في فارس وروسيا وتركيا
أخذ جمال الدين ينتقل بين باريس ولندن إلى أوائل فبراير سنة ١٨٨٦/ جمادى الأولى سنة ١٣٠٣.
(١) في فارس
ثم استدعاه ناصر الدين شاه فارس، فلبى الدعوة وقصد إلى طهران، فاستقبله الشاه بصدر رحب، وأثنى على فضله، وجعله مستشاره الخاص في إصلاح شئون بلاده، فكان له نِعمَ المرشد الأمين، وكانت لهجته صريحة كعادته في نصح الشاه، وأشار عليه بتغيير كل شأنٍ معيب من شئون الحكومة، وقال بضرورة اشتراك الأمة في الحكم. على أن الشاه لم تألف نفسه إقامة الشورى في بلاده، فتنكَّر لجمال الدين إذ رآه ميالًا إلى إقامة النظم الدستورية.
ولما أدرك جمال الدين تغيُّر الشاه استأذنه في السفر فأذن له.
(٢) في روسيا
فذهب إلى روسيا وزار عواصمها، فاستقبله الخاصة بالتجلة والاحترام لما سمعوه من مكانته، وكتب عدة مقالات في الصحف الروسية، وكانت لهجته معبرة في إظهار دسائس السياسة الإنكليزية.
وقد دعاه القيصر لمقابلته، واحتفى به كثيرًا. على أن القيصر في خلال حديثه معه سأله عن سبب اختلافه مع الشاه، فذكر له رأيه في الحكومة الشورية وأن الشاه لا يشاطره رأيه فيها وينفر منها، ولم يكن القيصر أيضًا يقبل هذا النوع من الحكم، فقال: «إني أرى الحق في جانب الشاه إذ كيف يرضى ملك من الملوك أن يتحكم فيه فلاحو مملكته؟»
فلم يسكت جمال الدين على كلام القيصر، وأجابه في جرأة وفصاحة: «أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك أن تكون الملايين من رعيته أصدقاءه من أن يكونوا أعداء يترقبون الفرص ويكتمون في الصدور سموم الحقد والانتقام»، فبُهت القيصر من هذا الرد، وعلت وجهه علامة الغضب، وقَطب حاجبيه، ولم يطل الحديث بعد ذلك بل قام من مجلسه إيذانًا بانتهاء المقابلة، وودَّع جمال الدين بغير الشكل الذي استقبله به إذ كان وداعًا فاترًا. ثم أوعز إلى كبار رجال حاشيته أن يسرعوا متلطفين لإخراجه من روسيا.
(٣) في فارس مرة أخرى
ترك جمال الدين روسيا، وأخذ يتجول في أوروبا، ولما كان معرض باريس العام سنة ١٨٨٩ رجع جمال الدين إليها، وفي عودته منها التقى بالشاه في ميونخ عاصمة بافاريا، فاعتذر له عما فرط منه ودعاه إلى صحبته إذ كان يرغب في الانتفاع بعلمه وتجاريبه، فأجاب الدعوة، وسار معه إلى فارس، وأقام في طهران، فحفه علماء فارس وأمراؤها وأعيانها بالرعاية والإجلال.
