صفاته وأخلاقه وشخصيته
(١) صفاته وأخلاقه
وصفه تلميذه الأكبر الأستاذ الشيخ محمد عبده بقوله: «إنه يمثِّل لناظره عربيًّا محضًا من أهالي الحرمين، فكأنما قد حُفظت له صورة آبائه الأولين من سكنة الحجاز، ربعة في طوله، وسط في بنيته، قمحي في لونه، عصبي دموي في مزاجه، عظيم الرأس في اعتدال، عريض الجبهة في تناسب، واسع العينين، عظيم الأحداق، ضخم الوجنات، رحب الصدر، جليل في النظر، هش بش عند اللقاء، قد وفاه الله من كمال خَلقه ما ينطبق على كمال خُلقه. أما أخلاقه فسلامة القلب سائدة في صفاته، وله حِلم عظيم يسع ما شاء الله أن يسع، إلى أن يدنو منه أحد ليمس شرفه أو دينه فينقلب الحلم إلى غضب، تنقض منه الشهب، فبينما هو حليم أواب، إذا هو أسد وثاب، وهو كريم يبذل ما بيده، قوي الاعتماد على الله، لا يبالي ما تأتي به صروف الدهر، عظيم الأمانة، سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنه، طَموح إلى مقصده السياسي، إذا لاحت له بارقة منه تعجَّل السير للوصول إليه، وكثيرًا ما كان التعجل علة الحرمان، وهو قليل الحرص على الدنيا، بعيد عن الغرور بزخارفها، ولو بعظائم الأمور، عزوف عن صغارها، شجاع، مقدام، لا يهاب الموت كأنه لا يعرفه، إلا أنه حديد المزاج، وكثيرًا ما هدمت الحدة ما رفعته الفطنة. إلا أنه صار اليوم في رسوخ الأطواد، وثبات الأفناد، فخور بنسبه إلى سيد المرسلين ﷺ، لا يعد لنفسه مزية أرفع ولا عزًّا أمنع من كونه سلالة ذلك البيت الطاهر، وبالجملة ففضله كعلمه، والكمال لله وحده.»
وقال أيضًا: «بقي علينا أن نذكر وصفًا لو سكتنا عنه سُئلنا عن إغفاله، وهو أنه كان في مصر يتوسع في إتيان بعض المباحات، كالجلوس في المتنزهات العامة والأماكن المعدَّة لراحة المسافرين وتفرُّج المحزونين لكن مع غاية الحشمة وكمال الوقار، وكان مجلسه في تلك المواضع لا يخلو من الفوائد العلمية، فكان بعيدًا عن اللغو، منزهًا عن اللهو، وكان يواتيه فيها كثير من الأمراء وأرباب المقامات العالية وأهل العلم، وهذا الوصف ربما عده عليه بعض حاسديه، لكن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يجب أن تؤتى عزائمه، وأي غضاضة على المرء المؤمن في أن يُخرج بعض همه بما أباح الله له. هذا مجمل من أحوال السيد جمال الدين الأفغاني أتينا به دفعًا لِما افتراه عليه الجاهلون، ولو سلكنا في تاريخه مسلك التفصيل لأدى بنا إلى التطويل.»
وذكر عنه الأمير شكيب أرسلان أنه كان يُعظم نفسه عن الشهوات، ولا يرى من اللذات إلا اللذة العقلية العالية، وأن السلطان عبد الحميد حاول أن يعلِّق قلبه بالمال والبنين ويشغله بزينة الدنيا، وراوده على الزواج، فأبى وأعرض، وكان ينظر إلى المال نظره إلى التراب فلا يدخره ولا يتناول منه إلا ما هو ضروري للحياة، وحاول السلطان أن يعطيه رتبة علمية كرتبة قاضي عسكر مثلًا، فأبى أن يقبل الرتبة وأن يلبس كسوتها المزركشة بالقصب، وكذلك رفض قبول أي وسام مهما كان عاليًا.
وقال عنه «أديب إسحاق» وكان من تلاميذه: «عرفت صاحب الترجمة بمصر وكنت من مريديه ومحبيه طول مدة الإقامة بالمحروسة «القاهرة» والإسكندرية. إنه أسمر اللون، ربعة ممتلئ، قوي البنية، جذاب النظر، نافذ اللحظ، خفيف العارضَين، مسترسل الشعر، بجبة وسراويل سوداء تنطبق على الكاحلين، وعمامة صغيرة بيضاء على زي علماء الآستانة، عزب، عفيف النفس، قانت، كثير القيام، لا ينام إلا الغلس إلى الضحى، ولا يأكل غير مرة واحدة في اليوم، على أنه يُكثر من شرب الشاي والتدخين، قوي العارضة، طويل الحجة، واسع المحفوظ، نبيه يكاد يكشف حُجب الضمائر، ويهتك أستار الستائر، ولكنه على فضله لا يسلم من حدة المزاج.»
(٢) علو نفسه
ويلوح لنا أن أبرز صفة في جمال الدين علو النفس، ولعلها الصفة الجامعة التي تصدر عنها صفاته الأخرى وأخلاقه، وقد احتفظ بها في أشد الأوقات حرجًا، ولازمته عند اشتداد المحن وتعاظم الخطوب، مما دل على أنها غريزة طُبعت عليها نفسه العالية، وحسبُك دليلًا على ذلك ما كان من موقفه حين نُفي من مصر في أوائل عهد الخديو توفيق، فقد أُنزل إلى البحر في السويس خالي الجيب، فجاءه قنصل إيران في ذلك الثغر، وكان معه جماعة من الماسونية ومعه نفر من تجار العجم، وقدَّموا إليه مقدارًا من المال على سبيل الهدية أو القرض الحسن، فأبى أن يأخذ منه شيئًا وقال لهم: «احفظوا المال فأنتم إليه أحوج، إن الليث لا يعدم فريسته حيثما ذهب.»
وهذه الكلمة وحدها تصور لنا شخصية جمال الدين وعظمته النفسية، وتصلح أن تكون عنوانًا لتاريخه المجيد.
(٣) عقيدته
قال الأستاذ الإمام عن مذهبه وعقيدته: «أما مذهب الرجل فحنيفي حنفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلدًا، لكنه لم يفارق السُّنة الصحيحة مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعُرِف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته بها، ولا يأتي من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه، فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه، أما حميته الدينية فهي مما لا يساويه فيها أحد، يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله.»
(٤) الرد على الدهريين
تدل رسالته في «الرد على الدهريين» على أنه مؤمن صادق الإيمان، يدعم العقيدة الإسلامية على أُسس المنطق والحكمة العقلية، فهو فيلسوف من فلاسفة الإسلام الأعلام.
وأهم ما في الرسالة إثبات قيمة الدين وضرورته للإنسان وأثره في رقيه وتقدُّمه، وأثر الإلحاد في انحطاطه.
وهي تفنيد لمذهب الدهريين وبيان مفاسدهم، وإثبات أن الدين أساس المدنية وأن الكفر فساد للعمران.
وخلاصة رأي السيد أن الدين أكسب عقول البشر ثلاث عقائد، وأودع في نفوسهم ثلاث خصال، كلٌّ منها ركن لوجود الأمم، وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية، وأساس محكم لمدينتها، وفي كل منها حافز يحث الشعوب على التقدم لغايات الكمال والرقي إلى ذرى السعادة، ومن كل واحدة وازع قوي يباعد النفوس عن الشر ويزعها عن مقارفة الفساد.
العقيدة الأولى: التصديق بأن الإنسان مَلَك أرضي، وأنه أشرف المخلوقات، والثانية: يقين كل ذي دين أن أمته أشرف الأمم، وكل مخالف له فعلى ضلال وباطل، والثالثة: يقينه بأن الإنسان إنما ورد هذه الدنيا لتحصيل كمال يهيئه للعروج إلى عالم أرفع وأوسع من هذا العالم الدنيوي، والانتقال من دار ضيقة الساحات كثيرة المكروهات، جديرة بأن تُسمى بيت الأحزان وقرار الآلام، إلى دار فسيحة الساحات، خالية من المؤلمات، لا تنقضي سعادتها، ولا تنتهي مدتها، وبيَّن أثر هذه العقائد في وعي الإنسان.
أما الخصال الثلاث فهي: الحياء، والأمانة، والصدق.
وأوضح جمال الدين أن هذه الأسس التي أتت بها الأديان هي علة العمران، وعليها تتوقف سعادة الإنسان، وأن الماديين أو الدهريين أو النيتشريين تؤدي تعاليمهم إلى إنكار هذه الأسس، فتُنزل الإنسان منزلة الحيوان، وتُفقده الباعث على الخير، وتُعده لحياة جامدة ضيقة لا قلب لها ولا سمو فيها، وفي هذا انتكاس لخُلقه، وهدم لكيانه، وحرمان مما أعده الله له.
