نماذج من مقالات العروة الوثقى وأخبارها
نقتطف فيما يلي نماذج من المقالات والأخبار المنشورة بجريدة «العروة الوثقى»، وسنضع عناوين وهوامش لبعض هذه المقتطفات تيسيرًا للتعريف بموضوعاتها وملابساتها.
(١) الاستعمار في مصر
تفجرت من أرض مصر ينابيع الثروة وعمَّت بقاعها ففاض خيرها على ما يجاورها من الأقطار الشرقية، بل وصل مد نيلها إلى أراضي البلاد الغربية، وتوارد إليها الغرباء وقصاد الكسب من كل مكان، وما خاب لها قاصد ولا أخفق فيها سعي ساعٍ، فأثرى في مغانيها الفقراء، وعز بها الأذلاء، وصارت قِبلة لآمال كثير من الغربيين، ومحط رحال الراجين من الشرقيين، وكل وافد إليها يجد أهلًا خيرًا من أهله، وسكنًا خيرًا من سكنه، وتكاثرت فيها العناصر الغريبة حتى كان الداخل إليها يُخيَّل له أنه تحت برج بابل يوم تبلبلت الألسن.
ألحمت إدارة الحكومة بما ليس من نسيج سداها، وانتقضت منها أصول على وجه غير مألوف، ففُتحت للدسائس أبواب، وانساب بين طبقات الناس دهاة سياسة وطلاب غايات، فتفرَّق اتصال، وتقطعت أوصال، فضعفت السلطة الوازعة، ونُبذت الطاعة، والتهبت نيران الفتن.
قضاء حل بتلك البلاد فاحتاجت في إعادة شأنها الأول إلى رأي قويم، وعزم ثابت، ووازع قوي تدين لسطوته النفوس، وإنَّ من ذوي الحقوق فيها من يجمع هذه الأوصاف وله من القلوب المكانة العليا، وكان يسهل عليه القيام بما يُعهد إليه، لكن تحكَّم طمع، وأخطأ ظن، فتخلفت النتيجة، واشتدت الحاجة.
عُقِد العزم على إلغاء الجيش الوطني وهو قوة البلاد وبه فخارها، وكأنه لم توجد وسيلة لتنظيم عسكر مصري وقصر الجهد عن مجاراة محمد علي وإبراهيم اللذين دوخا كثيرًا من الأقطار بجنود مصرية.
وا أسفا على حالة الأهالي بعد هذا! حكم من لا دافع لحكمه بطرد آلاف من الوطنيين الموظفين في دوائر الحكومة وما منهم أحد إلا ويتبعه عائلة وأولاد ولا قوت لهم إلا من مرتب عائلهم وما مُرن على عمل لكسب سوى ما نشأ فيه من خدمة الحكومة. ألم يحس هؤلاء ضر الفقر، ألم يعضهم ناب الجوع، ألم يهتك مستورهم؟! ألم يضق ذرعهم، ألم يصبحوا كساة بسرابيل الكآبة عراة من أكسية المسرة؟! إن لم يكن كل هذا فقد كان جُله، وإن صدى أنينهم يتلى في صفحات الجرائد الوطنية العربية والإفرنجية، وسيتبع السابقين منهم اللاحقون، حتى لا يجد وطني في البلاد من المهن إلا ما لا يليق بالإنكليزي تعاطيه من سفاسف الأمور كما هو في البلاد الهندية.
اضطرب ميزان السلطة العامة لتعاكس قواها المختلفة، فاشتبه الأمر على العمال وظنوا ألَّا تبعة عليهم فيما يعملون، فانطلق ما غُل من أيديهم وحكَّموا أهواءهم في أداء وظائفهم فخبطوا وخلطوا، فعمَّت السجون بأعيان الرعية، ورُفعت أذناب الكرابيج لتشريح أبدانهم، واستُعملت آلات التعذيب، وامتدت مخالب الجور لتجريدهم من بقايا أموالهم وثمرات كسبهم، وحدث نوع من الحكم المطلق عزيز المثال بعث عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولبسوا شيعًا وأُذيق بعضهم بأس بعض، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
غُلقت أبواب العمل من وجوهه الرسمية في الإدارات، وتعطلت أشغال المحاكم، وشخصت الأبصار لعاقبة هذا التنازع بين القوى الحاكمة، فاتسع نطاق الفوضى، وارتفع حجاب المنعة، وسرى التهاون إلى الدوائر العليا، وعاد الأمر لقوة الساعد وكثرة الأعوان، فعاثت اللصوص وكثُر قطع الطرق في كل ناحية وارتفعت الأصوات بالشكوى منهم في عموم الجرائد الوطنية، فوقفت حركة الأعمال العمومية، وبدت للناس شئون عدلت بهم عن ضرورات معاشهم، وامتنع المدينون من أداء ما عليهم لدائنيهم من التجار والربويين، فقبض المقرضون أيديهم واحتكروا نقودهم لفقد ثقتهم وإشفاقهم من الضياع على رءوس أموالهم وإن أصيبوا بالحرمان من الربح وابتلوا بالخسارة في رأس المال من قبيل آخر، واشتدت الحاجة بالفلاحين إلى ما يعوض عليهم ماشية الحراثة بعدما اغتالها التيفوس، وإلى ما يجددون أو يُصلحون به آلاتهم الزراعية ويستعينون به على نجاحها حسب العادة التي ألفوها، فعميت عليهم السبل وضاقت بهم المسالك ولم يجدوا لسد حاجاتهم سبيلًا، ففسدت الزراعة وانتقصت ثمراتها وانحطت أسعار الحاصلات لارتباك الأحوال إلى حد ما كان يُسمع إلا في القصص وروايات القدماء، ومطالب الحكومة في ضرائبها ورسومها على حالها الأول مع الإغذاذ في اقتضائها، فعم العسر وأحاط الضنك، وتقوضت آلاف من البيوت التجارية، وأتربت أيدي ملايين من عمال الصناعة، وأعدم المزارعون قاطبةً إلا نزر يسير من حفظة الكنوز أو المستأثرين بأموال الكافة نهبًا وسلبًا. باع الفلاح أثاث بيته وما أبقاه التيفوس من عاملة أرضه بعدما ذهبت الحاجة بحُلي حرمه وبناته ليؤدي ما عليه لحكومته، ولم ينل من غضاره ما يقوم بحفظ حياته، وعاد إلى الفطرة الأولى يقتات بأقوات البهائم ويسرح مسارح الحيوانات إلا قليلًا منهم الله يعلمهم.
وزاد الويل بمحق الحرية الشخصية والأخذ بالشُّبه وإن ضعفت، واتباع بواطل التهم وإن بعدت أو استحالت، حتى أخذ الفزع من القلوب مأخذه وبلغ منها مبلغه، فلا ترى مارًّا بطريق إلا وهو يلتفت وراءه لينظر هل تعلَّق بأثوابه شرطي يقوده إلى السجن أو يقتضي منه فدًا، وكل معروف الاسم من المصريين ينتظر في كل خطوة عثرة، وفي كل نهضة سقطة، وله من كل شاخص دهشة، ومن كل طارق لبابه غشية، أي شقاء ينتظره الحي في حياته أشنع من هذا؟!
هذا إذا تمكنت إنكلترا أن تأخذ على نفسهاهذا ما تنشق له المرائر من أحوال سكان القطر المصري. هذا بعض ما يضيق به الصدر وتنقبض له الأنفس مما رُزئوا به بعدما تكفَّل أحباؤهم الأولون بالدفاع عنهم وتخليصهم من الفوضى السابقة. هذه طلائع الإصلاح المبشَّر به من زمان بعيد على ألسنة رسله. أصبح الأهالي حيارى في أمورهم، تائهين عن رشادهم، لا يعلمون ماذا يحل بهم، يذكرون من أحوالهم السابقة ما كانت الدول الأوروبية تسميه ضيقًا وعناء وتمنيهم بالإنقاذ منه فيحنُّون إليه ويودون لو رجعوا إليه ويحسبونه غاية سعادتهم بعد هذه الحالة التي هم فيها.
أبعد هذا يصح لمصري أن يظن أن تلك الرزايا التي حلَّت بلاده من نحو عشرين شهرًا كانت مقدمة لإصلاحها وتنظيم شئونها؟ نعم يمكن أن يخطر بالبال أنها تمهيد لعمل صناعي في الأراضي المصرية كتقويم طرقها وإقامة جسورها وتكثير جداولها وتقوية مواد الخصب فيها حتى تعود بعد مدة جنة من جنات الدنيا أو روضة من رياض الآخرة. أما الأهالي فليسوا بموضع النظر فإنهم إن هلكوا ورث الأرض بعدهم قوم آخرون.
فإن لم يكن هذا فليكن تمام الإصلاح الذي لا يمثله الخاطر في وقتنا الحاضر ولا يكفي للبدء فيه سنون معدودة على قياس الإصلاح المنتظر في بلاد بنجاب (من الممالك الهندية)، فإن الدولة التي تولت إصلاح الشئون المصرية في هذه الأيام دخلت بلاد بنجاب بهذه الحجة واستولت عليها من مدة أربعين سنة، ولم تزل إلى الآن حكومتها عسكرية ولم يُشرع فيها بتنظيم مدني، فلينتظر إخواننا المصريون فإنا معهم من المنتظرين.
(٢) إنكلترا والمسألة المصرية
إن المسألة المصرية صُبغت في إنكلترا عدة صبغات من يوم نشأتها، وكلما عُرضت على العقول في لون خُيل لها أنه أجود ما في الدن، حتى إذا مضى عليه زمان خفي وأعقبه لون جديد، وهي في انتقالاتها هذه لا تزداد إلا إشكالًا ولا تزيد إنكلترا في إنهائها إلا ارتباكًا.
الذي أباح لمستر «غلادستون» أن يركب غير طريقه ويتداخل في مصر بقوة السلاح، ما زعمه من احتياج تلك البلاد إلى إقرار الراحة وتخليصها من خلل الفوضى، ومن إنكلترا أن تتولى إغاثتها مما وقعت فيه، فمد يده لوضع قواعد العدالة وتخليص الحكومة من الضعف وإعادة الأمن إلى البلاد، وكان يظن أن هذا المطلوب يتم بهدم طوابي إسكندرية والحلول في ثكن القاهرة، فيكون قد كسب أجرًا أو نال ملكًا جديدًا أو حفظ مصلحة مهمة بأعمال خفيفة ونفقات قليلة وكلمات غير طويلة، ولكن من الأسف لم يساعده التوفيق على نوال البُغية.
فهذه المصاعب شوشت أفكار البرلمان وحركت الخواطر على الوزارة الغلادستونية، وتخوف رئيس الوزراء من عواقب المداولات في المسائل المصرية، فتأخر عن حضور الجلسات من مدة أيام وقام ناظر الجهادية مقامه في التعبير عن أفكار الوزارة، وفُهم من بعض خطاباته أن في نية الحكومة أن تحفظ الثغور المصرية بعساكرها وأن تحل في شرقي السودان، وأن تتولى الحكومة المصرية، فقامت الحجة بكلامه هذا لحزب المحافظين ووبخوا الحكومة على ضعفها السابق والتجائها للعدول عن سياستها في هذه الأوقات، ولم يكن من رأي غلادستون أن تصرح الحكومة بمقاصدها وتُظهر مشروعها بوجه جلي، ووقع الخلاف بينه وبين ناظر الجهادية وكثير من أعضاء الوزارة على جملة مواضيع في المسألة المصرية، وزاد الخلاف شدة ميل غلادستون لمراضاة الأيرلنديين وتجافي بقية الوزراء عن رغبته، وثبت الرئيس في آرائه وهو يفضِّل الاستعفاء على التساهل في شيء منها، ومن هذا غلب على الظن أنه سيحصل انقلاب في الوزارة أو فض البرلمان، وأكدت قرب ذلك جريدة التيمس وجريدة الديلي نيوز وهي نصف رسمية، وجاءت الأخبار الأخيرة متفقة على أن وزارة غلادستون في خطر.
