عناد الأمواج
هبط من الترام قبل انحناءة الطريق إلى الأنفوشي. على اليمين مرسى القوارب في نهاية الميناء الشرقية، والجامع الصغير، والشارع الممتد إلى معهد الأحياء المائية، وقلعة قايتباي. على اليسار يمتد الطريق بقضبان الترام، ونقطة الأنفوشي، ومبنى حي الجمرك، والسور الموصل إلى حلقة السمك.
باب الحلقة مغلق. النوافذ الحديدية الصغيرة تَشي بظلمة الداخل. اختفى الفريشة والطبالي وقوالب الثلج وجرادل الماء والنداءات والصيحات والمزادات والترسة المقلوبة على ظهرها فوق عربات اليد.
في انحناءة الطريق إلى رأس التين، تلاقى اختلاط الروائح المترامية من حلقة السمك والبحر والشوارع الضيقة، المفضية إلى داخل السيالة. الملح واليود والطحالب والأعشاب والزفارة والعطن. تناثر رجال يرتدون زي الصيادين على المقهى المواجه لقصر الثقافة. لم يميز بينهم من يعرفه أو رآه من قبل. إعادة التحديق عادةٌ ألِفها في أيام مضت. إلى اليمين الطريقُ المتجهة إلى مساكن السواحل. البحر يَبين في نهاية التلال الترابية الصغيرة، وإلى اليسار بنايات متقاربة، وِرَش للمراكب على امتداد رمال الشاطئ.
خلت الدرجات الثلاث، العريضة، الصاعدة إلى أبواب البناية الحجرية، المتداخلة في الرخام الأحمر، أقرب — بطابقيها — إلى القصر الصغير، أو الفيلا. الأبواب الخمسة — بامتداد المدخل — من الخشب المطليِّ بالسواد، والزجاج، والحديد المعشَّق، تنتهي بعامودين من الرخام المضلَّع. البابان الأوَّلان من اليمين واليسار مغلقان، أو مواربان، الباب الأوسط مفتوح. وقف بالقرب منه ثلاثة شُبَّان وفتاة، اجتذبهم نقاش لم يتبينه، وإن وشَتْ به أغلفةُ الروايات ودواوين الشعر في أيديهم.
بعد أن عبر طريق الترام، تعمَّد أن يبطئ في خطواته.
استعاد ما كان قد أعدَّه ليواجه به عبد الجبار: لقاءات مكتب فايز الشيخ … في الحياة في المعتقل … نهاية جاد سليمان … الوشايات والتقارير الكاذبة.
قال لنفسه: هل كان ينبغي أن يُقتل جاد سليمان حتى نترك المعتقل؟ هل كان لا بد أن يموت لنحيا؟!
التفت ناحية الساحة المتربة المفضية إلى داخل السيالة: هنا وضع المخبر يده على كتفي.
شعر بخطوات تتبعه.
التفت. يطالعه من لم يتأكد من ملامحه، وإنْ ميَّز نظارة شمسية تغطي عينيه. عاود النظر قبل أن يميل من شارع الأباصيري إلى ميدان أبو العباس. لمح الرجل واقفًا أمام دكان مغلق وسط شارع السيالة. كأنه يتْبعه، وإن حرص على أن يبتعد بخطواته عنه. أعاد الالتفات إلى الرجل ذي القامة الممتلئة، والبشرة المجدورة، والأنف الأفطس، والشفتين الممتلئتين، والشارب المتدلي على جانبَي الفم.
لا بد أنه التقى به من قبل. لا يبدو غريبًا في تكوينه الجسدي ولا ملامحه.
هل يراقبه؟
اعتاد رؤية مخبر في ناصية شارع إسماعيل صبري والتقائه بالميدان، ربما ليس المخبر نفسه، لكنه يعرفه من زيه التقليدي: البالطو والعصا الخيزران والحذاء الميري.
أتت السِّرية بإحساس المطاردة.
تحول كلُّ ما حوله إلى أشباح، أطياف، تطارده. يتابع سيره، لا يتلفت، يهمل وقْع الأقدام والنظراتِ التي يشعر باتجاهها ناحيته.
شعوره بالمراقبة دفعه لأن يُظهر ما بيده من كتب وأوراق، يطبق عليها — مكشوفة — بيده، لا يضعها في حقيبته، أو يخفيها. شعر أنهم يراقبونه مراقبة مستمرة، وأن كل خطواته تُقتفى. اعتاد التخفي والتلفُّت والتوقع والخوف. يحرص، فلا يبدو عليه ارتباك، أو يتصرف بما يثير الالتفات أو الريبة. يعرف أن النظرات المراقبة تترصده، وإن كان لا يدري موضعها على وجه التحديد. مِن داخل الأقبية والحارات المظلمة، وخلف الأبواب المواربة، ومن أخصَّة النوافذ، أو من فوق سطح، أو داخل أوتوبيس، أو في زحام الطريق، أو تحت شجرة. ربما من داخل سيارة تقف في ناصية ظليلة. يثق — ولعله يتوهم — أنه لم يغِبْ عن أعين البوليس لحظة واحدة. يتعقبونه من أمام البيت على ناصية الحجاري، وفي الطريق، وعلى باب البيت المقابل لمكتبة البلدية. يراقبون كل حركة، أو سكنة، تصدر عنه. حتى نظراته الشاردة، أو صمته، أو تأمله العفوي لما تراه عينه. ربما خضع ذلك للمراقبة والتحليل والتوصل إلى نتائجَ يثق أنها لا تكون صحيحة. تزايدت الأعين المتابِعة، واتسعت مساحة الرؤية. امتدت إلى الحواري والأزقة والمقاهي والأسواق المزدحمة وأعلى الأسطح ومداخل البيوت.
تعاوده ذكرياتُ ما جرى. يشعر بالأسى والاستغراب، لا يجد سببًا لكلِّ ما يحدث.
لما نصح عماد الشافعي بالعودة إلى الاجتماعات المفتوحة، واجهه قدري عبد الجبار بنظرة رافضة: تحتمي بنفوذ أبيك … ونحن …! من يحمينا؟!
يؤلم الشافعي أن حياته أصبحت مثل القوس المشدود. حياته كلها في خطر. يتوقع، ويطرح الاحتمالات، ويخاف، ويستعيد الأمل.
لم يكن يحب العمل السري. يرفض الاجتماعات المغلقة، والمنشورات، والشعارات التي تُلصَق — خُفية — على الجدران، يفضل العلن، يسأل وينتظر الإجابة، يناقش ويعترض، ويتجنب الأحكام المسبقة والأقوال التي تَدين بالمسلَّمات المطلقة. ضاق بالاختفاء والأسرار والرسائل المشفرة، يومِض في ذاكرته تردُّده على حديقة سراي رأس التين، رؤيته لأفلام سينما مترو، مذاكرته في صحن أبو العباس، مشاهدته لمباريات الكرة في الأرض الخلاء المجاورة لحلقة السمك … مشاهد كثيرة كان يحياها ويستمتع بها في حرية، لا يخشى شيئًا، ولا يتوقعه.
لم يعُد يحتمِل هذه الحياة المزدوجة. ضاق بالتلفت والتوقع، واختطاف نظرات التوجس والحذر، والخطوات التي لا يدري أين تنتهي.
يقدم نفسه بأنه «لست». لستُ عضوًا في نقابة، لست مستفيدًا من المواصلات العامة، لست عضوًا في نادٍ، لست موظفًا في الدولة.
– لم أخترع هذه اﻟ «لست»، لكن ذلك ما حدث في حياتي!
نادرًا ما كان يعلِّق أو يُبدي ملاحظة، وإن فعل فهو يكتفي ببضع كلمات يرى أنها تؤدي المعنى. هو دائم التردد على دكاكين العطارين، يفتش عن الكتب القديمة والأثاث المستعمل والتحف الفنية، يعتز بأن أثمن ما في بيت أبيه قِطَع أثاث اشتراها من معارض الأثاث القديم، يعيد طلاءها، وترميمها، ورفْوها، فتبدو كالجديدة، يتنقل بين التريانون وديليس وعلى كيفك وإيليت وستريا ووندسور وباسترودس وسانتا لوتشيا. يعرفه — بالملامح، وربما بالاسم — رواد ملاهي الإسكندرية: المونسينور، الأجلون، الإكسلسيور، ميرامار، عطيات حسين.
يبدي اهتمامًا بالحكاية المكررة، كأنه يستمع إليها للمرة الأولى، يُصيخُ السمع، وتتسع عيناه بالدهشة.
تُفاجئه نوبات من البكاء لا يدري أسبابها، ولا لماذا تتملكه في لحظة بالذات. ربما مال بسيارته الفيات الصغيرة إلى جانب الطريق، وأسلم نفسه لبكاء متشنج.
أربكه كلام عبد الكريم الخشن مدير مكتب أبيه عن الرجل الذي سأل عنه. حدَس من ملابسه أنه مخبر.
هوَّن فايز الشيخ: لو أن السبب سياسي كانت قد اقتحمت بيتكم أورطة!
ووضع يده — في ود — على كتفه: كإجراء احترازي … خذ إجازة من الشركة والبيت هذه الأيام.
في الثامنة والعشرين. يصغر فايز الشيخ بسبعة أعوام، انمحى من بينهما فارق العمر. حلت محله صداقةٌ يغلب عليها الفَهم والتعاطف. له بشرة وردية، ناعمة، كبشرة طفل، ووجه مستدير، دقيق الملامح، لا يتصور الشر في الآخرين، ولا يضع له حسابًا.
توقف شوقي حميدة عند زاوية التقاطع بين شارع السيالة وشارع العوامري.
– هذا هو البيت … الحجرة المسروقة بين الطابقين الأول والثاني.
عاد إلى شارع التتويج، دون أن يدخل معه في كلام، أو ينتظر أسئلة.
بدا له البيت من ثلاثة طوابق، تساند على بيوت في ارتفاعه أو أقصر منه. الواجهة متآكلة، مكسوَّة بتكوينات الرطوبة والنشع، النوافذ الخشبية العالية تمتد منها مناشر وربطات بصل وثوم، وفوق حوافِّها قُلَل.
قلب بين أصابعه مفتاحَ الغرفة، ودخل.
كان قد أظهر تخوُّفَه من أن زيادة السكان في الحي لن تحول دون التعرف إلى الغريب.
قال شوقي حميدة: هم بالتأكيد يفطِنون إلى الغريب … لكنهم يتسترون عليه إن واجه مشكلة.
وأشاح بيده في لا مبالاةٍ: إنهم — ولو في قلوبهم — ضدُّ السلطة!
بدا الباب الصغير أشبه بالنافذة. هو المدخل إلى الحجرة المعلقة بين طابقين. ضيقة، أدرك من انعزالها عن بقية البيت أنه سيلجأ إلى الحياة في الخارج لقضاء متطلباته الشخصية. يُبين الضوء الشفيف عن سرير معدني لصق الجدار، إلى جانبه طاولة خشبية صغيرة، وكرسيان. في وسط الأرضية كليم أسيوطي، يمتد إلى مكتب خشبي خالٍ، في الناحية المقابلة.
اعتاد رؤية امرأة لحيمة تجلس على عتبة البيت المقابل، ويداها تتحركان بإبرتَي التريكو. أزمع أن تظل نظرته في اتجاه الأرض، في صعوده إلى الغرفة، ونزوله منها.
كانت تصل إليه — عبر النافذة المواربة — رائحة الأسماك. خمن أنها من حلقة السمك القريبة.
قال صبري غانم: لن تجدني في كل العناوين التي لديك.
قال قدري عبد الجبار: وأنا لن أسألك أين تقيم … ما يهمني أن أطمئن عليك.
– ما دام البوليس بعيدًا عني … لا خوف!
قال عبد الجبار في نبرة متواطئة: صدقني … الحياة بلا معنًى لو خلت من الخوف.
وضغط ساعِدَ صبري بأصابعه: الإحساس بالخوف … بالخطر … هو الذي يهب الحياة متعتها!
في انحناءة الطريق، على سلَّم جامع فنار الإسلام، لمح شخصًا يشبه قدري عبد الجبار، القامة الضئيلة، والوجه الدهني، دائم التفصد بالعرق، والأذنين العريضتين، والسالفين الطويلين، ينتهيان إلى ما يشبه القاعدة، والابتسامة المستخفة.
هل هو؟
التفت بكل جسده، فلم يتبين الملامح جيدًا. حتى في صلاة الجمعة داخل أبو العباس، كان يعتذر بمشغوليات، ولا يُلِحُّون، يعرفون أنه يهمل كل ما يتصل بالدين.
هل أضاف الصلاة إلى وسائله الغريبة؟!
تطالعه سحنة عبد الجبار في كل الأحوال. لم يعُد يتصور ما يؤذي دون وشايته، ما تفعله الشرطة هو وظيفتها، لا شأن لها — شخصيًّا — بمن تراقبه، أو تلقي القبض عليه.
قدري عبد الجبار عين على زملائه، حتى بعد خروجهم من المعتقل.
مضى — يحتضن الحقيبة الجلدية الصغيرة — في شوارع اللبان. يخشى أن تقع عليها عين مرتابة، يداخله امتزاج مشاعر المغامرة واللذة والخوف، وهو يحمل المنشورات في الحقيبة. يضعها في صناديق البريد، في مداخل البنايات، يثبتها — بدبابيس صغيرة — على أشجار الطريق، والجدران، وأبواب البيوت، وأبواب الدكاكين المغلقة.
كان بعيدًا عن مكتب فايز الشيخ المحامي بشارع عبد المنعم، بعد أن احتفلوا بعيد العمال.
حمزة أبو زيد يذرع الحجرة المستطيلة، ويداه متشابكتان وراء ظهره. يحرص على الصرامة والجدية في كلماته وتصرفاته. لا يلوح على وجهه انفعالٌ من أي نوع، لا حزن، ولا تأثر، ولا فرحة، ولا خوف، حتى الابتسامة لا تنفرج بها شفتاه. عيناه تعبُران الأشياء، كأنه ليس هناك ما يستحق أن يتأمله. لم تكن ترضيه صورة العالم، يراها زائدة بما يعيب، أو ناقصة بما يعيب كذلك، يريد شيئًا مغايرًا، لا يدري ما هو، ولا لماذا يسميه. إذا تحدث، لا ينظر إلى أحد، ولا شيء، كأنه يحدِّث نفسه أو يتأمل ما لا يراه غيره. يعيد طرح المشكلة، ويشرح ما غمض، دون أن يشير إلى حل من أيِّ نوع. هذه هي المشكلة، ما الحل؟ يمتلك أفكارًا لكل شيء، نحن نختلف عن تأثيرات دوران الساقية في أننا نفكر، لسنا في حاجة إلى عصابتين تحددان طريقنا، له قدرة عالية على الإيحاء، ترافق كلماته تعبيرات توضح المعنى.
قال عماد الشافعي: لنبتعد عن قضايا السياسة.
وأطلَّتْ من عينيه نظرةٌ ساهمة: أقصى ما نأمُله أن تتغير التشريعات الاجتماعية للحد من الفقر والبطالة.
يكتبون منشورات تنادي بمطالب اجتماعية، يصورون منها نسخًا، يضعونها في صناديق البريد بمداخل البنايات.
يعيب على قدري عبد الجبار عنف آرائه السياسية. وجد في المنشورات أقرب الوسائل لنشر ما تدعو إليه الجماعة، تناقش مطالب اجتماعية، يصورون منها نسخًا، يضعونها في صناديق البريد، وسائل المواصلات، الجدران، أعمدة النور، يقذف بها أحدهم في الزحام، ويختفي. تصل إلى الأيدي، تقرؤها الأعين، تدور من حولها المناقشات والآراء، تحرض على فعل التغيير. حتى لا يحرج مكتب المحامي فايز الشيخ، فقد تبرع بثمن آلة كاتبة، وطابعة؛ لكتابة وطباعة المنشورات.
قال إن الجماعة غير مَعنيَّة بقلب نظام الحكم، ولا تغييره، ولا معاداته. هي تكتفي بإبداء الملاحظات، لا تُجاوِزها إلى محاولة إلزام الحكومة بتنفيذها.
وجد في اقتراح عبد الجبار ما يصعب قَبوله، توسيع العضوية يحيل الجماعة إلى تنظيم له قواعد وقوائم عضوية، ويسهل كشفه. فلنظل مجموعة أصدقاء في مكتب فايز الشيخ، مثلما نلتقي على المقهى.
المصادفة هي التي ولدت الفكرة.
علا النقاشُ في مكتب فايز الشيخ، واتسع. امتد إلى قضايا التفاوت الطبقي، ونقص الخدمات الاجتماعية، وارتفاع الأسعار، والبطالة، والدروس الخصوصية، والمواصلات، وافتقاد دور المرأة في القضايا السياسية والاجتماعية.
أشار حمزة أبو زيد بيده ليعطوه إصغاءهم: ماذا لو كوَّنا جماعة تُعنى بالقضايا الاجتماعية؟
استطرد موضحًا: لا أعني جماعة سياسية، بل تركز على مشكلات الناس وتطالب بحلول لها.
أعاد صبري غانم تأمله: الوجه الطويل، المسحوب، العينان البُنيتان، النفَّاذتين، وشعر الفودين المائل للمشيب، والشارب المهذب في جانبَي الفم، يمتلك القدرة على النفاذ إلى الآخرين، وقراءة ما في نفوسهم، وعلى التصرف، والتخلص من المشكلات التي يتورط فيها، يثق في قدرته في السيطرة على زملائه.
قدري عبد الجبار هو الذي أشار بالمنشورات التي تُدين النظام، وتدعو إلى الثورة. لم يجاوزوا مناقشة التحريض على المظاهرات والإضرابات، وتنظيم اللقاءات مع النقابات العمالية واتحادات الطلاب.
قال إن نشاط المجموعة لا قيمة له إن اقتصر على الثرثرات الكلامية. الإصلاح لن يتحقق بالنيات الطيبة. العنف هو الفعل الوحيد المقابل الذي اطمأن إليه. الوسيلة الحقيقية المتاحة لتحريك الناس. اقترح مفردات تدعو إلى الحركة. صارحهم بأنه لا يؤمن بجدوى الاجتماعات في ذاتها. الاجتماعات للمناقشة والدراسة والتخطيط واتخاذ القرارات، ما لا بد أن ينعكس على حياة الناس وتصرفاتهم. نحن نجتمع لنناقش، ونتفق على رأي. لا معنَى لذلك إن لم نعلنه. وسيلتنا هي الكلمات والأوراق والآلة الكاتبة.
شدد أن توزَّع المنشورات في كل أحياء الإسكندرية، لا يقتصر توزيعها على منطقة واحدة، يضعونها في صناديق البريد، يلصقونها على الجدران والأعمدة والأبواب، يتركونها فوق طاولات المقاهي، وبين زجاج السيارات الأمامي ومسَّاحات الماء.
قال عماد الشافعي: هذا مكتب فايز الشيخ.
قال قدري عبد الجبار: نحن لا نجتمع لمجرد الدردشة … لكننا نناقش أمورًا سياسية.
واعتدل في جلسته: علينا في البداية أن نحدد أصدقاءنا وأعداءنا.
قال عماد الشافعي: لا عداوات … وكما قلت، علينا أن نبتعد عن قضايا السياسة.
همس قدري بالعمالة، وخيانة الجماعة، والعمل لحساب الجهات الأمنية.
– أخشى أننا ضيعنا الهدف في مناقشاتنا.
يجد نفسه في الاجتماعات، في الأخذ والرد والأسئلة والأجوبة والموافقة والرفض. يميل إلى إدارة المناقشات، أو يختار موضعًا بالقرب من رئيس الجلسة. يختلج شريان في رقبته، وترتعش ذقنه بمغالبة الانفعال. يعلو صوته، فتختلط الكلمات برذاذ اللعاب. يتطاير الرذاذ من فمه، يبادر فيعتذر بمسحِ ما يكون قد تطاير على وجهِ محدِّثه أو ملابسه. لاحظ حمزة أبو زيد أن جبهته تتفصد عرقًا، حتى في أوقات الشتاء.
قال قدري عبد الجبار: أنا أعرف هدفي.
وثنى ملامح محرضة إلى الجلوس: أتصور أنهم يعرفون ما يناضلون من أجله.
صرخ حمزة أبو زيد: النضال والشعب والعدالة الاجتماعية … كلمات ننطقها دون أن نفكر فيها، مجرد شعارات.
لم يعد حمزة يرتاح لوجوده بينهم، يضايقه ارتفاع صوته بلا سبب، وكلماته المتحمسة، وإصراره على العنف. يغيظه حبه للجدل. انتصاره لرأيه دون محاولة الإنصات لآراء الآخرين. يجد في انفعال قدري عبد الجبار واندفاعه مجرد أداء تمثيلي لا يقنعه. يجيد الألفاظ الضخمة ورفع الشعارات الساخنة. يحيل الأحداث المهمة إلى كلمات ذات إيقاع ورنين، لا يُعنى إن كانت الشعارات تعبر عن حياة الناس، أو تنعكس عليها. اقتصرت كلماته على التحالف بين العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية، وعلى الأعداء من الإنجليز والملك وأحزاب الأقلية، وعلى الكفاح المسلح لتغيير خريطة البلاد. تحدث عن ضرورة التدريب على استعمال الأسلحة، واستخدام الشفرة.
اتجه أبو زيد ناحيته بنظرة مستاءة: وكتمان السر؟
رمقه بنظرة مستريبة: ماذا تقصد؟
– لا قيمة لكل ما ذكرت إن لم نحرص على السر.
قال عماد الشافعي: هذا أمر غير مطروح للمناقشة لأنه بديهي!
يغلبه الانفعال، فتتقلص ملامحه. يجعل اختلاف الرأي خصومة شخصية، تضايقه ملاحظة حمزة بأنه يحرص على أن يُبرز تفوَّقه، ويعرف ما يغيب عن الآخرين، شوقي حميدة يهاجمني لأنه لا يمتلك القدرة على قَبول الملاحظات، صبري غانم يعاني مشكلات نفسية تنعكس على علاقته بمن حوله.
قال صبري غانم وهو يتخلل أصابعه في شعره: نحن نُدين سياسة الحكومة … فلنكتفِ بالدعوة إلى تغيير تلك السياسة بالمظاهرات والمنشورات.
قال قدري عبد الجبار: هل تكفي المنشورات والمظاهرات لتحقيق أهدافنا؟
قال أبو زيد: هذا ما نملكه!
قال قدري عبد الجبار: إذا أردتم اللجوء إلى القتل فسأكون أول من يتطوع.
تحدث عن ميكانيكي في جبل ناعسة. أظهر التعاون لتعليم المجموعة استخدام السلاح، وصيانته، وإصابة الأهداف.
قال أبو زيد وهو يجذب طرف شاربه: عدنا إلى الشعارات! … لا نريد أي شيء إلا إقناع الناس. نقل ما يشغلنا من أفكار إلى رءوسهم!
والتفت ناحية قدري بنظرة غاضبة: لا تشاركنا جلساتنا إن لم تكن مقتنعًا بما نفعل!
أكثروا من تناول النبيذ، فغلب الانفعال على كلماتهم وتصرفاتهم. صعد قدري عبد الجبار فوق الطاولة المستطيلة. رقص، تأود وتثنى. نقروا على الطاولة بأطراف أصابعهم، وغنَّوا. استدعوا أغنيات المناسبة، وإن فاجأ قدري عبد الجبار الجميع بأغنية بذيئة.
لمح سيارة شرطة تتجه ناحية نقطة الأنفوشي. أخذت — قبالة الباب — دورة كاملة. اختلط أهل المسجونين والعساكر في إحاطتهم بالمسافة من نهاية السيارة إلى داخل النقطة.
حدس من الرءوس المتدافعة إلى الداخل أنها لمسجونين يدخلون التخشيبة. تشاغل رجال ونسوة بتبادل الكلام مع وجوه متلاصقة، خلف قضبان النافذة الحديدية، في جانب السيارة.
كانت ذرات المطر تصطدم بزجاج النافذة المغلقة، وأمواج البحر تغطي الرمال، وتصطدم بكورنيش الأنفوشي، وهسيس النخيل على امتداد الناحية المقابلة من الطريق، وقِطع الفلين وشِباك الصيد مُلقاة على الكورنيش الحجري، والطائرات الورقية الملونة في سماء الخليج، وصفارات البواخر تترامى — باهتة — من الميناء الغربية.
استأذن قدري عبد الجبار في الانصراف لموعد.
قال شوقي حميدة: اترك خمسين قرشًا … نجمع مبلغًا لعم جرجس البواب.
ثم في صوت رنان: نحن نحتفل بعيد العمال.
قال عبد الجبار: تعرف رأيي في هذا الأسلوب.
يهاجم الحكومة بأقسى من الجميع. يرى أن مشكلات المجتمع لا تُحَل بأساليب فردية. يرفض الصدقة والزكاة، ويطالب بأن تتولى الدولة رعاية المواطنين.
قال شوقي حميدة: تنازلْ عن رأيك في مناسبة العيد.
وهو يطوح الهواء بيده: لا تنازُل!
قبل أن يميل من ناصية شارع السيالة، شعر بيدٍ تُلامس كتفه، وأنفاس تزفر في عنقه: لا تحاول المقاومة!
أمسك به الرجلان، كل واحد بذراع. أدرك أنه مقبوض عليه.
ألغى الرجال الذين امتلأ بهم المكان أية نية له في الهرب، دفعوه إلى العربة ذات الصندوق المغلق. كان آخر رؤيته لسيدة أمام بيت، ترتدي فستانًا مزدانًا بدوائر ملونة، وتحيط شعرها بإيشارب. تصور أنه استمع إلى المصمصة التي تحركت بها شفتاها.
داخَله — في اللحظة التالية — ما يشبه الإحساس بالراحة. أرهقه الخوف والتوقع والاختباء، القلق من مصيرٍ تغيب ملامحه.
حدس — من اختراق أزيز السيارة للسكون والظلمة، ومن اهتزازها في السير على المدَقِّ الترابي بدلًا من الطريق المسفلتة — أنها خلَّفت المدينة، وانطلقت في الخلاء. هل هي أرض زراعية أو صحراء؟
الظلمة المحيطة لا تَبين — من النافذة الحديدية الصغيرة — إلا من أضواء بعيدة، متناثرة، وهواء شتوي بارد. تلاشت الأصوات تمامًا، وهدير الموتور يعمِّق الصمت.
لم يضعوا في الأيدي قيودًا، وإن جلس بجانب السائق ضابطان، وفي الجزء الخلفي جنديان أمسكا بمدفعين رشاشين، وتقدمت العربة سيارة جيب، في داخلها جنود، تبعتها سيارة أخرى.
جاء إلى قصر ثقافة الأنفوشي، المكان الذي أشار إليه الخبر في الجريدة.
الْتِفاتته ناحية المقهى المواجه أعادت جلساته القديمة مع فايز الشيخ وشوقي حميدة. الأبواب الزجاجية المغلقة، إلا من باب واحد، استندت على الجدار الخارجي كراسي من الليف المجدول، تتخللها طاولات معدنية ثلاثية الأرجل. انضم إليهما — في ظروف لا يتذكرها — قدري عبد الجبار، نشأت — بكلماته المتحمسة — فكرة الجماعة، وانتظمت الجلسات في مكتب فايز الشيخ المطل على شارع الخديوي.
كيف لم يفطن إلى ما أحدثه قدري عبد الجبار في حياتهم؟
حدق عماد الشافعي من الكوة الحديدية في جانب السيارة: الطريق مظلمة تمامًا … لعلنا في الطريق إلى معتقل أبو قير.
وجاهد لكتم مخاوفه: هو الأقرب إلى الإسكندرية.
قال شوقي حميدة: يبدو أننا لم نكن نحتفل بعيد العمال، بل كنا نودع الإسكندرية.
قال صبري غانم: نحن لم نرتكب ما يعاقب عليه القانون. أثق أنهم سيُفرجون عنا.
ثم وهو يتخلل شعره بأصابعه: كل نشاطنا إصدار المنشورات التي تناقش تصرفات الحكومة.
امتزجت في داخله مشاعرُ القلق والترقب والخوف. لم يحدث بينه وبين البوليس — من قبل — احتكاك على أي نحو. حتى قسم البوليس لا يذكر أنه تردد عليه لسببٍ ما.
رمقه شوقي حميدة بنظرة متسائلة: لماذا طالبتني بأن أبعدك عن مراقبة البوليس؟
قال صبري غانم: عهدتم لي بحفظ المنشورات … فطلبت مكانًا لا يلاحظه البوليس.
أردف في صوت ذاهل: أنا أحيا مع أسرتي.