واستعان به الشاه على إصلاح أحوال المملكة وسن لها القوانين الكفيلة بإصلاح شئونها، فعمل بجد فيما عهد إليه ووضع مشروع دستور لفارس يجعلها ملكية دستورية، ولكنه استهدف لسخط أصحاب النفوذ في الحكومة، وخاصةً الصدر الأعظم، فوشوا به عند الشاه، وأسرَّ إليه الصدر الأعظم أن هذه القوانين وخاصةً الدستور تئُول إلى انتزاع السلطة من يده، فأثرت الوشايات في نفس الشاه، وبدأ يتنكر للسيد، ولما اطلع على مشروع الدستور هاله الأمر حين رأى أن حكمه سيكون مقيدًا وأن المجلس النيابي الذي يفرضه الدستور سيجعل الأمة أوسع سلطانًا من الشاه، فقال لجمال الدين: «أيصح أن أكون يا حضرة السيد وأنا ملك ملوك الفرس (شاهنشاه) كأحد أفراد الفلاحين؟!» فقال جمال الدين: «اعلم يا حضرة الشاه أن تاجك وعظمة سلطانك وقوائم عرشك ستكون بالحكم الدستوري أعظم وأنفذ وأثبت مما هي الآن، واسمح لإخلاصي أن أؤديه صريحًا قبل فوات وقته. لا شك يا عظمة الشاه أنك رأيت وقرأت عن أمة استطاعت أن تعيش بدون أن يكون على رأسها ملك، ولكن هل رأيت ملكًا عاش بدون أمة ورعية؟»
جاء هذا الحديث مصدقًا لِما وشى به الصدر الأعظم لدى الشاه فنفر من جمال الدين نفورًا شديدًا، وأحس بهذا التغيير في موقف الشاه حياله، فاستأذن في المسير إلى المقام المعروف «بشاه عبد العظيم» على بُعد عشرين كيلومترًا من طهران، فأذن له، فوافاه به جم غفير من العلماء والوجهاء من أنصاره في دعوة الإصلاح، فازدادت مكانته في البلاد، وتخوف الشاه عاقبة ذلك على سلطانه، فاعتزم الإساءة إليه، ووجَّه إلى «شاه عبد العظيم» خمسمائة فارس قبضوا عليه، وكان مريضًا، فانتزعوه من فراشه، واعتقلوه، وساقه خمسون منهم إلى حدود المملكة العثمانية، فنزل بالبصرة، فعظُم ذلك على مريديه، واشتدت ثورة السخط على الشاه.
(٤) دعوة جمال الدين ضد الشاه
أقام السيد بالبصرة زمنًا حتى أبل من مرضه، ثم أرسل كتابًا إلى كبير المجتهدين في فارس ميرزا محمد حسن الشيرازي، عدَّد فيه مساوئ الشاه، وخص بالذكر تخويله إحدى الشركات الإنكليزية حق احتكار التنباك في بلاد فارس وما يفضي إليه من استئثار الأجانب بأهم حاصلات البلاد، وكان هذا النداء من أعظم الأسباب التي جعلت كبير المجتهدين يفتي بحرمة استعمال التنباك إلى أن يبطل الامتياز، فاتبعت الأمة هذه الفتوى وأمسكت عن تدخينه، واضطر الشاه خوف انتقاض الأمة إلى إلغائه ودفع للشركة الإنكليزية تعويضًا، فخلصت فارس وقتئذٍ من التدخل الأجنبي.
(٥) شخوصه إلى أوروبا
مكث جمال الدين بالبصرة ريثما عادت إليه صحته، ثم شخص إلى لندن، فتلقَّاه الإنكليز بالإكرام ودعوه إلى مجتمعاتهم السياسية والعلمية، وحمل على الشاه وسياسته حملات صادقة في مجلة سمَّاها «ضياء الخافقين»، ودعا الأمة الفارسية إلى خلعه، وقويت دعوة الحرية في إيران، واشتد السخط على الشاه ناصر الدين إلى أن قُتل سنة ١٨٩٦ بيد فارسي أهوج، وقيل إن للسيد دخلًا في التحريض على قتله، وتولى بعده مظفر الدين، واستمرت دعوة الحرية التي غرسها جمال الدين في إيران تنمو وتترعرع حتى آلت إلى إعلان الدستور الفارسي سنة ١٩٠٦.
(٦) ذهابه إلى الآستانة وإقامته بها
وكانت هذه هي المرة الثانية لوروده هذه المدينة، والمرة الأولى كانت في عهد السلطان عبد العزيز كما تقدَّم بيانه.
وقد يبدو غريبًا أن السلطان عبد الحميد الذي كان نصيرًا للاستبداد وخصمًا للحرية، يدعو إلى جواره أكبر زعيم للحرية في الشرق، وأغلب الظن أنه أراد أن يخدم سياسته في الجامعة الإسلامية باستضافته فيلسوف الإسلام، لكي يُظهر للعالم الإسلامي أنه يرعى العلم والعلماء من الأمم الإسلامية كافة، ومن ناحية أخرى فإن تركيا كانت هدفًا للمطامع الاستعمارية وكانت تحاربها، فبديهي أن رائد التحرر من الاستعمار يرحب بزيارة الآستانة لعله يتخذ منها قاعدة لمحاربة الاستعمار، ولو أن تركيا قرنت هذه الدعوة بإقامة دعائم الشورى في بلادها وإصلاح ما فسد من شئون الحكم واعترفت للعرب بحقوقهم ووقفت حيالهم موقفًا كريمًا، لتغيَّر مركزها ولصارت أكثر صمودًا للحملات الاستعمارية الأوروبية.