ولا نظن أن دول أوروبا تسمح بضياع مصالحها في الأقطار المصرية خصوصًا بعض الدول، التي كانت تسابق إنكلترا في وادي النيل وانحط مقامها فيه بالتدخل الإنكليزي الذي ليست له حدود معروفة ولا غايات معلومة، وإلى هذا تُشير جريدة «الطان» الفرنساوية الوزارية حيث تقول: إن إنكلترا لا يمكنها أن تضع مصر تحت حمايتها حتى تناقش الحساب بين يدي أوروبا، وتنوه به جريدة «سان بطرسبورج» حيث تقول: إن روسيا ليس في عزمها أن تفتتح بعمل في مصر فإن إنكلترا اعترفت في جميع الأوقات بأن المسائل المصرية لها هيئة دولية، وبناءً على هذا لا يمكن القطع في شيء منها إلا باتفاق أوروبا.
هذا إذا تمكنت إنكلترا أن تأخذ على نفسها إطفاء الفتن وإجهاد الثورات واستطاعت القيام بما تكتب على ذاتها، ففي نهايته تطالب عند أوروبا بما تقتضيه مصلحة كل دولة منها، فإن عجزت كما هو الغالب على الظن أو طال عليها الزمان، وهي بين ظفر وانهزام ولا تتجاوز في حركاتها العسكرية شواطئ البحر، فلا ريب أن القلق يستفز الدول لطلب وسائل أخرى سوى ما تهيئه دولة إنكلترا، وإنا نرى وسيحكم الزمان لنا إن شاء الله أن حفظ حقوق الأوروبيين وضبط البلاد المصرية وإخماد نيران الفتنة فيها لا يتم إلا على أيدي أهلها، ويفعل الله ما يشاء.
(٣) عبث الإنكليز بالأمن في مصر
(٤) ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها
أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئًا مذكورًا، ثم انشق عنها بماء العدم، فإذا هي بحمية كل واحد منها كون بديع النظام، قوي الأركان، شديد البنيان، عليها سياج من شدة البأس، ويحيطها سور من منعة الهمم، تخمد في ساحاتها عاصفات النوازل، وتنحل بأيدي مديريها عُقد المشاكل، نمت فيها أفنان العزة، بعدما نبتت أصولها، ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها الشوكة، وعلت لها الكلمة، وكملت القوة، فاستغلت آدابها على الآداب، وسادت أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها من الأمم بألَّا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها، وصارت وهي قليلة العدد كثيرة الساحات، كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل.
وبعد هذا كله وهى بناؤها، وانتثر منظومها، وتفرقت فيها الأهواء، وانشقت العصا، وتبدد ما كان مجتمعًا، وانحل ما كان منعقدًا، وانفصمت عُرى التعاون، وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كلٌّ في محيط شخصه المحدود بنهايات بدنه. لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تُنال إلا على أيدي الملتحمين معه بلُحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلى توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يُخيله الناظر إليه صحوًا، وذبول يظنه المغرور زهوًا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها، وحدثت فيهم قناعة البهم والرضا بكل حال، ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم، أو استفزه داعٍ من قلبه إلى ما يُكسب ملته شرفًا، أو يعيد لها مجدًا، عده هوسًا وهذيانًا، أصيب به من ضعف في المزاج، أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد عليه بالوبال، وأورده موارد الهلكة، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته، ونكد معيشته، ويُحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالًا من اليأس، فتُغل يداه عن العمل، وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصلاحه، ويقصر نظره عن درك ما أتى أسلافه من قبله، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا، وقيِّمًا على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ هذا المرض من الأمة حدًّا يشرف بها على الهلاك، ويطرحها على فراش الموت فريسة لكل عادٍ، وطعمة لكل طاعم.
نعم، رأيت كثيرًا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت، وقويت ثم ضعفت، وعزت ثم ذلت، وصحت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى.
وا أسفا ما أصعب الداء، وما أعز الدواء، وما أقل العارفين بطرق العلاج!
كيف يمكن جمع الكلمة بعد افتراقها، وهي لم تفترق إلا لأن كلًّا عكف على شأنه؟ أستغفر الله، لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالًا به، ولكنه صُرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه. نعم ربما التفت إلى كل ما هو في فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه يحصلها، ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها؟ كيف تُبعث الهمم بعد موتها، وما ماتت إلا بعد ما سكنت زمانًا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد التائه إلى الصراط المستقيم، وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه، خصوصًا بعدما استدبر المقصد، وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه المستغرق في منامه، المبتهج بأحلامه، وفي أذنه وقر، وفي ملامسه خدر؟
هل من صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها، وتتناءى أطرافها، وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة، وتوحد آراءها المتخالفة، بعدما تراسم جهل وران غين، وخُيل للعقول أن كل قريب بعيد، وكل سهل وعر؟ أيم الله إنه لشيء عسير يعيا في علاجه النطاسي، ويحار فيه الحكيم البصير. هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة فكيف الوصول إلى علله وأسبابه إلا بعد معرفة عمرها وما اعتراها فيه من تنقُّل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن لطبيب يعالج شخصًا بعينه أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له من قبل في حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض؟ وإلا فإن كثيرًا من الأمراض تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر، ثم لا تظهر إلا في طور آخر، لتغلب قوة الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها.
كلا، إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره محدودة، وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة علة طويلة الأجل وافرة العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة، لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل ربما يفضي بالمريض إلى الموت — كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها، ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما يكتنف ذلك من العادات، وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات، وحوادثها المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض، ومكانتها الأولى من الرفعة، ودرجتها الحالية من الضعة، وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه شيء مما ذكرنا تحوَّل الدواء داء، والوجود فناء، فمن له حظ من الكمال الإنساني، ولم يُطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي، لا يجرؤ على القيام بما يسمُّونه تربية الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدنى قصور في أداء هذا الأمر العظيم علمًا أو عملًا. نعم، يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة، وطلاب العيش في ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء.
ظن القوم في هذه الأزمان أن أمراض الأمم تُعالَج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض الهمم، وتنبيه الأفكار، وتقويم الأخلاق. كيف يصدق هذا الظن وإنا لو فرضنا أن كُتَّاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض؟ فبعدما عم الذهول، واستولت الدهشة على العقول، وقل القارئون والكاتبون، لا نجد لها قارئًا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، والفاهم قد يحمل ما يجده على غير ما يراد منه، بضيق في التصور، أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير، فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافًا. على أن الهمة إذا كانت في درك الهبوط، فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها، مع قِصر المدة وتدفق سيول الحوادث؟ إن هذا وحقك عزيز.
ويظن قوم آخرون أن الأمة المنبعثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرُّق أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تُحصر، ورضاها بالدون من العيش، والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا مشربها، بل لمن كان خاضعًا لسيادتها، راضخًا لأحكامها، مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطَّرْز الجديد المعروف بأوروبا، حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى عمَّت المعارف كملت الأخلاق، واتحدت الكلمة، واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون! فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر، يحمل الأمة على ما تكره أزمانًا حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبًا عن سلطته في تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة، وموضوع كلامنا في الضعف ودوائه، فهل مع الضعف سلطة تُقهر، وثروة تغني؟ ولو كان للأمة هذان لمَا عُدت من الساقطين.
فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات، وافقناهم على الإمكان لولا ما يكون من طمع الأقوياء حتى لا يدعون لهم سبيلًا لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر؟ …
على أنَّا لو فرضنا مسالمة الدهر، ومُنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها شيئًا فشيئًا، فهل يصح الحكم بأن هذا التدرج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه البعض منها يهيئه للكمال اللائق به، ويمكِّنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته؟
وا عجبا كيف يكون هذا وإن الأمة في بُعد عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها؟! وكيف بُذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت؟ وبأي ماء سُقيت، وبأي تربة غُذيت؟ ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في مناشئها، ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات، وإن وصل إليها طرف من ذلك فإنما يكون ظاهرًا من القول لا بناءً على الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة بعض الأفراد بها، وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها، يقوِّم من أفكارهم، ويعدِّل من أخلاقهم، ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم؟
لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم — وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في نفوسهم على عهد الصبا، وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقَّوا عنها علومهم — يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادًا.
ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم، ولو صدقوا في خدمة أوطانهم؟ يكون منهم ما تعطيه حالهم، يؤدون ما تعلَّموه كما سمعوه، لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها، وما مرنت عليه من عاداتها، فيستعملونه على غير وضعه، ولبُعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه، وغفلتهم عن آتيه، يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس، والحياة لكل روح، فيرومون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير، وبالعكس، غير ناظرين إلا إلى صور ما تعلَّموه، ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم، وهل يكون له من طباعهم مكان يُحمد أو يزيدها على ما بها أضعافًا؟ وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها وإنما هم لها نقلة وحمَلة.
شيد العثمانيون والمصريون عددًا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا بطوائف منهم إلى البلاد الغربية ليحملوا إليهم ما يحتاجون إليه من العلوم والمعارف والصنائع والآداب، وكل ما يسمُّونه تمدنًا، وهو في الحقيقة تمدُّن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني. هل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدَّموا لأنفسهم من ذلك وقد مضت عليهم أزمان غير قصيرة؟ هل صاروا أحسن حالًا مما كانوا عليه قبل التمسك بهذا الحبل الجديد؟ هل استنقذوا أنفسهم من أنياب الفقر والفاقة؟ هل نجوا بها من ورطات ما يلجئهم إليه الأجانب بتصرفاتهم؟ هل أحكموا الحصون وسدوا الثغور؟ هل نالوا بها من المنعة ما يدفع عنهم غارة الأعداء عليهم؟ هل بلغوا من البصر بالعواقب والتصرف في الأفكار حدًّا يُميل عزائم الطامعين عنهم؟ هل وُجدت فيهم قلوب مازجتها روح الحياة الوطنية، فهي تؤْثر مصلحة البلاد على كل مصلحة وتطلبها وإن تجاوزت محيط الحياة الدنيا، وإن بادت في سبيلها خلفها وارث على شاكلتها كما كان في كثير من الأمم؟
نعم، ربما يوجد بينهم أفراد يتفيهقون بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها، ويصوغونها في عبارات متقطعة بتراء، لا تُعرف غايتها، ولا تُعلم بدايتها، ووسموا أنفسهم بزعماء الحرية أو بسمات أخرى على حسب ما يختارون، ووقفوا عند هذا الحد، ومنهم آخرون عمدوا إلى العمل بما وصل إليهم من العلم، فقلبوا أوضاع المباني والمساكن، وبدلوا هيئات المآكل والملابس والفرش والآنية وسائر الماعون، وتنافسوا في تطبيقها على أجود ما يكون منها في الممالك الأجنبية، وعدُّوها من مفاخرهم، وعرضوها معرض المباهاة، فنفوا بذلك ثروتهم إلى غير بلادهم، واعتاضوا عنها أعراض الزينة مما يروق منظره ولا يُحمد أثره، فأماتوا أرباب الصنائع من قومهم، وأهلكوا العاملين في المهن لعدم اقتدارهم أن يقوموا بكل ما تستدعيه تلك العلوم الجديدة والكماليات الجديدة؛ لأن مصانعهم لم تتحول إلى الطرز الجديد، وأيديهم لم تتعود على الصنع الجديد، وثروتهم لا تسع جلب الآلات الجديدة من البلاد البعيدة، وهذا جدع لأنف الأمة، يشوه وجهها، ويحط بشأنها، وما كان هذا إلا لأن تلك العلوم وُضعت فيهم على غير أساسها وفجأتهم قبل أوانها.