كان قد وعد أمه بالعودة إلى البيت بعد أن يقضي السهرة مع أصدقائه. لم يحدثها عن هؤلاء الأصدقاء، ولا المكان الذي يسهرون فيه. هو مجرد لقاء بين الأصدقاء. لن نظل إلى منتصف الليل. كيف انتظرته أمه؟ متى غلبها اليأس من عودته؟ إلى من لجأت لتسأله عنه؟ لا بد أنها اتصلت بمرتضى كمال الدين زميله في الشونة. يصارحه بآرائه السياسية، لكنه لم يحدثه عن جلسات مكتب فايز الشيخ المحامي. لم يثق في خفَّته وميله إلى الثرثرة. تمنى لو أنهم أذنوا له بالتكلم في التليفون، يُطمئن أمه وأخته.
– مجرد إصدار منشورات يعني تأليف تنظيم، وهو ما يتطلب الاعتقال.
ووشَتْ حشرجة صوته بقلقه: النظام يدافع عن نفسه!
أبطأت السيارة من سيرها. وقفت. صمت الموتور تمامًا. تعالي صرير باب حديدي. تحركت العربة ثانية. مسافة قصيرة، ثم عاودت الوقوف. اقترب وقْع أقدام. عالجت يد مزلاج الباب. اقتحم العربة ضوء شاحب من العامود المطل على الساحة الرملية. تلاشى الإحساس بالأُلفة. حل القلق والخوف من المجهول. عمقت اللحظة بالظلمة الرمادية التي أحاطت بالمكان.
ما هذا المكان؟ لماذا جاءوا بهم إليه؟
في الأركان الأربعة أبراج خشبية، يقف في كل منها عسكري يحمل مدفعًا رشاشًا، من فوقه كشاف يتحرك بآلية، أو يحركه ناحية المواضع التي يتوجس من أية حركة فيها.
تلفَّت حوله — بعفوية — يبحث عن دورة المياه. إنْ غلبه الخوف، واتته الرغبة في التبول، فرضت نفسها عليه. الشخطة — التي لم يتبين مصدرها — ثبَّتت نظراته تحت قدميه.
شارع البوريني.
اعتاد النزول من الترام في محطة انحناءة الطريق، يمضي بالقرب من الساحة الصغيرة جواره، إلى التقاء شارع العوامري بشارع السيالة، البيت بطوابقه الثلاثة، الحجرة الصغيرة، المسروقة، بين الطابقين الثاني والثالث، السرير المعدني، والطاولة الخشبية، والكرسيان، والمكتب الخالي، والمرأة اللحيمة على عتبة البيت المقابل، ورائحة الأسماك المترامية من الحلقة.
قال حمزة أبو زيد وهو يتلفت حوله: أشك في دور قدري عبد الجبار … لماذا اختفى؟
لم يكن يُخفي عدم ثقته بقدري عبد الجبار: أشاهد مثله على النواصي، يلعبون الثلاث ورقات.
تخلل صبري غانم شعرَه بأصابعه: هل وشى بما نفعله؟
لاحظ اتساخ حوافِّ الحقيبة. شك في أنه استبدل حقيبته بحقيبة قدري عبد الجبار. قلب الحقيبة بالدهشة. هذه ليست أوراقي. قوائم أسماء وأرقام تليفونات ورسوم تخطيطية ودوائر ومربعات.
قال حمزة أبو زيد: أعِد الحقيبة إلى ما كانت عليه.
وأومأ برأسه: إذا كان عبد الجبار يراقبنا، فعلينا أن نراقبه!
وهز إصبعه محذرًا: خذوا بالكم … قدري على صلة بالمباحث العامة.
المباحث العامة!
لماذا؟ وماذا يقول عنهم في تقاريره، إن كان يكتب التقارير؟ أم أنه يكتفي بالبلاغات الشفوية التي تشي بالحق وبالباطل، ولمجرد أن تظل المباحث العامة في استعانتها به؟
لم يتحدث قدري عبد الجبار عن وظيفة يشغلها، ولا المورد الذي ينفق منه. هو يصل — ربما قبل الموعد المحدد — إلى مكتب فايز الشيخ المحامي، أو إلى مقهى إيليت. يكتفي بالأسئلة وإبداء الملاحظات. لا يتحدث عن نفسه، ولا عن المكان الذي أتى منه، أو يُنسب إليه، ولا إن كان من الإسكندرية، أم من خارجها. تحدث عن خاله الذي كان إمامًا لجامع القائد إبراهيم، قبل أن يصبح وكيلًا لوزارة الأوقاف.
قدمت السيارة الزرقاء عصر اليوم الثالث. فتح العساكر الباب الحديدي. تعرفوا إلى القادم وهو ينحني تأهبًا للنزول.
بدا قدري عبد الجبار مرهقًا، شعره ملبَّد، ذبلت ملامحه، وكسا وجهَه شحوب، وتدلت شفته السُّفلى، وعيناه الضيقتان دائمتا التلفُّت.
أهمل الحلقة المحيطة به، والأعين التي اتسعت بالذهول: ربما هؤلاء يستحقون العقاب … لكنني جئت إلى هنا نتيجة خطأ.
قال حمزة أبو زيد: لسنا تنظيمًا.
قال القائمقام كرم شبل: الأوراق تقول إنكم أعضاء في تنظيم.
وأشار إلى قدري عبد الجبار: حتى هذا الذي ينكر.
قال قدري: اسأل الأميرالاي نصر محيي الدين … يعرف أنه لا شأن لي بالتنظيم … أنا ضد التنظيم.
قال القائمقام كرم شبل: مَن الأميرالاي نصر محيي الدين؟
قال قدري عبد الجبار: المباحث العامة.
استعاد — بينه وبين نفسه — مادة القانون التي ذكَّره بها الأميرالاي نصر محيي الدين: «من يُرشد السلطات إلى تنظيم سري، يقدم شاهدًا، ويُعفى من العقوبة.»
هل خذلوه؟
عرَفوا أن المعتقل تشرف عليه المباحث العامة، لا صلة له بمصلحة السجون، بنظام السجون الذي يسمح بالإشراف، والمتابعة، والمساءلة.
قال القائمقام كرم شبل: نحن لم نخبر أحدًا لماذا أخذناكم ولا أين ذهبتم.
وأشار إلى نفسه: وأنا لم أتسلمكم بالعدد!
مضت اللحظات بطيئة، ثقيلة، مفعمة بالتوقعات التي تشحُب ملامحها. وقفوا صفًّا. اختلطت البداية بما لم يتصوره ولا أعدَّ له نفسه، في لحظات صفاء ومؤانسة وطمأنينة.
تحركوا بين صفٍّ من العساكر يركبون الجياد، وصفٍّ مقابل على الأرض. أمسك الجميع بالكرابيج والعصي والقوايش والجريد. ترافق ضرباتهم من يتحركون في داخل الصف من العنبر إلى الساحة الواسعة.
بدا الفرار من ضربات الجنود مستحيلًا، تخطئ ضربة، فتلحقه ضربة ثانية. الحصار صنعه صفَّا الجنود المتلاصقين، في المسافة من البوابة المفضية إلى بوابة العنبر. الركض هو التصرف الوحيد، تمليه العفوية، أو للفرار من اندفاعات النوة.
دفعه العساكر إلى الجري. جرى في غير اتجاه. بدأ العساكر في مطاردته بالقوايش والكرابيج والعصي وكعوب البنادق، تصيب ما تصل إليه من جسده، خذلته قدرته على الوقوف. سقط على الأرض، دسَّ وجهه في الأرض الرملية. انهال عليه الضرب والرفس والصفعات واللكمات والركلات والبصق.
أدرك أنه لن يستطيع الاحتمال أكثر مما احتمل.
الترقب أخطر اللحظات، ما ينتظره ضبابي وغائم الملامح. صدى الصرخات يتجسد — بالخيال — ألمًا يقتحمه بالخوف. تسري الرعشة في الجسد، ويعاني الرغبة في التبول والقيء. أحس أن قواه تخلَّت عنه تمامًا. ذوَتْ قدرته على الاحتمال، تلاشت، لم يعد يقوى على مجرد الوقوف. مد ذراعيه يحاول أن يستند إلى أي شيء.
استرد أنفاسه بغياب التصور أن الرجل المقعى على الأرض يجز رءوس الرجال التي يحتضنها بين ساقيه. حدَس من الرءوس الحليقة في عودتها إلى الساحة أن الرجل أزال شعرها.
لم يحاول مغالبة نزع ثيابه، وإن ضم ركبتيه بتلقائية، ووضع يديه فوق بعضهما — أسفل بطنه — ليستر عورته.
بدأت الضربات من قبل أن يوجهوا إليه أسئلة من أي نوع، من قبل أن يطالبوه بأي شيء.
ألقى الضابط ذو النجوم الثلاث على كتفيه نظرة على الأوراق أمامه. قال: نريد أن نعرف: لماذا كنتم تجتمعون، وماذا كنتم تقولون في الاجتماعات.
وضغط على الكلمات: كل جملة … كل كلمة … كل حرف!
لم يكن يعرف لماذا قُبض عليه، ولا كان لديه ما يخفيه، أو يعرفه ويكتم روايته.
– نحن نعرف ما لا تعرفه أنت عن نفسك.
روى الضابط ما لم يكن يتصور أنه يعرفه، ما نسيه من طفولته، ومن أعوام حياته في الحجاري، وقفته في دكان سيد النن بائع الصحف، مشاهدته لمباريات الكرة في الساحة المجاورة لحلقة السمك، التقاءه ببهجت مصطفى وإيهاب السلامي فجر كل يوم في جامع علي تمراز. يؤدون الصلاة، ثم ينشغلون بالمناقشات على رصيف الكورنيش.
بدا الضابط عارفًا بكل شيء؛ ماضيه، وحاضره، حتى ردود أفعاله حدَس أنه يجيد توقُّعها. أدرك أن الرجل يمهد لتصرفات لم يُعِد لها نفسه ولا تصورها. داخله يقين بأن شيئًا خطيرًا يحدث في حياته.
أذهله قول الضابط: لماذا قطعت مُنى ريان صلتها بك؟
منى ريان؟!
بدا وقْع الاسم مفاجئًا. لم يتصور أن سره معلن عند الرجل إلى هذا الحد!
ابتدره الضابط بلهجة مفعمة بالجفاف: حدثني عن التنظيم.
– ماذا؟
– التنظيم الذي تتبعه.
– أنا لا أتبع أي تنظيم.
– نحن نعرف كل شيء … حدِّثنا عن طبيعة التنظيم، وأفراده، وماذا كنتم تعدون.
في حوالي الثلاثين، يميزه أنف نافش، وحاجبان كثيفان، وإن أخفت ملامحه ما في نفسه، تساعده النظارة الشمسية فوق عينيه.
استعاد وصف التهمة: التآمر ضد الدولة ومحاولة قلب نظام الحكم؛ كيف؟ وبماذا؟ وما الدليل على صحة التهمة؟
اطمأن إلى ضرورة غياب التحقيق والمساءلة. هو لن يتحدث عن تنظيم لم يشارك فيه ولا يعرفه. تبوخ التهمة فيترك المكان.
قال: لا أعرف ما تتكلم عنه.
– أقترح أن تعترف من نفسك بدلًا من أن يجبرك أحد على الاعتراف.
– أعترف بماذا؟
– لا تُثرني بمراوغتك.
وتعكرت نبرات صوته: مراوغة السمكة لا تمنع سقوطها في يد الصياد!
واقتحمه بنظرة متفحصة: كما ترى … حياتك كتاب مفتوح أمامي.
كان اتهامًا يطلب التأكيد، وليس تحقيقًا ينشد الحقيقة.
– أنت متهم، فقدِّم لنا أدلة اتهامك. لا تنفِ، تهمتك ثابتة، اعترافك إجراء روتيني.
أدرك أن التعذيب سيظل بلا نهاية. هدف الرجل الحصول على معلومات حول تنظيم لم يسمع به إلا في المعتقل، يطلبون اعترافه بما لا يعرفه، ما لم يشارك فيه.
قال: لا أخفي شيئًا فأعترف به. لم أرتكب جريمة فتنزعوها بالتعذيب.
قال القائمقام قاسم عبد ربه: بقاؤك في المعتقل أو الإفراج عنك يتوقف على لسانك، على ما ترُدُّ به عن أسئلتي!
ثم وهو يربِّت صدره بقبضته: ليس التعذيب وحده هو ما نملكه. نفْيك من الحياة حق لنا!
وشَتْ لهجته بالتذلل: صدقني … أنا لا أعرف شيئًا.
يؤلمه أن ما يقوله هو الصدق. لم يكذب، ولا اختلق ما ليس صحيحًا. ما يعرفه رواه. القضايا الاجتماعية وحدها هي محور المناقشات، لم تمتد إلى التيارات السياسية القائمة من إخوان مسلمين وشيوعيين واشتراكيين وطليعة وفدية.
شردت أفكاره بلا رابط، تصور حتى الإعدام، لم يفكر في التهمة التي سيواجه بها مصيره، شغله ما هو فيه، اللحظة التي يحياها، الخطر الذي يهدده.
أومأ الضابط إلى الرجلين.
فاجأته ركلة أسفل ساقه، توافقت صرخة الألم بسقوطه على الأرض. وقع من طوله. فكر أن يتظاهر بالإغماء، أو بالموت، لكن اليدين اللتين لم يرَ صاحبهما أوقفتاه. توالت اللطمات، فتعالى الصراخ. توسطت اللكمة وجهه، انتتر بالضربة القاسية. طار إلى السقف، اصطدم به، تهاوى إلى الأرض، تلقفته الجدران وأعادته، تداخل الأنف والفم والوجنتين، واشتعلت النيران. دارى وجهه — بعفوية — بظهر يده، لكن عصى الجريد هشمت الأصابع، فتخاذلت اليدان، وسقطتا. أخلى جسده، كأنه ليس منه، وليس له. لم يستطع أن يحرك عضلة واحدة، كأنه الموت، أو هو أقسى، فقدَ حتى الإحساس بالزمن.
كان صرصار قد أطلَّ بشاربه من ثقب أسفل الجدار. أربكته الصرخة المتألمة، فانسحب إلى مخبئه.
يثق أن الضابط يعرف الحقيقة، وإن أنكرت كلماته، وطالبت بأن يعترف بالحقيقة. الحقيقة هي ما قاله، أثاره، أرهقه، عدم التصديق. يفطنون — كيف؟ — إلى أن ما رواه هو مِن صُنع خياله. حتى صمته نطقت ملامحهم أنه لمدارة الكذب.
انهالت الصفعات واللكمات والركلات والعصي والكرابيج والشتائم. صرخت الآلام بما لم يتخيله ولا عاناه من قبل.
دار بجسده، يحاول أن يتملص، يفر من الحجرة.
اصطدم بالباب المغلق.
لعلها الرغبة في القهر، وليست في انتزاع ما يتصورون أنه قد حدث. حتى عندما همس باستعداده للاعتراف بما يطلبونه، تواصلت ضرباتهم. بدت هدفًا لا صلة له بحقيقة يريدون معرفتها. ومضت أمام عينيه — المغلقتين — نثاراتٌ من البقع الصغيرة، آلاف من البقع المضيئة، تومض وتتلاشى في اللحظة نفسها، تحل — بدلًا منها — بقع أخرى، بلا انتهاء.
تلاحقت أمواج الضرب. تكوم على نفسه، وأخفى وجهه بساعدَيه. أحس بلحم جسده يتطاير في أرجاء الحجرة.
كان آخر ما رآه — قبل أن يغيب عن الوعي — ملامح الرجل ذي الجسد الممتلئ، والشعر الأشقر والبشرة المشربة بحمرة، في جلسته بالقرب من الباب. تمازج ما لم يستطع فَهمَه ولا إدراك معناه المحدد، النشوة والغضب والغيظ والحقد والشبق والتشفي.
عابر سبيل.
اجتذبته التسمية. اتجه ناحية الكشك على يسار الباب الرئيس للقصر.
لا يشرب السجاير. اكتفى برشفتين من زجاجة الكوكاكولا.
شعر أنه يريد أن يمتص الانفعال بداخله. حاول أن يأخذ ويعطي مع الرجل الستيني، ذي البشرة المجدورة، والعينين الضائقتين، والشفة السفلى المتدلية.
ظل الرجل على ردوده السريعة، المقتضبة.
حدس أن المشي، مجرد أن يترك قدميه للطريق، سيهدِّئ من جيَشان مشاعره. لن يواجه قدري عبد الجبار بملامح تغريه بمهاجمته.
فاجأته — في المرئيات الشاحبة — آلاف الحشرات السوداء أشبه بالذرات الصغيرة، المتطايرة. لم يجد نفسه، تحول إلى قطع وشرائح ومزق ودماء تناثرت في أرجاء الحجرة، التصقت بالأرض والجدران، تطوحت إلى السقف، كأنها الديدان الصغيرة الميتة. لحق التشوه رأسه في ارتمائه فوق المقعد، استقرت ذراعه المبتورة بين قضبان النافذة، اختلط قضيبه بالبول في زاوية المكان، بصق من شفتيه المتورمتين قطعة لحم تمازَج فيها طعم الدم والملح، عُني بلملمة أشلائه.
اطمأن إلى موضع عينيه في وجهه المنتفخ، المشتعل نارًا، تحسس المكان في ضوء شاحب يصدر من النافذة ذات القضبان. السماء من النافذة الصغيرة لا تشي بشيء، وإن عرف أنها السماء نفسها التي تطل على أمه والناس في بحري.
أمضى زمنًا لم يستطع معرفته، لكن توالي النهار والليل وشى بطوله. تلاشي الأصوات من حوله نبَّهه إلى انتتار الأذنين. لمح أذنًا عالقة في طرف العصا الملقاة على الأرض. أعادها إلى موضعها، فتش بعينيه عن الثانية، لم يجدها، أزمع أن يكتفي بها. أفلح في لمِّ معظم أجزاء جسده، لم يتبقَّ — ربما — سوى الرموش التي انتزعها التعذيب.
حين التقى النزلاء في الساحة فطن إلى أنهم فقدوا الكثير من أجسادهم. انتزعها التعذيب، أو تطايرت.
قال فايز الشيخ: أدركت وأنا أواجه التعذيب … لماذا يتمنى بعض المرضى الموت.
لجأ إلى الصراخ قبل أن تنزل عليه أول ضربة سوط، علت الصرخات بتوالي الضرب، تقلصت ملامحه، بدا كأنه يموت، فقدَ صوته، لم يعُدْ يمتلك القدرة على الصراخ، وفقدَ الإحساس بالركلات والقبضات وضربات السياط والشوم والعصي.
تمنى الموت. دعا الله — بينه وبين نفسه — أن يأخذه في ضربةٍ مما يوجهونه إليه.
وهمس بصوت مختنق: كنت أعاني ما هو شر من مرض بلا شفاء!
لم يتصور الإيذاء على أي نحو، لا يقتصر على التعذيب البدني، تلازمه الإهانات ومحاولات الإذلال. رتب الكلمات، استعادها، حفِظها، حدس أن الاعتراف نهاية التعذيب، لا صلة لذلك إن كان قد حدث بالفعل.
قال: لا تنس أني محامٍ!
كانت حركاته العفوية، والتي يغيب عنها التكلف، تخفي حقيقة عمره، وعيناه تخلوان من التعبير تمامًا، والشامة الضخمة في الجانب الأيمن لأنفه، تهتز لحرصه على محاكاة ما جرى.
قال البكباشي عوض بركة: سأترك لك مهمة الدفاع عن أمك!
أربكه الموقف، فلم ينطق الكلمات كما أعدها.
كسَتْ صوتَه نبرةٌ متذللة: سأعترف بكل ما تريدونه.
فاجأه البكباشي عوض بركة بصفعة دفست وجهه بين كتفيه.
قال اللواء حشمت: هل تؤدَّى الأغنية بدون مقدمة موسيقية؟
ورماه بنظرة حادة: الضرب هو المقدمة التي تسبق أغنية الاعتراف!
نزع ملابسه تحت وطأة الضرب بالقوايش والشوم والعصي والجريد حتى تعرَّى تمامًا، غطى براحتيه أسفل بطنه، الركلة المفاجئة طوحت يديه، وألقمت فمه آهة متألمة. شعر بالماء الساخن يتسرب من بين فخذيه. لحقته ركلة ثانية أقوى من الأولى، توالت الصفعات والركلات واللكمات، تصيب ما تصادفه في جسده. تراجع إلى الوراء.
بدا أن اللواء يشغله الضرب لمجرد أن يحدث، لا صلة لما يعانيه بشيء محدد سوى ما تلتمع به عينا اللواء من مشاعرَ صعُب عليه فَهمُها. لم يندَّ عنه صراخ، ولا أنين، ولا أي صوت. كتم النيران المشتعلة في داخله، وآلام الكدمات والجروح والتقيُّحات، ضغط شفته فلا تشي بتخاذله.
ومَض السؤال في لحظة، واختفى: هل ينتهي ما يحدث بموته؟
رفعوه من تحت إبطيه، وقذفوا به بآخر قوتهم. اصطدم بالجدار دون صوت، إلا ما يشبه الصدى. ربطوا قدميه الحافيتين — بين الكاحلين — بحبل صغير مشدود إلى عصًا، أداروا العصا، فالتف الحبل حول الساقين، ضغط عليهما تمامًا. أغمض عينيه للضربة على راحتَي القدمين، في المنتصف تمامًا. أحس أنها أصابت رأسه، ما في داخل الرأس، تعالى الصخب والوشيش، واشتعلت النيران. رافق توالي الضربات بتأوهات وأنين. أحس أنه فقدَ السيطرة على جسمه تمامًا، كأنه مشدود إلى الأرض بقيود لا يراها، تُلزمه موضعه فلا يقوى على الحركة، لا يقوى حتى على تحريك عينيه.
هدأ الصوت، سكت تمامًا.
قال شوقي حميدة في لهجة جدية: كنت سأعترف لو أني أعرف تهمتي، لو أني ارتكبت ما وجهت لي الأسئلة عنه. أروي ما حدث تمامًا … لكن الأسئلة بدت مثل باب سحري، يريدون فتحه بلغز!
بتر ضحكة منفعلة: قلت لهم: اكتبوا الاعتراف الذي تريدونه … وسأوقع عليه.
إن ابتسم، أو ضحك، صنعت الكرمشة دوائر حول عينيه وفمه. ضخامة رأسه لا تتسق مع نحافة وجهه، السِّنتان البارزتان في فكه العلوي تضغطان على الشفة السفلى، فتخلفان أثرًا دائمًا.
قال حمزة أبو زيد: وقَّعت على ما أرادوه … لكنك ظللت بيننا.
قال شوقي حميدة: التعذيب ألغى حتى قدرتي على التفكير!
وجزَّ على أسنانه: نحن لا نفكر في الحرية إلا إذا فقدناها!
ليس الحقد ما يشغله، ولا الرغبة في الثأر. ما يشغله رد مؤامرات قدري عبد الجبار التي لا يعرف بواعثها. كأنه قد أوكل إلى نفسه مسئولية أذية زملائه. يشي، ويكتب التقارير، ويذكر ما حدث، وما اخترعه خياله، ويُنذر بالخطر.
أضاف ما لم يُسأل عنه. تحدث عما يتصل بالقضية، وما لا شأن له به. اعترف بما لم يطالبه به أحد.
قالت مريم: لا تفلت فرصة هذه المحاضرة.
قال في تهوين: هل أتكلم بدلًا منه؟
– هذه فرصتك لإسكات مؤامراته.
ثم وهي تزيح خصلةً شعر من جبهتها: تصفِّي حسابات قديمة … تكشفه للمخدوعين فيه.
وثبَّتت عينيها على وجهه: أين عناد الأمواج؟
قال إنه لن يتوقف عن السباحة، وعن مغالبة التيارات القاسية والأنواء. حتى الدوامات عليه أن يُعِد نفسه للثبات في قلبها، يواجه نذر الأفق، والموت نفسه.
قال: نجح قدري في الصحافة — كما يعلم الجميع — بوسائل غير صحفية.
واتجه بإصبعه ناحية النافذة: قفزات الكانجارو كما قال الرجل.
ثم وهو يطحن أسنانه في استياء: حرص على أن ينال الثقة ليصبح قيادة صحفية. وهذا ما حدث.
وغالب الاختناق في صوته: قدري يحصل على ثمن وشايته بنا!
ضربه البكباشي عوض بركة بالعصا على جانب وجهه. تراقصت أمام عينيه ألوان قوس قزح. الآلام غير محتملة، لكنه حرص أن يكتمها. أغمض عينيه، وعضَّ على شفته السفلى بقوة؛ حتى لا يتأوه، أو يصرخ.
هز البكباشي الأوراق في يده: اسمك يا ولد؟
– جاد سليمان.
– اسمك الحقيقي؟
– هذا هو اسمي.
– إنت مرة … قول أنا مرة.
دون أن يتخلى عن هدوئه: أنا رجل.
علا صوت البكباشي بما يشبه الصراخ: قول أنا مرة!
أتبع قوله بضربة من العصا، مال بتأثير قوتها كتفا جاد سليمان.
استعاد جاد وقفته. ظل صامتًا، استكان إلى خاطر بأن يظل حيث هو، يصمت مهما يشتد الألم، تظل الضربات حتى يموت، ينتهي كل شيء.
علا البكباشي بالعصا وهبط. توالت الضربات، قاسية، لا تختار الموضع الذي تتجه إليه، يرافقها صراخه: قول أنا مرة! أنا مرة! أنا مرة!
تقلصت يدا جاد سليمان حول رأسه، يتَّقي الضربات المتلاحقة، الوحشية، بالشوم والقوايش والجريد والعصي.
تواصلت الضربات.
جاوز حدود التحمل. ألغى ما كان أزمعه من التماسك، والمحافظة على الصمت. ندَّت عنه تأوهات لم يَعِها، ولا كان يقصدها. دار — جريًا — حول الساحة. تهدأ خطواته، فتلاحقه الضربات، تدفعه إلى الجري بآخر سرعته. لم تتركه الضربات إلا بعد أن سقط على ركبتيه، زحف عليهما.
في اندفاعة — لم يتدبرها — قذف بنفسه في اتجاه ساقَي اللواء حشمت. أسقطه على ظهره.
توالت الضربات بالغيظ والحقد، لا تختار مواضعها، ولا تعي المعنى الذي تريده، ولا النهاية التي تتوقعها. مجرد ضربات بالعصي والشوم والجريد، زادت بالتأوهات والأنين، حتى سكتت تمامًا. لم يعُد إلا ترافق أصوات الضربات وترددات الأنفاس.
التقط — بعينين يغشاهما الضباب، وأذنين كادتا تفقدان القدرة على السمع — ملامح من تكشيرات اللواء وصراخه وإشاراته، وعبارات مختلطة: ابن الكلب … جرجروه … اسحلوه ابن المرة … اكتموا صوته أو اجعلوه يولول كالنساء … خلُّوه يندم على اليوم الذي ولد فيه.
تصور أنه مد يديه، يتَّقي ضربة شومة.
اصطدمت الشومة بالجبهة، فانبثق الدم.
اهتز جسد جاد سليمان، كأن ساقيه تخذلانه، كأنه يتهاوى، وسقط في موضعه فاقد الحركة. لمح القائمقام عوض بركة حمرة الدم تبلل الأرضية الرملية.
– وقِّع هنا.
مال على الورقة فوق المكتب المعدني يحاول قراءتها. دس القائمقام كرم شبل رأسه في الورقة. تحسس جبهته، وثنى إلى الرجل نظرة متألمة.
قال القائمقام شبل: لا وقت للقراءة.
قال حمزة أبو زيد: أقرأ ما أوقِّع عليه.
واجهه بنظرة غاضبة: ألا تريد أن تفارقنا؟
أومأ برأسه دلالة الموافقة.
أردف القائمقام كرم: هذا الإقرار لنأذن لك بالخروج.
وحمَّل لهجته تحريضًا: توقيعك على أنك لن تعمل في السياسة.
– أنا لم أمارس العمل السياسي كي أتركه.
– اعتقلناك بعد اجتماع في مكتب فايز الشيخ.
وخالط صوتَه نبرةُ سخرية: لم يكن الاعتقال في كازينو على الكورنيش.
– كنا نحتفل بالعام الجديد.
– لست كاذبًا إذن لو وقَّعت على الإقرار.
توقف القلم في المسافة بين يده والورقة البيضاء. نقرات أمه على باب حجرته، تحية عم بشندي الجزار وهو يغادر البيت كل صباح، اصطدام أمواج البحر بالمكعبات الأسمنتية أسفل الكورنيش، وقفته على محطة الأوتوبيس بميدان المنشية، تحية العلم في حوش المدرسة، جلوة المولد القادمة من شارع رأس التين، ميدان سوق العيد، مَرسى القوارب بالميناء الشرقية، الحديقة المقابلة لمستشفى الملكة نازلي، أهازيج السحر من مئذنة أبو العباس، قاعة القراءة بمكتبة البلدية، حفل رأس السنة في مكتب فايز الشيخ، بائعة الليمون على ناصية شارع الميدان، وهو يطل على الطريق من الترام الدائري، أبيات شعر لناظم حكمت.