وقد لبى جمال الدين دعوة السلطان، آملًا أن يرشده إلى إصلاح الدولة العثمانية؛ لأن مقصده السياسي هو إنهاض دولة إسلامية أيًّا كانت إلى مصاف الدول العزيزة القوية، فسار إلى الآستانة لتحقيق هذا المقصد، وحفه عبد الحميد بالرعاية والإكرام، وأنزله منزلًا كريمًا في قصر بحي «نشان طاش»، من أفخم أحياء الآستانة، وأجرى عليه راتبًا وافرًا، قيل إنه خمس وسبعون ليرة عثمانية في الشهر.
ومضت مدة وجمال الدين له عند السلطان منزلة عالية، ثم ما لبث أن تنكَّر له وأساء به الظن؛ إذ كان من أخص صفات عبد الحميد إساءة الظن بالناس كافة، وخاصةً بمن يتصلون به، والاستماع إلى الوشايات والدسائس، وكان الشيخ أبو الهدى الصيادي الذي نال الحظوة الكبرى عند مولاه يكره أن يظفر أحد بثقته، فوشى بالسيد عند السلطان وأوغر عليه صدره، فأحيط السيد بالجواسيس يحصون عليه غدواته وروحاته، ويرقبون حركاته وسكناته.
وقيل إن من أسباب استماع عبد الحميد لوشايات الواشين أن السيد جمال الدين التقى مرة بالخديو عباس حلمي الثاني خديو مصر؛ إذ كان يرغب عباس في مقابلته لِما كان يسمعه وهو على الأريكة الخديوية عن فضل الفيلسوف الأفغاني، فلما طلب مقابلته كان جوابه: إنه لا بدَّ لذلك من إذن السلطان، فاستأذن غير مرة بواسطة بعض رجال المابين، فكانوا يُرجئون ويُسوفون في الجواب، وبينما كان جمال الدين جالسًا في المتنزه المعروف «بالكاغدخانة» بالآستانة في أصيل أحد الأيام جاء الخديو عباس حلمي وحيَّاه وجلس وإياه يتحدث إليه، فطار الجواسيس إلى السلطان بالخبر، فأرسل يستدعيه إليه ولما لقيه قال: أتريد أن تجعلها عباسية؟ يشير إلى الخلافة، فقال جمال الدين: «إن بني العباس قد انقرضوا، وبنو علي أولى.» ولم يكن يعتقد أن السلطان يقصد عباس حلمي في حديثه.
فبمثل هذه الأوهام كان الجواسيس يوسوسون للسلطان ويوغرون صدره على جمال الدين.
وذكر أن الذي أدى إلى وحشة السلطان منه استمراره في مجالسه على القدح في شاه العجم ناصر الدين، مما حمل سفير إيران على الشكوى منه إلى السلطان، فاستدعاه وطلب إليه الكف عن مهاجمة الشاه فقبِل، وكان في يده حين قابل السلطان سبحة، فجمعها في كفه وقال بصوت جهوري: «امتثالًا لإشارة أمير المؤمنين، فإني من الآن قد عفوت عن الشاه ناصر الدين.» فدهش عبد الحميد من هذا الجواب وقال له: «بحق يخاف منك الشاه خوفًا عظيمًا.»
وخرج جمال الدين من حضرة السلطان إلى حجرة رئيس الأمناء، فقال له بلطف: «يا حضرة السيد إن إجلال السلطان لحضرتك لم يسبق له مثيل، واليوم رأيناك تخاطبه بلهجة غريبة وأنت تلعب بالسبحة في حضرته.»
فقال جمال الدين: «سبحان الله، إن جلالة السلطان يلعب بمقدرات الملايين من الأمة وليس من يعترض منهم، أفلا يكون لجمال الدين حق في أن يلعب بسبحته كيف يشاء؟» فترك رئيس الأمناء حجرته مهرولًا خائفًا من كلام جمال الدين.
وكان يخاطب السلطان بشجاعة لا يستطيع غيره أن يقلده فيها، ولم يدخر وسعًا في تحذيره من الخونة من رجاله حتى قال له يومًا: «يا جلالة السلطان، مللت من تعاطينا الشكاية، ومن غيرك صاحب الأمر؟! خذ بحزم جدك محمود وأقصِ الخائنين من خاصتك الذين يبعدون عن بلاطك حقائق تخريب الوزراء هنا والعمال في الولايات. خفف الحجاب عنك، وأظهر للملأ ظهورًا يقطع من الخائنين الظهور، وأعتقد أن نعم الحارس الأجل.»