علَّمتنا التجارب ونطقت مواضي الحوادث بأن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرُّق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم، واحتقار من لم يكن على مثالهم، شؤمًا على أبناء أمتهم، يذلونهم ويحقِّرون أمرهم، ويستهينون بجميع أعمالهم وإن جلَّت، وإن بقي في بعض رجال الأمة بقية الشمم، أو نزوع إلى معالي الهمم، انصبوا عليه وأرغموا من أنفه، حتى يُمحى أثر الشهامة، وتخمد حرارة الغيرة، ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون الأبواب، ثم يثبِّتون أقدامهم ويمكِّنون سلطتهم، ذلك بأنهم لا يعلمون فضلًا لغيرهم، ولا يظنون أن قوة تغالب قواهم.
أقول ولا أخشى لومًا: لو كان في البلاد الأفغانية عدد قليل من تلك الطلائع عندما تغلَّب على بعض أراضيها الإنكليز، لمَا بارحوها أبد الآبدين، فإن نتيجة العلم عند هؤلاء ليست إلا توطيد المسالك، والركون إلى قوة مقلديهم واستقبال مشارق فنونهم، فيبالغون في تطمين النفوس وتسكين القلوب، حتى يزيلوا الوحشة التي قد يصون بها الناس حقوقهم ويحفظون بها استقلالهم؛ ولهذا لو طرق الأجانب أرضًا لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يُقبلون عليهم ويعرضون أنفسهم لخدمتهم بعد الاستبشار بقدومهم، ويكونون بطانة لهم ومواضع لثقتهم كأنما هم منهم، ويعدُّون الغلبة الأجنبية في بلادهم مباركة عليهم وعلى أعقابهم.
•••
فما الحيلة وما الوسيلة، والجرائد بعيدة الفائدة ضعيفة الأثر لو صحت الضمائر فيها، والعلوم الجديدة لسوء استعمالها رأينا ما رأينا من آثارها، والوقت ضيِّق والخطب شديد؟ أي جهوري من الأصوات يوقظ الراقدين على حشايا الغفلات؟ أي قاصفة تزعج الطباع الجامدة، وتحرِّك الأفكار الخامدة؟ أي نفخة تبعث هذه الأرواح في أجسادها، وتحشرها إلى مواقف صلاحها وفلاحها؟ الأقطار فسيحة الجوانب، بعيدة المناكب، المواصلات عسرة بين الشرقي والغربي والجنوبي والشمالي، الرءوس مطرقة إلى ما تحت القدم أو منفضة إلى ما فوق السماء، ليس للأبصار جولان إلى الأمام والخلف واليمين والشمال، ولا للأسماع إصغاء، ولا للنفوس رغبات، وللأهواء تحكُّم، وللوساوس سلطان.
ماذا يصنع المشفقون على الأمة والزمن قصير؟ ماذا يحاولون والأخطار محدقة بهم، بأي سبب يتمكنون ورسل المنايا على أبوابهم؟
لا أطيل عليك بحثًا ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب، ووسيلة تحيط بالوسائل: أرسل طرفك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة، وضعفت بعد القوة، واستُرقت بعد السيادة، وخيمت بعد المنعة، وتطلَّب أسباب نهوضها الأول، حتى تتبين مضارب الخلل وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها، وأنهض همم آحادها، ولحَم ما بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة تُشرف منها على رءوس الأمم، وتسوسهم وهي في مقامها بدقيق حكمتها، إنما هو دين قويم الأصول، محكم القواعد، شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة، داعٍ إلى المحبة، مزكٍ للنفوس، مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، منور للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية.
فإن كانت هذه شرعتها، ولها وردت، وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها، وهبوطها عن مكانتها، إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا، وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين وعما أتى لأجله وما أعدته الحكمة الإلهية له، حتى لم يبقَ منه إلا أسماء تُذكر، وعبارات تُقرأ، فتكون هذه المحدثات حجابًا بين الأمة وبين الحق الذي نشعر بندائه أحيانًا بين جوانحها.
فعلاجها الناجح إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بإمكان على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة، وجمع الكلمة، وبيع الأرواح لشرف الأمة، ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا لشئونهم، ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نُصْب أعينها، فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني …
ومن طلب إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه، فقد ركب بها شططًا، وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية، وخالف فيها نظام الوجود فينعكس عليه القصد، ولا يزيد الأمة إلا نحسًا، ولا يُكسبها إلا تعسًا.
هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة، المبرأة عن محدثات البدع، تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل، وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد!
هل نسيت تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات، وإتيان الدنايا والمنكرات، حتى إذا جاءها الدين فوحَّدها وقوَّاها وهذبها، ونوَّر عقولها، وقوَّم أخلاقها، وسدَّد أحكامها، فسادت على العالم، وساست من تولته بسياسة العدل والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى بلادهم طب بقراط وجالينوس، وهندسة إقليدس، وهيئة بطليموس، وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها.
وقد تكون نشأة الأمة قائمة بدعوة الملك وافتتاح الأقطار، وطلب السيادة على الأمصار، وتلك الدعوة لما تستدعيه من عِظم الهمم، وارتفاع النفوس عن الدنايا، وبُعد الغايات، وعلو المقاصد هي التي هذبت أخلاقهم، وقوَّمت أفكارهم، وكفتهم عن معاطاة الرذائل وخسائس الأمور وسوافلها، ثم بعدما مضى زمان من نشأتها أصابها من الانحطاط ما أصابها.
(٥) تجريد مصر من قوتها الحربية
في كل يوم تلح جريدة التيمس على حكومة إنكلترا بوجوب طرد العساكر المصرية الوطنية زاعمة أنه يحل من الأهالي محل القبول ويُسرون منه غاية السرور، وتشير على الحكومة أيضًا أن تجهر بحمايتها لمصر وتُظهر للدول أنها تتحمل كل تبعة تحصل من مداخلتها في تلك البلاد وأن ذلك من مقتضى الحزم، فإن الإدارة المصرية وفروعها في حاجة إلى إصلاح حقيقي ولن يقوم به إلا رجال الإنكليز.
وهذا من تلك الجريدة وغيرها سوق للحكومة إلى إظهار ما أكنته من السلطة على البلاد المصرية وضمها إلى ممالكها الشرقية، وما كان ذلك خافيًا على أحد وإن كان بعض المصريين غالطوا فيه أنفسهم عن علم أو جهل، والله أعلم.
(٦) تخاذل الشرقيين والدعوة إلى الوحدة بينهم
إن للمسلمين سترة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون بها من عداهم من المِلل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض، ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم ﷺ كفالة لسعادة الدارين، ومن حُرِم الإيمان فقد حُرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض عالِمًا كان أو جاهلًا أن واحدًا ممن وُسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي جنس صبأ عن دينه رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرُّق وتأسُّف يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على مَن نزلت به، بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذُكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يُحدِّث عن غريب أو يحكي عن عجيب.
المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم ولا بين المتمدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحد منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام، ومن فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية، بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل خطب، ولا يُباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خالصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغيِّر منها تأويلات أهل الأهواء، وأعوان الشهوات في كل زمان.
المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكِّره بما تطالبه به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر، ولا يألمون لِما يألم له بعضهم، فأهل «بلوخستان» كانوا يرون حركات الإنكليز في «أفغانستان» على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جأش ولا تكون لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا يتململون، وأن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
تمسُّك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة التي هم عليها مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب، فخذ مجملًا عنه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النفسية، وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها تصدر بتقدير العزيز العليم، لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها حتى يصير ما يعبَّر عنه بالملَكة والخُلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها.
نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده إلا أن ما ينعكس إلى مزايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يُحدث فكرًا، وكل فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد.
إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل ولا أثر لها في الاعتصاب والالتمام لولا ما تبعث عليه الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل ويكون انبساط النفس لعون القريب، وغضاضة القلب لِما يصيبه من ضيم أو نكبة جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية كالإحساس بالجوع والعطش والري والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أُهملت صلة النسب بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدعُ ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكِّن تلك الصلة ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو ألجأته ضرورة إلى ذلك، ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبقَ منها إلا صورة في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة النسب وهي أقوى رابطة بين البشر، يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إذا لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتُمرن عليه ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلًا من أشكالها، فلن يكون منشأ لآثاره، وإنما يُعد في الصور العلمية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه كما قدَّمنا.
بعد تدبُّر هذه الأصول البينة والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن نصرة إخوانهم، وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبقَ من جامعة بين المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارف بينهم وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، فالعلماء وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصل بينهم ولا تراسل؛ فالعالِم التركي في غيبة عن حال العالِم الحجازي فضلًا عمن يبعُد عنهم، والعالِم الهندي في غفلة عن شئون العالِم الأفغاني وهكذا، بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكلٌّ ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها كأنه كون برأسه.
كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء، كانت كذلك بين الملوك والسلاطين من المسلمين. أليس بعجيب ألَّا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب ألَّا تكون للدولة العثمانية صلات صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في الشرق؟
هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عمَّ المسلمين حتى صح أن يقال لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد، إلا طفيف من الإحساس بأن بعض الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته. كانت الملَكة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه، فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم.
بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة، وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم. كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس، تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة.
وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده وتيمورلنك وأحفاده وإيقاعهم بالمسلمين قتلًا وإذلالًا حتى أذهلوهم عن أنفسهم فتفرَّق الشمل بالكلية وانفصمت عُرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد كلٌّ بشأنه وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا كل فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة وتبعث على اشتباكٍ الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية تحويها مخازن الخيال، وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من المعلومات، ولم يبقَ من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت، كما يكون على الأموات من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة، ولا دفع الغائلة.
وكان من الواجب على العلماء قيامًا بحق الوراثة التي شُرفوا بها على لسان الشارع أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شئون وحدتهم ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعوا أطراف الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع ما يغشاها من النوازل.
إلا أنَّا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين إلى هذه الوسيلة؛ وهي أقرب الوسائل وإن التفت إليها في هذه الأيام طائفة من أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن يؤيدوا هذه الفئة ولا يتوانوا فيما يُوحِّد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما يعود على دينهم وملتهم بفائدة، أو ما يُخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة، وإلى الله المصير.
