتوالى في معظم مداولاتها؛ إذ رأى الحكيمان أن تفرُّق الكلمة هو الثغرة الأولى التي ينفذ منها الاستعمار لتحقيق أهدافه في البلاد الشرقية.
(١-٢) جريدة العروة الوثقى
وهذه الجمعية هي التي عهدت إلى السيد بإصدار تلك الجريدة لتكون لسان حالها، فكان مديرًا لسياستها، والشيخ محمد عبده رئيسًا لتحريرها.
واشتركا معًا في تحريرها، وكانت مقالاتها جامعة بين روح جمال الدين وقلم الأستاذ الإمام، فجاءت آيات بينات في سمو المعاني، وقوة الروح، وبلاغة العبارة، وهي أشبه ما تكون بالخطب النارية، تستثير الشجاعة في نفوس قارئها، وتداني في روحها وقوة تأثيرها أسلوب الإمام علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه في خطبه الحماسية المنشورة في «نهج البلاغة»، ولا غرو فالسيد جمال الدين هو قبس من نور العترة الحسينية العَلوية، فكأن روح الإمام علي تمثَّلت فيه، وتجلى أثرها فيما يكتبه أو يمليه.
(١-٣) هي رد فعل للاحتلال
ذكر الأمير شكيب أرسلان أنه سمع الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده يقول: «إن الأفكار في العروة الوثقى كلها للسيد ليس لي فيها فكرة واحدة، والعبارة كلها لي ليس للسيد فيها كلمة واحدة».
وقد جمع الأستاذ عبد القادر المغربي أحد تلاميذ الحكيم الأفغاني النسخ الأصلية لِما ظهر من جريدة «العروة الوثقى» فكانت ثمانية عشر عددًا، وذكر أن هذه صورة ما كان مكتوبًا على رأس كل عدد منها:
من شاء أن يبعث إلينا بتحارير أو رسائل في أي موضوع كان رغبة نشره في الجريدة أو التنبيه على أمر مهم فليرسلها إلى إدارة الجريدة بهذا العنوان:
وقد صدر من الجريدة ثمانية عشر عددًا، ظهر العدد الأول منها في يوم الخميس ١٥ جمادى الأولى سنة ١٣٠١ﻫ/الموافق ١٣ مارس سنة ١٨٨٤.
أي قبل أن ينقضي عامان على الاحتلال البريطاني … ولقد كانت وقائع الثورة العرابية، والمؤامرات التي دبرتها السياسة الإنكليزية لإحباطها، واحتلال إنكلترا مصر سنة ١٨٨٢، وتغلغل النفوذ البريطاني في شئون الحكومة كافة، ومحاربة الإنكليز للروح الوطنية في مصر، كل ذلك كان له أثره في ظهور جريدة العروة الوثقى، بحيث يصح القول بأن صدورها كان رد فعل للاحتلال الأجنبي وثورة عليه، وكانت كتاباتها دعوة صادقة للجهاد ضد الاستعمار، موجهة إلى الأمة المصرية وإلى الشرقيين كافة لأنهم جميعًا هدف للمطامع الاستعمارية.
(١-٤) فاتحة العدد الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. هذا ما تمده العناية الإلهية من قول الحق، متعلقًا بأحوال الشرق، وعلى الله المتكل، في نجاح العمل.
خفيت مذاهب الطامعين أزمانًا ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما لا تنكرها الأنفس ثم التوت، أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء حتى تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم وخرجوا بهم عن محيط النظام، وبلغوا بهم من الضيم حدًّا لا تحتمله النفوس البشرية.