قال بلهجة باترة: لا!
سحب القائمقام شبل الورقة من أمامه. دسَّها في درج المكتب. أشار إلى الصول نديم ليصحبه.
لحقه صوت القائمقام قبل أن يغادر حجرة المكتب: إذا تكلمت عن فترة إقامتك معنا، فسنعيدك ثانيةً لتواجه ما لا تتصوره!
اجتذبته لمة الناس فوق الرمال أيمن ورش المراكب: حلقة الجرافة الواسعة، المحاطة بالحبال والفلين، يسحبها الرجال إلى الشاطئ. الأسماك تتقافز في داخلها، أو فوق المياه، أو تنفُذ مِن بين الثقوب.
سماع ممارسة التعذيب أقسى من التعذيب نفسه. التصور ينطلق في آفاق لا حدود لها، يمتزج التوقع والخوف والقلق. أصعب اللحظات، ترامي التأوهات والصرخات والاستغاثات والبكاء وعبارات الاسترحام والغضب من موضع قريب، الصدى في النفوس، لا مبالاة العجز، لا يملكون أي رد، لا يملكون حتى التوقع ولا التنبؤ.
توقعوا عدم قدرة عماد الشافعي على التحمل. ربما اعترف بكل شيء أمام نظرة التخويف. تناهت صرخاته إلى العنبر. طال ترقب الصمت والاعتراف … لكن الصرخات ظلت على تواصلها، ارتفعت الأكتاف مِن تخاذُلها اليائس لمَّا تسارع وقْع الأقدام، وفُتح الباب، وألقت الأيدي بالجسد المغطى بالدم داخل العنبر.
أدركوا أن الشافعي لم يتكلم، خذل التوقعات بأن قدرته الجسدية لن تساعده على تحمل التعذيب.
لاحقته اللكمات بما لم يستطع تفاديه، عشرات القبضات — لا يدري مصدرها — اتجهت إلى غير موضع من جسده. كان قد أعد نفسه للاعتراف بما لم يرتكبه اتقاءَ التعذيب. نسي ما اعتزمه، بعد أن تلقى الضربة الأولى. امتدت اللحظة، لم يعُد يشغله الألم، ولا الموت نفسه، تشظى إلى ذرات متناثرة في فضاء بلا آفاق.
قال شوقي حميدة: إذا كان للقطط سبع أرواح، فإن عماد الشافعي له سبعون روحًا!
لم يكن عماد الشافعي يأخذ ما حدث مأخذ الجد، ولا تصور التطورات التي انتهي إليها. لم يتصور أنه سيجد نفسه خلف أسوار تعزله عن الحياة التي ألِفها. ترك له أبوه — منذ التحاقه بالسنة الأولى في كلية سانت مارك — مسئولية إدارة أعماله الموزعة بين أحياء الإسكندرية؛ عمليات تصدير واستيراد وتوكيلات، وإن همس قدري عبد الجبار أن والد عماد الشافعي صنع ثروته من تجارة المخدرات، وبيع السلاح لطالبي الثأر في الصعيد.
قال عماد الشافعي: لحمزة أبو زيد تجاربُ سابقة. واجه التعذيب في أقسام البوليس، ومبنى المباحث العامة في شارع الفراعنة، والمعتقلات.
تعلم منه أن الصفعة الأولى هي البداية للصفعة الأخيرة. الألم يتلاشى في تواصل التعذيب. البداية لا بد أن تبلغ نهايةً ما، يحرص أن يعض شفتيه حتى لا تُفلت آهة، أو أنَّة، أو صرخة، الآهة سريعة، وامضة، تلي كل ضربة، ثم يَرين صمت، تعلو الآهة بضربة تالية، وضربة أخرى، لا ترافقها كلمات استغاثة، ولا توسلات، أشبه برد الحائط للكرة.
الألم الحقيقي قبل التعذيب وبعده. ترقُّب ما يحل بمن سبقوك، ترامي صراخهم، وأنَّاتهم، واستغاثاتهم، من مكان سيستقبلك، والارتماء — فيما بعد — في زنزانة التأديب المشبَعة بالرطوبة والعطن ورائحة البول، وحيدًا، أو مع الآخرين، تعاني التأثيرات التي تتمنى الموت لتختفي.
اطمأن الشافعي إلى خط النهاية، أيقن أنه إذا لحقه الموت، فسيتحرر، الموت هو الحرية، غابت أحداث الرواية اليونانية التي قرأها لكاتبه كازنتزاكس. لم يغب اسمها (الموت أو الحرية). ما عليه إلا أن يفصل جسده — ما أمكن — عن مشاعره، توجه الضربات إلى جسد لا يملكه، اكتشف في نفسه قدرة أخرى غير القدرة الجسدية، قدرة، أو طاقة، يصعب تحديدها، تحرِّضه على الصمود وعدم التخاذل والبوح. الميت يعاني حشرجات ما قبل النفَس الأخير، ما ينتظره من تعذيب هو الحشرجات نفسها، لحظات طلوع الروح. لماذا لا يتصور أنه بلغ النهاية بالفعل؟
– حين أواجه الخطر، أتصور أقسى الاحتمالات، الاحتمالات الأقل يمكن تقبُّلها!
قال الصاغ زيد التهامي: إذا لم تعترف، فإنهم سيتكفلون بانتزاعِ ما تخفيه!
تراقصت المرئيات أمام عينيه، فلم يعُد قادرًا على التمييز. أسقط فهم الأشياء، والتعرف إلى الوجوه المحيطة، ومشاعر الترقب والخوف. أسقط حتى الذاكرة والإحساس بالزمان والمكان، تداخل أصوات صياح وصراخ وتأوهات ونشيج، لا يدري من أين تأتي، ولا كيف تلاقت واختلطت.
أظهر حمزة أبو زيد تردده عندما عرض عماد الشافعي أن ينضم إلى الجماعة. لم يكن يثق في آرائه ولا تصرفاته. يصفه بأنه صاحب الملعقة الذهبية. لم يترك العمل مع أبيه بعد أن تخرَّج في سانت مارك. رفض إغراء الراتب المرتفع من بنك باركليز.
قال أبو زيد: أخشى أن يسقط من أول قلم.
خالف الشافعي توقعات الجميع. صمد، وتحمل التعذيب، وظل صامتًا.
تعددت الممنوعات، لا كلام، ولا همس، ولا أي صوت، ولا إيماءات، ولا إشارات، ولا تلفُّت، ولا رفْع للرأس، ولا تبديل لوضع الوقوف أو الجلوس. يتحركون بالخوف والصمت. يكتفون بتبادل النظرات، دون كلمات.
اعتاد تحوله إلى رقم كُتب بالبوية على القميص الخيش الزيتي الباهت على لحمه، والأبراش المجدولة من الليف، والبطاطين المهترئة، والجدران الممتلئة بالأسماء والتواريخ، اختلط فيها السواد بالحمرة الداكنة، والنوافذ الحديدية، العالية، المبطنة بالأسلاك، ووقْع الأقدام في الطرقة الأسمنتية، الطويلة، ودوْس الأقدام الحافية قِطعَ الحصى والحجارة الصغيرة، وسماع صليل المفاتيح، وترامي صرير فتح الأبواب وإغلاقها، والنداءات المدغمة أعلى الأسوار، وطرد الوحشة بالغناء في زنزانة انفرادية، مظلمة، ضيقة، رطبة، تشغي بما لا يتبينه من الحشرات الصغيرة. ليس بها نافذة، ولا يدخلها الهواء إلا من زيق أسفل الباب.
لم يتصور أن الزنزانة الانفرادية تنغلق بالظُّلمة عليه. يخشى الظُّلمة، يخافها، هي الموت نفسه. حين صرَّ الباب، ووجد نفسه وحيدًا في العتمة، تلفَّت إلى الفراغ غير المرئي من حوله. تضاءلت التوقعات القاسية حتى غابت تمامًا. انحط على الأرض الأسمنتية، المبتلة، دون أن يشغله حتى التوقع. خمن أن الخشخشة القريبة لفأر أو صرصار. تكوَّم — بتلقائية — حول نفسه. ألح السؤال وهو يتلفت فيما لا يراه من الزنزانة الغارقة في الظلمة: هل بذلت نفسي ومستقبلي لأجد الجزاء في هذه الزنزانة الضيقة؟ هل يدري من ضيعت العمر لأجلهم؟
راح في النوم — بعد ذلك — وأكل، وشرب، وتبول، وتغوط، وجلس، وتحرك، وتذكر، وتأمل، وانتظر، وترددت أنفاسه على حد الصفر واللامبالاة. لم يعُد تشغله الظُّلمة، ولا توقُّع أي شيء. يحتضن جسده بذراعيه، ويكلم نفسه.
الطرقة الأسمنتية، الطويلة، تفضي — في الواجهة — إلى زنزانتين انفراديتين. العنبر الواسع — على اليسار — صفَّت على جانبيه حشيات. على الجدران شعارات وتعليقات ودماء متجمدة، وبقع داكنة، وتواريخ يعرف معناها مَن كتبها. القضبان الحديدية في النوافذ تُلقي ظلالها من خلال الضوء الشاحب، المتسرب على الأرض.
كان مجرد تطلُّع صبري غانم إلى السماء من النوافذ العلوية ينقُله إلى بحري. يترك لخياله تصور الحياة في اللحظة نفسها داخل الحي، يستعيد ومضاتٍ مختلطة: أمه تنشغل بإعداد الطعام، أو ترتيب البيت، أو رفو ما ترتَّق من ثيابه، عم برعي البقال يكنس أمام الدكان، الأولاد يلعبون الكرة في الشارع الخلفي، مدافن البطالمة في انحناءة الطريق إلى ميدان إبراهيم باشا، صخرة الأنفوشي في قلب المياه، يلفها السحر والحكايات التي لا تنتهي، صيد المياس وقت العصاري، القوارب المتناثرة في المساحة ما بين لسان السلسلة وقلعة قايتباي، الضوء المتسرب من الزجاج الملون في قبة صحن أبو العباس، لمَّة النساء حول المقام، يُشعلن الشموع، ويضوِّعْن البخور، ويتلمسن المقصورة النحاسية بالأيدي، مواكب الصوفية تنطلق في شوارع بحري: الزحام والأعلام والبيارق وقارعو الدفوف والطبول والرفاعية والحواة وأكَلة اللهب، وأهازيج السحر، وحلقات الذكر والإنشاد إلى جانب مسجد البوصيري.
دورات المياه في نهاية الطرقة، تفتح وتغلق بلا رتاج، ومفتوحة من أسفل، وارتفاعها يأذن بأن تتبين النظرات ما بداخلها. غاب الإحساس بالخجل من العري، ومن التفاصيل الصغيرة. حفاة، لا يرتدون ثيابًا داخلية، ويضعون على صدورهم قِطعًا من الخيش.
في المواجهة: مكاتب الإدارة؛ القائمقام كرم شبل والقائمقام قاسم عبد ربه والبكباشي عوض بركة والصاغ زيد التهامي، وحجرة أشبه بالقاعة يقيم فيها ضباط من الرتب الأدنى.
وشَتْ نبراته باللهفة: كنت أشتاق لسماع أصواتكم.
وتقطعت كلماته في أنفاسه اللاهثة: كنت في حاجة لأن أسمع صوتًا غير صوتي!
ورافق هز رأسه إرخاء جفنيه وزم شفتيه: كنت أكلم نفسي حتى لا أنسى الكلام.
قال شوقي حميدة: ماذا قلت لها؟
– أي كلام. مجرد الشعور أني لم أفقد النطق!
شرَد شوقي حميدة في تصورات، وهو يتأمل بشرته السمراء، الرائقة، وقامته الفارعة، وذقنه البيضاوي، وشفتيه المنفرجتان عن أسنان ملتمعة.
تمنى لو أنه دخل المعتقل مع المسجونين العاديين، قاتلًا، أو لصًّا، أو مزورًا. أي جريمة، عدا العمل السياسي. يعامَلون باعتبارهم الأدنى، هو في هذا المكان بلا اسم، مجرد رقم لا يَردَفه اسم ولا صفات من أي نوع، لا زيارات، ولا أوراق، ولا أقلام، ولا صحف، أو سماع إذاعات، ولا كتب. لا ضيق، ولا تبرُّم، ولا شكوى، ولا محاولة للمطالبة بأي شيء، أو الاعتراض على الجبن المقدَّد والفول المدمس والعسل الأسود المختلط برائحة نفاذة.
أشار فايز الشيخ إلى أروانة اليمك: نسيت في هذا الطبق معنى الفول المدمس.
قال صبري غانم: هو فول مدمس.
قال الشيخ: فول بالسوس بدلًا من الفول بالزيت.
ثم وهو يعبر بأصابعه: أنا أتناوله حبةً حبةً لأنقِّيه من السوس.
قال صبري غانم: ربما السوس أفضل لأن الحصى يسهل انتشاله!
لم يُعْنَ بأن يكون له عمل محدد، ولا فكَّر في أن تكون له أسرة. اكتفى بالدبلوم من مدرسة التجارة الثانوية بالرصافة. صحب خالًا له إلى داخل الدائرة الجمركية. يدوِّن بيانات، ويجمع أرقامًا، ويملأ استمارات للتصدير والاستيراد. يغادر باب الجمرك كل مساء فلا يعود إلى البيت، يتردد على مكتبة النن بالموازيني، أو يتجه إلى قهوة كريستال، أو يدخل سينما ركس في عروضها المستمرة. ربما اكتفى بالجلوس على الكورنيش الحجري، يتابع عمليات صيد الطراحة والجرافة. يضغط جرس باب الشقة بعد انتصاف الليل.
قال فايز الشيخ: لا بد أننا فعلنا ما نستحق أن نعاقب بسببه!
قال حمزة أبو زيد: أنت تؤدي الصلوات الخمس في أبو العباس … هل هذه جريمة؟
وهو يمط شفته السفلى: الاستغفار مطلوب في كل لحظة، قد لا نفطِن أو نتناسى ما ارتكبناه من ذنوب.
وجرت يده على ذقنه في حيرة: من يدري؟ لعل الله يختبرنا بهذه المحنة، لعله يصفِّي حساباتنا في الدنيا لنعبُر الصراط مطهرين.
كان — حتى في جلسات مكتب فايز الشيخ — يلتزم الصمت، لا يشارك في المناقشات إلا نادرًا، ولا يميل إلى المزاح، أو إلقاء النكات، أو يستخدم العبارات النابية، وكان دائم التمتمة بما لا يبين: آيات قرآنية، أدعية، تسبيحات. يصلي، ويدعو إلى الصلاة. يجد في كثرة الصلوات ما يريح النفس. إن لم يجد ماءً تيمَّم بالتراب.
تخلل صبري غانم شعره بأصابعه: هل عينت المباحث قدري عبد الجبار في وظيفته؟
أردف مستدركًا: أخشى أن يسقط.
قال حمزة أبو زيد: كيف وهو ساقط أصلًا؟!
أضاف أبو زيد وهو يهز رأسه: من حق عبد الجبار أن يحصل على مقابل لخدماته!
قال صبري غانم: خان عبد الجبار رفاقه، ففاز بكل شيء!
قال شوقي حميدة: ضيعنا العمر من أجل ماذا؟
ثم وهو يهز رأسه: من أجل لا شيء!
وفي صوت يرعشه التوتر: المستفيد الوحيد هو عبد الجبار وشذوذ اللواء حشمت!
وانطفأت ملامحه: خرجنا إلى وظائف صغيرة.
أضاف كالمتنبه: لعماد الشافعي فضل نشكره عليه. أما قدري فقد نزل بالباراشوت على وظيفته المهمة.
قال عماد الشافعي: لا تضع المقابل في اعتبارك.
وحدجه بنظرة معاتِبة: لم يدفعنا أحد إلى أداء دورنا.
زاد صبري غانم مِن تخلل شعره بأصابعه: لم تفكر في الناس.
قال حمزة أبو زيد: أي ناس؟
– الناس. الذين دفعنا حياتنا من أجلهم؟
قال أبو زيد: أنت اعتُقلت لقضية تؤمن بها، وليس لتوسل إعجاب الناس.
– مهم أن أجد صدى الفعل، ولو في عين من يدافع عنه الفعل.
– فعلنا ما رأيناه صوابًا. يجب ألا ننتظر شيئًا!
قال شوقي حميدة: قرأت لقدري في الجريدة أمس، يتحدث عن والده شيخ الطريقة.
وافترَّت شفتاه عن ابتسامة باهتة: لن أفاجَأ إذا أعلن نسبته إلى آل البيت!
كان يكثر من التقليد والمحاكاة، ويسخر من كل ما يراه. اطمأن إلى بساطة مواجهته للأمور، كأنه قد امتص كل الانفعالات، فغابت عن ملامحه. وجد نفسه في القراءة، التعبير الذي يستهويه يسجله في نوتة صغيرة داخل جيبه، يعود إليها ليضمن من التعبيرات رسائل، أو مقالات يسعى لنشرها في الصحف، يضمِّن عباراته كلمات بالإنجليزية والفرنسية، ما يلبَث أن يترجمها في السياق، ويواصل الحديث، يردد عبارات من طه حسين وسلامة موسى والعقاد، تدفعه رغبة في تغيير الناس. ما أحزنه أن الأيدي العابثة استولت على حقيبة جلدية، بها نوتته الصغيرة، يسجل — في صفحات منها — ملاحظاته اليومية، ومواعيده، ونسخة خطية لروايةٍ وعَد عماد الشافعي بقراءتها، وإيصالات أمانة على عبد الرحيم بيومي — زميله في المكتب — بمبالغ اقترضها منه.
قال حمزة أبو زيد إنه ربما يحصل على إجازة بدون مرتب. يكتب في أثنائها رحلته بين السجون والمعتقلات. مَن الْتقى بهم، من واجهوه بالعداء، ومن آذوه، ومن ظلوا على صداقتهم، حتى بعد أن صار خارج الأسوار. أرهقه الانتقال بين المعتقلات والسجون. الأحداث السياسية محطات في انتقاله بينها: الحضرة، الاستئناف، سجن الأجانب المطِل على شارع عماد الدين، ليمان طرة، السجن الحربي، سجن مصر، أبو زعبل، الأوردي، الزيتون، روض الفرج، المحاريق، الواحات، أسيوط، بنى سويف، المنصورة، المنيا. ينتقلون من السجن إلى المعتقل، ومن المعتقل إلى معتقل آخر. تقيد «الحجلة» معاصم الأيدي، لكل كلبش حلقتان، في جنزير يمتد ١٥ مترًا.
اعتاد التردد على الأطباء منذ ترك الصحراء، يعالج قيحًا، أو صديدًا، له رائحة عفنة تحت ركبته، وما أدى إلى العرج في مشيته.
يشعر باقتراب الصول نديم من صليل المفاتيح في يده. عشرات المفاتيح لا يدري كيف يميز الرجل بينها. تحدث حمزة أبو زيد عن الصول نديم. عرفه في مرات الاعتقال السابقة. يؤدي عمله بحرفية. لا متعة، ولا نشوة، ولا حتى رغبة في التعذيب. هي أوامر ينفذها، مجرد عمل يعنيه أن يُثبت قدرته على أدائه. لا صلة لما يفعله بالحب والكره والغيظ والغضب والحقد. لا يعطي انتباهه للتوسل، ولا الصرخات، ولا خوف الموت من الضرب في حالات المرض. لا ينظر حتى في وجه من يُخضعه للتعذيب. كلهم حالات دخلت المعتقل لأنها تستحق العقاب. الأوامر مشددة بألَّا يظهر على الأجساد ما يُعَد دليلًا على وقوع التعذيب، أو أنه قد جرى أصلًا. لكنه لم يكن ينشغل إن أصابت الضربات الكتفين، أو الظهر، أو الساق، أو الذراع، أو البطن. من يقع، تلحقه الأحذية ذات المسامير في كعوب الأحذية الميري. تدوس الموضع الذي تصل إليه من جسده: وجهه، رقبته، صدره. لا تدبُّر للنتائج، وما إذا كان النزيل يواجه الخطر. يحرص على الرأس، فلا تصيبه الضربات. تلك مسئولية يتحملها وحده، لن يُعفيه من عقاب القانون حشمت باشا، ولا القائمقام كرم شبل، ولا إدارة المباحث العامة.
يدق الأرض بقدميه في سيره — الذي ربما بلا مبرر له — بين الزنازين، يُصلصِل بالمفاتيح في يده. يفتح أبواب العنابر ويغلقها بعنف متعمَّد، يلتذ بتخمين وقْع ما يفعله داخل الزنازين المغلقة، يضع كل المشاعر في الآذان المتنصتة. يشغله أن يظل الخطر قائمًا في توالي اللحظات، لا راحة إلا إذا اجتذبهم النوم.
اللحظات التي تصل نهاية الليل ببداية النهار، الظُّلمة الشديدة الحُلْكة والصمت. تأتي بالتوقعات والخوف. وقْع الأقدام الملهوفة، والنداءات، وجلسة اللواء حشمت المستلذة إلى جانب الفناء، يرقب عمليات تعذيبَ مَن يأمر — أولَ الليل — باختيارهم. يطالع البلاغات والتقارير، ثم يذكر الأسماء. ما بين اثنين وثلاثة. تُطيل التبليغات أو تقصِّر فترة النداء التالي على من واجهوا العقاب.
الصيحة توقظ الجميع. يفزُّون من نومهم. التوقع الذي اعتادوه: قدوم اللواء حشمت باشا بجسده الممتلئ، وشعره الأشقر، وبشرته المُشرَبة بحمرة، وصوته الأنثوي.
لحظات ما قبل الفجر أو بعدها مباشرة.
يدور المفتاح في مزلاج باب العنبر. ينادي الصول نديم على اسم أحد النزلاء. ينتظره على الباب، أو يدخل ليقتاده. أصعب اللحظات عندما يغادر عتمة العنبر إلى الساحة في ساعات الصباح. يشعر أن ضوء الشمس يسلبه النظر. يحمل الجنود مدافعهم الرشاشة في نصف دائرة أمام الباب. تجسِّد التصورات ما يلحق بالغائبين حتى يعودوا مستندين إلى أيدي العساكر، أو يُدفعوا في الزنازين الانفرادية. يتكرر فتح باب العنبر، واصطفاقه. يطرح العسكري، أو العسكريان، جسدًا جديدًا فقد القدرة على الحركة، وتلوَّث زيُّه الأبيض بالدم والبول.
قال صبري غانم: ألَا تلاحظون أن إقامتنا هنا بلا تهمة محددة؟
قال فايز الشيخ: يتحدثون عن تنظيم!
قال عماد الشافعي: اقتنعوا بعد حفلات التعذيب أن التنظيم في أدمغتهم وحدها.
وعلا صوته بالاستياء: لماذا إذن نحن هنا؟
قال شوقي حميدة: أصعب شيء أن تتعرض لإيذاء لا تملك الرد عليه ولا مقاومته.
قال عماد الشافعي: أحب الغناء … لكنني أكرهه منذ وضعوا صراخ الأغنيات في أذني!
وعلا حاجباه في تساؤل مستغرب: بالمناسبة … لماذا يصر حشمت باشا على أن نقف أمامه متجردين تمامًا؟!
قال حمزة في دهشة: قدري عبد الجبار؟!
قال صبري غانم: المحاضرة عن تجربته النضالية … يهمني أن أكشف كذبه.
– لنفرض أنه كذب … ماذا تفيد من فضحه؟
وهو يهز رأسه: لا شيء. مجرد أن أواجهه بحقيقته.
رأى قدري عبد الجبار يتسلل إلى العنبر قرب الفجر، ويدس نفسه وهو يتلفَّت في فرشته.
الهمسات عن المكانة التي فرضتها الإدارة بين النُّزلاء، تبليغات الإدارة، هو الذي يُستدعى لسماعها، وهو الذي يتولى إذاعتها.
طالبه اللواء حشمت أن يكتب تقارير عما يحدث في العنابر، وفي ساحة المعتقل، ما يقوله النزلاء في العلن، والهمسات التي يتبادلونها، حتى الملاحظات التي تبدو عفوية، قد تشي بتوقعات قاسية.
أقنع نفسه بأنه لا يملك الرفض، لا يملك حتى الأخذ والرد وطرح الأسئلة. ما يطلبه اللواء قدَر، حتْم.
أدرك أن حرص حشمت على متابعة عمليات التعذيب، لا يعني الإشراف على تنفيذ أوامره، ما يشبه الإحساس باللذة يبين في عينيه، وارتعاشات ملامحه، ووقفته المتململة.
قال حمزة أبو زيد: قدري مثل الغراب يأكل ما يصادفه، بقية الطيور تتذوق ما تأكله.
وفي نبرة متأثرة: هذا هو الفرق بين قدري وبيننا!
أعاد رواية ما يتهامس به الجميع عن حشمت باشا، كأنه يريد تعويض ما يعاني افتقاده، يدرأ الاتهام بتوجيهه إلى النزلاء. لم يكن يميل إلى المثقفين، ولا يثق بهم، ويكرههم، يرى أن معظم ما يتحدثون فيه مجرد شعارات، أو تهويمات لا قيمة لها.
استفزه فايز الشيخ ذات ليلة: لماذا أنت؟
قال قدري عبد الجبار: هل هي ميزة؟!
– طبعًا.
وأعاد السؤال: لماذا أنت؟
– اسأل إدارة المعتقل!
الأفضل أن يدفع قدري ثمن ملاحظته: حفل تأديب، أو حبس انفرادي، أو قتله — لمحاولته الفرار — بعيدًا عن البنايات … لكن الأيام تتوالى دون عقاب من أي نوع. فطن النزلاء إلى أن قدري عبد الجبار تعمَّد ألا يوسع الخرق؛ حتى لا يعاديه الجميع.
لماذا يحتفظ معتقل بصموده؟ ولماذا يسقط آخر؟ لماذا يحتفظ الأول بأخطر الأسرار، ويوافق الثاني على خيانة رفاقه؟ ما سر الطبيعة الإنسانية المحيرة؟
ناوشت شوقي حميدة رغبة بأن ينقضَّ على قدري عبد الجبار، ويسحقه. يُلقي به في بئر، أو في أعماق البحر، أو يقذف به في السماء. هو نفاية بشرية، جسد زائد، يؤذي ولا يفيد. بعوضة، ذبابة، صرصار.
كان شوقي ينفق على أسرته التي فقدت العائل، وعلى دراسته بكلية التجارة، بتدريس مادة الرياضيات في معهد ليلي يطل على ميدان التحرير: مبنى البورصة، وتمثال محمد علي، والكنيسة الإنجيلية، والحديقة المستطيلة، والنخيل الملكي، وتقاطعات الطرق إلى شوارع وسط البلد. حين نشِطت عمليات البناء في منطقة الورديان وما فوق، قصَر نشاطه على التجارة في أدوات المعمار: الأسمنت والجير والبويات وأدوات الحدادة والسباكة والنجارة.
قبل أن يصعد الدرجات الرخامية إلى داخل المبنى، مال في اتجاه اليسار. مضى ناحية رأس التين، ملامح الأفق القريب: انحناءة الأمواج خلف البنايات، في المواجهة مبنى الكلية البحرية، وسراي رأس التين، والحديقة الدائرية الهائلة، والكردونات الحديدية. إلى اليمين — في موازاة الكورنيش الحجري — مسرح الإبياري، ومركز الشباب البحري، وورش السفن احتلت معظم المساحة إلى قرب السراي، تَبين من انفراجاتها المتداخلة رمال الشاطئ، وملامستها للأمواج، حتى نهاية الأفق، البلانسات والقوارب الصغيرة تتناثر كتبقيعات ملونة في مساحة خليج الأنفوشي. في الناحية المقابلة، شوارع اعتاد اختراقها عند قدومه إلى حلقة السمك، أو تردُّدِه على أصدقاء في مساكن السواحل، أو في مستشفى رأس التين، أو دخول سينما السواحل — قبل أن تكتفي بالعروض المسرحية — أو سينما الأنفوشي، أو مجرد السير — ضمن شلة — على رصيف الكورنيش، ما بين قلعة قايتباي وإطلالة سراي رأس التين على أرصفة الميناء الغربية.
لم يكن في باله اتجاه يقصده. أراد تهدئة نفسه، امتصاص الغضب، فلا ينعكس فيما أعد لقوله أمام قدري عبد الجبار، يستعيد ما جرى، يواجهه بما يتناساه، يناقشه، يسأله، يكذِّب روايته التي لن تختلف عن كل ما يقرأه له في صحيفته.