(٧) الجيش المصري بقيادة الإنكليز والسياسة الاستعمارية في مصر والهند
للإنكليز في مصر مطامع من زمن قديم يعدُّون سلطتهم عليها من ضروريات شوكتهم في الهند، وفي خلدهم أن المصريين لو كانت لهم ثروة مالية وقوة عسكرية عظيمة فإنهم يحالفونهم فيما يريدون ببلادهم، فضيَّقوا على المالية في تلك الأوقات، وألجئوا الحكومة لتمزيق قوتها العسكرية ليحصل الضعف في القوتين المالية والجندية فتمهد لهم طريق ما طمحوا إليه، وكان هذا التدبير سببًا في الانقلاب الذي تبعته هذه الحوادث الهائلة، وبعدما فُتح لهم بضعف الحكومة سبيل المداخلة في مصر، طفقوا يسعون بما جُلبوا عليه من الهوينا في المضي إلى مقاصدهم لإيجاد عنوان غير التملك يعنون به إقامة عساكرهم ومأموريهم في تلك البلاد زمنًا طويلًا، ويكون وضع ذلك العنوان برأي الدول تملصًا من الوعد الذي وعدوها به مع ترقُّب حوادث السياسة في أوروبا لعل حادثة منها تساعدهم على إبدال العنوان بما هو المطلوب لهم، ورأوا من أحسن الوسائل لدعوة الدول إليهم عرض المسألة المالية.
يريد الإنكليز عقد المؤتمر ويرغبون قصر المداولة فيه على المسألة المالية ليضمنوا ديون القطر المصري ويكفلوا للدائنين أداء حقوقهم، وأخذوا على أنفسهم عهدة الإنفاق على الإدارات المصرية مدة من الزمان لترخِّص لهم الدول الإقامة في وادي النيل إلى أمد، فيكون تفويض الدول حجة لهم في التصرف وإدارة شئون الحكومة المصرية ما دام السلم مظلًّا بلاد أوروبا، فإذا حدث حادث حرب في الدول الأوروبية وما هو ببعيد الوقوع تربعوا في تلك البلاد وأناخوا بكلاكلهم وضربوا بجرانهم على أراضيها وألقوا عصاهم، هذا سر شفقة الإنكليز على المصريين وهو سر رغبتهم في وقوف المؤتمر عند شئون المالية.
هذه المصيبة العظمى والداهية الدهماء التي تتحفز لتنقض على المصريين هل تمس بحفيفها جانب ألمانيا؟ كلا، فإن منافع ألمانيا الحقيقية لا تعلُّق لها بالمسائل المصرية وهي في الشغل بما هو أهم منها، وليست دولة «أوستريا» بأقرب إلى المصائب المصرية من ألمانيا. على أن كلًّا من الدولتين ليس في استطاعتهما تأييد فكرها بالعمل لو مست الحوادث المصرية شيئًا من مصالحها، فإن مواقع الدولتين لا تساعدهما على الإضرار بدولة الإنكليز. أما إيطاليا فهي ساكنة الجأش بما تؤمل نواله في أفريقيا بمساعدة إنكلترا.
(٨) سوء الأحوال في مصر
ومما أخبر به الصادق أن كليفورد لويد يجتهد لتسليم رئاسات البلاد إلى أناس من طبقة يتوهم فيها سقوط الهمة وسخافة الرأي ليتمكن بهم من إجراء بعض مقاصده، لكن لم يتسنَ له نجاح، ولئن نجح في تحويل الرئاسات من نصابها فلا يلاقي ممن يستلمونها إلا مثل ما لاقى من غيرهم، فإن الجميع مصريون يفضِّلون ظلم أبناء وطنهم على عدل الأجنبي فكيف لو كان الأجنبي لا يقاس بظلمه ظلم.
أما أحوال المدن فليست بأسعد من أحوال الأرياف خصوصًا من تعديات الأجانب على سكانها؛ فالمنازعات والمخاصمات بين الأجانب والوطنيين يُقضى فيها على الوطني بالتغريم والجزاء ولا يؤخذ على الأجنبي في شيء وإن كان هو المعتدي، وإن سأل الوطني أين خصمي فيقال له إنه يحاكم في محل آخر مع أنه لم يذهب إلى مقام المحاكمة رأسًا واكتُفي في فصل الدعوى بأحد الخصمين وهو طرز من الحكم جديد (هذا بعض آثار العدالة الإنكليزية).»
وجاء في خبر صديقنا هذا رواية كثير من المظالم التي أصيب بها أهل القرى من جراء التداخل الإنكليزي في إدارات الحكومة ضربنا عن ذكرها؛ رعاية لجانب الاختصار بعد وضوحها عند أُولي الأمر من المصريين.
أما الأمن فلم يبقَ له أثر، وأما النظام فقد نقص بناؤه واقتُلع أساسه واختزن الإنكليز نقاضه في خزائن الآثار القديمة، فقويت عصابات اللصوص وجاهروا بالنهب والسلب، وهذا خبر تؤكده روايات الجرائد الوطنية المصرية عربية وإفرنجية فإن جميعها يشتكي الملل والسآمة من رواية أخبار السوء كل يوم، إلا أن من غريب الوقائع هجوم لفيف من السارقين على قرية «نشرت» ونواحيها من مديرية الغربية وقتلهم واحدًا وأربعين رجلًا، فإن خبر هذه الواقعة إن صح كان دليلًا على بلوغ الاختلال إلى درجة فوق ما كنا نتصور، نسأل الله السلامة كما نسأله إبدال عسر المصريين باليسر وهو على كل شيء قدير.
(٩) رئيس وزراء مصر يستأذن للسفر من وزير خارجية بريطانيا
(١٠) وحدة الكلمة والتحذير من الشقاق
أمران خطيران تحمل عليهما الضرورة تارةً ويهدي إليهما الدين تارةً أخرى، وقد تفيدهما التربية وممارسة الآداب، وكل منهما يطلب الآخر ويستصحبه، بل يستلزمه، وبهما نمو الأمم وعظمتها ورفعتها واعتلاؤها، وهما الميل إلى وحدة تجمع، والكلف بسيادة لا توضع، وإذا أراد الله بشعب أن يوجد ويُلقي بوانيه (يثبت ويقيم) إلى أجل مسمًّى أودع في ضآضئه (أصوله) هذين الوصفين الجليلَين، فأنشأه خلقًا سويًّا، ثم استبقى له حياته بقدر ما مكَّن فيه من الصفتين إلى منتهى أجله.
كل أمة لا تمد ساعدها لمغالبة سواها لتنال منها بالغلب ما تنمو به بنيتها ويشتد به بناؤها، فلا بدَّ يومًا أن تُقضم وتُهضم وتضمحل ويمحى أثرها من بسيط الأرض. إن التغلب في الأمم كالتغذي في الحياة الشخصية، فإذا أهمل البدن من الغذاء وقفت حركة النمو، ثم ارتدَّت إلى الذبول والنحول، ثم أفضت إلى الموت والهلاك، وليس من الممكن لأمة أن تحفظ قوامها، وتصول على من يليها لتختزل منه ما يكون مادة لنمائها، إلا أن تكون متفقة في تحصيل ما تحتاج إليه هيئتها. إذا أحسست من أمة ميلًا إلى الوحدة فبشِّرها بما أعد الله لها في مكنون غيبه من السيادة العليا والسلطة على متفرقة الأمم. إذا تصفحنا تاريخ كل جنس واستقرينا أحوال الشعوب في وجودها وفنائها، وجدنا هذه سُنة الله في الجمعيات البشرية، حظها من الوجود على مقدار حظها من الوحدة، ومبلغها من العظمة على حسب تطاولها في الغلب، وما انحط شأن قوم وما هبطوا عن مكانتهم إلا عند لهوهم بما في أيديهم، وقناعتهم بما تسنى لهم، ووقوفهم على أبواب ديارهم ينظرون طارقهم بالسوء، وما أهلك الله قبيلًا إلا بعد ما رُزئوا بالافتراق، وابتلوا بالشقاق، فأورثهم ذلًّا طويلًا وعذابًا وبيلًا، ثم فناءً سرمديًّا.
الوفاق تواصل وتقارب يحدثه إحساس كل فرد من أفراد الأمة بمنافعها ومضارها، وشعور جميع الآحاد في جميع الطبقات بما تكسبه من مجد وسلطان، فيلذ لهم كما يلذ أشهى مرغوب لديهم، وبما تفقده من ذلك، فيألمون له كما يألمون لأعظم رزء يصابون به، وهذا الإحساس هو ما يبعث كل واحد على الفكر في أحوال أمته، ليجعل جزءًا من زمنه للبحث فيما يرجع إليها بالشرف والسؤدد، وما يدفع عنها طوارق الشر والغيلة، ولا يكون همه بالفكر في هذا أقل من همه بالنظر في أحواله الخاصة، ثم لا يكون نظرًا عقيمًا حائرًا بين جدران المخيلة، دائرًا على أطراف الألسنة، بل يكون استبصارًا تتبعه عزيمة يصدر عنها عمل يثابر على استكماله بما يمكن من السعة، وما تحتمله القدرة على نحو ما يكون في استحصال مواد المعيشة بلا فرق، بل تجد الأنفس أن شأن الأمة في المكان الأول من النظر، والدرجة الأولى من الاعتبار، والشئون الخاصة في المنزلة الثانية منهما، ولا تقف فيما تجد عند جلب المصالح ودرء المفاسد لأوقاتها الحاضرة، بل يأخذ العقلاء منها سيلًا من التفكير، ويخترطون سيوفًا من الهمة، ليصيبوا من سعيهم شوارد من القوة، ونوادر من المكنة، ويستخرجوا دفائن من الثروة، ويجمعوا ذلك للأمة، لصيانة حياتها إلى حد العمر اللائق بها، كما يسعى الحازم جهده لتوفير ما يلزم لمعيشته، وما يطمئن به قلبه في دفع حاجته مدة العمر الغالب، بل يزيد عليه ما فيه الكفاية لأبنائه من بعده، وإن الدور الأول من أعمار الأمم لا ينقص عن خمسة قرون، ثم تتلوه سائر الأدوار، وأولها أقصرها وهو سن الطفولة، وبدء الكمال فيما يليه، فما أرفع همم العقلاء في الأمم المستبصرة.
إذا بلغ الإحساس من مشاعر أفراد الأمة إلى الحد الذي بيناه، رأيت في الدهماء منهم والخاصة هممًا تعلو، وشيمًا تسمو، واحترامًا يقود، وعزمًا يسوق، كلٌّ يطلب السيادة والغلب، فتتلاقى هممهم، وتتلاحق عزائمهم في سبيل الطلب، فيندفعون للتغلب على الذين يلونهم، كما تندفع السيول على الوهاد، ولا تقف حركتهم دون الغاية مما نهضوا إليه، ويكون نزوهم على الأمم بعد الغلب الأول تدفقًا من الطبع لا يحتاج إلى فكرٍ ورويةٍ إلا في إعداد وسائل الفوز والظفر.
هذان الأمران: الوفاق والغلب، عمادان قويان وركنان شديدان من أركان الديانة الإسلامية، وفرضان محتومان على من يستمسك بها، ومن يخالف أمر الله فيما فرض منهما عوقب من مقته بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة. جاء في قول صاحب الشرع: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، وإن المؤمن ينزل من المؤمن منزلة أحد أعضائه إذا مسَّ أحدها ألم تأثر له الآخر، وجاء في نهيه: «لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا»، وأنذر من شذَّ عن الجماعة بالخسران والهلكة، وضرب له مثل الشاة القاصية تكون فريسة للذئاب.
هذا كله بعدما أمر الله عباده بالاعتصام بحبله، ونهاهم عن التفرق والتغابن، وامتن عليهم بنعمة الأخوة بعد أن كانوا أعداء، ونطق الكتاب الإلهي: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، وطلب من المخاطبين بآياته أن يبادروا بإصلاح ذات البين عند التخالف، ثم شدد في وجوب الإصلاح وإن أدى إلى مقاتلة الباغي، فقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهَ، وإنما أمر الله بالدخول فيما اتفق عليه المؤمنون وتوحيد الكلمة الجامعة: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وأوعد الكتاب الأقدس كل من انحرف عن سبيل المؤمنين بالعقاب الأليم، فحكم بأن من يتبع غير سبيل المؤمنين يوله ما تولى ويصله جهنم وساءت مصيرًا.