وقال عن تأثير الإيمان بالله: لم يبقَ للشهوة قامع، ولا للأهواء رادع، إلا الأمر الرابع؛ أعني الإيمان بأن للعالم صانعًا عالِمًا بمضمرات القلوب ومطويات الأنفس، سامي القدرة، واسع الحول والقوة، مع الاعتقاد بأنه قد قدَّر للخير والشر جزاءً يوفاه مستحق في حياة بعد هذه الحياة، وفي الحق أن هاتين العقيدتين وازعان قويان يكبحان النفس عن الشهوات ويمنعانها عن العدوان ظاهره وخفيه، وحاسمان صارمان يمحوان أثر الغدر ويستأصلان مادة التدليس، وهما أفضل وسيلة لإحقاق الحق والتدقيق عند الحد، وهما مجلبة الأمن ومتنسم الراحة، وبدون هذين الاعتقادين لا تقرر هيئة للاجتماع الإنساني، ولا تلبس المدنية سربال الحياة، ولا يستقيم نظام المعاملات، ولا تصفو صلات البشر من شائبات الغل وكدورات الغش، فلو خويت القلوب من هاتين العقيدتين لسكنتها شياطين الرذائل، وسدَّت عليها طرق الفضائل، ومن أين لمنكر الجزاء أن يكف نفسه عن خيانة، أو يترفع بها عن كذب، وغدر، وتملق، ونفاق، وقد تقرر أن العلة الغائبة لأعمال الإنسان إنما هي نفسه وكما سبق، فإن لم يؤمن بثواب وعقاب وحساب وعتاب في يوم بعد يومه، فما الذي يمنعه عن ذمائم الفعال، خصوصًا إذا تمكَّن من إخفاء عمله وأمن من سوء عاقبته في الدنيا أو رأى منفعته الحاضرة في ركوب طريق الرذيلة والعدول عن سنن الفضيلة، وأي حامل يحمله على المعاونة والمرادفة والمرحمة والمروءة وعلو الهمة وما يشبه ذلك من الأخلاق التي لا غنى للهيئة الاجتماعية عنها، ولئن وُجد في أحد الجاحدين شيء من مكارم الأخلاق بمقتضى الغريزة لكان عرضة للفساد أو كان أبتر ناقصًا لفقد ما عده من سائر صفات الكمال.
- أولها: صقل العقول بصقال التوحيد، وتطهرها من لوث الأوهام، فمن أهم أصوله الاعتقاد بأن الله منفرد بتصريف الأكوان يتوحد في خلق الأفعال، وأن من الواجب طرح كل ظن في إنسان أو جماد، علويًّا كان أو سفليًّا، يكون له في الكون أثر من نفع أو ضر، أو إعطاء أو منع، أو إعزاز أو إذلال … أو نحو ذلك من خرافات، كل واحدة منها كافية في إعماء العقول وطمس أنوارها.
- وثانيها: أن الإسلام فتح أبواب الشرف للأنفس كلها، وأثبت لكل نفس الحق في السمو، ومحق امتياز الأجناس وتفاضل الأصناف، وقوَّم الناس بالكمال العقلي والنفسي، فالناس إنما يتفاضلون بالعقل والفضيلة لا بأي شيء آخر، وقد لا نجد من الأديان الأخرى ما يجمع أطراف هذه القاعدة.
- وثالثها: أن الإسلام يكاد يكون منفردًا بين الأديان بتقريع المعتقدين بلا دليل، وتوبيخ المتبعين للظنون، فهو كلما خاطب خاطب العقل، وكلما احتكم احتكم إلى العقل، تنطق نصوصه بأن السعادة من نتائج العقل والبصيرة، وأن الشقاء والضلالة من لواحق الغفلة وإهمال العقل وانطفاء نور البصيرة.
- ورابعها: أن الإسلام أوجب تعليم سائر الأمة وتنوير عقولها بالمعارف والعلوم، وفرض نصب المعلم ليؤدي عمل التعليم، وإقامة المؤدب الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وقال: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
وعلى هذه الأركان الأربعة بُني الإسلام، وكل ركن منها له الأثر البالغ في تقويم المدنية وتشييد بناء النظام وتدعيم السعادة الإنسانية، وقد دارت حالة المسلمين رقيًّا وانحطاطًا على حسب تمسُّكهم بهذه العناصر وتخلِّيهم عنها.
(٥) علمه
قال الأستاذ الإمام عن علمه: «أما منزلته من العلم وغزارة المعارف فليس يحدها قلمي إلا بنوع من الإشارة إليها؛ لهذا الرجل سلطة على دقائق المعاني وتحديدها وإبرازها في صورها اللائقة بها، كأن كل معنى قد خُلِق له، وله قوة في حل ما يعضل منها كأنه سلطان شديد البطش، فنظرة منه تفكك عُقدها. كل موضوع يُلقى إليه، يدخل للبحث فيه كأنه صُنع يديه، فيأتي على أطرافه، ويحيط بجميع أكنافه، ويكشف ستر الغموض عنه، فيُظهر المستور منه، وإذا تكلم في الفنون حكم فيها حكم الواضعين لها، ثم له في باب الشعريات قدرة على الاختراع، كأن ذهنه عالم الصنع والإبداع، وله لمس في الجدل، وحذق في صناعة الحجة، لا يلحقه فيها أحد إلا أن يكون في الناس من لا نعرفه، وكفاك شاهدًا على ذلك أنه ما خاصم أحدًا إلا خصمه، ولا جادله عالِم إلا ألزمه، وقد اعترف له الأوروبيون بذلك بعدما أقر له الشرقيون، وبالجملة فإني لو قلت إن ما آتاه الله من قوة الذهن، وسعة العقل، ونفوذ البصيرة، هو أقصى ما قُدر لغير الأنبياء، لكنت غير مُبالغ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.»
وقال أديب إسحاق عن ذكائه: «ومن عجائب ذكائه أنه تعلَّم اللغة الفرنسية أو بعضها حتى صار يقدر على الترجمة منها، ويحفظ من مفرداتها شيئًا كثيرًا، في أقل من ثلاثة شهور بلا أستاذ إلا من علَّمه حروف هجائها في يومين، وكان يتتبع حركة المعارف الأوروبية والمكتشفات العصرية، ويلم بما وضع أهل العلم وما اخترعوه جديدًا حتى كأنه قرأ العلم في بعض مدارس أوروبا العالية.»
وكان يعرف من اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنسية جيدًا، واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية، وخاصةً الفلسفة، كثير المطالعة، لم يفُته كتاب أُلِّف في تاريخ الأمم وآدابها وفلسفتها إلا طالعه.
(٦) مجلسه
كان حين إقامته بمصر يُلقي الدروس في داره، فكانت محط رحال العلماء والأدباء وأذكياء الطلبة، يقضي النهار في بيته، فإذا جنَّ الليل خرج يتوكأ على عصاه إلى قهوة اعتاد أن يجلس فيها أمام حديقة الأزبكية «قهوة متاتيا»، ويأخذ مكانه في الصدر، وحوله تلاميذه ومريدوه، وفيهم الشاعر، والأديب، والعالِم اللغوي، والطبيب، والجغرافي، والتاريخي، والمهندس، وغيرهم من صفوة أهل الفكر والعلم والوجاهة، فيفيض على محدثيه من بحر علمه.
يقول الأستاذ الإمام: «كان السيد جمال الدين يُلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها، ومن خواصه أنه يجذب مخاطبه إلى ما يريده وإن لم يكن من أهله، وكنت أحسده على ذلك لأنني تؤثر فيَّ حالة المجلس والوقت فلا تتوجه نفسي بالكلام إلا إذا رأيت له محلًّا قابلًا واستعدادًا ظاهرًا.»
وقال سليم عنحوري عن محدثيه: «إنهم يتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، وبسط أعوص الأحاجي لديه، فيحل عُقد إشكالها فردًا فردًا، ويفتح أغلاق طلاسمها ورموزها واحدًا واحدًا، بلسان عربي مبين، لا يتلعثم ولا يتردد، يتدفق كالسيل من قريحة لا تعرف الكلال، فيدهش السامعين، ويفحم السائلين، ويبكم المعترضين، ولا يبرح هذا شأنه حتى يشتعل رأس الليل شيبًا، فيقفل إلى داره، بعد أن ينقد صاحب المقهى كلما يترتب له في ذمة الداخلين في عداد ذلك المجمع الأنيق.»
(٧) اتساع أفقه السياسي والاجتماعي
كان واسع العلم في المسائل السياسية والاجتماعية، يتحدث عنها فيبدي الرأي السديد الدال على الحكمة العالية، والمواهب الخلاقة، والتفكير العميق، والتجارب البعيدة الغور.
(٨) تأثير الفتح العربي في الأمم
قال عن تأثير الفتح العربي في الأمم وسبب انتشار اللغة العربية فيها: «بيان تأثير الوفود على قوم بأحسن مما ألفوه، وأنه أفعل الوسائل بعد القهر، لحكمهم، ولترك الأثر بينهم، يكفي النظر في ظهور الإسلام وفتوحاته، حربًا كان أم صلحًا، وانتشاره في أقل من عصر في أعظم المعمور من الأرض، فقد عمَّ جزيرة العرب؛ فالشام، فمصر؛ فالعراقين؛ فالهند، فأقصى الشرق، حتى «الآستانة»، وها هو قبر خالد أبي أيوب الأنصاري فيها، و«جامع العرب» في «محلة غلطة» من أكبر الشواهد.»
«نعم إن زحف العرب ووفودهم على البلاد إنما كان لتعميم الدعوة الدينية أولًا، وإلا فأداء الجزية للدخول مع القوم في حقيقة المساواة وللقيام في حفظ كيان المجموع، وكان من يقبل الإسلام لا إكراه عليه في قبول العادات وتعلُّم اللسان، كذلك من أدى الجزية فلا إكراه عليه في دينه وباقي مميزاته، بل يبقى على مألوفه ومؤثرات إقليمه وخواصه، ولا خطر على قلب فاتح إسلامي أن يعمم آداب قومه ولسانهم أو أن يتخذ لذلك أقل الوسائل.»