قال عماد الشافعي: القائمقام كرم شبل لا يوافق على ما نعانيه!
وتنهَّد كأنه يتحرر من همٍّ يثقُل عليه: لو لم يكن الرجل هنا لواجهنا الموت في كل لحظة. هو الوحيد من البشر بين فصائل من الحيوان، أولهم حشمت وآخرهم العسكري الذي يضع غلَّه في ضرب شخص لا يعرفه، حتى العصا التي يحملها اللواء حشمت تُمسك بها يد أخرى لا نراها.
أدرك أن الإنسان في أعماق القائمقام شبل. يؤدي عمله كواجب وظيفي، لا مجال فيه للتهاون، ولا للخطأ أو المشاعر، لكنه يجيد كتْم مشاعره، لا يبدي تعاطفًا ولا إشفاقًا، ولا يُظهر التأثر، وإن كان لا يشتم، ولا يشارك في عمليات التعذيب. يغيب حتى عن أوقاتها.
– مشكلة ضابط البوليس أنه لا بد أن يكون قاسيًا، حتى لا يعزله رؤساؤه!
لم يكن القائمقام شبل يُبين عن مشاعره، ملامحه أقرب إلى الجمود. تصرفاته — وحدها — أظهرت تعاطفه مع النزلاء، ومراعاته لظروفهم الإنسانية. حتى حمزة أبو زيد أذن له أن يحتفظ في جيبه بقلم ونوتة صغيرة.
رفض حمزة أبو زيد ما رآه عماد الشافعي تعاطفًا من الصاغ زيد التهامي مع النزلاء. لا تحدثني عن الرأفة. مَن أتى إلى هذا المكان يعرف ما يجب أن يفعله. إنه مجرد ترس في آلة تعذيب لا تعي. إنهم فصيلة واحدة، متشابهون.
وسيطر عليه غضب: الضباط هم الأَولى أن يعيشوا في الزنازين، هم المجرمون الحقيقيون، وليس نحن.
قال فايز الشيخ: هؤلاء الضباط مجرد واجهة … مجرد منفذين.
وعلت شفتيه بسمةٌ شاحبة: المهم هو من يعطي الأوامر.
قال له الصاغ زيد التهامي: أرى أنك تجيد كتابة الرسائل.
همَّ أن يسأله: كيف عرَفت؟
تذكر أن الضابط يقرأ الرسائل التي يكتبها، والرسائل التي يتلقاها.
اكتفى بالقول: ربما!
– أريد أن تكتب لي رسالة.
– لا أفهم في الرسائل الإدارية.
– ما أريده رسالة أخرى.
ووشى صوته بتوتر: لصديقة.
كأن الضابط نزع قناعًا ووضع غيره. لم يعُد ذلك الصامت، الساكن الملامح، وإن ارتجف أنفه الدقيق، وشفتاه الرفيعتان بتوتر واضح.
تحدث عن فتاة، صديقة. تخصه بابتسامة تميزه بها عن سواه، تُشعره أنها تهتم به. اطمأن إلى ابتسامتها، وأحبها، حين تلتقي عيناهما، تومئ له بهزة من رأسها، يرد عليها بهزة مماثلة. يختزلان بالنظرات ما يشعر به كلٌّ منهما نحو الآخر. طال تردده في التودد إليها، يجد نفسه على مسافة قريبة، دون أن يجرؤ على التحدث إليها، لا يجد الكلمات التي يعبر بها عن مشاعره. إن التقت نظراتهما، حوَّلت عينيها بعيدًا عنه، لا تحاول مجرد النظر إليه.
بدت رسائل الصاغ زيد التهامي وسيلة لكسب قلبه ومعاملته الطيبة.
قال الصاغ إنه لا يشعر بالخجل من عمله، ولا يشعر بالاعتزاز أيضًا. هو عمل يتقاضى عنه راتبًا، لا يتقاعس، ولا يغالي. يؤدي العمل كما يُطلب منه، لا يرفض الأوامر، ولا يناقشها، الأوامر تصدر إليه، ينفذها كما تلقاها، وكما فهمها، لا يعنيه ملامستها الصواب، أو ابتعادها عنه، الأوامر تصدر من الرتبة الأعلى، تنفذها الرتب الأصغر.
المعتقل نظام. من يخالف النظام، من يخترقه، عليه أن يواجه مغبَّة ما فعل. ما يعنيه أن ينفذ التعليمات، لا يضيف إليها، ولا يحذف منها، ولا يناقش مغزاها. يلتزم بالقوانين والقواعد واللوائح. لا يأذن لنفسه، ولا للآخرين، بإهمالها، أو تخطِّيها. مجرد أوامر عليه أن يطيعها. لم يكن يشغله إلا أن يطيع النزلاء أوامر الإدارة، وينفذوها. قد لا يرضى عن أوامر اللواء حشمت باشا، أو يوافق عليها، لكنها أوامر عُليا يجب أن تنفذ. من يتجاهلها، أو يرفضها، لا بد أن يواجه العقاب. التساهل في الخطأ البسيط يستتبعه انفلات في كل شيء.
لا يذكر مناسبة وقوفه في الميدان الصغير، في تلك اللحظة.
ما يذكره أن الوقت لم يكن ليلًا، ولم يكن نهارًا. التراموايات والأوتوبيسات تأتي، يتزاحم الناس على أبوابها. خالف ما ألِفَه من ميل إلى التدافع والمزاحمة، والنفاذ إلى كرسي يجلس عليه. اقتصر تصرفه على تأمل المشهد، وهو يقضم أظافره. الميدان يمضي — من اليمين — إلى الشارع الهادئ المفضي إلى جانب الكلية البحرية، يميل — من اليسار — ناحية مستشفى رأس التين ومدرسة إبراهيم الأول والمحطة النهائية. وثمة أشعة الشمس تضوي الألَقَ فوق موج الميناء الشرقية.
صرخ لمفاجأة الصفعة القاسية على ظهر يده.
طالعه الوجه المتغضن لعجوز يرتدي بذلة أنيقة، ويضع على رأسه طربوشًا. حدجه بنظرة تزاوج بين الضيق والإشفاق: لا تقضم أظافرك!
لم يكن يعرفه ولا التقى به من قبل.
احتوى ما توقعه من رد فعل بملامح الأبوة التي كست وجهه: قد تسمَّم جسدك!
أشفق على قدري عبد الجبار من إعراض النزلاء. بدا ضائعًا بينهم. ثمة تضامن غير مرئي ربط بين الجميع، قاطعوه، عاقبوه بالترك والإهمال، عزلوه عن جلساتهم. لم يكن اسمه يتردد على الألسن ولو بالنداء، وكانوا يتصرفون أمامه كأنه غير موجود، كأنه لا شيء، لا يلقون السلام عليه، ويرفضون الرد على سلامه أو تحيته. إذا طلب من أحد النزلاء شيئًا، لا يفاجئه الصمت ولا الإعراض. لا يحاولون حتى الالتفات ناحيته، أو الرد على ما يوجهه من أسئلة. يَشرُدون بنظراتهم عن أسئلته، ويهملون محاولاته لاجتذابهم إلى مناقشات بمواصلة ما يتحدثون فيه.
عماد الشافعي — وحده — حرَص على أن يقتسم ما يأتيه من طعام مع قدري عبد الجبار. لا يأكل — بمفرده — إلا طعام السجن. رأيه أن نظرات الإشفاق، لا الاحتقار، هي التي يجب أن يتجهوا بها إلى من قهره التعذيب، فاعترف. للإرادة قدرتها على التحمل.
– في هذا المكان لا مجال للشماتة!
لم يكن يجد في نفسه عقدًا تحكم تصرفاته، يستضيف قدري في بيته، يُقِله في سيارته، يدعوه إلى الأماكن التي يفضلها، هو الذي يدفع دائمًا. لم يتصور أن الصدى معاناة يحاول قدري أن يتخلص منها.
قال شوقي حميدة: قدري عبد الجبار لم يخضع لأي تعذيب.
أردف في صوت مشروخ: في داخله خائن يعرضه للبيع.
توقفت أصابع صبري غانم في تخللها شعر رأسه: ربما أخضعوه لتعذيب نفسي.
– كل أفعال قدري تؤكد العكس!
لم يكن في المعتقل من لم يشتبك معه، بالقول أو بالفعل. ربما امتد الفعل إلى اللجوء لما تصل إليه يداه.
لاحظ خلوَّ الكتاب من النقود التي أخفاها بين صفحاته: جنيه، جنيهان، خمسة. يعيد عدَّها، ويطمئن إلى موضعها. عبد الجبار هو الوحيد الذي يظهر غضبه. يجد في السؤال عن النقود إهانة تغضبه.
تعددت السرقات: نقود، كتب، ثياب داخلية, نظارة، جوارب. حتى أقراص الدواء كانت تختفي. أومأ شوقي حميدة برأسه ناحية قدري عبد الجبار.
ثم في صوت هامس: اتهمه وحده … العساكر أشرف من أن يسرقوا!
اغتصب ضحكة وهو يلعن طه حسين، أراد للتعليم أن يصبح كالماء والهواء، جعله أمثال عبد الجبار ماءً فاسدًا وهواءً مسمومًا، موضعه الطبيعي خلف ترابيزة الورقات الثلاث، وليس خلف درج المدرسة، أو مدرج الكلية، أو مكتب الوظيفة.
يصر أبو زيد ألا تتحول الشكاوى بلاغات لإدارة المعتقل. هي فرصة — لا مبرر لها — لتقليب العنابر في حملة تفتيش تبدأ ولا تنتهي. لن تكون الأشياء الضائعة هي الهدف. الهدف هو ما لم يصل إليه التفتيش الدوري والمفاجئ عن الممنوعات.
التفت وراءه.
تبين أنه قد مشى بعيدًا. أمامه سراي رأس التين، تميزها القباب والأبراج ذات الفتحات الطولية، تطل على البحر من ثلاث جهات، إلى يسارها مبنى الكلية البحرية، وإلى اليسار جانب من الميناء الغربية، البواخر والأرصفة والحاويات والقوارب الصغيرة المتناثرة. الطريق الخالي إلى ما وراء السراي، وصخرة الأنفوشي الساكنة، المتصاعدة من المياه، في اتجاه نظراته، وبدا آخر ورش القزق قبالة شارع صفر باشا.
تردد في الميل بدوران الترام إلى ميدان إبراهيم باشا، ثم اختار العودة.
قال القائمقام كرم شبل: من كان وراء ما حدث؟
سربوا — في عربة نقل اليمك — جنازير وأسلحة بيضاء.
تعالى وقْع الأحذية الثقيلة خارج العنابر.
هجم الجنود — من فوق جيادهم — بالهراوات والكرابيج والسيور الجلدية. لجأ النزلاء إلى الطوب وقطع الأخشاب والحديد. ثمة من وقف في زوايا العنابر مكتفيًا بالفرجة الخائفة.
تعالت رائحة الرصاص والدماء، واختلاط الأوامر والصيحات والنداءات وصرير الأبواب والأقفال.
ثم حل الصمت.
لم يكد اللواء حشمت يضغط على الزر، حتى تكلم قدري عبد الجبار. ما يستحق أن يروى وما لا يستحق، الأسماء ذات الأهمية، والتي لا أهمية لها.
نطق اسم حمزة أبو زيد. يغيظه حِرصه على أن يكون القطب الذي يتوسط الكون، صاحب الأمر والنهي والسؤال. يرتدي ثوب الزعامة في علاقته بالآخرين. هو ملجأ أسرارهم، أشبه بالكاهن الذي يعترفون أمامه بكل شيء، حتى التفاصيل الصغيرة التي يصعب أن تغادر الذات، كانوا يبوحون له بها، يكشفون عما في نفوسهم. إن واجهتهم مشكلة، تركوا لأبو زيد أمر حلها. يعطي انتباهه، فيفضي له الآخرون بمشكلاتهم، لكنه لم يكن يفضي بما في دخيلة نفسه لأحد. يستعيد قراءات، وينصح، ويأمر، ويسأل، ويجد في أجوبته حسمًا يصعُب على أي أحد أن يضيف إليه، أو يحذف منه، أو يبدِّله.
– مشكلة حمزة أبو زيد أنه يرى من حقه أن يتكلم، ومن واجب الجميع أن يسمعوا!
ذكر عماد الشافعي وفايز الشيخ وشوقي حميدة وصبري غانم وأسماء أخرى كثيرة، داخل الجماعة، وخارجها. أتاح له الاندساس وسط الجماعة أن يحصل الكثير مما يمكن أن يرويه. تحدث عن وقائع حقيقية، ووقائع اخترعها الخيال، نطق أسماء تذكَّر أصحابها، من أسعفته بهم الذاكرة، زملاء في الجامعة، سامح البرديسي المعيد بقسم الاجتماع في آداب الإسكندرية، حامد رضوان زميله في المكتب. يذكر له كلمات سخيفة وتوبيخات. حتى من دخل معه في خصومة من «قرموط صهبرة» — يذكر اسمه، وإن لم يدْرِ أين ذهب — نطق اسمه. استعاد ملامح وأسماء لم يكن بينه وبين أصحابها صداقة، ولا عداوة، ولا علاقة من أي نوع.
قال البكباشي عوض بركة: هذه الأسماء تكفي!
قال قدري عبد الجبار: أنا أعرف أسماء أخرى.
قال البكباشي عوض: أخشى أنك ستذكر أسماء كل أهل الإسكندرية.
وهو يغالب الانفعال: من يخطئ لا بد أن ينال عقابه.
– من يخطئ يا قدري، وليس من نصفِّي حساباتنا معهم.
– ذكرت من ثبتت لديَّ خيانته.
ثم وهو يغالب الارتباك: في ذاكرتي قوائم كاملة.
شوح البكباشي بيده: احتفظ بها لنفسك.
– لكنهم خطر على البلد.
– دع لنا تقدير الأمور.
نظر في ساعته أكثر من نصف ساعة قبل موعد المحاضرة. مضى — بعفوية — ناحية الشارع المقابل لمركز شباب الأنفوشي. اخترق الشوارع المتقابلة، والمتقاطعة، يعرفها، أو يراها للمرة الأولى. تباعد قدومه من صفر باشا إلى السيالة، ظلمة الليل تصعِّب مِن تعرُّفه إلى المرئيات. في الدقيقة الرابعة، تأمل الوقت. أربع دقائق في العودة. اخترق شارعًا ضيقًا بلا لافتة، يذكر من زياراته القديمة أنه يُفضي إلى قصر الثقافة.
التقى في زحام الشوارع، أو في هدوئها — بعد خروجه من المعتقل — رفاقًا تعرَّف إليهم في الشقة المطلة على تقاطع شارعَي العطارين وصلاح الدين. يلحظ ادعاءهم شرود النظرات، أو حِرْصهم على الاتجاه إلى الناحية المقابلة. وكان يعيِّنهم بالفعل نفسه. تعددت لقاءاته في مبنى الأتيليه بشارع فيكتور باسيلي بحمزة أبو زيد وشوقي حميدة وعماد الشافعي وفايز الشيخ. لم تكن اللقاءات منتظمة. يباعد بينها مشاعرُ حزينة كأنها الموت. صورة جاد سليمان تفرض نفسها على الجلسات. جرُّه العساكر بامتداد الطرقة المفضية إلى الحوش. نزلوا به السلم على ظهره، لا يعبئون باصطدام رأسه وظهره، ولا بصراخه. لم يتركوه إلا في البسطة الأخيرة.
انقضت الأحذية الثقيلة والعصي والهراوات وفروع الأشجار والسيور المصنوعة من السلك المجدول.
فرض تقرير الطبيب الشرعي إعادة التحقيق في ظروف مقتل جاد سليمان. الصفة التشريحية: «الوفاة ناتجة عن التعذيب الشديد في جميع أنحاء الجسم. سحَجات في الوجه والظهر وباطن الكفين، وكسر بمفصل الركبة اليمنى، وكدمات بالصدر، وحروق في الخصيتين نتيجة الصعق الكهربائي، وتجمعات دموية تحت الجلد، وانسكابات دموية بالمخ والأوعية الرخوة، وإصابات ظاهرة بالرأس، وكسر بالفقرات العنقية، وتهتُّك بالنخاع الشوكي.» تسربت المنشورات عن التفصيلات من بداياتها. أظلموا العنابر، والساحة الرملية، وغرف الضباط، وثكنات الجنود. حتى كشافات المراقبة أطفئت. مضى الجنود — في الظلمة المتكاثفة — إلى الخلاء. بدءوا الحفر في موضع يصعب أن تترامى فيه الأصوات للمعتقل. ألقوا الجسد في الحفرة، وأهالوا التراب.
كان قد التقى جاد سليمان في ساحة المعتقل، لكنه لم يتعرف إليه. عرف اسمه ومهنته من فايز الشيخ. رافق حديثه عنه إعجاب. يكتب في الصحف، يناقش القضايا القومية، له مكتب للترجمة والنشر، وأصدر العديد من الكتب التي ألَّفها، أو نشرها، لمؤلفين آخرين. لم يرتبط الاسم بالسحنة في البداية، ثم نطق آهة التذكر، وإن لم يتصور أن ذلك الجسد العملاق — الذي تذكره — يموت من الضرب!
قال عماد الشافعي: أموت وأعرف من الذي كان يأمر بالتعذيب؛ المستر إكس الذي فوق، ويأمر بما بلغ القتل.
قال حمزة أبو زيد: لولا استشهاد جاد سليمان ما كنا خرجنا من المعتقل.
وابتعدت عيناه عن وجهه، اتجهتا إلى مكان غير مرئي: افتدانا بحياته!
لم يتصور أن يكون قتل جاد سليمان هو ثمن الخروج من المعتقل. مات لكي يعود الجميع إلى المدينة، إلى الحياة التي اعتادوها.
صعِد الدرجات القليلة، أفضت به إلى قاعة واسعة، على جانبيها حجرات لموظفي القصر، وقاعات صغيرة — السلالم — في زاويتي المكان — تصعدان إلى فوق. قضى على فكرة الاختيار بالصعود إلى الطابق العلوي من إحدى الزاويتين. المواجهة هي ما يريده، يطيل النظر في عينَي قدري عبد الجبار، يدفعه إلى الفعل المماثل. المواجهة تفرض الاقتراب، والاقتراب يعني الجلوس — أو حتى الوقوف — أول الصفوف.
عانى فترة ما بعد الخروج من المعتقل. التزامه بالبقاء في البيت من غروب شمس كلِّ يوم إلى شروقِ شمس اليوم التالي. انزاحت الأسوار والجدران، لكن الاعتقال يظل قائمًا في السجن فترة الليل، داخل البيت. حتى البيت يصبح سجينًا إن أُجبرت على البقاء فيه.
تأكد من غياب العين المراقبة، قبل أن يقف على ناصية شارع صلاح الدين المتقاطع من شارع العطارين. يستطيع التطلع — من موضعه — إلى مكتب المحامي فايز الشيخ. زالت اللافتة من موضعها، وأكد إغلاق أبواب النوافذ والشرفات توقُّفَ المكتب عن العمل. شكا من إغلاق المكتب. ظلت المصاريف، وإن توقفت الإيرادات تمامًا. انعكست إقامته في المعتقل — بعد خروجه — لفترة طويلة، خوفه من كل تصرف، وكل إنسان. حتى الأصوات المرتفعة، أو المفاجِئة، تثيره، تربكه. يعاني التلفُّت، وربما عرَتْه ارتعاشة يعاني في كتمها.
قال صبري غانم: اعتُقلنا بلا هوية … فلماذا لا تكون لنا هوية؟
قال قدري عبد الجبار وهو يجذب طرف شاربه: الشيوعية هي مستقبل العالم.
وسرحت نظراته: لماذا لا نراهن على المستقبل؟
ودارى انفعاله بإشعال سيجارة: نحن ماركسيون … علينا أن نمارس نشاطنا السياسي بهذه الصفة؟
قال حمزة أبو زيد: لم نكن ذات يوم تنظيمًا سياسيًّا، لكننا مجموعة تحاول مناقشة قضايانا المهمة.
قال قدري: تعبير مطاطي.
وضرب فخذه بأصابعه في تأكيد: الاهتمام بالقضايا العامة يعني سياسة، ومواقفنا في صلب النظرية الماركسية. نحن إذن تنظيم ماركسي.
صرخ حمزة أبو زيد: لا! … لسنا تنظيمًا سياسيًّا!
تحدد عالمه في كتابة البيانات والمنشورات، لكنه رفض أن يتحدد ذلك في تنظيم سري أو معلن. لسنا حزبًا، ولا جماعة تسعى إلى تغيير النظام. يعرفون أنه إذا اتخذ قرارًا، فمن الصعب على أي شخص أن يقنعه بالعدول عنه.
لاحظ حرص قدري عبد الجبار على حضور كل الاجتماعات، افتعال المناقشات الساخنة، تحويل المجموعة إلى مجموعتين، توالي التحذيرات بأن ينزلوا فُرادى من شقة فايز الشيخ، لا يهَبون اطمئنانهم لمن لا يعرفونه، ملاحظة النظرات المتابعة.
نطق وجه صبري غانم بالاستياء: لماذا تُصر على كتابة محضر؟
– إجراء تنظيمي.
– نحن لسنا ناديًا ولا جماعة رسمية.
أعاد التطلع إلى النشرات المعلقة فوق الاستندات في مساحات الجدران، بين الأبواب: فرقة قصر ثقافة الأنفوشي المسرحية … نادي المسرح … نادي السينما.. نادي المشاهدة … قاعة المرسم … قاعة المعارض … فرقة قصر ثقافة الأنفوشي للفنون الشعبية … فرقة قصر ثقافة الأنفوشي للموسيقا والكورال … نادي الأدب … المكتبة … قاعة الكمبيوتر.
حين شعر براحة اليد تتقلص على ذراعه، غلبه الارتباك والخوف. المخبر يرتدي بذلة صيفية أقرب إلى السفاري، ويدسُّ قدميه في حذاء بلاستيك.
البيت في نهاية شارع أبو وردة، فالمخبر يعرف ظروفه جيدًا، من هو، وأين يقيم، ومواعيد تردده على البيت. أغمض عينيه، وتنهَّد. أرهقته أعوام الاعتقال.
تملص من ذراع المخبر، وانفلت إلى شارع جانبي ضيق. اندفع وسط الشوارع والحواري الضيقة، والمتقاطعة، والمتشابكة. لم يتدبر اتجاهه، ولا إلى أين تسرع خطواته. ما همَّه أن يبتعد عن المخبر، وعن المكان. يصل إلى موضع لا يتلفت فيه، وتنتظم أنفاسه. أخذ في وجهه. اصطدم بنسوة جالسات، وأطفال يلعبون، وأجولة، وأقفاص. أفلح في التماسك لما تعثرت قدمه في قطعة حجر على جانب الحارة الضيقة، وواصل الجري.
لم يعد المخبر وحده يطارده. تكاثر وقْعُ الأقدام مِن خلفه. هل يظنونه لصًّا؟!
اصطدم بمن انشقت عنه الأرض، واعترضه. دفعه بيده، وواصل الجري.
طالَعه شارع الميدان.
فكَّر في أن يندس في الناس، يحتمي بالزحام. لكن صيحة المخبر: حرامي، فاجأته باندفاع الناس ناحيته، يهتفون بالصيحة نفسها. مال إلى شارع وكالة الليمون وجرى. لحقه وقْع الخطوات. زاد من جريه. جرى بآخرِ ما عنده. تحولت الميادين والشوارع والمساجد والحدائق وساحات الخلاء إلى مطاردات لا تنتهي، وخطر لم يتدبر مواجهته. تلاحقه الخطوات السريعة والمتباطئة. تُطِل عليه الأعين التي لا يراها من أخِصَّة النوافذ، ومصاريع الأبواب، وداخل المقاهي والدكاكين.
أغراه باب البيت الموارب بالدخول. صعِد طابقين على السلالم الحجرية المتآكلة. واجهه باب السطح المغلق. أطل — من جانب النافذة — ليرى إن كان مطارِدوه قد فطنوا إلى ما فعل. المخبران يتلفتان على الناصية، يحدِّقان في المارَّة القليلين. أدرك أنه أجاد الاختباء، فدار بعينيه يتأمل ما حوله. انبثقت — كالحلم — على باب الشقة المفتوح، الفستان البيتي المشغول بالدانتيلا، البشرة السمراء، الصافية، الوجه المستطيل، تكسوه ابتسامة طفولية، العينان السوداوان، الواسعتان، الشعر الأسود، الناعم، المنسدل على الكتفين.
هل تابعت المطاردة؟
لم يكن بوسعه إلا أن يستجيب لإشارتها. أهمل إن كانت ستخفيه، أم أنها ستغلق عليه الباب وتدعوهم لأخذه؟
صحا، فقالت لعينيه المتلفتتين: أنت في أمان.
لاحظت مريم التفاتته ناحية الكتب المصفوفة على المكتب. كانت رؤيته إلى اليوم التالي ضبابية أو غائبة. حرَص أن يرتب أشياءه، يضع ثيابه في حقيبة جلدية، وكتبه في صناديق كرتون.
قالت: أخرجتها من الصندوق لأقرأها.
استطردت وهي تشير ناحية الكتب: قرأت هذه الروايات … كل أبطالها وصوليون.
اغتصب ابتسامة: فكرت في إعداد رسالة عن الشخصيات المشابهة لقدري عبد الجبار.
وأشاح بيده: لم أجد تشابهًا.
تأمل شخصية محجوب عبد الدايم في «القاهرة الجديدة». مثَّلت الظروفُ القاسية دافعًا كي يبيع نفسه. لو أن الظروف تغيرت، ربما لم يكن فعل ما فعل. حسنين كامل علي في «بداية ونهاية» لم يبِعْ نفسه. كان المظهر الاجتماعي، حرصه لنفسه، ولأسرته. رفض الظروف المعاكسة. أقدم على القتل لتظل الصورة على صفائها. يوسف عبد الحميد السويفي في «الرجل الذي فقد ظله»، أعطت تصرفات أبيه مبررًا لما فعل. حتى رضوان ياسين في «السكرية»، بذل جسده بتأثيرات مرضية، قد لا تكون له حيلة فيها. تقبُّل قدري عبد الجبار لفكرة التسلق لا شأن له بظروف حياته. الوصولية تكوين في جسده، في دمه. اختار السير في طريقها، وكانت أمامه طرق أخرى مغايرة.
قالت مريم: صعب أن ننسى ما عشناه.
وغمزت بعينها: لكن من حقنا أن نعوض تلك الأيام!
تكررت النقرات على الباب. كانت الظلمة الشاحبة قد تسللت إلى الشقة، وهدأت الأصوات المتصاعدة من الشارع. تناهى الصوت هامسًا: أنا أم مريم.
أحس بالطمأنينة، وإن لم يعرف صاحبة الصوت.
وهو يغالب الارتباك: تفضلي.
أعادت القول: أنا أم مريم.
أدرك أنها تقصد الفتاة التي أخفته عن المطاردين. لاحظ التشابه بين المرأتين. وقفة مريم أمام باب الشقة، وإفساحها الطريق له كي يصعد إلى شقة الطابق الثاني. يقف — بالحيرة — أمام الباب المغلق، قبل أن تلحقه بالمفتاح، فيدخل. لحظات منفصلة تشرَّب فيها ملامح الفتاة. طرح المقارنة بينها وبين ملامح السيدة الجالسة أمامه. صعُب عليه تقدير سنٍّ لها، ملامحها المبتسمة راوحت سنَّها بين الأربعين والستين. لاحظ تماثل سمرة البشرة، واستطالة الوجه، والابتسامة الطفولية، وإن تسللت من الطرحة السوداء خصلة من الشعر الأبيض. ترتدي عباءة سوداء، مطرزة في الصدر والكمين بخيط من القصب.
واجهته بعينين محدقتين: أفضل أن تصمت ولا تكذب.
ثم في صوت متباطئ: ما حكايتك؟
انعكس التصديق في تعبيرات وجهها وهو يروي ما حدث، كرَّ الخيط من بدايته. لم تسأل ولا استوضحت. روى لها ظروف اعتقاله، وفراره، ومحاولة إعادته إلى المعتقل.
لما بدأ في الاستطراد قاطعته: سياسة؟
هز رأسه مؤكدًا.
قالت وهي تتهيأ للنزول: لا تحاول النظر من النوافذ ولا فتح الباب.
وأومأت ناحية الباب: لن يفتح الشقة سواي.
حدثته — صباحَ اليوم الثالث — عن حياتها في البيت ذي الطابقين مع زوجها المدرس، وابنتها. مات الزوج، فقاسمت مريم مسئولية البيت.
هزت رأسها: سنتدبر الأمر.
وقالت وهي تتجه ناحية الباب: إذا أردت أن تروِّح عن نفسك فلا بأس.
أضافت بلهجة محذرة: لا تبتعد عن الحي.