وفي أمره الصريح إيجاب التعاون على البر والتقوى، ولا بر أحق بالتعاون عليه من تعزيز كلمة الحق وإعلاء منار الأمة، وأخبر الصادق ﷺ أن: «يد الله مع الجماعة»، وكفى بالقدرة الإلهية عونًا إذا صح الاجتماع وصدقت الألفة، وقد بلغت مكانة الاتفاق في الشريعة الإسلامية أسمى درجة في الرعاية الدينية، حتى جعل إجماع الأُمة واتفاقها على أمر من الأمور كاشفًا عن حكم الله وما في علمه، وأوجب الشرع الأخذ به على عموم المسلمين، وعدَّ جموده مروقًا من الدين، وانسلاخًا عن الإيمان، ومن عناية الشارع بأمر الاتفاق قوله ﷺ: «لو دُعيت إلى حلف الفضول لفعلت.» (حلف الفضول ما كان من هاشم وزهرة وتيم حيث وفدوا على عبد الله بن جدعان، وتحالفوا على أن يدفعوا الظلم ويأخذوا الحق من الظالم، وسُمِّي حلف الفضول؛ لأنهم تحالفوا على ألَّا يدعو عند أحد فضلًا يزيد عن حقه ويكون نواله بالظلم إلا أخذوه منه وردُّوه لمستحقه) فهو من حلف الجاهلية، وقد صرَّح الشارع بقبوله لو دُعي إليه.
هذا إجمال الأدلة على وجوب الاتفاق وحظر المنابذة والمغابنة بين المسلمين، بل وبينهم وبين غيرهم ممن رضي بذمتهم وقبِل جوارهم بالمعروف في شرعهم، فإن سبيل المؤمنين يسعه ولا يضيق عنه.
وأما السعي لإعلاء كلمة الحق وبسطة الملك وعموم السيادة، فلا تجد آية من آيات القرآن الشريف إلا وهي داعية إليه، جاهرة بمطالبة المسلمين بالجد فيه، حاظرة عليهم أن يتوانوا في أداء المفروض منه، ومن الأوامر الشرعية ألَّا يدع المسلمون تنمية ملتهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وفي السُّنة المحمدية والسيرة النبوية مما يضافر آيات القرآن ما جمعه العلماء في مجلدات يطول عددها، هذا حكم ديننا لا يرتاب فيه أحد من المؤمنين به والمستمسكين بعروته.
هل يمكن لنا ونحن على ما نرى من الاختلاف والركون إلى الضيم أن ندَّعي القيام بفروض ديننا؟ كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف إجراؤه على قوة الولاية الشرعية، فإن لم يكن الوفاق والميل إلى الغلب فرضين لذاتهما أفلا يكونان مما لا يتم الواجب إلا به؟ فكيف بهما وهما ركنان قامت عليهما الشريعة كما قدَّمنا؟ هل لنا عذر نقيمه عند الله يوم العرض والحساب يوم لا ينفع فيه خلة ولا شفاعة بعد هدم هذين الركنين؟ وأيسر شيء علينا إقامتهما وعديدنا مئتا مليون أو يزيد؟ هل يتيسر لنا إذا خلونا بأنفسنا وجادلتنا ضمائرنا أن نقنعها ونرضيها بما نحن عليه الآن؟
كل هذه الرزايا التي حطت بأقطارنا، ووضعت من أقدارنا، ما كان قاذفنا ببلائها، ورامينا بسهامها، إلا افتراقنا وتدابرنا والتقاطع الذي نهانا الله ونبيه عنه. لو أدينا حقوقًا تطالبنا بها تلك الكلمة التي تهل بها ألسنتنا، وتطمئن قلوبنا بذكرها، وهي كلمة الله العليا، هل كان يمكن للغرباء أن يمزقوا ممالكنا كل ممزق، وهل كان يلمع سيف العدوان في وجوهنا، وهل كنا نشيم نيران الأعداء إلا وأقدامنا في صياصيهم، وأيدينا على نواصيهم؟
إن لأبناء الملة الإسلامية يقينًا بما جاء به شرعهم، لكن أليس على صاحب اليقين بدين أن يقوم بما فرض الله عليه في ذلك الدين؟ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
ولا ريبة في أن المؤمن يسُره أن يعلمه الله صادقًا لا كاذبًا، وأي صدق تظهره الفتنة ويمتاز به الصادق من الكاذب إلا الصدق في العمل؟ هل يود المسلم لو يُعمَّر ألف سنة في الذل والهوان، وهو يعلم أن الازدراء بالحياة الدنيا دليل الإيمان؟ أنرضى ونحن المؤمنون وقد كانت لنا الكلمة العليا أن تُضرب علينا الذلة والمسكنة، وأن يستبد في ديارنا وأموالنا من لا يذهب مذهبنا، ولا يرد مشربنا، ولا يحترم شريعتنا، ولا يرقب فينا إلًّا ولا ذمة، بل أكبر همه أن يسوق علينا جيوش الفناء حتى يخلي منا أوطاننا، ويستخلف فيها بعدنا أبناء جلدته، والجالية من أمته؟!
لا. لا. إن المخلصين في إيمانهم الواثقين بوعد الله في نصر من ينصر الله الثابت في قوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ، لا يتخلفون عن بذل أموالهم وبيع أرواحهم، والحق داعٍ والله حاكم والضرورة قاضية، فأين المفر؟
المبصر بنور الله يعلم أنه لا سبيل لنصر الله وتعزيز دينه إلا بالوفاق وتعاون المخلصين من المؤمنين. هل يسوغ لنا أن نرى أعلامنا منكسة، وأملاكنا ممزقة، والقرعة تُضرب بين الغرباء على ما بقي من أيدينا ثم لا نُبدي حركة، ولا نجتمع على كلمة، وندَّعي مع هذا أننا مؤمنون بالله وبما جاء به محمد؟ وا خجلتاه لو خطر هذا ببالنا! ولا أظنه يخطر ببال مسلم يجري على لسانه شاهد الإسلام.
إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإسلام، كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبةً، ولكن دهاهم بعض ما أشرنا إليه في أعداد ماضية، فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم وأذهلهم أزمانًا عن سماع صوت الحق يناديهم من بين جوانحهم، فسهوا وما غووا، وزلوا وما ضلوا، ولكنهم دهشوا وتاهوا، فمثلهم مثل جواب المجاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كلٌّ يطلب عونًا وهو معه ولكن لا يهتدي إليه، وأرى أن العلماء العاملين لو وجَّهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلى مسامع بعض، لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير عليهم ذلك بعدما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام وفرض على كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة عشير الله من جميع أجيال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم، فما هي إلا كلمة تقال بينهم من ذوي مكانة في نفوسهم تهتز لها أرجاء الأرض، وتضطرب لها سواكن القلوب. هذا ما أعدتهم له العقائد الدينية، فإن أضفت إليه ما أذاب قلوبهم من تعديات الأجانب، وما ضاقت به صدورهم من غارات الغرباء على بلادهم، حتى بلغت أرواحهم التراقي، ذهبت إلى أن الاستعداد بلغ من نفوس المسلمين حدًّا يوشك أن يكون فعلًا، وهو مما يؤيد الساعين في هذا المقصد، ويهيئ لهم فوزًا ونجاحًا بعون الله الذي ما خاب قاصده، وهو ربي إليه أدعو وإليه أنيب.
(١١) الوسائل لحفظ كيان الدولة
وكتبت في عدد ١١ سبتمبر سنة ١٨٨٤ / ٢١ ذي القعدة سنة ١٣٠١ مقالة بعنوان: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
أهلك الله شعوبًا، وأباد قبائل، ودمر بلادًا، ولا يزال عدل الله يبدل قومًا بقوم ويأتي لكلِّ حين بأناس آخرين، فكم سبقت رحمته غضبه، جعل لكل عمل جزاء، وعيَّن بحكمته لكل حادث سببًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وليست أفعاله جزافًا، ولا يصدر عنه شيء عبثًا. أمر الله عباده بالسير في الأرض: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، ليريهم قضاءه الحق وحكمه العدل فيمن سلف ومن خلَف، فيطيعوا أوامره، ويقفوا عند حدود شرائعه، ويفوزوا بخير الدنيا وسعادة الآخرة.
من كان له قلب يعقل، وعين تبصر، وعقل يفقه، وتتبَّع حوادث العالم، وتدبَّر كيفية انقلاب الأمم، وخاض في تواريخ الأجيال الماضية، واعتبر بما قص الله عليه في كتابه المنزل، يحكم حكمًا لا يخالفه ريب، بأنه ما حاق السوء بأمة وما نزلت بها نازلة البلاء، وما مسها الضر في شيء، إلا وكانت هي الظالمة لنفسها بما تجاوزت حدود الله، وانتهكت حرماته، ونبذت أوامره العادلة، وانحرفت عن شرائعه الحقة، وحرَّفت الكلم عن مواضعه، وأوَّلت من كلامه تعالى على حسب الأهواء والشهوات.
كما أن للأغذية والأدوية واختلاف الفصول والأهوية أثرًا ظاهرًا في الأمزجة بتقدير العزيز العليم، كذلك اقتضت حكمة الله أن يكون لكل عمل من الأعمال الإنسانية ولكل طور من أطوار البشر أثر في الهيئة الاجتماعية؛ ولهذا كان من رحمته بعباده تحديد الحدود، وتقرير الأحكام ليتبين الخير من الشر، ويتميز النفع من الضر، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فمن خالف الأوامر الإلهية فقد ظلم نفسه، فليستعد لخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
إن تأثير الفواعل الكونية في أطوار الحياة قد يخفى سببه حتى على الطبيب الماهر. أما تأثير أحوال بني الإنسان في هيئة اجتماعهم، فيسهُل الوقوف على سره لكل ذي إدراك، إن لم تكن عين بصيرته عمياء.
إن الله تعالى جعل الركون إلى من لا يصح الركون إليه، والثقة بمن لا تنبغي الثقة به، سببًا في اختلال الأمن وفساد الحال، فمن وثق في عمله بمن ليس منه في شيء، ولا تجمعه معه جامعة حقيقية، ولا تصل به رابطة صحيحة، وليس في طبعه ما يبعثه على رعاية مصلحته أو كتم سره، ولا ما يحمله على بذل الجهد في جلب منفعته ودفع المضار عنه، فلا ريب يفسد حاله، ويسوء مآله، وإن كان مليكًا ضاع ملكه، أو أميرًا بطل أمره، والحوادث شاهدة، وأحوال المغرورين ناطقة، فمن لم يرزأ بعمى البصيرة يدرك بأول التفات سر نهي الله تعالى في قوله: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم ْمِنَ الْحَقِّ، وقوله: لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، وسائر نواهيه المبينة على الحكمة البالغة المرشدة إلى مصالح الدارين.