«إن كل من دان بالإسلام، أو رضي بدفع الجزية قد سارع عن طيب خاطر وارتياح عظيم للتعرب، والسبب في ذلك أن وفود العرب حملت معها أخلاقًا فاضلة ظهرت أفضليتها بأجلى المظاهر، مثل الأنفة من الكذب، والوفاء بالعهد، ومطلق العدل، وكمال الحرية والمساواة الحقيقية بين الملك والرعية، وإغاثة الملهوف، والكرم، والشجاعة، وباقي الفضائل من الهيئات المتوسطة بين الخلال الناقصة.»
«وأمر طبيعي ما لهذه الفضائل والصفات من السلطة الأدبية على من يتخلق بها. لأن الإنسان إنما ينفعل بروحه وشعوره، والانتخاب الطبيعي فطري في الحيوان، وأشده ظهورًا ووضوحًا في الإنسان؛ لذلك انعطفت قلوب الأمم على استحسان الوافدين من العرب لبلادهم، سواءً البلاد التي فُتحت عنوة ووضعت فيها الحرب أوزارها، أو صلحًا، وأول مقدمات العادة الاستحسان، ثم المزاولة حتى ترسخ ملَكة.»
«والإعجاب بآداب قوم، باعث على حب التقرب منهم، وأعظم وسائل التقرب التفاهم، فيتبارون في تعلُّم اللسان. هكذا تم للعرب ورسخ لهم في معظم ما فتحوه من الأمصار والبلدان والممالك، آثار أدبية فضلًا عن الآثار العمرانية، من لسان وعادة وأخلاق، لم يمكن استئصالها، بل بقيت برغم أنوف من دال من بعدهم من الدول ومن هيئات الحكومات المختلفة، فمصر بينما هي هرقلية رومانية، و«المقوقس» عامل له فيها، أصبحت في قليل من الزمن إسلامية في الأغلبية، عربية بالصورة المطلقة، في كافة مميزات العرب، وهكذا القول في سورية والعراق وغيرهما، بدون أن يُبذل في سبيل ذلك التغيير أدنى مسعى، أو يُستعمل له أقل الوسائل كما ذكرنا.»
«نعم إن أكبر حامل، وأفعل عامل، على تعريب أولئك الأقوام، هو الفضائل الأخلاقية، والصفات العالية، التي كانت تأتي بها العرب مع بأسهم وشجاعة أبطالهم.»
(٩) كان واجبًا على الترك أن يجعلوا اللغة العربية لغة الدولة الرسمية
جاء جمال الدين بالآستانة أديب تركي، وأطلعه على مذكرات مخطوطة للمؤرخ التركي ضيا باشا يعترف فيها بأن التُّرك لم يخلفوا في البلاد التي فتحوها آثار حضارة وعمران، مثلما ترك العرب من آثار مادية وأدبية لا يقوى الدهر على ملاشاتها، ويقول: إن المسلم والمسيحي واليهودي في مصر والشام والعراق يحافظ كلٌّ منهم قبل كل شيء على نسبته العربية، فيقول أنه «عربي» ثم يذكر ديانته، وأن آثار العرب المادية في الأندلس لا تقل عن آثارهم في باقي الأمصار، وأغرب من ذلك أن التركي والجركسي والأرناءوطي وغيرهم من العناصر غير العربية يستعرب متى وُجد في بلد عربي، ويمتزج بالمجموعة العربية حتى تخال أنه «عربي قُح»، وأما في حكمنا فلم نستطع أن نستترك أدنى فئة ممن حكمناهم من الأمم بكمال العدل الإسلامي والسماح التركي ولين الجانب (كذا).
هذا ملخص ما حوته مذكرات ضيا باشا، وقد سأل الأديب التركي السيد جمال الدين عن رأيه في تعليل هذه الظاهرة، فقال ما خلاصته: إن المرحوم ضيا باشا أشكل عليه الأمر حين اعتقد أن الأتراك شابهوا العرب تمامًا بمعنى أنهم دخلوا في دين الإسلام، ولكن فاته أن لكل دين لسانًا، ولسان الإسلام هو «العربية»، ولكل لسان آداب، ومن هذه الآداب تحصل ملَكة الأخلاق، وعلى حفظها تتكون العصبية؛ فالأتراك أهملوا أمرًا عظيمًا وحكمة نافعة قالها السلطان محمد الفاتح، وأحب أن يعمل بها السلطان «سليم»، وهي جعل اللسان العربي لسان الدولة العثمانية وتعميمه بين من دان بالإسلام من الأعاجم ليفقهوا أحكامه ويمشوا على سنن الارتقاء بعلومه وآدابه، ومكارم أخلاقه، ومحاسن عوائد أهله.
فالعرب ما نجحوا بفتوحاتهم وبشكل الدين الظاهري فقط، بل بفهم أحكامه، والعمل بآدابه، وذلك ما تم ولا يتم إلا باللسان، وهو أهم الأركان.
ولقد قام السلاطين من آل عثمان بفتوحات جليلة، وقرَّبوا إليهم من كان في عصرهم من فحول العلماء من المسلمين، وقد تفرَّدوا إذ ذاك بمعرفة اللسان العربي وبعض علومه، وعرف أولئك الفحول قدر اللسان العربي، وغالوا في التقدير حتى إنهم كانوا «على ما قيل» لا يعطون وظيفة علمية إلا لمن يحفظ قاموس «الفيروز أبادي» العربي، وبقي الترك في فتوحاتهم على هذه الصورة، وفي مجموعهم به بداوة صرفة، لم يتخذوا غير القوة المادية آلة ولم ينقلوا سواها للبلاد. إنهم تديَّنوا بالإسلام على أبسط حالاته وأشكاله، ولكن على بُعد سحيق من فهم معاني القرآن وآداب اللسان العربي، والعرب لو كانوا مثلهم لمَا استطاعوا أن يكونوا أحسن أثرًا منهم، ولمَا كان لهم حضارة ولا مدنية، ولبقوا على بداوتهم، همهم فتح البلاد للاستغلال، وجمع الأموال، للرفاه والترف، أو للبذخ والسرف.
إلى أن قال: أما انتشار اللسان العربي في غير بلاد العرب، فليس للفاتحين أدنى دخل فيه، ولا اتخذوا له أسبابًا ووسائل. بل إن ما وُجد في اللسان العربي من الآداب الباهرة، والحِكم والأمثال والمواعظ، هو الذي أحله من الانتشار هذا المحل. حتى إن العرب قبل الإسلام وهم في تلك الحالة الجاهلية، والبداوة المحضة، وبُعدهم عن كل حضارة، كانوا يحلُّون بآداب لسانهم من أعظم الملوك مثل كسرى أنوشروان محلًّا رفيعًا، ويأخذون الجوائز، ويثرون بتجارتهم مع الأعاجم بآداب لسانهم، وما يجري على ألسنتهم من الحكمة التي تأخذ بمجامع القلوب. هكذا كان الذكاء العربي الفطري المتوقد، يناسبه سلاسة اللسان وأدبه، فكان إذا ظهر بين العرب حكيم طبيب مثل «الحرث بن كلدة» مثلًا، استطاع بآداب اللسان وفرط الذكاء أن يقارع ويضارع أكبر حكيم من الفُرس مع حضارته ومدنيته، وكذلك الشاعر في قبيلته إذا نبغ أجلَّته القبيلة واعتبرته حامي ذمارها بأدبه وشعره، وأغنته بالمال والماشية، وأما في الحضارة الإسلامية وفي دولها، فكثير ممن برع في الأدب فأوصله إلى مرتبة الوزارة فالإمارة.
هذا بعض ما لآداب اللسان من التأثير المادي، وأما التأثير المعنوي فيكفي أنه من أكبر الروابط التي تجمع الشتات، وتنزل من الأمة منزلة أكبر المفاخر، فكم رأينا من دولة اغتصب الغير ملكها، فحافظت على لسانها حكومة، وترقبت الفرص، ونهضت بعد دحر فردت ملكها، وجمعت إليها من ينطق بلسانها، والعامل في ذلك إنما هو اللسان قبل كل ما سواه، ولو فقدوا لسانهم لفقدوا تاريخهم، ونسوا مجدهم، وظلوا في الاستعباد إلى ما شاء الله.
وقال في موضع آخر: «لننظر في فتوحات الدولة العثمانية للممالك الإسلامية، من مصر والشام، فحلب، فبغداد، فتونس، وسائر الممالك العربية، فنراها قد تمكنت من الفتح مع قليل من المقاومة والحروب، وكان لجامعة الدين التأثير العظيم في قبول الحكم العثماني، ولو أن الدولة قبلت من يوم استقلالها، وعملت من عهد السلطان محمد الفاتح أو السلطان سليم، باتخاذ اللسان العربي — وهو لسان الدين — لسانًا رسميًّا وسعت بكل قوتها وجهدها لتعريب الأتراك، لكانت في أمنع قوة، وآمن حصن من الانتقاض والخروج على سلطانهم، ولكنها فعلت العكس؛ إذ فكرت في تتريك العرب، وما أسفهها سياسة وأسقمه من رأي! لأن تديُّن الأتراك بالدين الإسلامي على جهل باللسان العربي جعل في القلوب منزلة ساقت وتسوق الأمة العربية للعطف عليهم مع سائر المسلمين، فما قولك لو تعربت، وانتفى من بين الأمتين النعرة القومية، وزال داعي النفور والانقسام «بالتركي وبالعربي» وصاروا أمة عربية، بكل ما في اللسان من معنى، وفي الدين الإسلامي من عدل، وفي سيرة أفاضل العرب من أخلاق، وفي مكارمهم من عادات. لا ريب لو تيسر ذلك لكان إعادة عصر الرشيد للمسلمين ميسورًا، وجمع شتات الممالك الإسلامية تحت لواء سلطان عادل همام مثل الفاتح، أو السلطان سليمان، أو السلطان سليم غير عسير، ولكن مع الأسف كان عدم قبول فكرة السلطان الفاتح أو السلطان سليم لتعميم اللسان العربي، خطأً بينًا، لا يضارعه إلا توغل العثمانيين في أوروبا وشبه جزيرة البلقان، وجعل القسطنطينية عاصمة السلطنة والخلافة.»