ذهب أقوام إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطان الخيال، فظنوا أن القوة الآلية وإن قل عمالها، يدوم لها السلطان على الكثرة العددية وإن اتفقت آحادها، بل زعموا أنه يمكن استهلاك الجم الغفير، في النزر اليسير، وهو زعم يأباه القياس، بل يبطله البرهان، فإن تقلبت الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقة بأنه إن ساغ أن عشيرة قليلة العدد فنيت في سواد أمة عظيمة، ونسيت تلك العشيرة اسمها ونسبتها، فلم يجُز في زمن من الأزمان إمحاء أمة أو ملة كبيرة بقوة أمة تماثلها في العدد أو تكون منها على نسبة متقاربة، وإن بلغت القوة أقصى ما يمثله الخيال.
والذي يحكم به العقل الصريح، ويشهد به سير الاجتماع الإنساني من يوم عُلِم تاريخه إلى اليوم، أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف لافتراق في الكلمة، أو غفلة عن عافية لا تُحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيم يزول، ثم صالت عليها قوة أجنبية أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالت عليها وخزات الحوادث وأقلقتها آلامها، فزعت إلى استبقاء الموجود، ورد المفقود، ولم تجد بدًّا من طلب النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهى ما تكون بالتئام أفرادها، والتحام آحادها، وإن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد وهو أيسر شيء عليها.
إن النفوس الإنسانية، وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت، إذا كثُر عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمَّر ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادًا.
ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها تدارك ما فرط، والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لها الظفر والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يُطاق إذا قام بتدبيرها قيِّم عليها ومدبِّر لسيرها، لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها قهر ذاك القيِّم وإهلاك ذاك المدبر؛ فإن العلة ما دامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن ذهب قيِّم خلَفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة. نعم، يمكن تخفيف الأثر أو إزالة علته ورفع أسبابه.
جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمن يباينها في الأخلاق والعادات والمشارب، وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمن هو على شاكلتها، فكيف بها إذا حمَّلها ما لا طاقة لها به؟ لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما ابتعدت منه بجهة كونه غريبًا تقرَّب بعضها من بعض، فعند ذلك تستصغره، فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب.
إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تُنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمها من الخطر ألزم من التحزب للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة.
بلى، كان هذا أمرًا ينتظره المستبصر، وإن عمي عنه الطامع، وليس في الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أنبائه، بل ما يجري به القضاء الإلهي من سُنة الله في خلقه، سيكشف لهم وهمهم فيما كانوا يظنون.
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، خصوصًا في المسلمين، فمنهم ملوك أُنزلوا عن عروشهم جورًا، وذوو حقوق في الإمرة حُرموا حقوقهم ظلمًا، وأعزاء باتوا أذلاء، وأجلاء أصبحوا حقراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصحاء أضحوا سقامًا، وأسود تحولت أنعامًا، ولم تبقَ طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم، خصوصًا من جراء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها.
حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشدوا عليها بما لا تألفه فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضدوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع، فكانت الحركة العرابية العشواء، فاتخذوها ذريعة لِما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب بل طوفان المصائب على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب، ولكن أخطأ الظن وهمُّوا بما لم ينالوا.
لم تكد تخمد تلك الحركة في بادئ النظر حتى خلفتها حركة أخرى، وفُتح باب كان مسدودًا، وقام قائم بدعوة لها المكانة الأولى في نفوس المسلمين بل هي بقية آمالهم، ولا ندري الآن ماذا تستعقبه هذه الحركة الجديدة، وربما يوجد من يدري أن مسببيها في حيرة من تلافيها. نعم، إنهم غرسوا غرسًا إلا أنهم سيجنون أو هم الآن يجنون منه حنظلًا ويطعمون منه زقومًا. لا جَرم هذه هي العواقب التي لا محيص عنها لمن يغالي في طمعه ويغلغل في حرصه، ولو أنهم تركوا الأمر من ذلك الوقت لأربابه، وفوضوا تدارك كل حادث للخبراء به، والقادرين عليه، العارفين بطرق مدافعته، أو اقتناء فائدته، لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة، بدون أن تزل لهم قدم، أو ينكس لهم علم.
غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرُّق الكلمة، وتشتت الأهواء، وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب، وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلب المعتدين؛ فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعوفي منه باقيها، كانت سلامة البعض تعزية للمصابين، وحجاب غفلة للسالمين، يحول بينهم وبين الإحساس بما أصاب إخوانهم، أما إذا عم الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر، فيندفعون إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم.
إن الحالة السيئة التي أصبحت فيها الديار المصرية لم يسهل احتمالها على نفوس المسلمين عمومًا، إن مصر تُعتبر عندهم من الأراضي المقدسة، ولها في قلوبهم منزلة لا يحلها سواها نظرًا لموقعها من الممالك الإسلامية، ولأنها باب الحرمين الشريفين، فإن كان هذا الباب أمينًا كانت خواطر المسلمين مطمئنة على تلك البقاع، وإلا اضطربت أفكارهم وكانوا في ريب من سلامة ركن عظيم من أركان الديانة الإسلامية.
إن الخطر الذي ألمَّ بمصر نغرت له أحشاء المسلمين، وتكلمت به قلوبهم، ولن تزال آلامه تستفزهم ما دام الجرح نغارًا، وما هذا بغريب على المسلمين، فإن رابطتهم الملية أقوى من روابط الجنسية واللغة، وما دام القرآن يتلى بينهم وفي آياته ما لا يذهب على أفهام قارئيه، فلن يستطيع الدهر أن يذلهم.
إن الفجيعة بمصر حركت أشجانًا كانت كامنة، وجددت أحزانًا لم تكن في الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذكار الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرًا، بل نفيرًا عامًّا، بل يكون صاخة تخرق مسامع من أصمه الطمع.
إن أولى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أسنة يحفظ بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان، متقاربة الأشكال، كحافظ عروش الملوك والمدافع عن ممالكهم، ومثبِّت مراكز الأمراء، ومسكِّن الفتن، ومخلِّص الحكومات من غوائل العصيان، وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق الذي يكفي لتمزيقه رجع البصر، وكر النظر، وأن يتماشى العنف مع أمة يشهد تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مكنتهم وهو يعلم أن الكلمة إذا اتحدت لا تعوزها الوسائط، ولا يعدم المتحدون قويًّا شديد البأس يساعدهم بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أَسلِم أو عطبَ، فهو يضر ليضر، وإن مسه الضر.
إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء وحوَّلت أنظارهم لِما سيكون من عاقبة أمورهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة الحق وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومؤملين أن تمهد لهم الحوادث سبيلًا حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وإن في الحاضر منها لنهزة تُغتنم، وإليها بسطوا أكفهم، ولا يخالونها تفوتهم، ولئن فاتت فكم في الغيب من مثلها، وإلى الله عاقبة الأمور.
تألفت عصبات خير من أولئك العقلاء لهذا المقصد الجليل في عدة أقطار خصوصًا البلاد الهندية والمصرية، وطفقوا يتحسسون أسباب النجاح من كلِّ وجه، ويوحدون كلمة الحق في كل صقع، لا ينون في السعي ولا يقصِّرون في الجهد، ولو أفضى بهم ذلك إلى أقصى ما يشفق منه حي على حياته.
ولما كانت بدايتهم تستدعي مساعدة من يضارعهم في مثل حالهم، رأوا أن يعقدوا الروابط الأكيدة مع الذين يتململون من مصابهم، ويحبون العدالة العامة، ويحامون عنها من أهالي أوروبا، وكتبوا على أنفسهم النظر في أمر السلطة العامة الإسلامية وفروض القائم بها، وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين، ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقعها الطاهرة الجليل والحقير، والغني والفقير، كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم ثم تنبث إلى سائر الجهات، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.