وعند ذلك تنفس السلطان الصعداء وقال: «ذكَّرتني بعهد جدي محمود، وما أبعد الفرق بين محيطي ومحيطه، من حالة أوروبا في زمانه وحالتها اليوم، بين رعيته والرعية اليوم.»
ولكن حدث أن قُتِل الشاه سنة ١٨٩٦، فاشتدت الريبة في جمال الدين واتجهت إليه شبهة التحريض على قتله، فأمر السلطان بتشديد الرقابة عليه ومنع أي أحد من الاختلاط به إلا بإرادة سلطانية، فأصبح السيد محبوسًا في قصره.
(٧) مرضه ووفاته
تواترت الروايات بأن جمال الدين مات شِبْه مقتول، وتدل الملابسات والقرائن على ترجيح هذه الرواية، فإن اتهامه بالتحريض على قتل الشاه، وتغيُّر السلطان عبد الحميد عليه، وحبسه في قصره، ووشايات «أبي الهدى الصيادي»، مما يقرِّب إلى الذهن فكرة التخلص منه بأية وسيلة، هذا إلى أن الغدر والاغتيال كانا من الأمور المألوفة في الآستانة.
وذكر الأمير شكيب أن المستشرق المعروف الكونت «لاون استروروج» حدَّثه أن المترجَم كان صديقه، فدعاه إليه بعد إجراء العملية الجراحية، وقال له إن السلطان أبى أن يتولى العملية إلا جرَّاحه الخاص، وإنه هو رأى حال المريض ازدادت شدة بعد العملية ورجا منه أن يرسل إليه جرَّاحًا فرنسويًّا مستقل الفكر طاهر الذمة، لينظر في عقب العملية، فأرسل إليه الدكتور «لاردي» فوجد أن العملية لم تُجرَ على وجهها الصحيح ولم تعقبها التطهيرات اللازمة، وأن المريض قد أشفى بسبب ذلك، وعاد إلى استروروج وأنبأه بهذا الأمر المحزن، ولم تمضِ أيام حتى فارق جمال الدين الحياة.
وذكر واحد ممن كانوا في خدمة عبد الحميد، بعد أن روى له الأمير شكيب هذه القصة، أن قمبور زاده إسكندر باشا كان أطهر وأشرف من أن يرتكب مثل تلك الجريمة، وحقيقة الواقعة أنه كان بالآستانة طبيب أسنان عراقي اسمه «جارح»، يتردد كثيرًا على جمال الدين ويعالج أسنانه، وكانت نظارة الضابطة (إدارة الأمن العام) قد استمالت «جارح» هذا بالمال وجعلته جاسوسًا على السيد، وصار له عدوًّا في ثياب صديق، وقال صاحب هذه الرواية إنه أراد مرة أن يمنع الطبيب المذكور من الاختلاط بجمال الدين، فأشار إليه ناظر الضابطة إشارة خفية بأن يتركه، وفهم من الإشارة أنه يذهب إلى السيد ويعالج أسنانه بعلم من النظارة، والسيد لا يعلم بشيء من ذلك ويطمئن إلى «جارح» ويثق به، ولم تمضِ عدة أشهر على حادثة الشاه حتى ظهر السرطان في فك السيد من الداخل، وأُجريت له عملية جراحية فلم تنجح، وجارح هذا ملازم للمريض، وبعد موته كانوا يرونه دائمًا حزينًا كئيبًا يبدو على وجهه الوجوم والخزي، مما جعلهم يشتبهون أن يكون له يد في إفساد الجرح بعد العملية أو في توليد المرض نفسه من قبل بوسيلة من الوسائل، ولما مات السيد بدا الندم على الطبيب الأثيم وشعر بوخز الضمير يؤنبه على خيانته هذا الرجل العظيم.
وكانت وفاته صبيحة الثلاثاء ٩ مارس سنة ١٨٩٧، وما أن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقيًا عنده، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش، فدُفن كما يُدفن أقل الناس شأنًا في تركيا، وظل قبره هناك إلى أن نُقل رفاته إلى أفغانستان سنة ١٩٤٤.