(١٠) ماهية الجزية
قال جمال الدين في تفسيرها: إن أهل الكتاب خيَّرهم الإسلام بين أحد أمرين: إما الاشتراك بأداء الجزية وفيه صلاح الأمر الدنيوي للكافة، والمقصد الأعلى من هذا صون النفوس وعدم سفك الدماء بقليل من مال يؤخذ ينصرف في المنافع والمصالح المشتركة وفي تعزيز قوة المجموع، وكذلك يدخل به مع القوم في ساحة مساواة حقيقية، له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا إكراه عليه في دينه بل يكون مصانًا في شعائره وأصول عباداته وعاداته من كل أذًى.
وإما أن يختار الإسلام فيشارك القوم في العاجل من دنياهم وسلطانهم، وفي كل ما حوته أخراهم من نعيم مقيم، والغرض الأسمى في الحالتين كما ترى هو عدم سفك الدماء ووقاية ذلك البناء الإلهي من الهدم، بل يتجسم فيه طلب الهداية لعبادة إله واحد، وتأسيس العدالة، وتوزيع الحق …
لذلك ترى أن كل مصر أو قُطر دان بالإسلام، أو دخل في حوزته خيَّم فوق ربوعه السلام، ورتع أهله في بحبوحة من العدل المطلق، وساد فيه الأمن والأمان، وحصلت المساواة على أصح وجوهها باعتراف كل منصف غربي مثل سبنسر أو كارلايل وغيرهما ممن قالوا الحق ونطقوا بالصدق، وهذا كله لا يشبه بصورة من الصور حروب أهل المدنية الغربية الحاضرة التي يشب ضرامها لتوسيع نطاق البلاد بالإلحاق أو بالاستعمار، والنتيجة استعباد الأمم تحت تلك الصور.
(١١) إنكاره على من يقول بسد باب الاجتهاد
عُرِف جمال الدين بنفوره من التقليد والجمود، فكان يأخذ بالأحسن من الأقوال ويرد الضعيف منها، ويجتهد في الاستنباط، ويتناول الأقرب للصواب وما يقبله العقل.
ذكروا يومًا في مجلسه قولًا للقاضي عياض في ذلك، واتخذوه حجة واشتد تمسُّكهم بذلك القول … حتى أنزلوه منزلة الوحي، فقال جمال الدين: «يا سبحان الله، إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه، وناسب زمانه، فهل لا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة؟ وهل يجب الجمود والوقوف عند أقوال الناس؟ إنهم هم أنفسهم لم يقفوا عند حد أقوال من تقدَّمهم، لقد أطلقوا لعقولهم سراحها فاستنبطوا، وقالوا، وأدلوا دلوهم في الدلاء في ذلك البحر من العلم، وأتوا بما ناسب زمانهم، وتقارب مع عقول جيلهم، وتتبدل الأحكام بتبدل الزمان.»
ولما قيل له إن ذلك يُعد اجتهادًا، وباب الاجتهاد عند أهل السُّنة مسدود لتعذُّر شروطه.
فتنفس جمال الدين الصعداء وقال: «ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سُد باب الاجتهاد؟ وأي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه في الدين، أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث، أو أن يجدُّ ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما؟ والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه، لا ينافي جوهر النص.
إن الله بعث محمدًا رسولًا بلسان قومه «العربي» ليُفهمهم ما يريد إفهامهم، وليفهموا منه ما يقوله لهم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ، وقال: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وفي مكان آخر: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ؛ فالقرآن ما أُنزل إلا ليُفهم، ولكي يعمل الإنسان بعقله لتدبُّر معانيه وفهم أحكامه والمراد منه، فمن كان عالِمًا باللسان العربي، وعاقلًا، وعارفًا بسيرة السلف، وما كان من طرق الإجماع، وما كان من الأحكام مطبقًا على النص مباشرةً، أو على وجه القياس وصحيح الحديث، جاز له النظر في أحكام القرآن وتمعنها، والتدقيق فيها، واستنباط الأحكام منها، ومن صحيح الحديث والقياس، ولا أرتاب في أنه لو فُسح أجل أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وعاشوا إلى اليوم، لداموا مجدين، مجتهدين، يستنبطون لكل قضية حكمًا من القرآن والحديث، وكلما زاد تعمقهم وتمعنهم ازدادوا فهمًا وتدقيقًا.»
(١٢) الإسلام والاشتراكية
فقال جمال الدين ما خلاصته: إن ما تراه من الاشتراكية في الغرب، وما تتوخاه من المنافع بذلك المذهب، في شكله الحاضر، وأُسسه، وتخبُّط واضعي مبادئه، كل ذلك يعكس نتائج الاشتراكية ويجعلها محض ضرر بعد أن كان المنتظَر منها كل نفع.
«الاشتراكية الغربية» ما أحدثها وأوجدها إلا حاسة الانتقام من جور الحكام، وعوامل الحسد من العمال لأرباب الثراء، الذين إنما أثروا من وراء كدهم وعملهم، وادخروا كنوزهم في الخزائن، واستعملوا ثروتهم في السفه وبذلوها في السرف، والتبذير والترف، على مرأى من منتجها، والفاعل العامل في استخراجها من بطون الأرض، ومن ترابها و… و… إلخ، وبالاختصار ثمرات عمل العامل بكل أنواع حاجة العمران.
«فكل عمل يكون مرتكزًا على الإفراط لا بد أن تكون نتيجته التفريط.»
«أفرط الغربيون «الأغنياء» في نبذ حقوق العمال والفقراء وراء ظهورهم، فأفرط العمال في مناهضة أهل الثروة، وغاصبي حقوق الأمة، بالمناصب ومسببات الجاه، فلا قاعدة دينية يُرجع إليها، ولا سلطان وازع يعمل بقهر لصالح المجموع؛ لذلك أصبح أمرهم في الاشتراكية «فوضى» ولسوف ينعكس أمرها.»
«أما الاشتراكية في الإسلام» فهي ممتزجة بالدين الإسلامي، ملتصقة بخُلق أهله منذ كانوا أهل بداوة وجاهلية.
«فأول من عمل بالاشتراكية بعد التدين بالإسلام هم أكابر الخلفاء من الصحابة، وأعظم المحرضين على العمل بالاشتراكية هم كذلك من أكابر الصحابة أيضًا، وإليك البيان:
«أما أن الاشتراكية من خُلُق البداوة؛ فالبرهان عليه ما كان من أهل الثراء منهم، ومواساتهم لأهل قبيلتهم وعشيرتهم، ولا أعد كثيرًا من ذلك بل أجتزئ بمن اشتهر منهم، مثل حاتم الطائي في السنين المجدبة، وكيف أنه نحر ما لديه «وهو فرسه» لمجرد مجيء امرأة من أقصى قبيلة طيئ إذ قالت له: يا حاتم قيل لنا إن عندك لحمًا ذبيحًا فأتيت بصبيتي.»
«هذا مَثل من الاشتراكية قبل الإسلام، ومنه يُعلم أن الثروة كانت ولا تزال موجودة في الأفراد ولكن حُسن استعمالها وجعل نصيب للآخرين فيما يجعل الاشتراكية أمرًا مقبولًا وصفة ممدوحة؛ إذ لا أنانية ولا أثرة، ولا استطالة على الفقير، بينما موجد ومسبب ومهيئ تلك النعم كلها هو ذلك العامل الفقير الذي يسكن كوخًا صغيرًا.»
«هذا ما عليه اليوم أهل الثروة في الغرب، وهذا ما استنفر طبقة العمال للمطالبة بالاشتراكية، وفي نفيرهم روح الانتقام والإفراط في المطالبة بحقهم، يقابله التفريط في زجرهم وعدم الرضوخ لِما يطلبونه من الحق، ولسوف يتفاقم الخطب، وتعم من جراء ذلك البلوى في الغرب، ولا يسلم منها الشرق.»
«أما الاشتراكية في الإسلام، فهي خير كافل لجعلها نافعة مفيدة، ممكنًا الأخذ بها لأن القرآن أشار إليها بأدلة كثيرة، منها أن المسلم أول ما يقرأ من فاتحة الكتاب: الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فيعلم أن للخلق ربًّا واحدًا وهو مع سائر الخلق من المربوبين على السواء، ويرى، ويعلم أن القرآن أتى على ذكر أرباب القوة ورجال الحرب والغزاة، ومن يتولى إمرتهم وقيادتهم، فخاطبهم آمرًا، ومعلِّمًا، ومدافعًا، ومبيِّنًا حقوق المستضعفين من الأمة الذين لم يتمكنوا من الاشتراك مع من ذُكِر ليكون لهم من ذلك الجهاد وتلك المساعي نصيب؛ إذ قال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهَ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.»