ولما كان نيل الغاية على وجه أبعد من الخطر، وأقرب إلى الظفر، يستدعي أن يكون للداعي في كلِّ قلب سليم نفثة حق، ودعوة صدق، طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين من خفي عنه شأنهم من إخوانهم، واختاروا أن يكون لهم في هذه الأيام جريدة بأشرف لسان عندهم، وهو اللسان العربي، وأن تكون في مدينة حرة كمدينة باريس، ليتمكنوا بواسطتها من بث آرائهم، وتوصيل أصواتهم إلى الأقطار القاصية، تنبيهًا للغافل، وتذكيرًا للذاهل، فرغبوا إلى السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني أن يُنشئ تلك الجريدة، بحيث تتبع مشربهم، وتذهب مذهبهم، فلبى رغبتهم، بل أدى حقًّا واجبًا عليه لدينه ووطنه، وكلَّف «الشيخ محمد عبده» أن يكون رئيس تحريرها، فكان ما حمل الأول على الإجابة حمل الثاني على الامتثال، وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.
احتوت المقالة كما ترى نداءً قويًّا للأمم الشرقية أن يتحد أبناؤها لدرء الأخطار المحدقة بهم المهددة لكيانهم، وفيها دعوة للمواطنين في كل أمة شرقية أن يتكتلوا وينبذوا الفُرقة والانقسام، ويقاوموا الاستعمار بكل ما لديهم من حول وقوة، وثبات وإيمان، وفيها استنكار للاحتلال البريطاني الذي نُكبت به مصر سنة ١٨٨٢، وإشادة بمركز مصر في الشرق ودعوة صادقة لتحريرها من نير الاحتلال، وتحذير المصريين من أن يثقوا بوعود الإنكليز الكاذبة.
(١-٥) منهج الجريدة
سنأتي في خدمة الشرقيين على ما في الإمكان من بيان الواجبات التي كان التفريط فيها موجبًا للسقوط والضعف، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها لتدارك ما فات، والاحتراس من غوائل ما هو آتٍ.
وتكشف الغطاء ما استطاعت عن الشُّبه التي شغلت أوهام المترفين ولبست عليهم مسالك الرشد، وتزيح الوساوس التي أخذت بعقول المنعمين حتى أورثتهم اليأس من مداواة علاتهم وشفاء أدوائهم وظنوا أن زمان التدارك قد فات وأن العلة بلغت حدها.
وتحاول إشراب الأفهام ألَّا حاجة في الوصول إلى نقطة الخلاص المرغوبة إلى قطع دائرة عظيمة، تصورها يوجب فتور الهمم وانحطاط العزائم، وأن تخيل تلك الدائرة الواسعة إنما عرض من الإدبار عن المطلوب وهو تحت الجناح، ويكفي في الوصول إليه عطفة نظر وقطع بعض خطوات قصيرة.
وتنبِّه على أن التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية، فإن فُقِد التكافؤ لم تكن الروابط إلا وسيلة القوي لابتلاع الضعيف، وتجعل إهاب الوداد المرقش بألوان الملاطفة، المدبج بأشكال المجاملة، شفافًا ينم عما وراءه، وتنقِّب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجير الغفلات.
وتهتم بدفع ما يُرمى به الشرقيون عمومًا والمسلمين خصوصًا من التهم الباطلة التي يوجهها إليهم من لا خبرة له بحالهم، ولا وقوف على حقائق أمورهم، وإبطال زعم الزاعمين أن المسلمين لا يتقدمون إلى المدنية ما داموا على أصولهم التي فاز بها آباؤهم الأولون.
ولا تهن في تبليغ الشرقيين ما يمسهم من حوادث السياسة العمومية وما يتداوله السياسيون في شئونهم، مع اختيار الصادق، وانتقاء الثابت.
وتراعي في جميع سيرها تقوية الصلات العمومية بين الأمم، وتمكين الألفة في أفرادها، وتأييد المنافع المشتركة بينها، والسياسات القويمة التي لا تميل إلى الحيف والإجحاف بحقوق الشرقيين.