لكل شخص في طبقته من أمته عمل مفروض عليه، وواجب يلزمه القيام به، ليحفظ بذلك لنفسه حياة طيبة في هذه الدنيا ويُعد لها مآلًا صالحًا في الآخرة، وهو إنسان له قلب واحد، لو جعل معظم همه في شيء فاته سائر الأشياء، فلو توغل في الشهوات، وبالغ في الترف، وبطر فيما أنعم عليه، فقد أغفل فرائضه، وأضر بنفسه، وحُرم من منافعه، وحل به من عقاب الله أشد الوبال، وخسر الدنيا والآخرة معًا، وربما مست آثار أعماله بالسوء من يجاوره، واحترق بناره الموقدة بفساد أخلاقه وانحرافه عن سنن الحق من يساكنه في بلدته، أو يواطنه في مدينته …
ما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلًا. لا يمكن الإنسان وحده أن يحيط بوجوه المنافع الخاصة بنفسه، ولا أن يطَّلع على منافع فوائده ليكسبها، أو يكشف مكامن مضاره فيتقنها، خُلِق الإنسان ضعيفًا فأرشده الله للاستعانة بغيره من بني جنسه: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، خُلقنا محتاجين للعون مضطرين للنصير وهدانا ربنا للتعاون والتناصر.
هذا مما يحكم به العقل في المصالح الخاصة، فكيف لو كان شخص ولاه الله رعاية أمته، وألقى إليه بزمام شعب مصالحه العامة تحت إرادته، وهو الوازع فيه والواضع والرافع؟ لا ريب أن مثل هذا الشخص أحوج إلى المشورة والاستفادة من آراء العقلاء، وهو أشد افتقارًا إلى ذلك ممن يكون سعيه لمتعلقات ذاته وتكون سعة دائرة افتقاره إلى التشاور على مقدار سعة سلطانه، وقد أمر الله نبيه المعصوم عن الخطأ بالمشورة تعليمًا وإرشادًا فقال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وقال فيما امتدح به المؤمنين: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ.
أي بصر يزوغ عن هذا الصراط المستقيم؟ وأي بصيرة لا تهتدي إلى هذا المنهج القويم؟ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ.
إن وازع البلاد والقائم على الملك لو لمح لمحة إلى نفسه لرأى أن بلاده في كل وقت معرضة لأطماع الطامعين، وأن الحرص المودع في طباع البشر يحرك جيرانه كل آنٍ للسطوة على ممالكه ليذلوا قومه، وليستعبدوا أهله، ويستأثروا بمنافع أرضهم، وثمار كدهم، ويمنحوها أبناء جلدتهم، فعليه وعلى من يشركه في أمره من عماله، والحكام النائبين عنه في إيالاته، وقواد جيشه، وعلى كل أرباب الرأي ومن بهم قوام الملك، أن يستعدوا لدفع طوارئ العدوان ورفع نوازل الغارات الأجنبية، فلو فرَّطوا في إعداد لوازم الدفاع، أو تساهلوا فيما يكف عنهم سيل الأطماع، أو تهاونوا فيما يشد قوتهم، ويقوي شوكتهم، بأي وجه كان، ومن أي نوع كان، فقد عرَّضوا ملكهم للهلاك، وألقوا بأنفسهم في مهاوى الأخطار.
هذا مما يفهمه الأبله والحكيم، ويصل إليه إدراك الجاهل والعليم، وهو سر الإفصاح والإبهام في قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أمر بإعداد القوة ووكلها إلى الطاقة وحكم الاستطاعة، على حسب ما يقتضيه الزمان، وما تكون عليه حالة من تُخشى غوائلهم، هذا أمر الله ينبِّه الغافل، ويذكِّر الذاهل، فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا.
إعطاء كلِّ ذي حق حقه، ووضع الأشياء في مواضعها، وتفويض أعمال الملك للقادرين على أدائها، مما يوجب صيانة الملك وقوة السلطان، ويشيد بناء السلطة، ويُحكم دعائم السطوة، ويحفظ نظام الداخل من الخلل، ويشفي نفوس الأمة من العلل. هذا مما تحكم به بداهة العقل، وهو عنوان الحكمة التي قامت بها السموات والأرض، وثبت نظام كل موجود، وهو العدل المأمور به على لسان الشرع في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، كما أن الجور عن الاعتدال والميل عن سبيل الاستقامة في كل جزء من أجزاء العالم يوجب فناءه واضمحلاله، كذلك الجور في الجمعيات البشرية يسبب دمارها؛ لهذا حثت الأوامر الإلهية على العدل، وكثر النهي في الكتاب المجيد عن الظلم والجور، والحكم أولى من تُوجه إليهم الأوامر والنواهي في هذا الباب. العدل هو الحكمة التي امتن الله بها على عباده، وقرنها بالخير الكثير فقال: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وهي مظهر من أجلِّ مظاهر صفاته العلية، فهو الحكم العدل وهو اللطيف الخبير.
من سار في الأرض، وتتبَّع تواريخ الأمم، وكان بصير القلب، علم أنه ما انهدم بناء ملك، ولا انقلب عرش مجده إلا لشقاق واختلاف، أو ثقة بمن لا يوثق به، وتخلل العنصر الأجنبي، أو استبداد في الرأي، واستنكاف عن المشورة، وإهمال في إعداد القوة والدفاع عن الحوزة، أو تفويض الأعمال لمن لا يُحسن أداءها، ووضع الأشياء في غير مواضعها، فيكون جور في الحكم، واختلال في النظام، وفي كل ذلك حيد عن سنن الله، فيحل غضبه بالخاطئين، وهو أحكم الحاكمين.
لو تدبرنا آيات القرآن، واعتبرنا بالحوادث التي ألمَّت بالممالك الإسلامية، لعلمنا أن فينا من حاد عن أوامر الله وضلَّ عن هديه، ومنا من مال عن الصراط المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا من اتبع أهواء الأنفس وخطوات الشيطان، ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
فعلى العلماء الراسخين وهم روح الأمة، وقواد الملة المحمدية، أن يهتموا بتنبيه الغافلين عما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبهم عما فرض الدين، ويعلِّموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكِّروا الجميع بما أنعم الله به على آبائهم، وليستلفتوهم إلى ما أعد الله لهم لو استقاموا، ويحذِّرهم سوء العاقبة لو لم يتداركوا أمرهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه، ورفض كل بدعة، والخروج عن كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا عليهم أحوال الأمم الماضية وما نزل بها من قضاء الله عندما حادت عن شرائعه ونبذت أوامره فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكيرهم وعد الله ووعده الحق في قوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا. هذه وظيفة العلماء الراسخين، وما هم بقليل بين المسلمين، ولا نظنهم يتهاونون فيما فرض الله عليهم ووكل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحمَلة الشرع ورافعوا لواء الإسلام، وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله على خير أعمالهم ونفع المؤمنين بإرشادهم.
(١٢) ولاء الخديو توفيق للاحتلال
يتوكأ الإنكليز على توفيق باشا في حركتهم بمصر ويتخذونه آلة لتخريب بلاده وهدم ملكه، وما يكون من شر ينسبونه إليه، وما عساه يوجد من خير يصلون نسبته بهم ويردونه إلى أنفسهم، وفيما بين ذلك يبغِّضون إليه الولاية الإسلامية ويحببون إليه إغفال الأصول الدينية، وهو يميل معهم ويمدهم في مقاصدهم ويطوع البلاد لهم بما بقي له من السلطة الصورية، كما يتظاهر بالتدين والمحافظة على الصلوات، فإن كان باطنه يطابق ظاهره وكان معتقدًا بدين الإسلام فعليه أن يتنحى عن الأمر ويترك الملك لمن يستطيع إنقاذه مما هو فيه فتبرأ ذمته من العار الذي يلحقه ويلحق بيت محمد علي من تصرُّفه، فإن لم يكن هذا فعليه أن يجهر بعقيدته ويقاوم الإنكليز بما في جهده ويموت شهيدًا في سبيل دينه ووطنه، وإلا فليس يغني عنه من الله شيئًا أن يُظهر عند أهل خاصته وحاشيته أنه ناقم على الإنكليز كاره لوجودهم في بلاد مصر، ويود لو يخرجون كما أنبأتنا الأخبار الخصوصية من القطر المصري.
إذا تمادى توفيق باشا في سيره الملتوي، فعلى المصريين ألَّا يقعوا صيدًا في يد الإنكليز بهذه الحبالة البالية وهذا الفخ الواهن ولينظروا في شئونهم وما توجبه عليهم فروض دينهم، وإلا فما الله بغافل عنهم.
كثيرًا ما أتينا في جريدتنا على بيان الإنكليز في تملُّك الهند وتذليلهم لأهاليه، وذكرنا أن سيرة الحكومة الإنكليزية في افتتاح البلاد لا تشابه سير الفاتحين الذين يزحفون بخيلهم ورَجْلهم على الأقطار فيقتلون ويُقتلون حتى يتغلبوا على من يريدون، وقلنا إن الإنكليز ملكوا نحو ثلث العالم بلا سفك دماء غزيرة ولا صرف أموال وافرة، وإنما ملكوا ما ملكوا بسلاح الحيلة، يدخلون في كل بلد أسودًا ضارية في جلود ضأن ثاغية، يعرضون أنفسهم في صورة خَدَمة صادقين وآمنة ناصحين طالبين للراحة مقومين للنظام، نادينا مرارًا بأن الإنكليز إذا أرادوا التدخل في ملك للشرقيين ورأوا أن القائم به رجل حاذق بصير وأن وجوده في الملك يبطئ سيرهم إلى ما يقصدون بادروا إلى التشويش عليه، فإما أن يُفسدوا عليه قلوب رعيته ويُثيروا عليه أحقادها، أو يغروا أحد أعضاء العائلة المالكة بالعصيان وطلب الملك ليجدوا في ذلك وسيلة للدخول في الأمر، أو يتفقوا مع الوزراء على خلع صاحب السلطة ثم ينصِّبوا بدله إما ضعيفًا أحمق وإما صبيًّا لم يبلغ الرشد، إما من أبناء المالك أو أقاربه — ليتمكنوا من بلوغ مقاصدهم تحت علمه ويبلغوا غاياتهم باسمه ويقطعوا المسافة الطويلة في مدة قصيرة بلا ممانع ولا عائق مع إصابتهم جزيل الأجر على ما عملوا في بداية العمل.
هذا هو اللورد نورثبروك الذي تريد حكومة إنكلترا أن ترمي به مصر، وهذا هو الإصلاح الذي يقصد إجراءه فيها، لكن رجاءنا في المسلمين، وأملنا في المصريين، وقوة إيماننا بوعود الله وصدق النبأ عما تكنه الحوادث المصرية، وتألب الدول على معاكسة الحكومة الإنكليزية، كل هذا يبشِّرنا بخيبة هذا الغادر في قصده، والله لا يهدي كيد الخائنين.
ورد خبر من القاهرة بوصول اللورد نورثبروك إليها، وحصلت الملاقاة الرسمية بينه وبين توفيق باشا وقدَّم إليه رقيمًا من اللورد «غرانفيل» يؤذن أن اللورد نورثبروك هو الوكيل الأعلى للحكومة الإنكليزية في القطر المصري، ويطلب من الحكومة المصرية أن تساعده في حل المشاكل الحالية خصوصًا المسائل المالية، فأظهر توفيق باشا غاية المسرة من تعيينه بهذه الوظيفة وأكد له خلوص الوداد وكمال الرضا بجميع مطالبه!
يظهر أن توفيق سُرَّ بقدوم اللورد «نورثبروك» وإن لم يكن بينه وبينه معرفة خصوصية ولا له سابقة علم بأحواله ولا بما يريد أن يعمله في بلاده. هذا يمكن، ولكن ليت شعري ماذا يجني هذا الخديو الشاب من مراضاة هذا المخادع وماذا يصيبه من سهام حيله؟ بينا في بعض الأعداد الماضية بعض صفات هذا اللورد، وطرفًا من أعماله في الهند، ونذكر الآن عملًا آخر منها:
طلب وهو حكمدار الهند أن يمكِّن السلطة الإنكليزية من مملكة «كابورتال» وهي مملكة واسعة تتاخم لاهور و«بتيالة»، فادَّعى على مهراجتها (ملِكها) أنه مجنون وهو في رشاد عقله واعتدال مزاجه، وخلعه بهذه الدعوى وسجنه في «بكسو» حتى مات حتف أنفه وقيل بالسم، وكان هذا الملك المخلوع ابن «راندهيرسنك»، ونصَّب بدله ولدًا صغيرًا من أولاد كاتب من كُتَّاب ذلك الملك ليُعد المملكة بذلك للدخول في حوزة الحكومة الإنكليزية.