«هذه آية باهرة أوجبت على من يسعى مجاهدًا ومخاطرًا بحياته أن يكون مشتركًا معه في نتيجة غزواته وغنائمه، من لم يكن مشتركًا فعلًا، فأعطى أولًا «الله تعالى» نصيبًا ومرجع ذلك النصيب لعباده، ثانيًا «للرسول»، ثالثًا «لذوي القربى» وهم لا شك من المستضعفين الذين إنما قعدوا عن الاشتراك في الجهاد والسعي وراء الغنائم لعلل تختلف أشكالها وأنواعها، ولكن الدين لم يُجِز حرمانهم بل جعل لهم نصيبًا من مساعي أولئك الأشداء، الأقوياء المجاهدين، الخائضين غمرات الموت. كل ذلك نراه مبنيًّا على حكمة الاشتراك، ولبث حكم هذه الآية جاريًا، وكان الرضا به شاملًا لمجموع المسلمين من مجاهد أو قاعد عن الجهاد لعلة، فبدأ بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله بذوي القربى من المجاهدين على درجاتهم، وعطف على من دونهم في المرتبة الثانية ممن ليس لهم في المجاهدين أقرباء، فقال: وَالْيَتَامَى، ثم وسَّع نطاق الاشتراكية فقال: وَالْمَسَاكِينِ، ثم رأى أن يأخذ نطاقًا أوسع فقال: وَابْنِ السَّبِيلِ، أي عابره، فتم بهذا الشكل نوع من الاشتراكية لم يكن أوسع منه شكلًا ولا أنفع. ثم جاء في موضع آخر من الكتاب مقرعًا لمن يكنزون الذهب والفضة، ثم حبذ وأثنى على الذين يؤْثرون على أنفسهم بالعطاء والإسعاف والإطعام ولو كان بهم خصاصة.»
وهكذا ترى قانون الاشتراكية المعقول في آيات من القرآن تترى.
ثم قال: «لما كان مذهب الاشتراكية كبقية المذاهب والمبادئ له طرفان، رأى الشارع الأعظم أن تنعُّم فريق من قوم وشقاء فريق آخر في محيط واحد، وبمساعٍ ليس بينها وبين مساعي الآخرين كبير تفاوت، مما لا يتم به نظام الاجتماع، وكان النبي ﷺ «بالمؤمنين رحيمًا»، فجاءه عن طريق الوحي وهو نتيجة تمحيص نزعات النفس البشرية وما عسى أن ينجم من المضار أو المنافع لها، فوضع للدين أركانًا خمسة، ومن تلك الأركان «فرض الزكاة» في المال، والركاز والأنعام … إلخ، ثم أضاف إليها كما سبق «غنائم الحروب» فأخذ منها قسطًا بمقدار الخُمس، ثم بعد ذلك حرص على بذل «الصدقات».
•••
هذا ما قاله جمال الدين الأفغاني عن الاشتراكية الإسلامية؛ فالإسلام جعل الزكاة من أركانه: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.»
فالزكاة هي الاشتراكية الإسلامية، وهي عماد العدالة الاجتماعية، والفارق بينها وبين الاشتراكية الغربية أنها في الغرب قد تطورت وتطرفت، وتولَّدت عنها الأحقاد والضغائن بين طبقات الشعب، وجعلت الأمن والنظام في حاجة إلى حاكم بأمره يضع حدًّا لوقف الحرب بين الطبقات أو يغلِّب طائفة المعدمين على طائفة الطبقة الموسرة والمتوسطة اليسار، في حين أن اشتراكية الإسلام أساسها التعاون والتعاطف والتراحم وتجنيب البلاد ويلات حرب الطبقات.
والزكاة واجبة في الأموال النقدية وفي عروض التجارة بنسبة «ربع العُشر» ٢٫٥٪ وتُقدر بنحو ذلك في غيرها، وهي ليست إحسانًا، بل هي فرض يلتزم به المواطنون بشروطه، وتُشرف الدولة على تحصيله كشأن الضرائب العامة، وهو نظام اجتماعي سديد يبقي على الملكية الفردية وعلى النشاط الاقتصادي الفردي، ويتدخل في توزيع العدالة الاجتماعية بين الطبقات، وتتولى الدولة صرف حصيلته على ما يحقق مصالح المواطنين جميعًا.
(١٣) جواز الفائدة اليسيرة في القروض
قال جمال الدين الأفغاني: إن الإسلام حرَّض على بذل الصدقات وحرَّم الربا بنكتة غاية في الحكمة، وهي ألَّا يؤكل الربا أضعافًا مضاعفة، وهو ما وقع عليه التحريم، ولكي يكون للإمام مخرج إذا اقتضت المصلحة التسامح للحكم بجواز الربا المعقول الذي لا يُثقل كاهل المدين ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافًا مضاعفة، وفرَّق صراحةً بين احتيال المرابين المتلبسين بالدين الذين يتظاهرون بتجنب الربا ببيعهم سلعة قيمتها الحقيقية مائة درهم يتجرون عند بيعها مع المشتري المضطر بثلاثمائة درهم، وحقيقة هذا الفرق ما هو إلا نصيب الربا وعينه، وإنما يجعلونه عن طريق البيع، ويخدعون أنفسهم بأنهم تخلَّصوا من ارتكاب جريمة الربا التي حظرها عليهم الدين، وإليك بعض ما جاء في هذا الشأن من القرآن: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».
ورأي الحكيم الأفغاني في هذا الصدد قريب من رأي الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الذي أفتى بأن أرباح صندوق التوفير بمصلحة البريد لا حرمة فيها وهي لا تتعارض مع تعاليم الدين في شيء.
(١٤) سخطه على الاستعمار ودعوته إلى مقاومته والتحرر منه
إن هذا الاستعمار لغةً واصطلاحًا، مصدرًا واشتقاقًا، لا أراه إلا من قبيل أسماء الأضداد، وهو أقرب إلى «الخراب» و«التخريب»، وإلى «الاسترقاق» والاستعباد منه إلى العمار والعمران.
لا تسير دول الاستعمار إلا إلى البلاد الغنية في ثروتها ومعادنها وخصب تربتها، ومن كان أهلها في الدرك الأسفل من الجهل، قد خيَّم عليهم الخمول، لا يُبدون حراكًا، ولا يقربون عراكًا.»
«وإذا صادفت دول الاستعمار (على طريق الشذوذ) في بعض الممالك أو المقاطعات مقاومة من سلطان أو أمير، فما هي إلا مناوشة صغيرة مع تلك المعدات الحربية الحديثة، وقد سقط الملك أو الأمير أسيرًا، فسيق مع أهل بيته ذليلًا، وحُجر عليه في أضيق البلدان، وأبعدها عن العمران، وتدخل المملكة أو الجزيرة أو المقاطعة وتنتظم في سلك المستعمرات، فيصبح أعزة البلاد أذلاء، ويحل محل الحرية الشخصية الاستعباد وكم الأفواه، وينتصب الميزان ليحاسب من تطرف عينه من الأهلين أو يشخص ببصره أو يلتفت إلى ورائه. ليس لأحد من خيرات بلاده شيء، وكل الضرائب والضربات، والشر والويلات، لأهل البلاد وعليهم، لا يشاركهم في ذلك أحد.»
«هذا إذا كان الدخول للبلاد «بلعبة حربية»، وأما إذا دخلوها من باب الانتصار للأمير، أو تثبيت الملك، أو قمع الثورة، وكانوا في لباس الأصدقاء الأمناء المخلصين، أو المحبين للشعب ورقيه، وتعليمه دروس الحكم الذاتي ليستغني عنهم ويحكم بلاده بذاته، فهناك تبقى مظاهر الأمور محفوظة، وبعض التقاليد التافهة مأمونة. يشكِّلون للأحكام وإدارة مهام البلاد هياكل من الناس، ويتركون معهم أمير البلاد قبة جوفاء يرجع منها صدى الصوت فقط، وليس له من الأمر إلا اتباع الأمر لا غير، ومختصر القول أن الاستعمار بمعناه الصحيح، ومبناه الصريح، هو تسلط دول وشعوب أقوياء علماء، على شعوب ضعيفة جهلاء، ولا يخرج عامل الغلب والقهر عما ذكرناه فيما سبق، وهو أن القوة والعلم يحكمان، ويتحكمان في الضعف والجهل، سُنة ثابتة وقانون متبع في الكون.»
«ولما كان لحياة الأمم والدول أدوار وآجال، ولحدوثها وتكوينها وتعاليها ثم توقفها وانحطاطها أسباب وعوامل، هكذا وجب أن يكون الاستعمار خاضعًا لتلك النواميس الكونية بمعنى أنه يصل إلى حد محدود وأجل معلوم.»
«وانقضاء أجل الاستعمار إنما يتم بزوال الأسباب التي مكنت أهله من التسلط وأكرهت الشعوب على الخضوع لهم.»
«نعم، متى ضعف ما كان سببًا في الصعود يحصل الهبوط والانحطاط، ومتى زال ما كان سببًا في السقوط يحصل الصعود، دور للحاكم والمحكوم، وقاعدة هي بحكم اللازم والملزوم.»