تأمَّل ملامحها الساكنة: هل كان لهذه السيدة طفولة، أو أنها وُلدت هكذا؟
نزل الدرجات الحجرية.
احتوته الشوارع المتقاطعة، المتشابكة، والبيوت القصيرة المتلاصقة، والمشربيات الخشبية تطل — من الطابق الأول — على الطريق الضيقة، وألعاب البِلي والدوم والطائرات الورقية.
طالعه شارع الميدان: الزحام الذي يتوقعه، والدكاكين بظت بضائعها على الرصيف، أقفاص وأجولة وصناديق ومِنشات، ومقالي اللب والسوداني، والأفران، وعربات اليد، وعربات الكارو، والملصقات، والكتابة على الجدران، والتندات المهترئة، والشماسي، وروائح الكباب والكفتة والممبار ولحمة الرأس والعطارة وأريج البخور، والمقاهي يتناثر زبائنها في مساحات الفراغ، والوكالات، والمخازن، والمناشر أمام الشرفات محمَّلة بالملابس المغسولة، والملاءات اللف، والجلابيب، والفساتين، والعباءات، والعمائم، والطواقي، واللاسات، والبِدل، والبلوفرات، والأحذية، والمراكيب، والشباشب، والأقدام الحافية، والنداءات، والصيحات، وباعة العرقسوس، والمجاذيب، والرءوس تحمل الصفائح والأقفاص وصناديق الكرتون، وتلاقي الأذان من المساجد المتقاربة، واختلاط روْث الحمير وأعواد الملوخية وبقايا الكرنب ومُصاصة القصب والقش وقطع الطماطم المتعفنة.
مرة وحيدة أهمل نصيحة المرأة بأن يقتصر تحرُّكه داخل الحي. داخلته رغبة في أن يخترق شوارع بحري إلى البيت رقم ١١ بشارع المسافرخانة. يتسلل — في غيبة من الأعين المتلصصة — إلى داخل البيت. يرى أمه، يحدثها عن ظروفه، وعن شوقه إليها. يخفض عينيه، يتقي نظرات العتاب التي ترمُقه بها، لا تتكلم، وإنما تترك لنظراتها توصيل المعنى. كانت قد أبدت تخوُّفها من أن تسيء إليه تصرفاته بما يُفقده وظيفته، سيصعب الدخول إلى عمله في الدائرة الجمركية، وربما أبعدته تقارير الأمن عن وظيفته تمامًا.
تراجعت بأعلى صدرها، في جلستها على كنبة الصالة، وعلا صوتها بلهجة تحذير: لو أن المصيبة حدثت، من ينفق على البيت؟
مضى من شارع أبو وردة إلى صفر باشا، ومنه إلى شارع المسافرخانة.
لم يتصور أن أمه ستجد الأوراق، تبحث عنها فتجدها. لم يتعود أن تقلِّب في أشيائه. قرأ في رواية بوليسية أن ما نريد إخفاءه، نضعه في الواجهة، لا تتصور النظرات المتشككة أن ما تبحث عنه في موضع ظاهر. لكن أمه التقطت ما أصابها بالذعر. تبدَّل وجهها بما لم يعرفه فيها من قبل، تمازج الغضب والاستياء والقلق والخوف: هل تكرهنا إلى هذا الحد؟ ألَا تعرف أن هذه الأوراق قنابل تضعها في البيت، لو أنها اكتُشفت فستقذف بك في السجن، وتقضي على هذا البيت؟ منذ تخرجت اقتصر دورك على العناية بنفسك ورعايتنا. تريد أن تقضي على نفسك؟ تريد أن تقضي علينا؟ أختك صغيرة، ومن المستحيل — في ظروفي الصحية — أن أبحث عنك في المعتقلات، لا وقت عندي لهذه الأشياء، ربيناك لتصبح مصدرًا لراحتنا، لا لتكون سببًا في دمارنا. ما ذنبنا؟ وأنت … ألا تُهمك نفسك؟!
ظل على صمته المطرق حتى أنهت أمه ما قالته.
لم تكن أمه تسأله، أو تناقشه، فيما يشغله، والتهديدات التي يعانيها.
حين عاد — في صباح ثاني يوم — كان القلق يقف بمريم وأمها وراء النافذة.
اطمأنت إليه الأم. تصعد وحدها بالوجبات والثياب المكوية. أبدى ملاحظة لمريم حول متابعة أمها له بالطعام، كأنها لا تريد أن تترك بطنه فارغة. تصعد بأطباق متنوعة، أو يجدها على طاولة الصالة، عقب عودته إلى البيت، ما يحبه وما لم يتذوقه من قبل. هذا الطعام أفضل وسيلة لزيادة الوزن!
لم يكن يتلفت حوله بما يثير الانتباه، لكنه اعتاد الدكانَين المتجاورين قبالة البيت، سمكري ومنجِّد. الطوابق الأرضية في البنايات الثلاث التالية تشغلها شقق، لا يحاول النظر إلى المطلِّين من نوافذها. المقهى — في التقاطع — له أربعة أبواب، بابان على كل ناصية. يجاوره دكان حلاق، تدلَّت على بابه ستارة من الزجاج، ولصق الجدار — بين البابين — جلست امرأة وراء مشنَّتين لليمون والبصل والفجل والكرات والجرجير.
توقع — شعر أحيانًا — أن الأعين ترمُقه بالفضول والتخمين والأسئلة. تعمَّد أن تتجه نظرته إلى الأمام، ويهمل التلفت، أو حتى إلقاء التحية، وإن حفظ الظلمة الشاحبة في مداخل البيوت، ونشع الجدران. التعرف — بالنظرة السريعة — يتيحه له خلوُّ الشارع، وغياب الواقفين على أبواب البيوت والدكاكين والمطلِّين من النوافذ. ربما مال إلى شارع جانبي، يطل برأسه، يختبر ما إذا كان أحد يتبعه.
لم يُطِل التأمل ولا التحديق، لكن ملامح المكان ثبتت في ذاكرته جيدًا. يميز — من اللفتات السريعة — تفصيلات الجسد، والثوب الذي لا يتبدل، والجلسة المسترخية، والتساند على الجدار.
كانت واقفة على ناصية شارع أبو وردة، نظرها معلق بالناحية التي ربما تتوقع قدومه منها. داخلته نشوة لاتجاه نظراتها — حين لمحته — إلى الناحية المقابلة. تظاهر هو أيضًا بأنه قد فوجئ بوقفتها: آنسة مريم.
أهمل ما بدا عليها من ارتباك. قال: هل تريدين شيئًا؟
– أبدًا.
وابتسمت في حياء: بائع الخبز يكتفي بالسير في الشارع الرئيسي.
قال: أشتري لك من الفرن.
تعددت لقاءاتهما، بمصادفة حقيقية، أو مصادفة مِن تدبيرها. بسطة السلم، أو في انحناءة الطريق، أو أمام البائعة في نهاية الشارع. يتبادلان كلمات ودية، لا تتناول شيئًا محددًا. مجرد كلمات يُمْليها الموقف، ثم ينصرف كلٌّ منهما في طريقه.
أكثرَ من النزول إلى الطريق، والعودة إلى البيت. مجرد أن يراها، ويكلمها، أو تهَبَه التحية، أو حتى تومئ برأسها. يستعيد وقفتها على باب البيت. طوق النجاة الذي ألقت به وسط الدوامة. وشَتْ مشاركة الناس في المطاردة بما بدا حتميًّا. الواحة المفاجئة أنقذته من الصحراء القاسية.
ألحَّ السؤال: ماذا بعد؟
في داخله يقين أن المعتقل في نهاية الأفق. الوظيفة حلم جميل يعي تشابكاته المستحيلة. اليأس طريق وحيدة إن عجزت أمه عن الإنفاق عليه.
هل تحقق المعنى، النتيجة، من تخرجه في الجامعة، وبطالته، وكلمات أمه المُليمة، والعيش في الخطر؟!
هل تدرك مريم المأزق الذي يعانيه؟!
تعلو القاعةَ الرئيسية لافتةٌ من النحاس، كتب عليها «قاعة يوسف وهبي».
هي القاعة التي يقدِّم قدري عبد الجبار — على مسرحها — آخر العروض، يثق أن ما أعده قدري سيبوخ بمجرد أن يواجهه، يزيح القناع الذي ربما نسي هو نفسه كيف كانت ملامحه قبل أن يضعه على وجهه.
حين عرض عليها أن يلتقيا بعيدًا عن الحي، عن النظرات المتسائلة والمتوجسة، فاجأته بإيماءة الموافقة. تغيرت صورة حدائق الشلالات بتغير الوقت. لقاؤه العاطفي الأول منذ اجتذبته المعتقلات. اختار الكلمات، رتَّبها، أعاد صياغتها، توقع تأثيراتها.
مد يده. لامست يدها. قال للنظرة المتسائلة في عينيها: أطار التعذيبُ إصبعي.
قالت في لهجة مهوِّنة: المهم أنك لم تفقد نفسك.
هز رأسه: ربما!
التقت أصابع اليدين. رنَتْ إليه بنظرة زاجرة: الناس يروننا.
– أي ناس؟
وهو يتظاهر بالتلفت: قرأت بيتًا من الشعر يقول: أرى كثيرًا ولكن لا أرى أحدًا.
هم أن يميل عليها ويقبِّلها، لكن نظرتها الرافضة أعادت كتفيه إلى موضعهما، وتدلَّت ذراعاه جانبه.
قرأ اللافتة الصغيرة: قاعة محمد ناجي.
بدت خالية إلا من لوحات على الجدران. تأمل اللوحات. أطال تأمل لوحة باللونين الأبيض والأسود تمثِّل ناسًا يضعون الصحف والمظلات فوق رءوسهم اتقاءَ المطر.
لم يعد يكتفي بإيماءة الرأس. ربما — إن التقيا في مدخل البيت — يمد يده بالسلام، ويصعد إلى الطابق العلوي، أو ينزل إلى الطريق. غابت النظرات الفضولية والمتوجسة.
فاجأته الأم بقولها: هل يضايقك كثيرًا لو ظللت في البيت؟
استطردت للدهشة في ملامحه: لن يطول الأمر … أخشى أن البوليس يبحث عنك في الحي.
– كيف عرفتِ؟
قالت مريم: ماما تكتشف السِّحن الغريبة.
واحتضنته بنظرة حانية: لا بأس من الأخذ بالأحوط.
قالت الأم: كم أمضيت في المعتقل؟
– ثماني سنوات.
– أليست كافية؟
– لا أفهم!
– هل تطمع في سنوات أخرى؟
– بل أريد الاستقرار.
قالت الأم: أنت لن تحارب العالم بمفردك؟
ورنَتْ إليه بنظرة مشفقة: الناس لا يجدون في حياتهم ما يدعو إلى القلق.
ومصمصت شفتيها: لماذا تدافع عن قضية لا يشعر بها أصحابها؟!
وعلا صوتها بالسؤال: ماذا أفاد تنقُّلك بين السجون والمعتقلات؟
وهو ينفض رأسه: لم يتغير شيء!
أشاحت بيدها: أخشى أنك بذلت حريتك بلا مقابل!
اعتاد الحياة في الشقة. يحرص على الهدوء سمةً لتصرفاته، يخفي المشاعر الصاخبة في داخله، تختلط الصور وتتشابك: الأسوار العالية والعنابر والجدران المتآكلة ورائحة البول واللواء حشمت وقدري عبد الجبار والزنزانة الانفرادية والعبارات المنقوشة على الجدران وحمزة أبو زيد وحفلات التعذيب والخوف من المجهول. قرأ الصحف، واستمع إلى الإذاعة، وشاهد التليفزيون. يفتح باب الشقة بحذر. يُطِل — من الدرابزين الحديدي أمام البسطة — على النور المتسرب من باب الشقة المغلق. يترامى صوت الراديو، وأصداء الحركة داخل الشقة، والأحاديث المدغمة بين الأم والابنة. يُصيخ سمعه للأصوات المتصاعدة من الطريق، ووقْع الأقدام على السلم، وفتْح باب شقة الطابق الأول وإغلاقه، حتى نداءات الباعة يميزها، يتبين الأصواتَ التي لم يسبق له سماعها. ربما استيقظ في هدأة الليل — مفزوعًا — على صرير باب، أو انزلاق سيارة، أو نداء مكتوم.
هل رأت الأم سِحنًا غريبة، أو أنها تخفي ما يقلقه؟
تشاغل بالنظر إلى الاستندات على جانبي البهو الواسع، أُلصقت عليها إعلانات بعروض موسيقية وأمسيات للقصة والشعر ومحاضرات وندوات. توسطتها الدعوة إلى محاضرة قدري عبد الجبار، سبق اسمَه صفةُ الكاتب الكبير.
وضعت الحقيبة الجلدية أمامه. قالت: أوراق مهمة.
ودفعت بها ناحيته: يطالبك حمزة أبو زيد بأن تحتفظ بها.
– أين؟
– قلت له إنك في مكان آمن.
– هل ترين؟
روت له عن لقائها بحمزة، ما طالبها به تمامًا، عدم التلفت فلا تثير انتباه أحد.
وهو يتعمد الهدوء في صوته: هل صعدت إلى الشقة؟
وأودع في نظرته ما عجز عن قوله: طالبتُكِ بأن يكون لقاؤكما في الحديقة المواجهة للبيت.
ولوَّح بسبابته: ذلك ما اتفقنا عليه في التليفون.
فطنت إلى ما يشغله، افترَّ فمها عن ابتسامة مشفقة: البيت آمن … وهو إنسان مؤدب.
هز رأسه مؤمِّنًا: هذا رأيي … لكنني أخاف عليك.
ولمحت التماع دمع في عينيه. قالت: أفضل أن أحتفظ بالحقيبة.
– ما ذنبك؟!
– النشاط السياسي ليس جريمة.
– رأي لا تقتنع به المباحث.
حلَّ صمت. أراد أن يقول شيئًا. أراد أن يقول لها أحبك، أي شيء، ثم قال مدفوعًا بإحساس اللحظة: لولا ظروفي لتزوجنا حالًا.
قالت مريم: لا داعي للعجلة.
وأسبلت جفنيها: يجب أن يعرف أحدنا الآخر جيدًا.
– أعرفك جيدًا … ماذا عنكِ؟
انتزعت ابتسامة في مواجهة التماع عينيه: أتصور أني أعرفك.
وفي صوت يرعشه الارتباك: فترة الخطوبة مهمة!
حدجها بنظرة متوجسة: هل تجدين في دخولي حياتك خطأ؟
– لماذا هذا التصور؟
– تبدين مترددة.
– هذا طبيعي؛ نُعِد لحياة مشتركة.
حرص على أن يدخل قبل موعد المحاضرة بربع ساعة. معظم المقاعد خالية، وانشغلت سيدة بالتأكد من سلامة الميكروفون، ومِن وضع زجاجات المياه على المنصة.
تعمَّد أن يجلس في منتصف الصف الأمامي، حتى يطمئن إلى مواجهته. يدفعه للنظر إليه، يتذكره. لا بد أن يتذكره. يربكه التوقع. يقتحمه بأسئلة وملاحظات. يلتذ بانعكاساتها على ملامح عبد الجبار.
اقتحمه شعور بالصدمة حين عرف أن ساكنة البيت المواجه هي التي أبلغت البوليس. توجست منه، وفي دخوله البيت وخروجه بما يشبه التسلل. تكلمت مع بقال على ناصية شارع الجمرك القديم. خطف رجله إلى قسم الجمرك، وروى شكوك المرأة. أطل من خصاص النافذة على الضباط والعساكر الذين تناثروا في الشارع الضيق.
لم يحاول الفرار.
أدرك أنه سيظل مستيقظًا بالقلق والخوف وتوقع المجهول. لكن التعب الذي حل به، اجتذبه للنوم. خلا نومه حتى من الأحلام أو الكوابيس.
صحا على اختلاط النداءات ووقْع الأقدام والمناقشات. دار بعينيه. فطن إلى أنه ليس في البيت، وأنه في داخل المعتقل.
انشغل الجميع في لمِّ الملاءات والبطاطين، ودس الثياب والكتب والمجلات والأدوية وأدوات الحلاقة والنظافة الشخصية في صناديق الكرتون والحقائب القماش والبلاستيك.
لم يعُدْ يتلفت فيما حوله، ويدقق في الملامح، ويُصيخ السمع. اطمأن إلى نهاية لعبة القط والفأر. اختفى التوقع والخوف. صار في قلب الخطر، جزءًا منه. حلَّ سكون وراحة.
تنهَّد: كنت أطلب النهاية على أي نحو!
قال عماد الشافعي: ألاحظ أن المجموعة كلها هنا بربطة المعلم.
قال حمزة أبو زيد: أين قدري عبد الجبار إذن؟
قدري عبد الجبار.
كان الأمن يفاجئ الجميع بأنه يعرف كل شيء عن الاجتماعات التي يعقدونها. حرك حمزة أبو زيد يده في دوائر، بما يضع الشك في الأسقف والجدران والتكييف وأجهزة التليفون والطاولة والكراسي، ما يسهِّل تثبيت أجهزة التنصت في داخلها. روى عماد الشافعي أنه رأى قدري عبد الجبار وهو يدسُّ في جيبه أوراقًا من التي خلَّفها الاجتماع على الطاولة الهائلة. تظاهر بأنه لم يرَ شيئًا، وإن قرر — بينه وبين نفسه — أن يروي لحمزة أبو زيد ما حدث.
لاحظ عماد الشافعي أن قدري عبد الجبار يقلِّب في الأدراج.
– هل تبحث عن هذه الورقة؟
رمقها حمزة أبو زيد بنظرة سريعة: أين وجدتها؟
قال الشافعي: في بيت عبد الجبار … الأجزخانة الصغيرة داخل الحمام.
– لا أفهم.
– زرته … دخلت الحمام … تصورت أني سأجد في الأجزخانة ميكركرومًا لجرح في إصبعي … وجدت هذه الورقة.
– لا تكلم أحدًا عنها.
– أتصور أنها بخط عبد الجبار.
– هذا صحيح … ما أطلبه الآن أن تسكت!
أدركوا — من مجرد النظر إلى آفاق الصحراء المترامية، تتخللها الجبال الصخرية — أن الطريق إلى هذا المكان لا عودة منها. المحاولة تُفضي إلى التيه، إلى فِقدان الاتجاه، وترقب المجهول.
غاب المشهد الذي كان ثابتًا في معتقل أبو قير: الأسلاك الشائكة، والأبراج العالية في الأركان الأربعة، والمدافع الرشاشة في أيدي العساكر.
كان المعتقل بلا أبواب، ولا أسوار حجرية، ولا أسلاك شائكة، ولا مراصد للحراسة. البيوت متلاصقة، ومتباعدة، من طابق واحد. بُنيت بالطوب الأبيض، وخلَتْ من الأبواب والنوافذ. بقعة في بحر رمال بلا آفاق ينتهي إليها. محاولة الهرب تعني الضياع وسط الخلاء المترامي. حتى الظلال تغيب بغياب الجبال والهضاب. ليس إلا المساحات المنبسطة.
اطمأنت إدارة المعتقل إلى المستحيل في محاولة الفرار، لا يعرف مصير الهارب أحد. لا يعرف هو نفسُه المصيرَ الذي يفر إليه. الصحراء الممتدة بلا نهاية، والجبال الصخرية، والشمس الحارقة، والحيوانات المفترسة. لا صلة للنزلاء بالعالم الخارجي. لا يتصلون بأحد، ولا يتصل بهم أحد. إذا صرخوا فلن يردَّ عليهم حتى الصدى. لا أسوار تعزلهم عن أي شيء، فالمكان متصل. احتمال الفرار الوحيد أكثر من ثمانمائة كيلومتر، معظمها مدقَّات ترابية، لا تقطعه سوى السيارات. لا صلة لهم بالبشر خارج المكان، عزلوا تمامًا عن الحياة في الخارج، لا يتابعون ما قد يبنون عليه توقعات، أو تصرفات يجدون فيها الخلاص مما يعانون، يكتمون توقعاتهم بقسوة الأيام المقبلة، الضباط والجنود أقوى؛ لأنهم على صلة بالحياة بعيدًا عن المعتقل. ينتقلون إليها، يخالطون من لا يرونهم، يتابعون الأخبار، ينقلون الأوامر، ينفذون التعليمات.
أن يكون لهم حق يطلبونه، ذلك ما يبدو مستحيلًا في الظروف التي يحيَونها. إذا شكا النزلاء، فمن إدارة المعتقل. الإدارة هي الجسر الوحيد بين المعتقل والعالم الخارجي. لو أن النزلاء حاولوا الصراخ، فلن يردَّ عليهم حتى الصدى.
قال اللواء كرم شبل: إذا لم ترجعكم سيارة، فإن مجرد التفكير في الفرار ينطوي على مخاطرة ساذجة!
ثم وهو يرسم بعصاه — في الرمال — خطوطًا متقاطعة، ودوائر: من يفكر في فراقنا فهو يذهب إلى الجوع والعطش والموت.
وامتد بصره إلى نقطة غير مرئية: يصبح أكلة غير متوقعة لوحوش الصحراء أو للطيور المفترسة!
وارتعشت شفتاه بالكلمات: ربما كسرنا ساقي من يفكر في الهرب ليدرك أنه لن يذهب بعيدًا!
داخَله إحساس أن هذا الرجل الواقف أمامهم، يملك — على لسانه — قرار الحياة والموت لكل من يحيَون داخل الأسوار.
المعتقل أشبه بالثكنات. لعلها كانت ثكنات عسكرية في وقت سابق، كل ثكنة تضم عدةَ حجرات متلاصقة، أرضيتها من الأسفلت، لها نافذة صغيرة تطل على مساحات الرمال من كل الجوانب.
نوعيات النزلاء مختلفة: طلبة وأساتذة جامعة ومحامون وأطباء وعمال. ذابوا في بوتقة المعتقل. أحسوا بالعزلة والاقتراب، اقتراب أوجدته العزلة. لا فواصل من أي نوع. يتشاركون في المناقشات، وفي اليمك، وفي القراءة، ولحظات الترفيه. يستمعون إلى الراديو. يكتبون المذكرات والملاحظات اليومية، وما يحرِّضهم على الكتابة. يحلون الكلمات المتقاطعة، يلعبون الكوتشينة، يترددون على الحمامات دون إذن، وبلا حراسة. لا أحد يُملي إرادته. حتى إدارة المعتقل شحُبَ صوتها. حتى حملات التفتيش قلَّت إلى حد الندرة. الأوامر المفاجئة بالخروج من العنابر وتفتيشها؛ بحثًا عن الممنوعات. مصادرةُ ما لم تأذن به إدارة المعتقل: غيارات الملابس والصابون والسجائر والكتب والصحف والدوريات والأقلام والأوراق وأجهزة الترانزستور.
قال: اضطررت — لحماية مريم وأمها — أن أؤكد تسللي إلى سطح البيت دون علمهما.
واغتصب ابتسامة شاحبة: المصيبة أن المرأة لا شأن لها بالسياسة … يا دوب تعرف القراءة والكتابة.
قال حمزة أبو زيد: من الصعب أن نشكِّل الناس على مقاس مبادئنا.
وخالط صوتَه نبرةٌ حزينة: ربما جاءت أذيتنا من الذين ندافع عنهم!
– ما جدوى التضحية إذن؟
– التضحية كلمة سخيفة حين نؤمن بقضية.
– أنا لا أفهمك!
– يكفي أن تفهم ما تريد!
وشَتْ ملامح صبري غانم بالاستياء: قد أغفر للمرأة التي وشت بي … لكن من الصعب أن أغفر لقدري عبد الجبار.
قال عماد الشافعي: لأنه صديقك؟
استطرد حمزة أبو زيد: ولأنه محسوب علينا.
لم يتغير المكان، فهو معتقل. العلاقة بين الإدارة والمعتقلين هي التي تغيرت. لم يعُد النزلاء يعانون حفلات التعذيب، والحبس الانفرادي، وقوائم الممنوعات. شحبت الأوامر والمحظورات والنواهي والتوقع والانتظار. غاب ما كان النزلاء في معتقل أبو قير يعتبرونه أمرًا مقضيًّا. لم يعودوا معزولين عن المعتقلين غير السياسيين، ولا عن العالم الخارجي. دخلوا في مناقشات تبدأ ولا تنتهي، في السياسة والأدب والشعر والمسرح وكرة القدم وتقلبات الجو. تبادلوا الحكايات والنكات. ربما امتد الكلام إلى أحاديث السياسة، تعلو أصواتهم، مخالفة لأوامر الصمت، وعدم حديث كل واحد — ولو بالهمس — إلى جاره. ظلت نوعية اليمك على حالها، وإن استعاضوا عنها — في أحيان كثيرة — بما يأتيهم من الأهل. أذنت إدارة المعتقل بالأوراق والأقلام، وبكتابة الرسائل، وقراءة الصحف. لم يجد صبري غانم ما يكتبه في الأوراق أمامه، يقنع نفسه بأنها لم تعُدْ محظورة، يجري بخطوط ودوائر ومربعات ومستطيلات ومثلثات، يكتب حروفًا وكلمات وجملًا لا معنى لها، مجرد أن يسوِّد الأوراق البيضاء.
تعددت لقاءاتهم بذويهم على الدكك الخشبية في الساحة الترابية الواسعة. مارسوا أنشطة ثقافية وترفيهية، تعرَّفوا — من خلالها — إلى ما بداخلِ كلٍّ منهم من هوايات. حرروا صحف الحائط. تسلَّوا بلعب الكرة والشطرنج والكوتشينة وإعداد الشاي، حتى الغناء الجماعي لم يعُد محظورًا. يرددون أغنيات سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وليلى مراد وعبد الحليم حافظ. يعلو صوت الشافعي بمقاطع من أغنية أو موال. يرددون الكلمات، أو يدندنون باللحن، ربما علت أصواتهم بأغنية جماعية تذوب في آفاق الصحراء. فاجأهم شوقي حميدة بأغنية عزت عوض الله: يا زايد في الحلاوة عن أهل حينا … ما تبطل الشقاوة وتعال عندنا. يشعر أنه يغني لمن تغيب عن المكان، يستعيد الملامح والبسمة والضحكة والإيماءة والخطوات الطفولية.
استعادوا مطلع الأغنية، ورددوه.
ألصق عماد الشافعي — فوق سريره — صورًا ملونة، قصَّها من المجلات: الكعبة، جمال الدين الأفغاني، بيتهوفن، أم كلثوم، العقاد، جين راسل، سيد درويش، المنفلوطي. وكان شوقي حميدة يتمدد على ظهره، يشرُد في نشع الرطوبة الذي صنع تكوينًا لجسد امرأة، بتصورات لا تنتهي، وأعلن حمزة غضبه من الكلمات والرسوم التي ملأت جدران دورات المياه.
كان صبري غانم يمضي معظم وقته في القراءة، أو كتابة بعض الملاحظات، أو يكتفي بالتأمل. يشعر بحنين إلى جلسة مسترخية فوق السطح، تحت شمس نوفمبر الدافئة، التمشي على شاطئ الكورنيش، مشاهدة فاترينات المَحالِّ في شارع سعد زغلول، ركوب اللنش إلى خارج البوغاز، النظر — من النافذة — على ألعاب الأولاد في الساحة المواجهة للبيت. يؤلمه أنه لم يعُد ينفرد بنفسه، يجلس إلى أمه وأخته، ثم يغلق عليه باب حجرته للقراءة، وسماع الراديو، والتأمل. هو الآن واحد في جماعة لا يتيحون له حتى مجرد التذكر.
وهو يشرد في الفراغ أمامه: هل يتذكروننا خارج هذا المكان، أم أنهم مشغولون بظروفهم؟
كان يتجه بنظرته إلى أفق لا يراه. يتخيل مريم في شقة الطابق الأول في بيت حارة أبو شال، وهي ترتب البيت، أو تطبخ، أو تجلس إلى أمها، أو تقرأ فيما أخذته من كتبه. لعلها لم تعُد من العمل، أو تتهيأ للنوم.
غالب التأثر وهو يقرأ رسالة أمه: «أعددت الشاي هذا الصباح … كوب لي والثاني لك … نسيت أنك بعيد.»
حدثتْه — بعد أن ترك المعتقل في المرة الأولى — عن إخفاقها في العثور عليه، المكان الذي اعتُقل فيه، ثمة من أبلغهما باعتقاله، وإن لم يقل لماذا ولا أين. لم نجد حتى العنوان الذي نرسل إليه، فيأتي الرد بما يطمئننا عليك. لو أن أباك في حياتنا، ربما عرف أين أنت، لكن الرجل في حياتنا هو الذي اختفى.