ومع كل هذا فهذه الجريدة تتبع سير الداعين إليها، والحاملين عليها، لا تظهر إذا أدلجوا، ولا تنجد إذا غوروا، وتذهب مذاهب الرشد وتصيب بحول الله مواقعه عند من سبق في أزلي علم الله هدايته، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وترسَل إلى الذين نعرف أسماءهم مجانًا بدون مقابل ليتداولها الأمير والحقير، والغني والفقير، ومن لم يصل إلينا اسمه فما عليه إلا أن يكتب إلى إدارة الجريدة بالاسم المعروف به ومحل إقامته على النهج الذي يريده، والله الموفق.
اتخذت العروة الوثقى شعارها إيقاظ الأمم الإسلامية، والمدافعة عن حقوق الشرقيين كافة، ودعوتهم إلى مقاومة الاستعمار الأوروبي، والجهاد في سبيل الحرية والاستقلال.
(١-٦) منع العروة الوثقى من دخول مصر والهند
وقد ذاع شأنها في العالم الإسلامي، وأقبل عليها الناس في مختلف الأقطار، ولكن الحكومة الإنكليزية أقفلت دونها أبواب مصر والهند، وشددت في مطاردتها واضطهاد من يقرؤها، بل كانت تتوجس منها خيفة وتُعد العُدة لمصادرتها قبل ظهورها.
لو نادينا الغافلين أن انتبهوا، والنائمين أن استيقظوا، واللاهين بحظوظهم أو أمانيهم وأوهامهم أن التفتوا، ولو أنذرنا أهل مصر بأن الإنكليز لو ثبتت أقدامهم في ديارهم لحاسبوا الناس على هواجس أنفسهم وخطرات قلوبهم، بل على استعداد عقولهم لِما عساه يخطر ببالهم، لقال الناس أننا نبالغ في الإنذار ونُغرق في التحذير، ولو بينا لهم أن الإنكليز يؤاخذون الأبناء بذنوب الآباء، والأحفاد بجرائم الأجداد، ويطالبون الذراري بدفائن أسلافهم، وإن لم يكن للخلَف علم بما ترك السلف، لعدوا هذا البيان منا شططًا في المقال وميلًا عن الاعتدال …
فلا نذكر ولا نبين، ولا نحكي ولا نقص، ولكن نعرض عليهم نموذجًا من المعاملة لعله يكون للمتبصرين مرآة تحكي ما يغيب عنهم من لوازم السلطة الإنكليزية. عزمنا على إنشاء جريدتنا هذه، فلما وقف على الخبر محررو الجرائد الإنكليزية المهمة أخذتهم الحدة، واحتدمت فيهم نار الحمية، وأنذروا حكومتهم بما تؤثر هذه الجريدة في سياسة الإنكليز ونفوذها في البلاد الشرقية، ولجوا في إغرائها بها، وألحوا عليها أن تُعد كل وسيلة لمنع الجريدة من الدخول في البلاد الهندية والبلاد المصرية. كل هذا كان منهم قبل صدور أول عدد من جريدتنا.
ولكن فلتعلم الحكومة الإنكليزية أننا لا يعجزنا بث أفكارنا في البلاد الشرقية سواءً كان بهذه الجريدة أو بوسيلة أخرى إذا دعا الحال، فإن أنصار الحق كثيرون.
أما نحن فلا نظن أحدًا من النظار المصريين له رأي اختياري في هذا القرار، بل لا نتوهم في المستوي على كرسي الخديوية ميلًا إلى مثل هذا الحكم، ولا يختلج في صدورنا أن مصريًّا من أي مشرب كان سواءً المسلم أو غير المسلم منهم، بل ولا شرقيًّا ممن يسكن تلك البلاد يرى فيه جانبًا من العدل.