«يحصل للضعيف من صدمة القوي «دهشة ورجفة»، ويحدث من آثار العلم على الجاهل «خشية» فيقف بين هاتين القوتين منذهلًا، حائرًا، ذليلًا، صاغرًا كما هو الحال مع أهل الاستعمار والمستعمرين. إذ يمر الدور الأول بين تجبُّر وتكبُّر، وعسف وجور، وأهل المستعمرات قد أدهشتهم المفاجأة، وأذهلتهم الصدمة، فيقابلون كل قول بالسمع والطاعة ويفعلون ما يؤمرون بكمال الخضوع، فيصادرون في معنوياتهم من حرية شخصية، وعزة نفسية، وحرمة ملية، أو جامعة قومية، ثم يأتي دور القضاء على مادياتهم، فيُحرمون من خيرات بلادهم، ومن كسب تجارتهم، واستثمار مناجمهم، وبالإجمال الحرمان المطلق من كل خير، وإنزال كل شر وضير، فيرزحون آخِر الأمر تحت أثقال الضرائب وتتحمل أجسامهم ما لا تطيق، فعند الوصول إلى هذا الحد من إرهاف الحد، تظهر على الأمة عندئذٍ بعض آثار الحياة وهو ما يشبه «الاختلاج»، فإذا التقوا أفرادًا أخذ كلٌّ منهم ينظر إلى الآخر فيهزون رءوسهم هزًّا خفيفًا، ويفركون أيديهم فركًا غير منتظم، ويحكُّون رقابهم، هذه هي أول مظاهر الثورة ثم تجول الأفكار، وبعده يبدأ الهمس، ثم الهذرمة، ثم، وثم إلى أن يعلو الصوت، ويرتفع السوط، ويحكم السيف ويأتي من بعده حكم العادل وهو سبحانه ولي المظلومين.»
«ولو جاز لدولة أن تشذ فتعامل المستعمرات بشيء من العدل، ولم ترهقهم ظلمًا، وتسومهم جورًا وعسفًا، للزم أن يكون ذلك الشذوذ بمعاملة الإنكليز لمستعمرة «أمريكا» وبينها وبينهم من جامعات اللسان والدين والمذهب والأخلاق ما يدعو للعطف، ويحمل على الإقلال من العنف.»
«ولكن هيهات، فليس لقاعدة الاستعمار من شاذ وكلنا يعلم ما عاناه الأمريكانيون من جور الحكومة الإنكليزية وتفننها بأنواع المظالم، وسلب أموالهم بأشكال الضرائب، وآخر ضريبة، أو ضربة نبهت الأمريكانيين ودفعتهم لطرح نير إنكلترا بقوة السلاح، ونهوض الأمة «ضريبة ورقة التمغة» وأن صكوك البيع وكافة العقود والعهود إذا لم تكن محررة على تلك الورقة لا يُعمل بها … وناهيك بما في هذا الحكم من الجور وضياع أملاك وحقوق. نعم لجأ الأمريكانيون في بدء أمرهم إلى ما يلجأ إليه الضعيف، إذ بعثوا بالشكوى إلى عاصمة الإنكليز ومجلس أشرافهم، عقب أن عقدوا جمعية عمومية في مدينة نيويورك، وعقب أن أوسعوا «مأمور بيع ورق التمغة» ضربًا واتفقت كلمة الجميع على الرفض، وهذا أول طلائع القوة التي لا يرضخ الإنكليز لقوة سواها، وهو اجتماع كلمة «الأمة».
خدرت أعصاب الأمريكانيين بإبطال ورقة التمغة، وفي الوقت ذاته أحدثت ما يمكِّنها من سلب مال الولايات المتحدة، فوضعت رسم الكمرك على ما يدخل إليها من الشاي، وهذا الرسم أكثر سلبًا للمال من التمغة، وعمدت في التنفيذ إلى استعمال القهر والقوة، ولما كانت روح الحياة في الأمريكانيين قد دبت وجازت وتخطت دور «الاختلاج» و«الهمس» ووصلت إلى دور ارتفاع الصوت وسل السيف، فرمت بالشاي الوارد إلى البحر ووقفت للقوة الإنكليزية بقوة الأمة الأمريكانية، وألقت مقاليد أمورها وإدارة حروبها الوطنية إلى بطل حريتهم واستقلالهم «الجنرال واشنطون» العظيم.
«قل لي لو ثابر الأمريكانيون دهرًا على بث الشكوى من ولاة الإنكليز إلى مجلس وزراء الإنكليز، واستنفدوا المداد، وسودوا ما في الأرض من قرطاس تظلمًا واستغاثة، هل كان يفيدهم في استقلالهم شيئًا، أو يكشف عنهم بلاء استعمار البريطانيين؟ لا والذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف.»
«فقوة كل أمة كامنة في أفرادها، لا يُظهرها إلا الاتحاد، ولا يخفيها إلا التفرق، فمن رام من الأمم استعادة مجدها، والتخلص ممن أذلها، فليس غير طريق «الاتحاد» ما يوصل إلى الغاية وينقذ من البلاء، ولا غير حب الموت ما ينجي من الموت، وينيل المرء إحدى الراحتين: فإما أن يعيش بحريته واستقلاله سعيدًا، وإما أن يموت دونهما «بطلًا شهيدًا».»
«أروني مملكة أو أمة انغمس ملوكها وأمراؤها في السفه والسرف، وعم الجهل طبقات الشعب، وتفرقت كلمتهم، فاستكانوا للذل والهوان، ولم يستعبدها الاستعمار، ويحل فيها الدمار!»
«وهاتوا مملكة أو قارة اتفقت كلمة أهلها، وأنفت من الذل، ورفضت الاستعباد، واستلت السيف، وطاب لها الحتف، ولم تنل استقلالها والتمتع بحريتها ولو كان المستعمر أعظم الدول قوة واقتدارًا.»
«هل من حاجة للإتيان بالأدلة وضرب الأمثلة على أن أصغر الأمم ناهضت أعظم الدول، وظفرت بحاجتها ونالت حريتها واستقلالها؟»
مَن هم اليونان سكنة ولاية المورة؟ قبل أقل من عصر عندما ناهضت الدولة العثمانية، تلك الدولة التي كانت تحكم ستين مليونًا من النفوس إذ ذاك، واليونان إلى اليوم لم يتجاوزوا في متفرق المعمورة مليونين.
«كم عدد المصريين؟ وهل تجاوزوا بعد استقلالهم مليونين ونصف مليون نسمة تقريبًا؟»
«ما هو الجبل الأسود؟ — ومجموع سكانه لم يبلغوا عدد سكان محلة «بك أوغلو» في الآستانة — وما هي قوته وجيشه بالنسبة لقوة وجيش الدولة العثمانية؟ وهكذا القول في بلغاريا، ورومانيا …»
«فبعد هذه الأدلة المحسوسة، والأمثلة الملموسة، لا يصح أن يبقى أدنى ريب أن المستعمرات لأي دولة مهما تعاظمت قوة واقتدارًا كالثوب العاري لا يلبث حتى يُسترد عند طلب صاحبه بالسنن المعروفة، والطرق الموصوفة.»
(١٥) طريق الغرب إلى استعمار الشرق
قال في هذا الصدد ما خلاصته: «ما من دولة غربية تطرق باب مملكة شرقية إلا وتكون حجتها إما حفظ حقوق السلطان، أو إخماد فتنة قامت على الأمير، أو إنقاذ نصوص الفرمانات، أو غير ذلك من البهتان، والختل، والخداع، وواهي الحجج.
«فإذا لم تكفِ تلك الأضاليل، تذرعت إما بحجة حماية الأقليات أو حقوق الأجانب وامتيازاتهم، أو حرية الشعب أو تعليمه أصول الاستقلال، أو إعطاء الشعب حقه تدريجيًّا في الحكم الذاتي، أو إغناء الشعب الفقير بالإشراف على موارد ثروته؛ فالشعب الخامل يرتاح إلى تلك المواعيد ويرضخ للحجْر الغربي.»
- أولًا: إقصاء كل وطني حر يمكنه الجهر بمطالب وطنية.
- ثانيًا: تقريب الأسقط همة والأبعد عن المناقشة والمطالبة بالحق.
- ثالثًا: الدخول على البلاد بتفريقها طوائف وشيعًا.» ومن يتأمل في أقوال جمال الدين الأفغاني يجد ولا ريب أنها صادرة عن إيمان عميق بالحرية والاستقلال، وعقيدة راسخة في بغض الاستعمار والثورة عليه، ودعوة صادقة إلى الشعوب الشرقية أن تنهض وتتحرر من ربقة الاستعباد والاستعمار.
(١٦) رأيه في السلف والخلف
وقال عن السلف والخلف: «الكون يشهد، والآثار تدل، ولا من يفكر أن للعرب وغيرهم من العجم آثارًا، ومفاخر أتت من وراء الهمم وصدق العزائم معه، ولكنها يا للأسف وقفت في أجداث الأجداد، وجاورت عظام أولئك العظام، أعلام المروءة، عصبة الرحمة، أولياء الشفقة، أهل النجدة، أُسود الحمية، وغوث المضيم يوم الشدة، شوامخ القوة، رواسي العدل. تلك بعض صفات السلف، عثر عليها الخلف بالنبش وهو في جبانة «الجبن» و«الخمول»، وقرأها في سطور كتاب حادثات الدهر وأوراق سجل رجال العالم، فطفق يفخر، ويعدد، ويصول، ويطول، ويقول: نحن من لمعت سيوف أجدادهم بالمشرق، وانقضَّت شهبها على المغرب، فذلت لهم رقاب القياصرة والأكاسرة، وخضعت لأمرهم الأمم، خفقت أعلام فتوحاتهم فوق ممالك الأرض فطهروها من جراثيم الظلم والجور ومَلئُوها بالرحمة والعدل، وهكذا لا تزال تسمع كلًّا من العربي والفارسي وغيرهما من الشرقيين يقول نحن أحفاد أولئك الأجداد، ونحن سلالة وذرية أولئك الأقيال الأمجاد، ونحن … ونحن … مما يثير الأشجان، ويزيد الأحزان.