ماذا تفعل أمه الآن؟ هل تزورها شقيقته، أو أنها تعاني الوحدة في الشقة المغلقة؟ ولماذا رفضت عرض دينا بأن تقيم معها، أو أن تنتقل هي للإقامة في بيت أخته؟ وهل يزيد المعاش عن حاجتها بالفعل، فتبعث له ما تؤكد أنه الزيادة؟ كتبت عن تحسن ظروف خاله مجدي في عمليات التصدير والاستيراد. هل يساعدها؟
ومض في ذهنه خاطر، هز رأسه ليطرده: لو أن أمه ماتت؟ لو أن أزمة السكر هاجمتها وهي بمفردها داخل البيت؟
استعاد الإحساس بأنه لم يكن يتردد على أمه، يجلس إليها. أخذ عمله في الدائرة الجمركية معظم الوقت، أضاف إليه انشغاله بنشاط الجماعة، وتوليه — في اختناق بالسرية — طباعة المنشورات، وتوزيعها.
وهو يتخلل شعره بأصابعه: من قدري عبد الجبار هنا؟
قال حمزة أبو زيد: من تقصد؟
– من يؤدي وظيفة عبد الجبار في هذا المعتقل؟
مطَّ أبو زيد شفتيه: أظن لا أحد.
ثم وهو يتكلف الهدوء: أحوال الاعتقال تغيرت!
قال عماد الشافعي: حتى مسميات قيادات المعتقل تغيرت، دخلناه في عهد القائمقام والبكباشي والصاغ، وعدنا إليه في عهد العميد والعقيد والرائد!
أعاد تأمل المكان الذي لم يره من قبل. الجدران مُصمتة. خلت من النوافذ تمامًا. الباب الصغير تصله ببقية المبنى سلالم دائرية، يتساند الصاعدون والنازلون على الجدار. الكراسي بضعة صفوف، امتلأت بالحضور. ثمة من وقفوا مستندين على الجدار في مقدمة القاعة، بدلًا من الوقوف في آخر الصالة. المنصة بعرض المكان فوق خشبة المسرح، جلس وراءها رجل في حوالي الخامسة والأربعين، أميز ملامحه عينان دائمتا الارتعاش. خمَّن أنه مقدم المحاضرة.
تفضي إلى المنصة — من الجانبين — أربع درجات خشبية. لضيق المكان فليس ثمة كواليس. كأنها للعروض السينمائية الخاصة، أو للمسرحيات التجريبية، أو للمحاضرات التي يحضرها القلة.
لم يفكر في القضية التي سيتحدث فيها قدري عبد الجبار. أراد أن يراه، يلتقي به، يواجهه، يستفزه بأسئلة تدفعه إلى البوح والفضفضة. ربما سبق الفضول — ولعله التحدي — ما عداه من مشاعر.
علا تصفيق. بدت اللهفة لرؤية قدري عبد الجبار، في استطالة الأعناق، وميلها إلى ناحية المسرح.
تحركت الستارة اليمنى للمنصة. أطل منها رأس قدري عبد الجبار.
صفق الحضور، وقدري يمشي — هرولة — من الطرقة الضيقة، ناحية المنصة، كأنما الإعجاب حل في نفوسهم من قبل أن يدخل عبد الجبار المسرح. صعِد بخطوات قافزة. سحب كرسيًّا وراء الطاولة الممتدة بعرض المسرح، وجلس.
لم يكن قد التقى بقدري عبد الجبار — منذ تلك الأيام البعيدة — ولا رآه.
أعاد صبري غانم رفْع حاجبيه. قرَّب المرآة من عينيه. حدق في انعكاس ملامحه على سطحها العسلي. لم يكن قد شاهد نفسه في مرآة منذ دخل المعتقل. لاحظ — في الصورة المتموجة — وجهه الشاحب، المتعب، وملامحه الذابلة، والهالتين المنتفختين حول عينيه.
ثارت الأسئلة دون توقع: هل تنتهي حياته في هذا العنبر؟ في هذا المعتقل؟ في هذه الصحراء؟ هل تتوالى الأعوام، حتى تحُلَّ لحظة الفقد والسكون والظُّلمة؟ هل تتلاشى القراءات والأحلام والتطلع إلى المعاني الغامضة؟
الأيام تتوالى، تمرُّ متشابهة. التاريخ لا قيمة له ولا معنَى. كلُّ يوم يُسلم إلى الأيام التالية. تمضي جميعُها بطيئة، مملة، لا ملامحَ تميِّز أحدها عن غيره، يصعُب تذكُّر تواليها بالأرقام: السنة، الشهر، الأسبوع، اليوم، حلقات السلسلة، وقائع مهمة أو تافهة، تَسبِق، أو تلي، أحداثَ المعتقل. لخص عماد الشافعي ما قرأه من رواية «الأبله»، نقل شوقي حميدة إلى المستشفى لعلاجه من الحمى، مذكرة حمزة أبو زيد إلى المسئولين يطلب مراجعة ظروف الاعتقال.
أوقات الأحداث اختلطت، فهو لا يعرف متى حدثت تمامًا، ولا أيها يسبق الآخر. ما حدث بالأمس أشبه بما يحدث اليوم، وما سيحدث غدًا. لحظات الانتظار موصولة، دائمة، لا تنقطع. اختلطت حتى أسماء الأيام وأرقامها. شحبت صور الأيام في ذاكرته. لا يدري إن كان قد عاشها، أم أنها مجرد تخيلات. حتى تتابُع الليل والنهار لم يعُد يحمل التواصل. لم يعد يشغل الأذهان انتظام التواصل. النهار يبدأ وينتهي، ثم يأتي الليل. زمن لا نهاية له. نحن نعاني مرض السأم، هو أشد قسوةً من التعذيب والزنزانة الانفرادية.
فرضت العفوية تحرُّكه ما بين السرير والعنبر والساحة الترابية، وانتظار خلو دورات المياه، والتمشي في اتساع المكان، وإهمال التخمين فيما وراء الأفق.
تابع طائرًا في تحليقه حتى اختفى. ماذا تفعل مريم الآن؟ هل أوت إلى سريرها، أو تشاهد التليفزيون؟ وهل تفكر فيه؟
توقف عن كتابة الملاحظات حين تبين أنه يكرر ما يكتب. كتب ملاحظات على علب السجاير وجذاذات الورق. فرضت اللامبالاة نفسها في تسلل أشعة الشمس وانحسارها. كأنهم صدفة وحيدة في أرض رملية. ربما اكتفوا بالتنقل من بقعة ظل إلى بقعة أخرى، مضت عنها أشعة الشمس، ومواعيد الوجبات هي مواعيد بداية النهار وانتهائه، والتهيؤ لغد جديد. تتوالى الأيام متشابهة، مملة، كأنها صورة واحدة يتكرر عرضها. ألِفوا المكان إلى نهاية الآفاق: العنابر، التلال الرملية، الشجيرات القليلة المتناثرة، حتى مشهد طلوع الشمس، وتحوُّلها في السماء، وغروبها، ألِفوه بدرجات الضوء والظل.
طال الزمن، فاختلطت ملامح الجنود، كأنهم جندي واحد، يتحدثون عن المدن والقرى والنهر والشجر والبحر والأسواق والبنايات العالية والفيلات والشوارع المسفلتة والقطارات والترام والطائرات ومساحات الخضرة وقراءات البردة وأسراب النورس ورائحة الحواري وأحاديث الشرفات وخناقات الجيران والنظرات المحرضة والحياة الخاصة وهمسات الحجرات المظلمة واحتياجات الذكورة والمقاهي والبيع والشراء وصافرات البواخر وزحام المرور والطائرات الورقية وصياح الديكة والبلانسات وأهازيج السحر من أبو العباس والعلاقات المتشابكة. يشاركون فيما جرى بالتخيل، يشرُدون في آفاق بعيدة، تختلط الملامح والقَسِمات والرؤى، ما تحدَّد في الذاكرة، وما التفَّ بالشحوب. يوجد — في أماكن أخرى — ما يختلف عن الحياة في هذه الصحراء الواسعة. ثمة فيلم ظل في الذاكرة، مباراة في كرة القدم، علاقة حب في شارع خافت الضوء، جلسة مسترخية على الكورنيش الحجري، تطلُّع إلى صخب الجلوة في أبو العباس.
لم يعُد من المحظورات أن يتسلموا ما يحتاجون إليه من أُسرهم: صابون، معجون أسنان، فرشاة أسنان، سجائر، أوراق، كتب للقراءة. رفض عماد الشافعي الاستعارة، وأصر أن يقرأ مما يحتفظ به في البيت، يفضِّل شراء الكتب ليحتفظ بها، يتحول الكتاب — في أثناء القراءة — إلى صديق يصعب أن يفارقه، يعرف موضعه في أرفف مكتبته. عاد إلى دراسة اللغة الفرنسية، يثق أنها لغة الثقافة. أخضع نفسه لمذاكرة المفردات، ووصلها بأفعال تشكِّل منها معاني محددة. كان يلتقط — في تردده على الميناء الغربية، وفي لقاءاته بالتجار الأجانب — التعبيرات المتكلمة بالفرنسية. يسأل، ويناقش، ويستوضح، ويجيب، ويطلب الصداقة والرفقة. يجد في تبادل الحوار ما يعينه على النطق، وعلى فهم الكلمات الغامضة، وكيفية صياغة جملة صحيحة. ألِف شوقي حميدة التمدد على ظهره لصق الجدار، يحتمي بالظل، يضع رأسه على يديه، ويتطلع إلى السماء، يتأمل تكوينات السحب في أشكال متغيرة، يتصور الشكل، ثم يستبدله ليحل شكل آخر، ربما تداخل شكلان فصنعا شكلًا ثالثًا. تعددت التكوينات ما بين بشر وحيوان وطير، وما يجهده فَهمُها.
تشجَّع حمزة أبو زيد باختلاف الحياة في المعتقل الجديد، طلب فصل المعتقلين في قضايا سياسية عن السجناء الجنائيين، وتحسين اليمك، وتوفير العلاج الصحي، والإذن باقتناء الكتب والراديو والصحف، وتبادل الرسائل، وإدخال الملابس والمتعلقات الشخصية. صبري غانم اختزل أمنياته في أن يخرج حيًّا من آفاق الرمال المترامية. تعلق بجناح طائر ضخم، لم يستطع تحديده: نسر، أو صقر، أو طائر رخ كما في الحكايات القديمة، انطلق به في الفضاء حتى غيَّبه الأفق. حدس أن النطق باسمٍ بحري سيدفع الطائر لأن يحمله إلى حيث يريد: الشوارع الضيقة، المتعرجة، والميناء الشرقية، وحلقة السمك، ومساكن السواحل، وصخرة الأنفوشي، وسراي رأس التين، والبيوت المتساندة، وقلعة قايتباي، ومعهد الأحياء المائية، ومقامات الأولياء والجوامع والزوايا، وأرصفة الجمرك، والجلوات، وحلقات الذكر، ومواكب الصوفية. لم يستطع — من موضعه — تبيُّن ملامح وجه أمه. بدت — في جلستها داخل الصالة — فاقدة الحيلة. أزمع فايز الشيخ أن يرتكب خطأ، جريمة، يقتادونه إلى النيابة، يرى الناس في الشوارع، يتنفس هواء الطريق. حمزة أبو زيد — وحده — لم يفقد الأمل في أنه سيترك هذا المكان، ويعود إلى الإسكندرية. بعث صبري غانم إلى مريم رسالة يحرِّرها فيها من الارتباط به. الاعتقال — في ظل قانون الطوارئ — بلا مدة محددة. قد تطول إقامته في المعتقل. تمنى أن تجد زوجًا تعيش معه حياة طبيعية، بلا توتر ولا توقعات قاسية. يفارقها في الصباح إلى عمله، وتستقبله في عودته، يأكلان معًا، ويتناقشان، ويحلمان، ويضمهما — في الليل — فراش واحد. هو لا يملك ذلك كله.
قال لحمزة أبو زيد: إذا خرجت من المعتقل — وقد لا أخرج — بعد سنوات طويلة، فلن أكون صبري الذي أحبتْه!
منذ سنوات بعيدة، ربما اثني عشر أو خمسة عشر عامًا، قرر أن ينسى قدري عبد الجبار، يعتبره كأنه لم يوجد في حياته. لا يذكر اسمه، ولا يتحدث عما كان بينهما من ذكريات مشتركة. هو واحد من هؤلاء الذين نلتقي بهم في الطريق، وفي وسائل المواصلات، وفي الأماكن العامة. تغيب ملامحهم، أو تبدأ في الغياب، بسرعة الومضة التي رأيناهم فيها.
لم يبْدُ على قدري عبد الجبار أنه يعرفه. تظاهر بأنه لم يعرفه. القامة الضئيلة، والرأس الذي اتسعت فيه مساحة الصلع، والبسمة المحايدة ظلت على وجهه، والنظارة السوداء تخفي مرض عينه، أو تخفي مشاعره.
هدأ التصفيق بإيماءة من رأسه. بدأ الحديث، فحل الصمت. اتجهت الأعين نحو المنصة، تحمل التطلع والإعجاب المسبق.
كان صوته عميقًا، ممتلئًا بالثقة. تحدث عن أيام الاعتقال، التنقل بين أكثر من معتقل، وعمليات التعذيب، والزنزانات، والحبس الانفرادي، وتفصيلات كثيرة عاشوها، ورويت أمامه، فنسبها إلى نفسه. حتى السجون والمعتقلات التي لم يصحبهم إليها، ظهر التأثر على الحضور لقوله إنها أكلت عمره.
تحدث عن مؤامرات أحاطت به تريد تدميره، وعن ملفات كاملة تحتفظ بها أجهزة الأمن، وعن الثمن الذي دفعه من قوته وحريته، لقاء إصراره على التعبير عن رأيه، وعن نضاله من أجل حرية الجماعة، وما كانت تقوم به العناصر والأجهزة في ظل غياب الديمقراطية.
لما نودي عليه في زيارة، توقع الكثيرين: أمه وأباه وشقيقه. شمل التوقع حتى جيران البيت أو أصحاب الدكاكين في الشارع. تناوشته الأسئلة والتوقعات، وهو يُعِد نفسه للانتقال من المعتقل إلى الليمان.
هتف بعفوية: مريم.
فاجأته. توقع أن تردَّ عليه؛ تقبل، أو ترفض، أو تناقش.
حدق فيها كأنه يراها للمرة الأولى: البشرة السمراء، والشعر الأسود، الناعم، المسدل على الكتفين، والابتسامة الطفولية العذبة، تفيض من كل ملامحها، كأن وجهها قد ملأته ابتسامة واسعة.
القاعة من الطوب الأبيض، سقفها من الصاج، يتوسطها طاولة خشبية مستطيلة، حولها كراسي من الليف المجدول. نور الضحى يدخل من النافذة الصغيرة، والباب الموارب.
جلست مريم في الناحية المقابِلة من الطاولة. جلس ثلاثة زوَّار قبالة ثلاثة نزلاء آخرين. تنتهي الجلسة، فيأتي — بدلًا منهم — ستة آخرون.
وضعت له في الكيس الورقي بيجامة مكوية وثلاث غيارات وصابونة سانلايت ومعجون أسنان وفرشاة وماكينة حلاقة وأمواس احتفظت بها إدارة المعتقل.
– كيف وصلت إلى هنا؟
همست ببساطة: بالمواصلات.
وانتزعت ابتسامة: من الصعب أن آتي على قدمي.
تخيل سيرها من نهاية الطريق المسفلت، تحمل في يدها ما قدمته له. تعاني تعثُّر خطواتها على الرمال والحصى الصغيرة. تقف على السور الخارجي للمعتقل حتى يأذنوا لها بالدخول.
العربة البوكس الصغيرة — قبالة البيت — أثارت فضول الجيران. أطلُّوا من خلف النوافذ والشرفات، ومن انفراجات الأبواب. هبط ضابط من المقعد الأمامي. أشار إلى ثلاثة رجال يرتدون الثياب المدنية في كابينة السيارة. تبعوا إشارته إلى داخل البيت، سبقهم إلى الطابق الثاني. لم يطرقوا الباب. دفع أحد الرجال الثلاثة الباب بجانب كتفه، فانفتح. اندفعوا داخل الشقة، يحدقون، ويفتشون، ويقلبون، فتشوا تحت الأثاث، وتحت الكليم الأسيوطي في الصالة، وخلف الصُّور المعلقة على الجدران، وفي ساعة الحائط البندولية. تأكدوا من خلوِّ الفازة الخزفية، وإن قذفوا بها، فتحطمت.
رفعت عينيها الباسمتين إلى وجهه الساكن: لذلك كنت أخفي الكتب التي تقرؤها بعد أن تغادر الشقة.
وأومأت برأسها: توقع الخطر!
تصدت أمها لإلحاح الأسئلة. نفت أنها تعلم أي شيء، أجَّرت الشقة لشاب يحمل اسمًا غير الاسم الذي تحدثوا عنه. لم يسكن الشقة بصورة حقيقية. كان يأتي إليها في فترات متباعدة، يغيِّر ملابسه، أو يستبدل ما يحمله من كتب. لم يكلمها عن عمله، وإن حدست من سحنته وهيئته أنه طالب في الجامعة.
حدثته عن خوفها، حين عرضت — عقب اعتقاله — إحضار أشياء قد يحتاجها.
قال الضابط وهو يُشيح بيده: إنه في معتقل وليس في فندق!
استعادت ما كان يرويه لها الأمهات والزوجات في ساعات انتظار السماح بالدخول. حكايات تبدأ ولا تنتهي إلا عندما يعلو صوت الصول نديم بقراءة أسماء المعتقلين الذين يؤذن بزيارتهم من ورقة في يده. اتفقت على أن تستمر الصداقات الطارئة. أعطت عنوانها، وحصلت على الكثير من العناوين. أرجأت الفعل مقابلًا لإرجائه من الأخريات، ثم أهملت الأمر — بتوالي الأيام — تمامًا.
تكشف له فيها ما لم يكن فطِن إليه ولا عرَفه في شخصيتها الباسمة. بدا العناد تكوينًا في تفكيرها وتصرفاتها.
أهمل — عند عودته إلى العنبر — ما لاحقه به النزلاء من أسئلة وتعليقات: خطيبتك؟ قريبتك؟ لم أكن أعرف أن لصبري غانم هذا الذوق، من يترك هذا الجمال للعمل السياسي؟
أسلم نفسه لشرود يستدعي رؤًى وتصورات، مضى — آخر الليل — إلى مكانه في العنبر. استدعى رؤًى وتصوراتٍ أخرى، واضحة، ويلفها الضباب. تراجعت، وتقدمت صورة مريم: الشعر الأسود، والبشرة السمراء، والعينان الواسعتان، والبسمة التي لا تفارق ملامحها.
غالب إشفاقه من الإعياء الذي يَسِمُ ملامح مريم وتصرفاتها. في باله طول الرحلة ومَشاقها، من الإسكندرية إلى المعتقل.
لم تتكلم عن معاناتها قبل أن تجلس أمامه. حاولت أن تزوره في المعتقل. تكرَّر رفض ما قدمته من مذكرات والتماسات، عجزت عن تبرير غياب صلة القرابة بينها وبينه. أتاحت لها المجاوزة وساطة سيد جميعي نائب دائرة الجمرك، هو ابن عم لأبيها، ويَدين له بوقفته المناصرة في الانتخابات.
حسم تقارب رسائلها تردُّده. لم يعُدْ ما في خارج المعتقل يشغله. لم يعد يطرح الأسئلة، ما إذا كانت تريد الانفصال أم تنتظر؟
أومأ شوقي حميدة إلى رجلين يجلسان على الطاولة الملاصقة للنافذة المطلة على الكورنيش. يتبادلان حديثًا هامسًا.
أخفى حمزة أبو زيد ضحكة بيده: حتى لو كانا كما تظن … نحن الآن مجرد مواطنين.
قال عماد الشافعي: قدري عبد الجبار فتح كل كتبنا.
قال شوقي حميدة: تركْنا لقدري الجمل بما حمل، لكنه يصر على ملاحقتنا بخياناته!
قال صبري غانم: لم يعُدْ لدينا ما نخفيه!
قال حمزة أبو زيد: كيف نُتهم بأننا ضد نظام نحن حريصون عليه؟!
قال عماد الشافعي: فتِّش عن تقارير المباحث العامة، إنها تبدِّل بالتأييد نقيضه!
تبدلت نبرة فايز الشيخ: أنا لا أتصور كيف نطلب مجتمعًا اشتراكيًّا، ولدينا إدارة لمكافحة الشيوعية؟!
كان يستعير — في أثناء الكلام — صوتًا رقيقًا، هادئًا، ما يلبث أن يهمله إن احتدت المناقشة.
قال حمزة أبو زيد: إذا لم نجد وسيلة للتخلص من قدري … فلنقتله!
فغَرَ عماد الشافعي فاه دهشة: نقتله؟
قال أبو زيد دون أن يجاوز هدوءه: نتغدى به قبل أن يجعلنا عشاء للمباحث!
وداخلت صوتَه رنةُ أسًى: نحن نكتفي بجز الأعشاب الضارة، فنساعد على توسيع انتشارها.
وزفَر في ضيق: عبد الجبار عُشب ضار، لا بد أن نقتلعه من الجذور!
مات صبري الشامي.
صرخ من ألمٍ حاد في ظهره. تعالى صراخه، والرجال من حوله يتبادلون نظرات الحيرة.
قال طبيب المعتقل: هذه أزمة قلبية.
أرقد صبري الشامي على ظهره. دلك صدره بقوة. دفع له متولي الشافعي حبة دواء. لأنه يعرف مرضه بالقلب، فقد دس الحبة في فم الشامي.
قبل أن يأتي الصباح، كان صبري الشامي قد مات.
وضعت إدارة المعتقل حاجياته في لفافة ورقية، أودعتها حجرة المأمور لتتسلمها أسرته.
قال عماد الشافعي: متى يبدأ أحدنا في حفر قبر الآخر؟
قال حمزة أبو زيد: تتكلم عن الموت!
قال الشافعي: لأننا سنظل في هذه الصحراء حتى نفنى.
قضيَّته الآن أن يستفزه ليواجه أسئلته.
يثق أنه رآه، وإن تظاهر بالعكس. الارتباك الواضح في تصرفاته، واتجاه نظراته إلى الناحية المقابلة، وإعادة تقليب الأوراق أمامه … ذلك كله يؤكد تظاهره بأنه لم يَرَه. سيحزن لو انقضى الوقت دون أن يرشق نظراته في عينَي عبد الجبار، ويواجهه بأسئلته، يثيره، يجبره على الاعتراف، ولو بنثارٍ مما تصور أنه أحكم التخلص منه: متى بدأت صلتك بالمباحث العامة؟ ما ظروف نشأتك، وحياتك الدراسية والعملية حتى جلست على هذه المنصة لتروي تجربتك؟
ماذا لو أن قدري بادر بتحيته؟ لو أنه لوَّح له، أو علا صوته بكلمات ترحيب؟ لو أنه تحدث في محاضرته عن تقاسمهما أيامَ الاعتقال؟
لم يفكر في ترك الشقة، منذ عودته إليها. كان يحيا شعورًا بأن الهواء الذي يتنفسه داخل الجدران هو أول هواء نقي يتنفسه منذ أغلقت عليه أبواب المعتقل.
أدهشه أنه أحس بالارتباك — عمقته نظرتها المتجهة إلى الأرض — لما حاول نزع ثيابه. أدار وجهه إلى الناحية المقابلة وهو يفك أزرار ثوبها. كان قد اعتاد الوقوف عاريًا، في التعذيب، وتحت الأدشاش. ربما في العنبر الواسع. يتعرى الجميع لفرض الإهانة.
تومِض في ذهنه مشاهدُ حفلات التعذيب والكرابيج والسجائر المشتعلة والتيار الكهربائي ونزع شعر العانة وخلع الأظافر وضربات العصى والإجبار على شرب البول أو أكل الغائط.
بدت له فتاة أخرى غير مريم التي يعرفها منذ سنوات. يشعر — في حضورها — بالأُلفة والإعجاب والطمأنينة والمؤانسة. جلس إليها، سألها، أجاب عن أسئلتها. حدَّثها عن ظروفه، وروت له وقائع أيامها في المكتب، وفي البيت. تبادلا القراءات والحكايات والنكات. هي البديل عن أعوام التخفي والمطاردة. ترى ما يغيب عن عينيه خارج المعتقل، تصل بين ما كان، وما ينبغي أن يكون. لم يَبُح أحدهما للآخر بما يعتمل في داخله. شدهما إلى بعضهما عالَم من الأسرار ومشاعر الغربة والونس والتعاطف.
عانى غياب الفهم، وتقافز مئات الأسئلة. لم يتصور أنها استضافته في بيتها، وأن أمها وافقت على أن تخفيه في البيت. لم يكن للعلاقة ما قبل. لم تكن تعرفه ولا رأته من قبل. أدركت ما يعانيه، فآوته. لم تتدبر ما قد يعود عليها، وعلى أمها، من نتائج.
نفى — بينه وبين نفسه — أن يكون الاعتراف بالجميل هو الباعث لأن يتقدم لخطبتها. اجتذبه إليها العناية بالتفاصيل الصغيرة: تغليف الكتاب بصفحتَي مجلة، مسح ذرات الغبار من سطح المكتب والحرص على ترتيب حاجياته، ملاحظة اتساخ ياقة القميص، سقوط زرار البلوفر، خطوط الإجهاد في ملامح الوجه، تلبية ما تطلبه العين باتجاهها نحوه.
كان يبذل جهدًا لملامستها، مجرد أن يضع أصابعه على كتفها، يتظاهر أن أيديهما تتلامس، لا تعمُّد، وإن داخله شعور بالنشوة.
غالب تردده: حتى الآن، لا أتصور كيف وافقتم على إخفائي؟
افترَّ فمها عن ابتسامة: ماما صدقتك في كل ما قلت.
روى ما كان قد أخفاه عن أمه وإخوته. لم يُفلت شيئًا مما أتعبه، تمازج الرفض والإشفاق في تصرفات أمه. أسقط التصور أنهما يفترقان، يعيش كلٌّ منهما بعيدًا عن الآخر. بدا الزواج هو المتاح الذي يتمناه إذا أراد أن يغلق عليهما باب حجرة.
لاحظت ما يعانيه. تخلت عن ضرورة الحياء. حاولت تضييق المسافة، دون أن تضيق بما قد يُدينها بالجرأة. واربت الباب بإيماءات واستكانة محرضة.
تحدثت عن معاناتها وهي تتسلل — بنظراتها — من خصاص النافذة المطلة على الشارع، تحاول تبيُّن خروجه — مقبوضًا عليه — من باب البيت المجاور إلى الشارع. لم تكتمل رؤيتها له. لاحظت — ضحكت — اتساخ حذاءه، ثم ثنية البنطلون. لمحت — من أعلى الخصاص — ملامحه الساكنة، وعينيه اللتين كأنهما أوشكتا على الإغماض.
صعدت إلى الشقة بعد انصرافهم. تركوا الباب مفتوحًا. أطلقت صرخة — بالذهول — لما رأت. بدا كل شيء مقلوبًا ومحطمًا. لم يعُدْ أي شيء في موضعه.
قال في لهجة مستغربة: أنا لم أفعل في حياتي ما أندم عليه.
ثم وهو يُظهر التأثر: شيء مؤلم أن يعاقب المرء على جريمة لا يعرفها.
امتدت يده إلى الطرحة البيضاء التي أحاطت برأسها فأزاحتها، تأمَّل البسمة الطفولية، والبشرة السمراء، والعينين السوداوين، الواسعتين، الأنف الدقيق، والشعر الأسود، الناعم، المنسدل على الكتفين.
لا يذكر إن كان قد ساعدها على نزع ثوب الزفاف، أم أنها هي التي نزعته؟
رفع عينيه بعفوية.
رأى جسدها عاريًا للمرة الأولى، الثديين الصغيرين كبرتقالتين، البشرة السمراء، الساقين المدملجتين، القدمين الحافيتين، الناعمتين، كأنهما لم تلامسا الأرض من قبل، اليدين اللتين حاولتا المداراة، أخفقتا بالارتباك فتدلَّتا إلى جانبَي الجسد.
لمحت اتجاه نظراته.
اطمأنت إلى إغلاق مفتاح الضوء، لكن الضوء المتسرب من زيق الباب، جسَّد الملامح والقَسِمات في رمادية شفيفة.
احتضنت — بتلقائية — صدرها، وأخفت تسرب الضوء بالملاءة.
سادت الحجرةَ ظُلمةٌ مفاجئة. علا صرير الأبواب الحديدية، وحلَّت الظلمة في الزنزانة، وعانى الهواء الثقيل، والرطوبة، والأنفاس، ورائحة العطن.
أقسى الأمور أن تتنفس في الزنزانة الضيقة، المظلمة، المصمتة تقريبًا، نفسَ الهواء الذي تنفسته من قبلُ عشراتِ المرات.