كانت الحكومة الإنكليزية تركت لبعض الرجوات المخلوعين غابات صغيرة من بقايا أملاكهم للصيد، فكان أولئك المساكين يُسلُّون أنفسهم على ضياع ممالكهم بصرف بعض الزمان فيها، فلما جاء اللورد «نورثبروك» حاكمًا في الهند رآها كثيرة عليهم فنزعها من أيديهم وحرمهم من هذه المنفعة الزهيدة، هذا اللورد هو الذي طلب «سميع الله خان» الدهري ليكون معينًا له في مصر على إرضاء المصريين بحكومة الإنكليز، وهو الذي أعطى المبالغ الوافرة للمعلم «بالمر» لينثرها بين العرب حتى يثوروا أيام الحرب المصرية، كما أخبرنا الثقة الصادق من لوندرة، ولكن العرب قتلوا رسوله وشُنق به أشخاص في مصر بلا جرم. هذا اللورد هو الذي يبتهج توفيق باشا بقدومه، صان الله الأراضي المصرية المقدسة من شر هذا المحتال.
(١٣) سُنة الله في الأمم
ونشرت في عدد ٢٥ سبتمبر سنة ١٨٨٤/ ٦ ذي الحجة سنة ١٣٠١ مقالة تحت عنوان: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ذلك بأن الله لم يك مُغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا القوم الضالون.
هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟ هل كذَّب الله رسله؟ هل ودَّع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه وسلك بهم طريق الضلال؟ نعوذ بالله!
هل أنزل الآيات البينات لغوًا وعبثًا؟ هل افترت عليه رسله كذبًا؟ هل اختلفوا عليه إفكًا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله!
أليس قد أنزل القرآن عربيًّا غير ذي عوج، وفصَّل فيه كل أمر، وأودعه تبيانًا لكل شيء؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولًا كذابًا، ولا أتى شيئًا عبثًا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السموات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ.
يقول الله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، ويقول: وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، ويقول: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، ويقول: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهَ شَهِيدًا.
هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلًا، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل، إلا من ضلَّ عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه. هذا عهده إلى تلك الأمة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل الله لمجدها أمدًا، ولا لعزتها حدًّا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبتت أقدامها على قنن الشامخات، ودُكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر الضاريات، وذابت للرعب منها أعشار القلوب، هال ظهورها الهائل كل نفس، وتحير في سببه كل عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسُنته فأمدهم بنصر من عنده، هذه أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر، معوزة من الأسلحة وعُدد القتال، فاخترقت صفوف الأمم، واختطت ديارها، ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم، ولا صدتها قلاع الرومان ومعاقلهم، ولا عاقها صعوبة المسالك، ولا أثَّر في همتها اختلاف الأهوية، ولا فعل في نفوسها غزارة الثروة عند من سواها، ولا راعها جلالة ملوكهم، وقِدم بيوتهم، ولا تنوع صنائعهم، ولا سعة دائرة فنونهم، ولا عاق سيرها أحكام القوانين، ولا تنظيم الشرائع، ولا تقلُّب غيرها من الأمم في فنون السياسة.
كانت تطرق ديار القوم فيحتقرون أمرها، ويستهينون بها، وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدول العظيمة، وتمحو أسماءها من لوح المجد، وما كان يختلج بصدر أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة، وتمكِّن في نفوسها عقائد دينها، وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها، لكن كان كل ذلك، ونالت تلك الأمة المرحومة على ضعتها ما لم تنله أمة سواها. نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفَّاهم أجورهم مجدًا في الدنيا، وسعادة في الآخرة.
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء مائتي مليون من النفوس، وأراضيها آخذة من المحيط الأتلانتيكي إلى أحشاء بلاد الصين، تربة طيبة، ومنابت خصبة، وديار رحبة، ومع ذلك نرى بلادها منهوبة، وأموالها مسلوبة، يتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبًا شعبًا، ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبقَ لها كلمة تُسمع، ولا أمر يُطاع، حتى إن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة، ويمسون في كربة مدلهمة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلم بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدين لها الجزية عن يد وهن صاغرات، استبقاءً لحياتهن، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية، يا للمصيبة ويا للرزية!
أليس هذا بخطبٍ جلل، أليس هذا ببلاء نزل؟
ما سبب هذا الهبوط، وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالعهود الإلهية؟ معاذ الله! هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله!
هل نرتاب في وعده بنصرنا بعدما أكده لنا؟ حاشاه سبحانه! لا كان شيء من ذلك ولن يكون، فعلينا أن ننظر لأنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سُننًا متبعة ثم قال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.
أرشدنا الله سبحانه في مُحكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومُحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السُّنن التي سنَّها الله على أساس الحكمة البالغة. إن الله لا يُغيِّر ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة، حتى يغيِّر أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر، وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة، والتدبر في أحوال الذين حادوا عن صراط الله فهلكوا، وحل بهم الدمار ثم الفناء، لعدولهم عن سُنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل، ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمتهم، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم، فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سُنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسُنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق، وتحديد الآجال.
علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، ونسبر أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا، لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان، هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح؟ هل غيَّر الله ما بنا قبل أن نغيِّر ما بأنفسنا، وخالف فينا حكمه، وبدَّل في أمرنا سُنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون، بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر، وعصيناه من بعد ما أدى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغنِ عنا شيئًا، فبدَّل عزنا بالذل، وسمونا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية.
نبذنا أوامر الله ظهريًّا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبقَ لنا سبيل إلى النجاة سوى التوبة والإنابة إليه.
كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلها، ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحد منا حراكًا؟
هذا العدد الوافر، والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئًا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، كل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة، وإن كان غذاؤه الذلة، وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان.
تفرقت كلمتنا شرقًا وغربًا، وكاد يُقطع ما بيننا، لا يحن أخ لأخيه، ولا يهتم جار بشأن جاره، ولا يرقب أحدنا في الآخر إلًّا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أُمرنا.
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب؟ هل يرضى الله منهم بأن يعبدوه على حرف، فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة؟ هل ظنوا ألَّا يبتلي الله ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟ ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب؟ هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره، وإعلاء كلمته لا يبخلون في سبيله بمال، ولا يشحون بنفْسٍ؟ فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا، وهو لم يخطُ خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟
إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، لا يزيدهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا، ويقولون في إقدامهم: حسبنا الله ونعم الوكيل. كيف يخشى الموت مؤمن، وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يُرزق عند ربه؟ ممتع بالسعادة الأبدية في نعمة من الله ورضوان؟ كيف يخاف مؤمن من غير الله، والله يقول: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
لينظر كلٌّ إلى نفسه، ولا يتبع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع خلة ولا شفاعة، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين، وما جعله من خصائص الإيمان، فلو فعل كلُّ منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.
يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يثبت ذلك نص الكتاب العزيز، وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا، فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة، والمتسمون بسمة الإيمان آهلون بكل أرض، متمكنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نعرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية؟ ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم مع مراعاة الحكم في العمل كما كان سلفكم الصالح.
ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسُر مؤمنًا أن يتناوله هذا الوصف المشار إليه بالآية الكريمة؟ أوَ غر كثير من المدعين للإيمان ما زُين لهم من سوء أعمالهم، وما حسَّنته لديهم أهواؤهم؟ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.
أقول ولا أخشى نكيرًا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يراعي في ذلك عذرًا ولا تعلة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله.
وها نحن نرى الإنكليز دخلوا أرض مصر وأخذوا يجولون في أطرافها ويمهدون السبل لامتلاكها، ومع ذلك لا نرى من أهلها إقدامًا فعليًّا لمصادمة القوة الإنكليزية، مع أن كل واحد منهم يزعم نفسه في أعلى درجات الإيمان، ويزيد المتعجب عجبًا أن مصر يسكنها من المسلمين أقوام مختلفو الشعوب والأجناس. ألا يوجد «حلبي» يكون آية لِما كان عليه أسلافنا ودليلًا على أن تلك الروح الطيبة لم تُنزع منا وأن الغيرة والحمية وشهامة الإيمان لم يزل بها مقام من نفوسنا. لا ريب عندنا أن أية حركة جزئية كانت أو كلية في أي قطر من الأقطار التي لها تعلُّق بحكومة الإنكليز يوجب إحباط أعمالها وتنكيس أعلامها وخيبة آمالها.
أما لو فاتت المسلمين هذه الربكة التي يعاني الإنكليز ما يعانون فيها، فليستروا وجوههم بقناع الخجل ولا يغشوا أنفسهم بدعوى الإيمان واتباع القرآن، فإنما هي ألفاظ على طرف اللسان لا تحكي عن عقيدة في الجنان.
مع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضًا يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكَّروا المؤمنين بمعانيه الشريفة واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يُخلف، لرأيت الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيت نورًا يبهر الأبصار، وأعمالًا تحار فيها الأفكار، وإن الحركة التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشِّرنا بأن الله قد أعدَّ النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبًا، فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم، صحَّت لهم الأوبة، ونصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين، فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله: جمعُ كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
(١٤) الوهم
ألا قاتل الله الوهم! الوهم طورًا يكون مرآة المزعجات ومجلي المفزعات، وطورًا يكون ممثلًا للمسرات حاكيًا للمنعشات، وهو في جميع أطواره حجاب الحقيقة وغشاء على عين البصيرة. لكن له سلطان على الإرادة وحكم على العزيمة، فهو مجلبة الشر ومنفاة الخير.
الوهم يمثِّل الضعيف قويًّا، والقريب بعيدًا، والمأمن مخافة، والموئل مهلكًا. الوهم يذهل الواهم عن نفسه، ويصرفه عن حسه. يمثِّل الموجود معدومًا، والمعدوم موجودًا. الوهم في كون غير موجود، وعالم غير مشهود، يخبط فيه خبط المصروع، لا يدري ماذا أدركه وماذا تركه. الوهم روح خبيث يُلابس النفس الإنسانية وهي في ظلام الجهل، إذا خفيت الحقائق تحكمت الأوهام، وتسلطت على الإرادات، فتقود الواهمين إلى بيداء الضلالة، فيخبطون في مجاهل، لا يهتدون إلى سبيل، ولا يستقيمون على طريق.