نعم، أولئك آباؤنا وأجدادنا، قد جاد الزمان بهم فجاءوا ولكن وا سوأتاه، وا معرتاه، وا خجلتاه، إذا هم سألونا عما فعلنا بمخلفاتهم وما ورَّثوه لنا واستخلفانا عليه من الممالك والأقطار، وعظيم المدن والأمصار!»
«نعم، أين أنتم أيها الأجداد الأمجاد، القوامون بالقسط، الآخذون بالعدل، الناطقون بالحكمة، المؤسسون لبناء الأمة؟! ألا تنظرون من خلال قبوركم إلى ما أتاه خلَفكم من بعدكم، وما أصاب أبناءكم ومن ينتحل نِحلتكم؟!»
ألا يصيح من برازخكم صائح منكم ينبِّه الغافل، ويوقظ النائم، ويهدي الضال إلى سواء السبيل؟! إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. «نعم، إن للأرواح إشراقًا بهياكلها الروحانية على ما تلبس من الأجسام الترابية في هذه الدار الفانية، ومناجاة لمن فيه ذلك الاستعداد «إذ الإمداد لا يكون إلا على قدر الاستعداد»، فإذا أصغينا بالحس الروحي إلى ما تريد أن تناجينا به أرواح أجدادنا لوجدناهم يحرقون علينا الأرم، ويزعجهم الألم، وينادوننا: أيها الأحفاد، تفتخرون بسيوف لمعت بالمشرق، نعم، وقد تركنا لكم تلك السيوف مشحوذة في أغمادها، فهلا تقلدتموها، وهلا سللتموها في وجه من اكتسح بلادكم وضرب عليكم الذلة والمسكنة؟!
تفتخرون بما فتحنا وتركناه لكم من الممالك، وما تحمَّلناه في سبيل ذلك من المخاطر والمهالك، ولا تخجلون، ولا تحزنون وقد سلبتها منكم الأعداء وأنتم من مقاعد جبنكم وذُلِّكم تنظرون، ولا تتحركون ولا تنهضون وحتى ولا تنطقون.
تفتخرون بصبرنا، وثباتنا، وإقدامنا، وبسالتنا، واعتصامنا بحبل الله واتباع سنن نبيه الكريم ﷺ، وأنتم على عكس الأمر من أخلاق وصفات، وما أبعدكم بهذا عن الفخر وأبعد الفخر عنكم! ولأنتم أولى بإطراق الرأس وغض الطرف خجلًا وحياءً من الله، ومن أرواحنا في الملأ الأعلى، التي تبرأ إلى الله من صُنعكم وقلة إيمانكم بالله والعمل بما جاء به رسول الله.
تفتخرون بتمسُّكنا بأصول الدين، وحُسن اليقين، والتزام الكتاب والسُّنة والعمل بأحكامهما، وأنه قد استحكمت بيننا رابطة الأخوة فكنا كالبنيان المرصوص، نعم هكذا كنا، أما أنتم فلم يبقَ من جامعة بينكم إلا العقيدة الدينية «وليس في الجميع» مجردة عما يتبعها من الأعمال.
انقطع التعارف بينكم، وهجر بعضكم بعضًا هجرًا غير جميل. علماؤكم، وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية الناس إليها، لا تواصل بينهم ولا تراسل مع جمودهم؛ فالعالِم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي، والعالم الهندي في غفلة عن شئون العالم الأفغاني، وهكذا، بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم ولا جامعة تجمعهم، ولا صلة إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين أحدهم والآخر. أما في هيئتكم الكلية فلا وحدة لكم، بل لا أنساب بينكم، وكلٌّ ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها، كأنه جزء مفصول، أو عضو مبتور.»
«تفتخرون بأنه غلب على صفاتنا «التعقل» والتروي، وانطلاق الفكر من الأوهام، والعفة، والسخاء، والقناعة، والدماثة، ولين الجانب، والوقار، والتواضع، وعِظم الهمة، والصبر، والحلم، والشجاعة، والإيثار، والنجدة، والسماحة، والصدق، والوفاء، والأمانة، وسلامة الصدر من الحقد والحسد، والعفو، والمروءة، والحمية، وحب العدالة، والشفقة. نعم، منَّ الله بها علينا وهكذا كنا، وأنتم أيها الأحفاد، ماذا غلب على أكثركم غير السفه، والقحة، والبذاءة، والبله، والطيش، والتهور، والجبن، والدناءة، والجزع، والحقد، والحسد، والكبرياء، والعجب، واللجاج، والسخرية، والغدر، والخيانة، والكذب، والنفاق، والشح، أفبهذه الأخلاق تحبون أن تتغلبوا، وتعجبون كيف تُسلب أملاككم وتذلون؟! أم بهذا ترومون اللحاق بنا وقد خالفتمونا سيرةً وسيرًا، شيمًا وأخلاقًا؟!»
إن «دعوى» حق الأحفاد في ميراث الأجداد، هي في محكمة الكون والبينة التي يصدر من بعدها الحكم، هي إثبات التحلي بفضائل السلف، والتخلق بأخلاقهم، والنسج على منوالهم، والتزام ما لزموه من السنن وجروا عليه بالقول والعمل، فعسى أن نوفق للإدلاء بتلك الحجة، فتستقيم لنا الحجة؛ إذ كفانا من الذل ما لاقينا، ومن البلاء ما عانينا.
(١٧) وصفه للإنكليزي والعربي (في عصره)
قال عن الإنكليزي: إنه قليل الذكاء، عظيم الثبات، كثير الطمع والجشع، عنيد، صبور، متكبر.
وقال عن العربي أو الشرقي: إنه كثير الذكاء، عديم الثبات، قنوع، جزوع، قليل الصبر، متواضع.
يثبت الإنكليزي حتى على الخطأ إذا تسرع وقاله أو باشره.
والشرقي لا يثبت على الصواب ولا على طلب حقه.
فيفوز الأول بخير النتائج بفضيلة الثبات.
ويخسر الثاني حقه برذيلة التلون وعدم الصبر.
(١٨) رأيه في الأحزاب السياسية في الشرق
وقال عن الأحزاب السياسية في الشرق:
«الأحزاب السياسية في الشرق نعم الدواء، ولكنها مع الأسف لا تلبث حتى تنقلب إلى بئس الداء. نُحسن نحن الشرقيين تأليف الأحزاب السياسية، لطلب الحرية والاستقلال، وكل العالم لنا أصدقاء، ونضطر لتركها والكل لنا أعداء.
والسبب العامل في ذلك عدم التكافؤ في القوى بين الأمة وأحزابها السياسية. يقوم الحزب السياسي بعنصر ضعيف، أو بأفراد قلائل بينهم اللسن والمحنك، ويعلنون تفانيهم في خدمة الأمة لتحريرها من ربقة الاستعباد والاستبداد، ويُسرون خدمة أنفسهم، فتتألف على أهل الحزب القلوب، وتجتمع حولهم الكلمة، بسوق الضرورة وداعي الحاجة، ويستحسن عملهم الغريب، ويهوسهم الدخيل، شأن الحوادث المستجدة في انقلاب الأمم من طور إلى طور، فالأمة تتخيل من وراء وعود الحزب سعادة، ورفاهة، وحرية، واستقلالًا، ومساواة، على أوسع شكل، قد لا يمكن حصوله في البعيد الآجل، فضلًا عن القريب العاجل.
فيؤازرون الحزب بكل معاني الطاعة، والانقياد، والنصرة، والتضحية … إلخ.
فإذا ما تم للحزب ما طلبه من الأمة، واستحكم له الأمر، ظهرت هنالك في رؤساء الأحزاب الأثرة والأنانية، ومد حب الذات عنقه، فتتقلص من القلوب تلك الطاعة، وتنكمش النفوس عن ذلك الانقياد، وتحصل في النتيجة النفرة العامة.
فتضطر عندئذٍ لترك الحزب، وينفرط بالطبيعة عِقده، والكل له أعداء.»
وضرب عدة أمثلة، منها ما حصل في الأفغان وغيرها، وما حصل في حزب عرابي في مصر.
ثم قال: «لا ينبغي أن يؤخذ من قولي هذا ألَّا فائدة من الأحزاب على مطلق الرأي والمعنى، فإن الشرق بعد أن أخنى عليه الدهر بكلكله، ومرت عليه زلازل العنف والجور وأشكال الاستعباد، إن هذا الشرق، وهذا الشرقي، لا يلبث طويلًا حتى يهب يومًا من رقاده، ويمزق ما تقنَّع وتسربل به هو وأبناؤه من لباس الخوف والذل، فيأخذ في إعداد عُدة الأمم الطالبة لاستقلالها، المستنكرة لاستعبادها.»
«على هذا الأساس الاجتماعي التدريجي، لا مانع يمنع الشرقي من الانخراط في الحزب بعد الحزب، وأن يقبل من المواعيد ما يصدق وما لا يصدق، حتى يظهر في الشرق ما ظهر في الغرب من أفراد يرون الموت في حياة وطنهم مغنمًا، والحياة في موت وطنهم مغرمًا.»