هتف بعفوية: النور!
فطِن إلى ارتفاع صوته وارتباكه: أريد أن أراك.
الهاجس في داخله منعه من أن يصارحها بخوفه من الظلمة. اتجه — بعينيه — إلى الناحية المقابلة، ثم استردهما ليواجه نظراتها المتسائلة: كذبت!
وانتزع الكلمات: منذ الزنزانة الانفرادية لم أعُدْ أتصور الظلام!
هزت رأسها بمعنى الفهم. امتد أصبعها إلى زر النور.
حاول أن يداري ارتباكها لرؤية جسدها العاري بين النظر في أرضية الحجرة، أو الاتجاه إلى الناحية المقابلة.
واتته رغبة — لا يعرف بواعثها — في التحدث عن أحوال المعتقل. رافقت تعبيرات يديه وملامح وجهه ما كان يرويه. بدا حرصه — بنظرة محدقة — على التقاط مشاعرها: الظلمة والرطوبة والرائحة العفنة في الزنازين الانفرادية، الجدران المتسخة ببصمات الأصابع وبقع الدم والحشرات الميتة، هبات الهواء على دورات المياه المفتوحة، تحرُّك رائحة البول والغائط، الأقدام الحافية تسير على قطع الزجاج والمسامير، الحبس في دورات المياه، شرب البول، الضرب بالفلكة والشوم والعصي وفروع الأشجار والخراطيم، الجلد بالكرابيج الجلدية والمصنوعة من السلك المجدول، غسل الجلد بالماء المالح.
قال لشوقي حميدة: عندما التقيت بمريم لم يكن الزواج قد خطر لي.
استحثه شوقي بإيماءة على مواصلة الكلام.
– حمِدت لله أنهم قبضوا عليَّ في الطريق.
وعلا صوته برنةِ أسًى: أمضيت في المعتقل ست سنوات بتهمة لا أعرفها، ثم ثلاث سنوات بتهمة تكوين تنظيم سياسي هدام … ثم عدت إلى الشقة لأطلب يدها.
أسند العجوز ظهره إلى الكورنيش الحجري، بدا في انصرافه إلى رفو الغزل، منعزلًا عن الدنيا من حوله، وإن تمتمت شفتاه بما خمَّن أنها كلمات أغنية تتناهى من مسجل داخل القزق.
أقاما في شقة الطابق الثاني. ظلت الأم تتردد بين الشقتين، تجالسهما، أو يمضون الوقت في شقتها.
شعر بالراحة لمجرد الالتحاق بوظيفة. لم تعد مئونته تُثقل على أمه. لم يعُد يقاسمها معاش أبيه.
قال شكري عبد المجيد إنه شاهد قدري عبد الجبار من نافذة الأوتوبيس، وهو يخرج من مبنى وزارة الداخلية بلاظوغلي.
اختاروا مقهى المطري للقاءاتهم. تطل — من الواجهة — على طريق الكورنيش. ومن الجانب على شارع إسماعيل صبري. تلاقي تيارات الهواء يحمل برودة منعشة، والبحر حصيرة، والبلانسات والقوارب في نصف دائرة الميناء الشرقية.
حرك ما حدث — في نفوسهم — شعورًا بالصداقة، يختلف عن المشاعر نفسها قبل أن يدخلوا المعتقل.
قال شوقي حميدة وهو يرنو إلى ساق حمزة أبو زيد اليمني، تعاني عرجًا خفيفًا بتأثير أعوام الاعتقال: الداخلية وزارة في الحكومة … وليس كل المتعاونين معها عملاء.
ثم وهو يغالب التأثر: وزع المعتقل علينا كل الأمراض بالتساوي.
وتبدلت ملامحه: كلٌّ منا في داخله ثلاثة أمراض، أو أكثر!
قال شكري عبد المجيد: تصورت أنه يجب أن أبلغكم بما أراه.
دخل شكري عبد المجيد المعتقل بتهم نصب واحتيال. بدَّلت سِنو الاعتقال شخصيته. ضغط الإدارة على المعتقلين السياسيين دفعه إلى التعاطف معهم. ربط نفسه بالقضايا التي سُجنوا لها. تبين أن ما دخلوا المعتقل من أجله، كان هو ما يشغله. أنصت، وسأل، وناقش. عرف ما كان يغيب عنه، أو أنه لم يكن يعرف معانيه المحددة. عهد إليه حمزة بمراقبة الأحوال أوقات انشغالهم بالكلام. ربما تطرقوا إلى ما لا يريدون أن تعرفه الإدارة. يتنحنح بما يحوِّل الكلام، أو يفرض الصمت. ظلت صداقته بهم. يلتقون في قهوة المطري، يشاركهم المناقشات والآراء.
– لم تعُد تشغلني استضافة البوليس لي بعد كل حادثة شغب!
قال حمزة أبو زيد: القوائم السوداء وملفات المباحث العامة ظِلَّان لن نستطيع الإفلات منهما.
واتجه إلى شكري عبد المجيد بنظرة متسائلة: هل تستطيع الفرار من ظلك؟
– إذا أطفأت النور.
– نكتة سخيفة، مع ذلك فمن المستحيل أن يستكين المرء للحياة في الليل!
قال شوقي حميدة: شكري شاهد ما يهمنا أن أعرفه.
شكري عبد المجيد من زملاء المعتقل. تحول صديقًا منذ ساعده حمزة أبو زيد على مجاوزة ظروفه القاسية. توسط له عند إدارة المعتقل، أذنت له أن يبيع للنزلاء الطعام والحلوى والسجائر. أبدى حمزة أبو زيد استياءه للصفة التي أطلقها شوقي حميدة على شكري عبد المجيد، صديق المصادفة، من نحن؟ ألسنا أصدقاء المصادفة؟ لولا مناسبةٌ ما، لحظةٌ ما، ما تعرف أحدنا إلى الآخر! قال شكري عبد المجيد في نبرة متسائلة: المعتقل يضم نوعين من النزلاء، سياسيين وعاديين، إلى من أنتمي وتهمتي ملفقة؟!
صار جزءًا من جلساتهم اليومية، يعبُر المسافة بين عنبر المساجين العاديين وعنبر السياسيين، يشاركهم الطعام وشرب الشاي — ربما صنعه بيديه — والسجاير، يكتفي بالإنصات إلى المناقشات والحكايات والثرثرات، يلتقط — من نثار الكلمات — تعبيرات وأسماء، يطيل تأملها، يطمئن إليها، أو يميل على الجالس جواره، يسأله عن المعنى. في نحو الخامسة والخمسين، له بشرة بيضاء باهتة، التجاعيد مستديرة، واضحة، حول العينين والفم، والأنف طويل، مدبب، والعينان خرزتان وراء النظارة الطبية، المقعرة.
وهما في الطريق قال حمزة أبو زيد: تعمدت أن أدافع عن قدري عبد الجبار حتى لا أثير شكوك شكري عبد المجيد … لكن تردده على مبنى الداخلية جعله موظفًا فيها.
قال عماد الشافعي: لا أحد يستطيع أن يلحق بعبد الجبار.
– لماذا؟
– واسطته المباحث العامة.
– هل هو موظف فيها؟
– بل عميل لها … هي تعمل بما سوَّد به الملفات من وقائع.
ثم وهو يغالب انفعاله: كأنه لا يصدق ما وصل إليه!
عاب عليه تحوله إلى أداة تبرير لكل ما تتخذه السلطة من قرارات وتصرفات. غابت عن مقالاته ما قرءوه له — داخل الأسوار — من عبارات، مثل الانفتاح الاستهلاكي، والتبعية الاقتصادية للغرب، وإهدار الحريات، وتدني مستوى المعيشة بين الطبقات الفقيرة. العقدة كامنة في ذهنه، كأنه لا يصدق المكانة التي بلغها. يهمس بكلمات تشي أنه على صلة بصانعي القرار، وأنه يعلم الكثير مما يدور في الكواليس العليا. يفقد — في لحظات النقاش — تقديره لنفسه، لا يدري أي تصرف يجب عليه أن يتخذه، أو كلمات عليه أن ينطقها. لكي يصعد درجات السلم، لا بد أن يدوس على من يزاحمونه قبل أن تدوسه أقدامهم. يلجأ إلى التقارير وتدبير المؤامرات؛ ليدرأ عن نفسه أذى الآخرين. يخشى السقوط من فوق قمة جبل يتخيله.
أعاد صبري غانم قراءة قدري عبد الجبار. اتهم أصدقاءه بالعمالة لجهات أجنبية. تحدث عن العناصر المدسوسة على المثقفين، حتى الذين عانوا العيش في المعتقلات، شاركوهم حياتهم بإيعاز من تمويلات غائبة المصدر. اخترع قائمةً من المعادين للنظام، هم — في الحقيقة — معادون له، أو لم يلبوا مطالبه، أو أنه لا يستلطفهم.
قال: بفضل عبد الجبار، نحن الآن أسماء في قوائم، تستخرجها المباحث عند حدوث الجرائم السياسية.
قال عماد الشافعي: لكي ينال قدري رضاء المباحث العامة، أضاف إلى أعداد المعادين للنظام!
قال حمزة أبو زيد: لن يعيبني لو أني من أصول اجتماعية متواضعة، أن أتكلم عن أني اعتمدت على نفسي، قاومت الأمواج، حتى ركبتها ووصلت إلى الشاطئ.
وأشار إلى عماد الشافعي: عليك أن ترصد كل تصرفاته.
انشغل بمتابعة قدري عبد الجبار وهو يتحدث. يثق أن ما يقوله يصدقه الناس. هل يعرف أنه قد تعرَّف إلى ما يتصور أنه غمُض من حياته؟
هتف رجل أربعينيٌّ أسمر البشرة، بآخرِ ما في صوته، ربما ليصل إلى المنصة: الصحف كثيرة … أين الحقيقة في كلِّ ما نقرأ؟
– لا تكتفي بأن تستفتي قلبك … استفتِ وعيك.
صرخ الرجل: لماذا لا تذكرون الحقيقة؟!
دون أن تزايل البسمة وجهه: الحقيقة نسبية!
ربط بين ما رواه الرجل ذو العينين الخاليتين من الجفون والرموش، والشارب المعقوف، والنقط السوداء على ظهر يديه، وبين ما عرَفه من شخصية قدري عبد الجواد. التقاه في مكتبه، قدم نفسه بأنه تاجر في المنشية. كلَّمه عن أيام المعتقل بما يطمئنه إليه. أدرك أن الرجل يعرف عن قدري ما لا يعرفه الأصدقاء في إيليت. هي رواية قدري نقلها عنه أصدقاء ومعارف من قرموط صهبرة.
أحس قدري، وهو يتطلع إلى المبنى الضخم في قدومه إليه من ناحية تقاطع شارعي محمد محمود ونوبار، أن معاناته تقترب من نهايتها السعيدة.
لم يكن قد دخل المبنى من قبلُ. تردد كثيرًا على مبنى المباحث العامة في شارع الفراعنة بالإسكندرية. قدم بيانات ومذكرات وتقارير. هذه هي المرة الأولى التي يدخل فيها المبنى ذي الأسوار الحديدية والأضواء المتسربة من النوافذ العالية المغلقة.
لم يكن يملك شيئًا يخشى أن يفقده.
سأل عن اللواء بهجت محرم.
تبع الرجلَ ذا البذلة الصيفية دون كلام، ردهات وسلالم وصالات صغيرة ومكاتب مغلقة ومفتوحة، ورجال تناثروا، واتفقوا على رميه بنظرة متسائلة.
وقف الرجل أمام الضلفة المواربة. ضرب كعبي بقدمه، وأشار إليه.
الرجل في حوالي الخامسة والأربعين. يرتدي بدلة كحلية، وقميصًا أبيض بياقة زرقاء، وتتدلى من عنقه كرافتة متداخلة اللونين الأزرق والأحمر. له بشرة نحاسية، وحواجب ثقيلة، وعينان لامعتان.
رسم على شفتيه ابتسامة، لكن القسوة ظلت في عينيه، قسوة غامضة، أربكته وهو ينظر إليه، ويمد يده بالسلام.
قال اللواء بهجت: تعجبني تقاريرك … دقيقة وصادقة.
وأشار له بالجلوس: لهذا دعوتك إلى مكتبي.
أول عهده بكتابة التقارير، عندما كلفه الصاغ بالحرس الجامعي وائل سليمان أن ينقُل ما يدور في المدرجات، وفي الكافتيريا، وتحت الأشجار في الساحة الواسعة. جاوزت تقاريره الجامعة. أجاد اختراق الجماعات والأفراد خارج الجامعة، ينقل المناقشات والآراء والملاحظات الهامسة.
ارتكب خطأً وحيدًا، كاد يعيده إلى السجن. عمل مترجمًا في قنصلية السويد المطلة على الميناء الشرقية، ثلاث ساعات، يومين كل أسبوع.
طلب منه المقدم فتحي عبد السميع أن يزوده بتقارير عما يلاحظه في داخل القنصلية.
قال بعفوية: هل تدفعون لي؟
سبقت صفة المقدم عبد السميع صيحته الغاضبة: يا ابن القحبة!
اتجه إليه اللواء بهجت بنظرة متواطئة: الإخوان المسلمون دائمو الاحتكاك بك … لماذا لا تحاول كسْبَ ودهم؟
– أنا؟!
كان قد اعتاد أن ينقل إلى اللواء محرم — بواسطة مكتبه — ما يراه، أو يسمعه. حتى ما يبدو تافهًا وبلا قيمة. القراءات والآراء والأصدقاء والقعدات الخاصة والهوايات واللعبات التي يشجعها من يرصده.
قال اللواء محرم: مهم أن يكون لنا رجال بينهم.
رسم على وجهه ملامح متأثرة: أظن أنهم لا يطيقونني.
– ما محبة إلا بعد عداوة.
أردف في لهجة باترة: نريد تنظيماتهم السرية وقياداتهم خارج المعتقل … وسائل استقطابهم للأعضاء … الخطوات التي يعدُّونها … الجوانب السياسية في تفكيرهم … هل يتدربون على استخدام السلاح؟ وهل لديهم مخازن أسلحة؟
وفاجأه اللواء بالسؤال: ماذا تُعِد للمستقبل؟
قال: أي مستقبل؟
– مستقبلك!
– أبحث عن وظيفة.
لمح اللواء بهجت بما يجعل من التردد صعبًا: الالتحاق بهيئة التدريس في الجامعة، الحصول على راتب شهري، الاستكتاب في الصحف، التمتع بامتيازات لا ينالها سواه.
جاوز قدري التلميحات بالقول: أريد أن أعيَّن في جريدة.
– ما أعرفه أنك لم تكن صحفيًّا.
في نبرة تذلل: هذا هو حلمي القديم.
وربَّت صدره: أثق أنك ستساعدني على تحقيقه.
أردف في لهفة: سأَدين لكم بالفضل طول العمر.
– لا فضلَ إذا قابلت تصرفنا بمثله.
روى عماد الشافعي ما حدث في جلسة الليلة الماضية. ظلت أخته تكتم الأمر، قدرت التأثير فطال صمتها. تكلم عماد عن أفعال قدري عبد الجبار، فاستعادت ما كانت قد تناستْه. زار قدري البيت — بعد أن انفصل عن حياة المعتقل. ألِف التردد على الأسرة، فرحبت به. كلَّمها إن كانت تحتفظ بأوراق لعماد تخشى أن تعثر عليها مباحث أمن الدولة.
غالبت ارتباكها: لعماد حياته داخل البيت، وحياته في الخارج.
لم تعرف مدى صدقه، أو إن كان كاذبًا، لكنها لم تطمئن إليه. لاحظت ارتباكه، ونظراته المتلفتة. بدا قدري آخرَ غير الذي كان يصحبه عماد إلى البيت، تفصَّد عرق في جبهته، وكان الوقت شتاء.
لما زاد عبد الجبار ضغط يده على يدها، أدركت أنه لا يقصد مجرد المصافحة، جذبت يدها بعصبية، أضاف إلى استيائها ابتسامةً لزِجةً علِقت بشفتيه.
ظلت في وقفتها، حتى ابتلعت الظلمة وقْع قدميه، ثم أغلقت الباب.
التقط الجريدة من مريم: لماذا قدري عبد الجبار؟
– قرأت الاسم عندما كانت زميلتي تقرأ الجريدة.
أردفت في نبرة متشككة: كلمة «يقدمها» تعني أنه عيِّن في الجريدة.
لماذا عبد الجبار وحده؟ لماذا ليسوا هم؟ كان حمزة أبو زيد — قبل اعتقاله — صحفيًّا، لماذا لا يعود إلى جريدته؟ لماذا عبد الجبار؟
قالت مريم: هل ما زلت تذكر تلك الأيام؟
وهو يكز على أسنانه: سأظل أذكرها.
وفي صوت محمَّل بالتوتر: هذا الرجل خان زملاءه، ومن حقهم أن يثأروا لأنفسهم.
– ليتك تحرق الكراسة … هو في حاله، ونحن في حالنا.
– لماذا فرض الله القصاص إذن؟
– أنت تقول إنه رجل الحكومة.
– لن يمنعنا عنه حتى الشيطان نفسه!
تكرر رفض عودته إلى مكتبة البلدية. عرف أن قدري عبد الجبار حشا ملفه — منذ غادر المعتقل — بما حدث وما لم يحدث. ظل الملف مفتوحًا. هو لم يسرق، ولا ارتشى، ولا أقدم على ما يمس الشرف. أعادته الدعوى القضائية إلى وظيفته في المكتبة.
صحبوا عماد الشافعي في دعوة قديمة إلى إيليت.
الجدران الخشبية ذات اللونين الأبيض والأزرق، عليها لوحات لبيكاسو وماتيس وأدهم وسيف وانلي، وصور وكتابات للشاعر اليوناني كفافيس، وكتابات عنه.
قال صبري غانم متسائلًا: كفافيس لم يكن رسامًا.
قال الشافعي: اسمه على اللوحة.
وفي نبرة متواطئة: أعرف أن مدام كريستينا صاحبة المقهى كانت صديقة للرجل.
التكوينات والألوان والظلال، والنوافذ الزجاجية المتقاطعة، المغلقة، والطاولات المتقاربة، والستائر المسدلة لتظل الإضاءة شاحبة، ورائحة القدم.
افترَّ فم الخواجة مخالي صاحب المقهى عن ابتسامة تذكُّر. كانوا يناقشونه في الأفلام الحديثة، ومباريات الكرة، وعروض الفرق الأجنبية في تياترو محمد علي.
قال حمزة أبو زيد: أجمل ما في إيليت المكرونة الكابريس في الفرن.
تخلل صبري غانم بإصبعين مقدمة رأسه: أنا متزوج، أكتفي بفنجان القهوة.
قال فايز الشيخ وهو ينظر — بشرود — إلى محطة البنزين المقابلة: هذه العودة إلى إيليت … قد تضيعنا.
ذكَّرهم باللاءات: لا اشتغال بالسياسة، لا تردُّد على الأندية، لا جلوس على المقاهي، لا زيارات لجيران أو أصدقاء، لا انتقال من السكن دون إبلاغ إدارة المباحث العامة.
لم يتصور أنه يُقذف به وراء الأسوار كلَّ تلك المدة، لمجرد أنه شارك في اجتماعات تبادَل فيها الرأي مع أصدقائه؟ … لم يتحدث عن مظاهرات، ولا ثورة، ولا خطَّط لانقلاب. لماذا اعتقلونا إذن؟!
تقوقع على نفسه أشهرًا طويلة. اعتزل الحياة خارج البيت، لا يغادره إلا لضرورة. استقر في أعماقه ما يصعب زواله من الشعور بالمهانة والمرارة. قال له عماد الشافعي: هل لا بد من براعة حمزة أبو زيد في الإقناع، لتشاركنا جلساتنا؟!
قال: نحن حاولنا أن نصنع شيئًا، وكان الاعتقال هو الثمن.
أضاف في لهجة تسليم: إذا أراد غيرنا أن يعمل، فأنا أدعو له.
وهزَّ تكور قبضة يده: لكي أشعر أني إنسان لا بد أن أشعر بالحرية.
قال عماد الشافعي: إنه مقهًى وليس خلية سياسية ولا غرزة.
قال صبري غانم: ملفنا الأمني محسوب على أي تنظيم؟
غابت عن باله التهمة التي يمكن أن تقوده إلى حيث هو، لم يفعل ما يؤاخذ عليه، حتى أحاديث المقهى تقتصر على ظروف العمل والأحوال الأسرية ومباريات الكرة، وعلى النكات.
أشار بيده إلى ما حوله: إذا أرادت المباحث خارجين على النظام … فأسهل الأمور أن تأتي إلى هنا.
ثم وهو يتطلع إلى حركة الطريق: منذ اعتقلنا ولديهم ملفات لنا، ما أسهل أن يعودوا إليها! ما أسهل أن يبدلوها ويضيفوا إليها!
ومرر يده على عنقه دلالة التهديد: أنت تعارض، فأنت متهم. هذه هي عقدة النظام.
وتكلَّف ضحكةً ما لبث أن بترها: عليك أن تألف العبارة: مشوار قصير وتعود!
قال عماد الشافعي: وعي المباحث أكبر من وعيك … يعرفون أن الصورة لم تعُد كما كانت!
تحدث شوقي حميدة عن صعوبة عمله الجديد في شركة التأمين: تحولت إلى بوسطجي بين الشركة وعملائها.
واتجه إلى فايز الشيخ بنظرة متسائلة: هل قبِلت وظيفتك؟
قال فايز الشيخ: الوظيفة في القطاع العام أسهل من مكتب محاماة.
ثم وهو يهز رأسه: وظيفتي في عمر أفندي لا بأس بها.
تحدث شوقي حميدة عن جيرته لحمزة أبو زيد في المبنى الواحد، على ناصية طريق الحرية وصفية زغلول. أتاحت لهما وساطة عماد الشافعي فرصة العمل. شوقي حميدة في الشركة الشرقية للأقطان، وحمزة أبو زيد في شركة التأمين الأهلية.
قال وهو يضحك: لاحظت الدولة أننا لم نفترق خارج المعتقل وداخله … لم تعترض على وظيفتين لنا في مبنًى واحد.
ودندن: نحن والقمر جيران.
قال فايز الشيخ: هل يلجأ أحدكما إلى الآخر في كوب زيت، أو تلقيمة سكر؟
ثم وهو يتجه إليهما بنظرة تفيض بالود: ألستما جارين؟
صارت الحادثة القديمة طرف خيط، تعيد التقاطَه مباحثُ أمن الدولة، تصله بأحداث سابقة ولاحقة، يفاجئه اتهامه بها، حتى الوقائع التافهة، والتي نسيها، يستعيدها الضابط، أو المحقق. تتناثر أسماء فايز الشيخ وشوقي حميدة واللواء حشمت واللواء كرم شبل وحمزة أبو زيد.
قال فايز الشيخ: يا سادة … نحن تحت المراقبة … هذا ما يجب أن نعرفه.
قال صبري غانم: لماذا؟
– لأننا في عرف الشرطة خريجو معتقلات!
عرف أنهم إذا أرادوا اعتقاله، فلن يُعوِزَهم السبب، مجرد أن اسمه في قوائم الذين سبق اعتقالهم.
قال حميدة: ملفنا الأمني، محسوب على أي تنظيم؟
قال حمزة: يكفي القول إنك تعارض النظام!
قال صبري غانم: نحن لا نعارض، بل نبدي ملاحظات.
تدخَّل فايز الشيخ: إذا فُتح ملف شخص، فلن يغلَق إلا بموته!
وضرب الهواء بجانب يده: قدري عبد الجبار هو المسئول عن ملفاتنا!
قال الرجل ذو العينين الخاليتين من الجفون والرموش، والشارب المعقوف، والنقط السوداء على ظهر يديه، إنه رأى قدري عبد الجبار وهو يسلم إلى اللواء بهجت محرم أوراقًا، قلَّب فيها اللواء بنظرة سريعة، وداخلت صوتَه سخرية: هل قلت كل الأسماء؟
زوى قدري ما بين حاجبيه: ماذا تقصد؟
– أخشى أنك تذكر من نطلب أسماءهم ومن لا نطلبها!
أعاد السؤال في عصبية واضحة: ماذا تقصد؟!
حين طلب اللواء بهجت منه أن يقدم قائمة بأسماء أفراد الجماعة والمتصلين بها، تكلم عن السر والعلانية، عما يعرفه هو وحده، وما لم يطالبه الضابط بروايته. تلاحقت على لسانه — وفي الأوراق — الأسماء والأماكن والأحداث، كمن يريد التأكيد على أنه لا يخفي سرًا، أسماء مجهولة، وأحداث بلا تأثير.
لم يكن الحصول على المعلومات هو — فقط — ما يطلبه اللواء بهجت محرم من قدري عبد الجبار. حدثه عن نقل الأخبار التي قد لا تكون صحيحة، الوقيعة بين أعضاء الجماعة الواحدة، إفشاء الذعر بينهم، فيبتعدون عن العمل السياسي. علَّمه الرائد وائل سليمان وسائل جمع المعلومات، كتابة تقارير الرأي العام، إعداد الملفات، كيفية تفتيت الجماعة، وإحداث الشقاق داخلها، وتوجيه المناقشات فتصل إلى طريق مسدود.
لم يعد يتردد على قرموط صهبرة، ولا على أماكن اللقاءات القديمة في الإسكندرية. شغله أن يجالس من يناسبونه، من يسبقون خطواته نحو المواقع التي يتطلع إليها، أو من بيدهم السلطة. حتى مقهى كريستال انقطع — من نفسه — عن التردد عليه.
تحوُّله إلى عين تنقُل ما تراه إلى اللواء بهجت محرم، يحتاج إلى خطوات ربما يعجِز عن قطعها، أو أنها ستأخذ وقتًا أطول مما يجب. هو يُنصت لكل حوار مهما يتغلف بالهمس، يسجله في التقارير والمذكرات، يُسعفه خياله بما يسدُّ الفجوات. ربما وضع تركيزه في عينيه، تُتابعان التصرفات التي تثير الملاحظة، وتستدعي التبليغ. يخشى اتهام اللواء بهجت بالإهمال أو بالتواطؤ. يدرك أن الجهة التي جعلته عينًا، لا بد أن تجعل من آخرين عيونًا عليه. تنبثق في داخله — كالومضة — لحظةُ قلق، أو خوف، أو توقُّعُ مجهول لا يدرك ما هو ولا بواعثه. تفاجئه الأمواج فتبتلعه. تنزلق قدماه من فوق الصخرة العشبية الملساء، فتبتلعه مياه البحر. الصحفي — منذ تنظيم الصحافة، أو تأميمها — موظف في الدولة، منتمٍ إليها. يؤدي عمله بضمير المحترف، لا يُعِد السياسات، وإنما يشرحها، ويُقنِع قراءه بها. إذا اختلف مع سياسة الدولة، فإن عليه أن يتخذ مهنةً أخرى، وهو ما لا يتصوره.
مريد الصوفي كالميت بين يدي مغسِّله. لا يسأل، ولا يناقش، ولا يعترض. هو في عمله مثلُ مريد الصوفي، وإن أتاح له عمله أن يوضح ما غمُض، ما تصدره الدولة من قوانين، ما تتخذه من قرارات ومواقف، صوابٌ لا بد من المدافعة عنه.
وثَبَ في سنة واحدة من محرر إلى رئيس، ثم أصبح — بعد أقل من ثلاثة أعوام — نائبًا لرئيس التحرير، وبدأ التلميح بترشيحات القيادة السياسية لاختيار أجيال جديدة من قيادات العمل الصحفي.
أغلق عليه باب حجرة المكتب. عبَّر عن فكر الإخوان بصوت لم يألفه في نفسه، ولا قرأه بالوضوح نفسه في كتابات الإخوان. تكلم عن العدالة الاجتماعية في الإسلام، ودعا إلى ضرورة تطبيق الشريعة، وتحسَّر على زمان دولة الخلافة، وأن المؤامرات نالت منها، فأضعفت العالم الإسلامي كله.
أذهلته الروايات الغريبة لقدري عبد الجبار عن وقائع غير حقيقية. تحدث عن التعري، السجن الانفرادي، الصعق بالكهرباء، الضرب بالشوم والسيور الجلدية، الأضواء المستديمة، الأصوات العالية، المنع من النوم، الوقوف على أطراف الأصابع، التعليق من القدمين كذبيحة، إطفاء السجاير في لحم البشرة، تناوُب الماء البارد والماء الساخن في الوقفة العارية، الشتائم، الإهانات، كنس المراحيض، حمل صفيحة الغائط على صدره. كان منفعلًا، كأنه يدافع عن قضية يؤمن بها.