كان الإنكليز أمة مجتمعة القوى، مستكملة العدد، مستعدة للفتوحات، وذلك في زمان بُليت فيه الأمم الشرقية بتفريق الكلمة واختلاف الأهواء، وحُجبت بالجهل عن معرفة أحوال الغربيين وصنائعهم وعوائدهم، فكان الشرقيون يعدُّون كل غريبة معجزة، وكل بديع من الاختراع سحرًا وكرامة، فانتهز الإنكليز تلك الفرصة واندفعوا إلى الشرق وبسطوا سلطتهم على غالب أرجائه، وما دهموا سكانه إلا ببعض غرائب الصنعة الأوروبية التي أثارت فيهم خواطر الأوهام، ثم زاد الوهم قوة ما نصبه الإنكليز من حبائل الحيلة والمكر، حتى خلبوا قلوب المساكين وأذهلوهم عما في أيديهم بل أخذوهم عن عقولهم وخطرات قلوبهم، فسلبوا أموالهم وانتزعوا منهم أراضيهم وأجلوهم عن أملاكهم، فاستغنت الأمة الإنكليزية بما سلبت، وأثرت بما نهبت، وترفهت بما ملكت، واليوم تراها حاكمة على أقطار واسعة، وأنحاء شاسعة، وقواها منقسمة على تلك الأقطار متوزعة فيها، فلا ترى في كل إيالة من إيالاتها الشرقية إلا نزرًا من العدد والعُدد، وهي في جميعها ضعيفة واهنة لا تستطيع ذودًا ولا دفاعًا، وإن أخف حركة في تلك الأنحاء توجب زعزعة في تلك القوة أو هدمها بالمرة، وقد ظهر هذا الأمر على أنفس الأمة الإنكليزية، فهي دائمًا في رجفة على أملاكها، في خيفة من تمزقها وضياعها، تتوجس من كل حادثة في العالم وتقلق لأية حركة تحدث في الوجود، وكل ملمة تلم بالشرق أو الغرب توجب بحدوثها زلزلة في قوى الإنكليز المتوزعة في الأنحاء الضعيفة في جميع الأرجاء.
ومع هذا كله، نرى الأمر لم يزل خفيًّا على الشرقيين، محجوبًا عنهم بحجاب الوهم.
يمثِّل الوهم لكل شرقي أن الإنكليز على ما كانوا عليه في ماضي زمانهم، فمثل الشرقيين مع الإنكليز كمثل مار في مغارة يرى بها جثة أسد مطروحة على طريقه فاقدة الحياة عديمة الحراك، فيتوهمها سبعًا ضاريًا ومفترسًا قويًّا، فينكب عن الطريق وهمًا وريبة بدون تحقيق لما تخوف منه، يرتعد ويسقط ويموت خوفًا، أو يضل بعد ذلك عن الجادة وتشتبه عليه مسالك الوصول إلى غايته، وربما صادف مهلكة في ضلاله ومتلفة في غيه. بل لا نخطئ إن قلنا إن هذا الوهم كان متسلطًا على الغربيين كما هو متسلط على الشرقيين؛ فالأوروبيون كانوا ينظرون إلى إنكلترا في أملاكها البعيدة كما ينظرون إليها في جزائر بريطانيا، وكانت حكومة إنكلترا متحصنة ممتنعة في هذه القبة الوهمية، متربعة على عرش هذه العظمة الخيالية. يحس الإنكليز بضعف قوتهم فيجتهدون دائمًا في ستره، ولا ستار أكثف من الوهم؛ ولهذا نراهم في كل حادثة يجلبون، ويصيحون ويزأرون، ليثيروا بالضوضاء هواجس الأوهام فتحوِّل أنظار الناظرين، وتغشي بصائر المستبصرين، فتحُول دون استطلاع الحقيقة، وإلا فقليل من الالتفات يكشفها فتقوم قيامة الخراب على الإنكليز.
ذهب الإنكليز إلى الهند في قوى مجتمعة، وتسابقوا مع الفرنساويين وهولاندا والبرتغال في مدن الأراضي الهندية الواسعة، فحازوا في هذه المباراة قصب السبق بما امتازوا به من الدهاء والمكر، وبما ساعدهم على ذلك من غفلة الهنديين لذلك العهد، أو طيب قلوبهم، فمالت النفوس إلى الإنكليز اغترارًا، وتغلَّبوا على تلك البلاد واستقلوا بأمرها شيئًا فشيئًا، وما أبقوا لغيرهم من الدول إلا مضائق من الأرض لا تُذكر، وأول ما استمالوا به القلوب السالمة قولهم إننا نريد تخليصكم من هذه الدول الظالمة «فرنسا وهولاندا والبرتغال» فإنها تريد التسلط على ممالكهم، أما نحن «الإنكليز» فلا نريد إلا تحريركم واستقلالكم.
يوجد في الدول الأوروبية من يهاب دولة الإنكليز اعتبارًا لِما في سلطتها من الممالك الواسعة والأمم العظيمة مما لم يبلغ عده رعية دولة من الدول، ويقيس شأنها وقوتها في تلك الأطراف القاصية بما يراه في جزائر بريطانيا، ويظن أن لها قدرة على الدفاع عن تلك الممالك تساوي قدرتها عليه في بريطانيا أو تقترب منها، ولم يلتفت إلى أن جسم الإنكليز قد مُد في الطول والعرض إلى حد لو حصلت فيه أدنى هزة لتقطعت أوصاله (رق حتى انقطع). تفرقت قواهم في بسيط الأرض حتى لم تبقَ لهم في موضع قوة، ورعاياهم في كل صقع في ضجر لا مزيد عليه، يترقبون في كلِّ آن زحفًا من خارج يعينهم على ما يقصدون من النكاية بحكامهم الظالمين.
لو التفتت تلك الدولة التي تهاب إنكلترا إلى حقيقة الأمر لمَا احتاجت في معارضتها ومنازلتها إلى تدبُّر ومشورة، فقد وصل الأمر من الظهور إلى حد لا يحتاج إلى دقة الفكر لولا حجاب الوهم، قاتل الله الوهم!
(١٥) التنبيه إلى مقاصد الإنكليز
ظهرت مقاصد الإنكليز وانكشفت مضمراتهم، وإن كان بعض الغفل في تلك البلاد المنكودة الحظ (لا نريد نوبار باشا فإنه ضارب في طريقه ذاهب في مقاصده) يتزلف للإنكليز بكل ما يمكنه لينال بهم ما أشرنا إليه مرارًا. تسول لهم أنفسهم، إما جهلًا وإما طمعًا، أن يميلوا مع ريح الحكومة الإنكليزية؛ لأنهم يظنون أنها لا تقصد بالبلاد المصرية إلا خيرًا فإذا فاض الخير في البلاد وشملت الراحة جميع أنحائها انجلت العساكر الإنكليزية عنها كما جاءت إليها ورجعت إلى بلادهم.
أجابه حضرة الشيخ بما يفيد نفرة القلوب من بقاء الإنكليز في معاهد مصر، فاستدرك اللورد ما فرط منه بقوله إنا لا نريد البقاء، ولكن كان استدراكه مناقضًا لِما دل عليه أول سؤاله، وما الإنكار إلا خديعة لا تخفى على الصبيان فضلًا عن الراشدين. يريد اللورد بهذه المحاولات أن يستكنه مضمرات القلوب ليتبين له ضروب السير إلى ما يقصد من التسلط على أرض مصر حتى إذا سُد في وجهه باب حاول قرع باب آخر.
أمَا آن لهؤلاء المخدوعين أن يرجعوا لأنفسهم ويمدوا نظر الانتقاد لحركات هذا اللورد. أي إصلاح يقصده اللورد من طرد العساكر المصرية وإلغاء كل ما يُسمى جندًا مصريًّا ومحو هذا الاسم من دفاتر الحكومة المصرية؟! إن اللورد يلح بكل اهتمام على استبدال الجند المصري بأعوان الشرطة والخفر المسمى بالضابطة. ما هذا الاهتمام إن لم يكن من قصده تمهيد الطرق للتسلط التام على مصر؟ هذا سبيل سلكه الإنكليز في جميع فتوحاتهم كما نبهنا عليه مرارًا، وإن هذا الكيِّس الداهية الإنكليزي لا يحيد عنه بعد ما سلكه أسلافه قبله وقفاهم عليه عند ما كان حكمدار الهند وجنوا ثماره، يجتهد بما في وسعه لطرد العساكر المصرية وإبدالهم بالضابطة، ليقترح بعد أيام تبديل رجال الضابطة المصريين بأقوام من الجيوش الإنكليزية البريطانية أو الهندية، تعللًا بأخلاق المصريين وعدم أهليتهم للخدمة النظامية وعجزهم عن القيام بوظائف الضبط وصيانة الراحة، وبذلك يجرِّد الحكومة من جميع قواها وتكون السلطة الإنكليزية سائدة في جميع الجهات بلا معارض لها من طرف الحكومة المحلية.
(١٦) احتجاب العروة الوثقى
احتجبت جريدة العروة الوثقى بعد صدور العدد الثامن عشر في ١٦ أكتوبر سنة ١٨٨٤/ ٢٦ ذي الحجة لسنة ١٣٠١ فكان هذا العدد آخر ما صدر فيها، وكان أول عدد قد ظهر في ١٣ مارس سنة ١٨٨٤، فكأنها استمرت في الظهور سبعة أشهر.
ويبدو أن تهاون الشرقيين في الإقبال عليها وإمدادها بالعون والتأييد كان السبب الأول لاحتجابها، وكان لمحاربة الإنكليز أثر كبير في احتجابها، فقد منعت دخولها إلى مصر والهند كما سلف القول؛ فالأمم الشرقية والسياسة البريطانية يتحملان معًا تبعة وقف هذه الصحيفة التي كانت أقوى صرخة أيقظت النائمين ونبهت الغافلين، ومع قِصر المدة التي عاشتها، فإنها عملت في بعث الشرق أكثر مما عملت صحف أخرى في عدة سنين، ولقد ظل أثرها بعد احتجابها باقيًا مدويًا في الأذهان كلما توالت الأيام والأعوام، ولا ريب أن للحكيم الأفغاني والأستاذ الإمام الفضل الأكبر فيما بلغته هذه الصحيفة من المكانة الرفيعة والأثر الخالد في نفوس الشرقيين جميعًا.
(١٧) انفصل الحكيمان
بعد أن توقفت جريدة العروة الوثقى عن الصدور انفصل الحكيمان، وعاد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده إلى بيروت ثم إلى مصر سنة ١٨٨٩/ ١٣٠٦ﻫ، وانقطع عن الكفاح السياسي وانصرف إلى الإصلاح الديني والاجتماعي. أما جمال الدين فاستمر على الكفاح السياسي إذ أنه يراه الأساس لنهضة الشرق.
(١٨) جمال الدين ورينان
وردَّ جمال الدين على هذه المحاضرة، ونُشر رده في جريدة الديبا، وخلاصة رده: إن ما ذكره رينان عن الإسلام ليس هو من طبيعته ونتيجة تعاليمه، بل من عمل بعض من اعتنقوا الإسلام في بعض العهود، وأن الاضطهاد الذي قال عنه رينان قد وقع مثله في الأديان الأخرى، فرؤساء الكنيسة الكاثوليكية لم يتركوا هذا السلاح حتى الآن، وأما عن قوله أن الإسلام لا يُشجع العلم، فإن الكل يعلم أن الشعب العربي خرج من حال البداوة التي كان عليها قبل الإسلام وأخذ يسير في التقدم العلمي والفكري، ويسير في هذا المجال بسرعة لا تعادلها إلا سرعة فتوحاته السياسية، فتقدمت العلوم تقدمًا مدهشًا بين العرب وفي كل البلاد التي انضمت لسيادتهم.
وقد أكبر رينان هذا الرد، والتقى به وتباحث وإياه في الموضوع، وأُعجب رينان بعبقريته وسعة علمه وقوة حُجته، وقال عنه: «كنت أتمثل أمامي عندما كنت أخاطبه ابن سينا أو ابن رشد، أو واحدًا من أساطين الحكمة الشرقيين.» وقال إن جمال الدين الأفغاني خير دليل يمكن أن نسوقه على النظرية التي طالما أعلناها، وهي أن قيمة الأديان بقيمة من يعتنقها من الأجناس.