هذه جريدة قامت بالدفاع عن المصريين والاستنجاد لهم، ولها سعي بل كل السعي لخيبة آمال أعدائهم، ولا ترى من مشربها مدح زيد ولا القدح في عمرو، فإن المقصد أعلى وأرفع من هذا، وإنما عملها سكب مياه النصح على لهب الضغائن لتتلاقى قلوب الشرقيين عمومًا على الصفاء والوداد. تلتمس من أبناء الأمم الشرقية أن يُلقوا سلاح التنازع بينهم ويأخذوا حذرهم وأسلحتهم لدفع الضواري التي فغرت أفواهها لالتهامهم، ومن رأيها أن الاشتغال بداخل البيت إنما يكون بعد الأمن من طروق الناهب.
هذا منهاج «العروة الوثقى» علمه كل مطَّلع على ما نُشر فيها من يوم نشأتها إلى الآن، فكيف يخطر ببال عاقل أن شرقيًّا مسلمًا أو غير مسلم يميل لحجبها عن دياره؟! ولكنا نعلم أن حركات الآمرين في القطر المصري هذه الأيام قهرية لا يُخالطها شيء من الاختيار، والمدير لرحى القهر عليهم هم عمال الإنكليز.
فدولة الإنكليز التي تحاسب رعاياها المسلمين على خطرات قلوبهم، وما يمكن أن يهجس من حديث نفوسهم، لا ريب أنها تعد وجود لفظ الإسلام في جريدة كافيًا لمنعها عن الدخول إلى بلاد لها فيها قدم ثابت أو تسعى في تثبيته، بل تحسب أن من ألد أعدائها شخصًا علق عليه هذا الاسم من أي جنس كان، فلا غرابة في صدور مثل هذا الجور منها. غير أننا نعلن لها أن همم الرجال لا تقعدها أمثال هذه المظالم، وليس يعجزنا إدخال هذه الجريدة في كل بقعة تحوطها السلطة الإنكليزية الظالمة، وذلك بعزائم أُولي العزم الذين قاموا بإنشاء العروة الوثقى.
بلغنا أن بعضًا من الناس يسل سيفه ويشحذ سنانه لمناضلة الولي الحميم، ويقابل ثناءه بالذم، ومدحه بالقدح، وإحسانه بالإساءة، ويواجه نصيحته بالظنة، ولا نظن أن هذا منه عن عمد ولا إغراء عدو، وإنما هو لشبهة حجبت نظره عن إدراك الحقيقة، فإذا كشفت له الأيام عن الواقع رجع إلى الندم على ما صدر منه، وكانت له مثابة إلى الحق وركون إلى الصواب.
لا يحزنن أهل الحق القائمون بأمر هذه الجريدة على ما صدر عن الحكومة المصرية من منع «العروة الوثقى» عن دخول القطر المصري، وليعلموا أن الحكومة المصرية لا دخل لها في هذا المنع، فإن حكومة شرقية لا تسمح لها غيرتها بمنع جريدة لا شيء فيها سوى الدفاع عن الشرقيين، وإنما منشؤه حكومة إنكلترا وشأنها معلوم عند كل عارف بأحوالها.
(١-٧) تقصد الشرقيين عامة لا المسلمين وحدهم
وكانت دعوة «العروة الوثقى» موجهة إلى الشرقيين عامة لا المسلمين وحدهم، وفي ذلك يقول جمال الدين في عدد ١٨ رجب سنة ١٣٠١ﻫ/١٥ مايو سنة ١٨٨٤: «لا يظن أحد من الناس أن جريدتنا هذه بتخصيصها المسلمين بالذكر أحيانًا، ومدافعتها عن حقوقهم تقصد الشقاق بينهم وبين من يجاورهم في أوطانهم ويتفق معهم في مصالح بلادهم ويشاركهم في المنافع من أجيال طويلة، فليس هذا من شأننا ولا مما يخيل إليه ولا يبيحه ديننا ولا تسمح به شريعتنا، ولكن الغرض تحذير الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا من تطاول الأجانب عليهم والإفساد في بلادهم، وقد نخص المسلمين بالخطاب لأنهم العنصر الغالب في الأقطار التي غدر بها الأجنبيون وأذلوا أهلها أجمعين واستأثروا بجميع خيراتها.»