«حينئذٍ يكون الشرق قد تسنى له وجود الحزب الذي هو نِعمَ الدواء من داء استعباده، فيجمع شتات أبنائه الذين كانوا أذلة، ويصيرهم بنعمة الإخاء، والاتحاد، والتعاون أعزة، بلادهم لهم وهم لبلادهم نعم الأمناء، يعملون متضامنين في صالح مجموعهم، ونصرة مظلومهم، يأخذون ما لهم من حق، ويؤدون ما عليهم من واجب وهم لا يحزنون.»
(١٩) مقصده السياسي
قال الأستاذ الإمام عن مقصده السياسي: «إنه كان يسعى لإنهاض إحدى الدول الإسلامية من ضعفها، وتنبيهها للقيام على شئونها، حتى تلحق بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار الشرقية، وتقليص ظلها عن رءوس الطوائف الإسلامية، وله في عداوة الإنكليز شئون يطول بيانها.» ا.ﻫ. كلام الأستاذ الإمام.
نقول وقد دلَّ تاريخ السيد على أنه بذل حياته كلها لبعث روح النهضة والحرية في أمم الشرق قاطبةً.
فهو أول زعيم للحرية في الشرق وأول باعث لنهضته الحديثة، ولئن لم يشاهد ثمار دعوته وجهوده، فحسبه أنه غارس البذرة الأولى للحركات القومية التي ظهرت في الشرق منذ نحو تسعين سنة إلى اليوم، وإلى ما شاء الله، وإذا هو لم يشهد نجاح دعوته قبل موته، فليس مرجع ذلك إليه؛ لأنه قد أدى رسالته على أتم ما يؤديه الزعماء المخلصون، ولكن عاكسته الأقدار، واعترضت سبيله عقبات جمة، بعضها من مكايد الدول الاستعمارية، وخاصةً الدوﻟﺔ الإنكليزية، وبعضها من خذلان ملوك الشرق وأمرائه لدعوته واضطهادهم إياه.
فقد رأيت ما أصابه من الخديو توفيق حين وُلي الحكم؛ إذ نقض عهده معه ونفاه من مصر، وكذلك فعل معه شاه العجم ناصر الدين شاه، فقد استدعاه لينتفع من علمه وحكمته وما لبث أن تنكَّر له وحبسه ثم نفاه، وعرفت ما أصابه في الآستانة على عهد السلطان عبد الحميد مما لا حاجة إلى تكراره، وحسبك أن تذكر أنه كان سجينًا في قصره، ومحاطًا بالعيون والجواسيس، حتى لاقى منيته في ظروف تدعو للاعتقاد أنه مات شِبْه مقتول.
فملوك الشرق وأمراؤه كانوا إذن حربًا على جمال الدين، وكانوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون عونًا لدعاة الاستعمار في إحباط جهوده ومساعيه، فليس عجيبًا ألَّا يشهد السيد نجاح دعوته في الإصلاح والحرية، وقد لقي أيضًا خذلانًا من أكثر الطبقات، فكأنه كان يرسل دعوته في صحراء مقفرة ليس فيها سميع ولا مجيب.
ولا مراء في أنه قد تقدَّم الشرق وسبقه إلى الحياة نيفًا ومائة عام، فلم يلبِّ الشرق نداءه في حياته، ولم تظهر ثمار دعوته إلا بعد مماته، وهذا يزيده فضلًا وقدرًا؛ لأنه قام بدعوته في وقت عزَّ فيه النصير وقلَّ المستجيب إلى دعوة الحرية والحق.
وقد شعر السيد، وخاصةً في أواخر أيامه، بمرارة اليأس والألم مما لقيه من صنوف الاضطهاد ونقض العهود والمواثيق، وكم كان حقيقًا بالألم حين يعرض في ذاكرته مبلغ ما بذله لأمم الشرق من الإخلاص والتفاني في خدمتها، ثم ما أصابه من كبرائها وأمرائها من التنكر والجحود، وما لقيه من مختلف طبقاتها من الإعراض والخذلان.
بمثل هذه الخواطر كان يعبِّر السيد عن ألمه من سوء حالة الأمم الشرقية، وهذا الألم يدلك على مبلغ الشعور الذي تملَّك لبه، وأنه كان يشتعل غيرة على الشرق والإسلام، ويحزن إذ يرى دعوته لم تلقَ مجيبًا ولا نصيرًا، وإنك لترى صورة الألم والحزن مرتسمة على محياه في مرضه الأخير، وظل هذا الحزن يلازمه حتى فارق الحياة.
وبعد أن مضت عشرات السنين على وفاته سنة ١٨٩٧، لم ينهض واحد من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يبحث عن قبره ويشيِّد له ضريحًا يليق بذكرى الرجل العظيم، الذي أفنى عمره في بعث الأمم الشرقية وإنهاضها وبث روح الحياة والحرية فيها. إلى أن قيض الله رجلًا من سراة الأمريكان «المستر كراين» فأخذ يبحث ويحقق حتى اهتدى إلى قبر جمال الدين بالآستانة سنة ١٩٢٦، فأقام عليه شاهدًا فخمًا من الرخام نُقش عليه اسم السيد، وأدى بهذا الصنيع واجبًا كان يجدر بسراة الشرقيين وعظمائهم أن يؤدوه.
وهذا المظهر المستمر من نكران الجميل يكشف لك ناحية من أسباب التأخر السياسي والاجتماعي في أمم الشرق قاطبةً، فإن الأمم لا تسلك سبيل النهضة الصحيحة إلا إذا عرفت أقدار الرجال الذين أفنوا حياتهم في سبيل مجدها وعظمتها.
(٢٠) بعض كلماته الخالدة
-
لا جامعة لقوم لا لسان لهم، ولا لسان لقوم لا آداب لهم، ولا عز لقوم لا تاريخ لهم، ولا تاريخ لقوم إذا لم يقم منهم أساطين تحمي وتحيي آثار رجال تاريخها فتعمل عملهم، وتنسج على منوالهم، وهذا كله يتوقف على تعليم وطني، بدايته «الوطن»، ووسطه «الوطن»، وغايته «الوطن».
-
شر أدواء الشرق داء انقسام أهليه، وتشتت آرائهم، واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فقد اتفقوا على ألَّا يتفقوا.
-
الدخول من باب الذل لا يثمر غير الذل، ومعشر الشرقيين في الفقر خوف الفقر، وفي الموت خوف الموت.
-
إذا صح أن من الأشياء ما ليس يُوهب، فأهم هذه الأشياء الحرية والاستقلال؛ لأن الحرية الحقيقية لا يهبها الملِك أو المسيطر عن طيب خاطر، وكذلك الاستقلال، بل هاتان النعمتان إنما حصلت وتحصل عليهما الأمم بالقوة والاقتدار.
-
ينتصر الحق ويُخذل الباطل وإن طاوله الكرم وأمهله العفو ومده الغرور.
-
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان عليهم نهايته.
-
الإنكليز باقعة العالم وأحبال الحيل.
-
أعتقد أن السجن في طلب الحق من الظالمين العُتاة رياضة، والنفي في ذلك السبيل سياحة، والقتل شهادة، وهي أسمى المراتب.
الذل عدو العلم
-
الذل وصحيح العلم ضدان لا يجتمعان.
العلم والعمل به
-
علم قليل مقيد في الصدور يُعمل به، خير من علوم كثيرة مسطورة في الكتب ولكن لا يُعمل بها.
-
أضعف ما في هذا العصر: حق لضعيف لا قوة له، وأقوى شيء: باطل لقوي يجعل باطله حقًّا.
-
لا خير في حق لا تدعمه قوة.
-
صاحب الحق قوي ولو كان ضعيفًا، والمبطل ضعيف ولو كان قويًّا.
يمين جمال الدين
-
كان يمينه إذا شاء أن يقسم به قوله: «وعزة الحق، وسر العدل.»
-
عظمة الملك لا تكون بالتيجان، ووقار العلم لا يكون بالطيلسان.
-
الأَكْفَاء في العصر لا يكونون على الغالب أصدقاء.
-
الفقر عدو الفضيلة، والثراء نصير الرذيلة.
-
حقيقة الأنفة وعزة النفس عدم الاتكال على الناس.
-
صاحب القلم لا يحتاج إلى عصا.
-
الإفراط في التواضع دليل على الادعاء.
-
ما مات واحد في حب أمة إلا وأحبته.
-
لا أمة بدون أخلاق، ولا أخلاق بغير عقيدة، ولا عقيدة بغير فهم.
-
خير موازين الأمم أخلاقها.
-
يقل العلماء متى كثُر المتطفلون والمدعون.
-
العلم الصحيح كسب صحيح، بل وراثة لنبوة.
-
لا مانع من السفور إذا لم يُتخذ مطية للفجور.
-
خير لون لراية الاستقلال دماء المجاهدين الأبطال.
-
من اعتقد ألَّا حياة إلا هذه الفانية، فقد خسر الأولى والثانية.
-
لا يتم عمل والتآلف مفقود، ولا يكون فشل والاتحاد موجود.
-
من عجز عن إصلاح نفسه كيف يكون مصلحًا لغيره!
-
أمة تطعن حاكمًا سرًّا، وتعبده جهرًا، لا تستحق الحياة.
-
تحتجب الحقائق عن الملوك بقدر تحجُّبهم.
-
حمَّال الحطب للاتجار به أنفع من حمال الذهب للادخار.