تحدث عن الاتجاهات السياسية القائمة، ما بينها من أوجه الاتفاق والاختلاف، ما يظهر في العلن، وما يتحرك في السر، نقاط الضعف في كل اتجاه ونقاط الضعف. شرح دوره القيادي في الإعداد للإضرابات والاعتصامات، وتسيير المظاهرات، وصياغة الشعارات المنددة بالسلطة، وعن حريته التي دفعها ثمنًا للقضية.
قال إنه لم يحاول — في أي يوم — الحصولَ على مكاسب ولا غنائم من أي نوع. وقال إن قيمة حياته في أنه لم يساوم على مبادئه ولا معتقداته. لم يشغله إلا أن يعلن ما يرى أنه الصواب. وقال: لم يكن المطلوب أن أؤيد أو أناصر. كان الصمت هو ما يطلبونه، لكنني تكلمت عما أملاه ضميري. وقال إنه رفض الانحناء للدولة، ولم ينجرف في زحام التأييد. وقال: يجب أن يُلغى قانون الطوارئ والمعتقلات وحظر الحريات العامة والشخصية.
تناثرت في حديثه كلمات الموقف والثورة والتقدم والعدالة والحرية والكرامة ودور المثقفين. انتقد محترفي النضال ورافعي الشعارات، ومثيري الشغب السياسي. أدان تفشِّي الفساد، والانحراف، والحقد، وحوار العنف المتبادل بين الدولة والجماعات السياسية، وضرورة التغيير. لجأ إلى تعبيرات مثل اللحظة التاريخية الفاصلة، والنضال السياسي، وراية الحرية التي يجب أن ترفرف على أرجاء الوطن.
اختار اللقاء في دكانه.
لم تغب الملاحظة والمراقبة والمطاردة. ربما استُدعي إلى قسم الجمرك ليواجه أسئلة لم يكن أعد نفسه لها.
الدكان مدسوس وسط دكاكين لبيع الملابس الجاهزة بشارع البوستة القديمة، وتطل واجهته على الكنيسة الإنجيلية. من طابقين. الأرضي واسع، شبه خالٍ، إلا من طاولتين خشبيتين متقابلتين بامتداد المكان، تراصت وراءهما ثياب النساء الداخلية على الأرفف وداخل الأدراج، وتناثرت — على شماعات — قمصان نوم وفساتين للبيت وأرواب. في الركن سلم حلزوني من الحديد يفضي إلى الطابق العلوي. لا يصعد إليه أحد. لعله تركه خاليًا، أو جعله مخزنًا للبضاعة.
– ماذا تعرف عن قدري عبد الجبار؟
سأل الرجل ذو العينين الخاليتين من الجفون والرموش، والشارب المعقوف، والنقط السوداء على ظهر يديه: الكانجارو؟
علا حاجباه بالدهشة: ماذا قلت؟
– الكانجارو … هذه هي تسميتي لعبد الجبار.
– لماذا؟
– لأنه يحسن التقافز.
– تقصد القفز؟
– أقصد التقافز. لا يثبت في موضع، صديق للكل، وعدو للكل … صديقه الوحيد الحقيقي هو قدري عبد الجبار.
وفتح فاه عن فم غابت معظم أسنانه: هل هو صديقك؟
– عرَفته من فترة بعيدة.
– أيام المعتقل؟
تلوَّن صوته بالدهشة: أنت لا تعرفه!
ونظر إليه، يتأمل وقْع كلامه في عينيه: خاض الكانجارو معارك كثيرة … لكن جميعها لصالحه الشخصي.
وانتزع ابتسامة رسمت تجاعيد خفيفة حول شفتيه: الكانجارو شيخ مع المتدينين … وملحد مع هواة الشعارات الفارغة.
ثم وهو يكز على أسنانه المتبقية: عبد الجبار ليس مجرد كانجارو، إنه يجيد تغيير جلده مثل الحرباء.
وقذف قبضته في الفراغ: مواهبه السيئة لا تنتهي!
خمَّن من الاسم صعيدية قدري عبد الجبار، لكنه تحدث عن قريته قرموط صهبرة القريبة من المنصورة، وأن ميل جده إلى حياة الليل وقطع الطرق ألصق به تسمية عبد الجبار، فصارت لقبًا للعائلة.
البساطة التي تحدث بها عن عائلته، ونشأته، قربته منه. لم يخضع لتحقيق حتى يروي ما لم يسأله فيه أحد. بدا عفويًّا، وصادقًا، فأحبه.
عمل في طفولته في نقاوة الدودة، وتقليع الحلفة من الأرض، ونزع الملوخية والسريس من بين أعواد الذرة. رفض عرض أبيه الأوسطى عبد الجبار أن يعاونه في صنع السواقي والنوارج والطنابير وإصلاح الدكك والطبالي.
ربطه أبوه إلى شجرة الجميز الهائلة في طرف الغيط. التقط من الأرض قطعة خشب، انهال بها على ردفيه، وقدري صامت. زاد غيظ أبوه، فتوالت الضربات. لم يهدأ الرجل إلا بعد أن علا صوت قدري بصرخة أُغمي عليه بعدها.
كان يقضي غالبية يومه في مطاردة الزنابير، وصيد النحل، وتحطيم أعشاش الطيور، وسرقة أحذية المصلين من الزاوية، أو المصلى على حافة النهر، وتسلُّق النخل لإسقاط البلح، والتقافز بين أغصان الشجر، وتقطيع أغصان أم الشعور المطلة على ضفة الترعة، والعوم في الهدار، والخوض في البرك الآسنة. يشرك للطيور، يطارد الفراشات الملونة، يدلي ساقيه في الترعة من جلسته فوق أم الشعور، يلعب على الكيمان، يركب حمير السباخ، يصطاد السمك، يأكل الجعضيض في الغيطان، يلاعب الأولاد الاستغماية والمصارعة وعنكب يا عنكب والطابة، يتسلق الشجرة، أية شجرة في أي غيط، يهز الأغصان، فتتساقط الثمار على الأرض، يلتقطها الأولاد ويفرون.
لا يثبُت أمامه أحد. يتحدث عن مغامراته الجنسية داخل غيطان الذرة. يدخل في خناقات، لا يسلم أحد من لسانه وأذيته، يبتكر وسائل الإيذاء، لا يشغله ما يصيب جسدَه من جروح وسحجات ورضوض، لا يشغله حتى الموضع الذي قذف به الحجر في جسدِ مَن يعاركه. يحرص على الفوز بصرف النظر عن الوسيلة. كرهه الأولاد، غلَّفوا كراهيتهم له برداء من التجاهل واللامبالاة، وتحاشي الجلوس إليه أو الكلام معه.
ألِفت أمه عودته إلى الدار وحول عينيه أثر كدمة، أو تساقُط دم من منخاريه أو فمه، أو تمزُّق ملابسه. تدرك أنه قد دخل خناقة، تدير نظراتها إلى ما بين يديها، وتكتفي بالقول: يوريني فيك!
كان الأولاد يلعبون بالقرب من ترعة الإبراهيمية، بالقرب من حافة الترعة. غاظ قدري عبد الجبار فوز ياسر الباز عليه في الطابة. دفعه في غفلة من أعين الأولاد. وجد ياسر نفسه في قلب الترعة يصارع المياه.
غلبه التقلص في ساقيه وهو يحاول الطفو فوق المياه. ظل يصارع التقلصات والموج. خلا المكان إلا من الأولاد في سنِّه، اكتفوا بالصراخ دون أن يحاولوا القفز في الترعة لإغاثته. خذلته قدرته على السباحة، يقاوم الموج، ولا فائدة، أفقدته التقلصات العنيفة مجرد القدرة على البقاء فوق الموج، يغطس، ويقب، ويصرخ، ويغطس. تعالت صيحات الأولاد من ضفَّتي الترعة. ظلت يداه مرفوعتين بالاستغاثة. حاولوا أن يدلوا له عصًى ليسحبوه إلى الشاطئ. مد يدًا يائسة للتعلق بنهايات شجرة أم الشعور المتدلية في الترعة. لم يعد أمامه سوى الصراخ المستغيث. رفع رأسه فوق سطح الماء — بالكاد — وتنفس. اجتذبته إلى أسفلَ قوةٌ لم يستطع مغالبتها. غاص جسده داخل المياه، اختفى في القاع. هبط الكبار — بعد غرق الولد — إلى الترعة، طلعوا بالجثة الممتلئة بالماء.
لم يؤكد ما حدث سوى ولد واحد، أنكر الباقون — فرارًا من تهديد عبد الجبار — أنهم رأوا شيئًا.
أدركت قرموط صهبرة صحةَ ما رواه الولد، لما سحب الأوسطى عبد المعبود ابنه من رقدته فوق الفرن. ركله بآخرِ قوته. واصل ضربه وهو يزحف على ركبتيه. فتح الأب الباب، وقذف به إلى الظلمة، ظل أمام الباب حتى فتحه أبوه في الصباح، ليبدأ يومه.
لما أبدى قدري لأبيه ملاحظةً عن تقوس أظافر الرجل، قال أبوه في بساطة: هذه هيئة أصابع الفلاحين.
أزمع أن ينفض رأسه من صور الأزقة المظلمة، المتربة، والبيوت الطينية، والزرائب، والبهائم، والليل الغطيس. تحددت أحلامه في أن يحصل على الشهادة الجامعية فلا يعود إلى قرموط صهبرة. ينتمي إلى القاهرة بالعمل، والإقامة، والظروف المختلفة.
دفع إليه أبوه بالنقود: حاوِل أن تدبر نفسك بهذا المبلغ، وبمثله كلَّ ثلاثة أشهر، لتدرس في الجامعة.
جمع الكلمات في فمه، ليوضح ظروف الدراسة، وظروف الحياة في القاهرة. أسكته أبوه بإشارةِ من يده: هذا كل ما أملكه لتحصل على الشهادة!
استطرد في لهجة محرضة: أساعدك … عليك أن تساعد نفسك.
حين دفع له أبوه الملابس المستعملة لمدحت ابن المهندس محسن القليوبي، قلَّبها، تأملها. ثم أخذها، وإن داخَل نفسَه شعورٌ بأنه ينتمي إلى عالم غير الذي ينتمي إليه أبوه. عالمه من خارج قرموط صهبرة إلى القاهرة، وعالم أبيه يقتصر على القرية لا يجاوزها.
في آخر لياليه في قرموط صهبرة كتب على جدار الحجرة بالقلم الفلوماستر: لا عودة!
أيقن أن النقود التي يرسلها له أبوه لن تغطي نفقات حياته، ولا نفقات الدراسة. تنقَّل بين شقق الطلبة من أبناء القرية، حتى أنقذته واسطة مالك عزبة قريبة، فدخل المدينة الجامعية. عمل كشافًا في شركة ليبون للكهرباء. يصعد — كل يوم — آلاف السلمات، يدخل في أخذ ورد، يجيب على الأسئلة، ويسأل عن غياب أصحاب الشقق، ويناقش — بلهجة العليم — ما يثيره الساكن عن ارتفاع سعر الفاتورة.
لم تكد أمن الدولة تتوسط له، حتى أشاع قدري عبد الجبار — بين زملاء الجريدة — الإحساس بالمراقبة، بالمطاردة، ما يشبه القلق، أو الخوف، يسيطر على علاقة كلٍّ منهم بالآخرين: كل واحد يخاف من الآخر، من يبدأ بالهجوم هو الذي ينتصر.
عُرف عن قدري عبد الجبار حرصُه أن يبدو أكثر اطلاعًا ومعرفةً من محدِّثيه. تتداخل في عباراته أسماء ومصطلحات عربية وأجنبية. يلجأ إلى كلمات ذات رنين كالحق والحرية والعدالة والثورة والتهديد الإثني والمجاعات والتدمير العنصري والانحياز الثقافي. ينثر في كلماته أسماء مهمة، ربما ليوهِم محدِّثه أنه قريب منها. إذا استعصت الإجابة، لجأ إلى الصمت في هيئة العارف الذي يمتلك المعلومة الصحيحة. يجيد إخفاء مشاعره. يبذل الود والمجاملة، والنفاق أحيانًا، حتى تأتيه الفرصة، فلا يتردد في اقتناصها. يروي حكايات، ينسى — في مرة تالية — فيروي ما يناقضها. ويتحدث عن عروض كثيرة — رفضها — للتدريس في الجامعة، ورئاسة تحرير جريدة، أو إلقاء محاضرات في مؤتمرات دولية. ربما تحسس — بعفوية — أثر ضربة تلقَّاها من أبيه، حتى بعد أن واجه في المعتقل ما لم يكن أعد له نفسه. ظلت يده تتحسس المواضع القديمة.
قال الرجل إن قضية قدري عبد الجبار هي قدري عبد الجبار. يهمل الوسائل لتحقيق ما يتطلع إليه. منذ باع نفسه، يحاول أن يكون لتعامله مع الجهات الأمنية معنًى. يختلق النشاط الذي يستدعي المظاهرة والمساءلة والاعتقال. لو أن تقاريره ذوت أو تلاشت، فلن يكونوا في حاجة إليه. لفَّق الاتهامات لمن يخالفه الرأي، حتى أقرب أصدقائه. ضايقته نظرة مدحت خطاب — زميله في الجريدة — وهو يتحدث عن ضعف الصحف القومية إلى جانب الصحف المستقلة، ينقل أخبارًا نشرتها الصحف، يحذف منها ويضيف إليها، يحوِّرها بإضافة أسماء يسعى لإدانتها. كتب — في تقرير له — عن اتصال مدحت خطاب بجماعة سرية تُعِد لقلب نظام الحكم.
قال الرجل لنظرة صبري غانم المتسائلة: لا أسرار! … مشوار إلى قرية قرموط صهبرة تعرف أكثر مما قلته لك!
غالب صبري تردده: لكن … لماذا؟
وفي لهجة متوددة: لماذا شغلتك هذه المعلومات؟
استغرق الرجل في الصمت، ثم مزق توقُّع صبري بأنه لن يتكلم: قدري عبد الجبار أساء إلى من أحسنوا إليه!
ونطق الحروف في تأكيد: استغل صلته بالداخلية ليقذف بكل من يعرف ماضيه إلى السجن!
أردف دون أن يخفض صوته: أكبر أبنائي واحد منهم!
وأزَّت الفاترينة الزجاجية أمامه بوقْع قبضته: هذا إنسان غدار … مثل الغراب النوحي!
وتقلصت ملامحه بالتأثر: النشأة الفقيرة لا تعيب … بيني وبين الفقر عِشرة قديمة!
وأغمض عينيه: قدري لم يرث إلا الحقد … أسوأ ما يخلفه الفقر!
وأومأ بذقنه: لم يكن ضغط الحاجة هو الدافع لأن يقبل قدري ما أداه بمهارة.
وسرت ارتعاشة في ملامح وجهه: مهما نال الكانجارو من الشهادات، فستظل الخيانة هي الصفة التي تليق به!
رفع شاب منمَّش البشرة في الصفوف الخلفية يده، وطلب الكلمة. التفت قدري إلى مقدم الندوة كالمستأذن.
أشار إلى الشاب بيده. سكنت ملامحه في صمت مستغرق.
استعاد الشاب — من الذاكرة — عبارات لقدري، تضمنتها مقالاته. تناثرت مفردات: الفساد، العدالة، المساواة، الحرية، الديمقراطية، القانون، الرأي المعارض.
قال الشاب: ما سرُّ احتفاظك بإيمانك؟
تحدث حمزة أبو زيد عن مقالات قدري عبد الجبار في الصحف — ليست صحيفة واحدة — تتصدرها صورته. يكتب في القضايا السياسية والاجتماعية، يتخلل الأسطرَ كلماتٌ تُدين الدولة، وتنتصر للفقراء والغلابة. هل هذا هو قدري عبد الجبار؟ هل أجاد في وضع عباءة عنترة على جسد خنفس؟!
علا صوت فايز الشيخ بالمؤاخذة على مقالات قدري عن سنوات الاعتقال، يكرر الكلام نفسه في مقالاته وكتبه ومناقشاته، وفي الندوات التي يشارك فيها. حتى المفردات لم يكن يبدِّلها، أيام الاعتقال، وما اتصل بها من الحبس الانفرادي والتعذيب. كأنه يُدين الجميع على السنوات الست التي أتاحت له ما لم يكن يحلم به قبل دخول المعتقل.
قال حمزة أبو زيد: هل لا يزال قدري عبد الجبار يعزف لحنه الوحيد؟
وفي نبرة مستغربة: ما دام يصر على سيرة الاعتقال بمناسبة وبلا مناسبة … لماذا لا يتحدث عن خيانته لزملائه؟
قال فايز الشيخ: يذهلني الفرق بين الشعارات التي كان يعلنها قبل المعتقل وما أصبح عليه الآن.
قال شوقي حميدة: عبد الجبار لم يقدم قليلًا ولا كثيرًا في مجال الفعل السياسي. إذا كانت الوشاية بالأصدقاء هي الفعل، فقد أفلح فيما فعل.
وبصق تفل شاي علِق بشفتيه: قدري عبد الجبار مكلف بدور يجيد أداءه.
أظهر صبري غانم الدهشة: هل يصل به أداء هذا الدور حد دخول السجن؟
قال شوقي حميدة: وأكثر.
قال حمزة أبو زيد: أثق أنه كان لديه الاستعداد للخيانة.
واستطرد في نبرة مستاءة: كيف يقنع الناس بأنه مناضل وضحية؟!
أهمل أبو زيد ما نقله إليه شوقي حميدة في مكتب المحامي فايز الشيخ من أن قدري عبد الجبار يعيب عليه إحساس الزعامة الذي يصر أن يقود به زملاءه. هم رفاق، ليسوا تلاميذ، ولا مرءوسين. واتهمه بأنه يخفي عن زملائه ما يجب أن يعرفوه من أسرار.
قال حمزة: نحن نؤمن بالديمقراطية، لكن القرار لا يوقِّع عليه الجميع. هذه مسئولية القيادة.
ثم وهو يومئ إلى صبري غانم: ليت قدري يُفيد من صبري في قراءاته، في مقابل رفض صبري شعارات قدري!
حفْظه للقرآن، وقراءاته في كتب الدين، وأداؤه صلاة الفجر في علي تمراز، وجلوسه إلى دروس المغرب في أبو العباس، واندساسه في حلقات الذكر وقراءة البردة أمام البوصيري … ذلك كله اهتز تحت وطأة قراءاته سلامة موسى: عالم مغاير، مفعَم بالمعاني التي لم يكن تعرَّف إليها.
لما اعتذر لقدري عن نزول البحر، اكتشف أن القراءة سرقته من أشياء كثيرة. هو لا يعرف السباحة، ولا يركب الدراجة، ولم يشارك الأولاد ألعابهم في الشارع الخلفي. كان يستند — في وقفته — على الجدار وهو يحمل حقيبته، ويتابع لعب الأولاد بالبِلي أو الدوم. حاول — مرة — أن يقذف البلية بأخرى، فاتجهت بعيدًا. اكتفى بالفرجة. ظروف أسرته لم تُتِح له أن يواصل دراسته الجامعية. وقف — أشهرَ الصيف — على لعبة النشان بملاهي الأزاريطة، ثم عمِل في وظائف صغيرة، آخرها مُلاحظ صالة الاطلاع في مكتبة البلدية.
وهو يميل من ميدان المنشية إلى شارع البوستة القديمة، التقى بالصول نديم.
ياه! ذلك الزمن القديم!
عرفه، وإن لم يبْدُ ذلك في عينَي الرجل. كانت نظراته أقرب إلى الشرود، وهو يتباطأ في السير أمام واجهات الدكاكين.
استعاد في ملامح الرجل تميُّز وقْع قدميه، صليل المفاتيح في يده، خطواته المتلكِّئة بين العنابر والزنازين، نظراته السمكية، عصاه الطويلة تنزل على ما تصادفه من الجسد، تغاضيه عن الصرخات والتأوهات.
ربَّت كتف الصول بأصبعه: هل تذكرني؟
حدق فيه الرجل، ثم قال بلا مبالاة: أهلًا وسهلًا.
أدرك أن الرجل نسيه. لم يكن يعني له شيئًا. هو مجرد نزيل بين المئات، يدخلون المعتقل، ويخرجون منه. وظيفة الصول تأديبهم، تعذيبهم. أرادت الحكومة عقابهم، وعليه مسئولية تنفيذ العقاب.
قال: كنت معك في أبو قير.
لمح ارتعاشةً في أنف الرجل.
قال الصول: طبعًا … طبعًا … أذكرك.
وتنهَّد: أيام!
تأكد أن الرجل لا يذكره، ولا يذكر أي شيء.
فكر في أن يكتفي بالسلام، ويمضي. ظلت يده في عناقها لليد الهائلة، تتسق مع الجسد العملاق، والأنف الأفطس، والشارب الكثِّ، المتهدل، والشفتين الغليظتين، وآثار الجرح القديم، تمتد على جانب الوجه إلى نهاية الأذن.
قال: هل ما زلت في أبو قير؟
هز رأسه دلالةَ النفي: لا … أنا الآن في المعاش.
– إذن أنت من الإسكندرية؟
– جئت من كفر الزيات لأزور ابنتي … زوجها موظف في الميناء.
لم يعُد لديه ما يقوله. سحب يده، واتجه بعينيه ناحية الطريق. بدا على الرجل رغبةٌ في الكلام. حدجه بنظرة متسائلة.
قال الصول: هل أجد عملًا يساعدني على المعاش؟
لم يجد ردًّا. قال: ربما … سأحاول.
– كيف أتصل بك؟
سحب بطاقة من جيب جاكتته العلوي: هذه بطاقتي … اتصل بي.
قال الصول — في لهجة معتذرة — وهو يتهيأ لمواصلة السير: لم يكن لي شأن بالمعتقلين. لم أكن أعرفهم كما لم أعرف من سبقهم، ولا من أتى بعدهم. كنت أنفِّذ الأوامر.
روى ما حدث في المقهى.
قال حمزة أبو زيد: هل ستبحث له عن وظيفة؟
قال صبري غانم: إن وجدت!
قال شوقي حميدة: نسيت المعتقل؟
جرى صبري غانم في رأسه بأصابعه: كان الرجل مجرد موظف.
قال عماد الشافعي: لكنك تريد التخلص من وظيفتك.
قال صبري: يريد شيئًا يتفق مع عدم وجود مؤهل.
قال شوقي حميدة: أرشحه فتوةَ بار في شارع اللبان.
قال صبري: لو أنك رأيته … ربما بدلت لهجة السخرية!
وفي لهجة متصعبة: إذا أراد قائده أن يضرب أحدًا فلا بد أن يضربه.
ثم وهو يُظهر الحيرة: هذا هو عمله، ما كان يتقاضى عنه راتبه!
قال عماد الشافعي: لا أتصور موظفًا يتقاضى مرتبًا لمجرد أن يضرب الناس.
وداخل صوتَه تهدُّج: قد ألتمس العذر للقواد. أما من رضي بوظيفة ضرْب الناس، فلا ألتمس له أي عذر!
ومَضَ في ذهنه الْتماعُ بريق الرغبة في إطالة وقت التعذيب، التلذذ برؤية الضربات والدم والتأوه والصراخ.
ما معنى أن يعذب إنسان إنسانًا لا يعرفه، ولا التقى به من قبل، وليس بينه خصومة ولا ثأر؟ ما يفعله هو أقرب إلى قتل المطاريد للأبرياء؛ لقاءَ مكافأة يدفعها الخصوم. يشيرون إلى الضحية الذي لا يعرفه، فيطلق عليه رصاصة، أو يهوي عليه بالبلطة، أو الآلة الحادة في يده!
قد أفهم وظيفة عشماوي؛ هو يقتص للمجتمع من المجرمين. من يضرب الناس بلا سبب، أو لأنهم أحبوا وطنهم، أو دافعوا عن الصواب، من يفعل ذلك فقد ارتكب جريمة لا تقل عن جريمة القتل.
قال فايز الشيخ: مع ذلك فإننا ندين للشاويش عبد المقصود بما لا نستطيع أن ننكره.
الشاويش عبد المقصود؟
التقط فايز نظرته المشفقة، حين دفس الشافعي رأسه بين كتفيه، لصفعة فاجأه بها الصول نديم. حاول — فيما بعد — أن يقترب منه، ويلاغيه. فطِن إلى ما تنطوي عليه نفسُه من طيبة وراء سحنة مُربدَّة. أفلح في أن يكتسب صداقته، يصبح موضعًا لثقته. يتجاهل إضاءة العنبر إلى وقت متأخر من الليل. ينقل لهم ما يشغلهم معرفتُه من تطورات الأحداث، يُسقطون مبالغاته وتهويله واختلاقاته، ليسد الفجوات، وما لا يعرفه. ينقُل الرسائل — سرًّا — بين النزلاء وذويهم خارج المعتقل. ربما أتى من الخارج باحتياجاتهم الشخصية.
قال عماد الشافعي: المصيبة أني كنت قبل المعتقل أدعو إلى الحوار، وخرجت لأدعو إلى العنف.
تعددت الآراء والتعليقات والملاحظات. أدانت — في تباينها — ديكتاتورية عبد الناصر، وتنازلات السادات، وفوضى الانفتاح، وحكومة رجال الأعمال، والابتعاد عن الدين.
تنبه على عبارة لقدري عبد الجبار: لما بدأنا العمل السياسي كنا ندرك خطورة النتائج.
الكلمات هي ما يجيده، يتكلم، ويتكلم، ويتكلم، تشغله المعاني الكبيرة، والتوشية.
قال دون أن يتدبر الأفكار الدائرة في رأسه، ولا إن كانت الكلمات هي التي يريد أن يقولها بالفعل: تحدثت عن فترة اعتقالك … هل كانت ثمنًا لإصرارك على مبادئك؟
تلفت حوله بعفوية. لاحظ الدهشة في وجوه الحضور. رفع قدري عبد الجبار وجهه عن الأوراق التي كان يراجعها. طوى الأوراق بأصابعه، واتجه إلى صبري غانم بنظرة مستغربة: اشتغلت بالعمل السياسي للدفاع عن مبادئي.
وبدَّل نبرة صوته: دفعت الثمن ست سنوات من الاعتقال.
وشى صوت صبري بالتحدي: ألم تَضعُف؟
– ماذا تقصد؟
– ألم تفكر في الابتعاد عن السياسة؟
– السياسة هي الهواء الذي أتنفسه … شاغلي الأول قضايا الناس.
تحدث عن أبيه الإقطاعي: كيف واجهه دفاعًا عن حقوق المستأجرين!
– قيل إنك لم تخرج من المعتقل إلا بالتوقيع على اعتزال العمل السياسي.
أهمل ما شاع في القاعة من توتر، بعد أن وشى وجه قدري عبد الجبار بالاستياء. قاوم رغبة في أن يصعد إلى المنصة، ويعلن رأيه في عبد الجبار: أعرف من ظل صامدًا ومن باع زملاءه، من أخلص للعمل السياسي ومن اكتفى برفع الشعارات.
قال عبد الجبار: أنا كاتب سياسي في جريدتي.
قال الرجل: هل من حقك الانضمام إلى تنظيم؟
– تقصد العمل ضد الدولة؟
وهز رأسه: أنا مع النظام ولست ضده!
تشابكات النظرات، وتلويحات الأيدي، والأصوات العالية والهامسة، تدعو صبري إلى الصمت، تقاطعه، وتوبخه.
دار بعينيه كأنه يستغيث بمن قاسموه — قاسموهما — الحياة في أبو قير والسجن الحربي والواحات والمحاريق.
جاوز حتى ما كان ألزم به نفسه، تكلم، وتكلم، روى ما فاجأ به قدري نفسه. غاب الود عن الملامح. حل الرفض والسخط والتهيؤ للأذى.
لم يحدث ما توقعه، وتمناه، عندما يواجه قدري عبد الجبار هذا الموقف. قفز من فوق الأسلاك دون أن يصيبه ضرر. قشرة الموز قذف بها إلى جانب الطريق، وواصل السير. ظلت البسمة على شفتيه.
هل سرق قدري عبد الجبار عمره؟ هل سرق حياته؟
أخذته الشوارع.
سار فيها بلا مقصد. ترامت رائحة البحر، فاتجه إليه. وقف أمام السور الحجري. الميناء الشرقية تخلو من البلانسات والقوارب وصيد الجرافة، وإن تناثر صيادون على المصدات الأسمنتية، يطول ترقُّبهم لجذبة السنارة.
السماء محمَّلة بالسحب السوداء، والريح عاصفة، والنوة تدفع الموج إلى الكورنيش الحجري، تصطدم به. يعلو، يندلق كسيل في امتداد الطريق، ينحسر، ويعود، يتملكه العناد، لا يتوقف. تتحول الأيام بمثل تحوُّل أمواج البحر. الخضرة العميقة تشفُّ فيها الأعماق، يومِض الحصى قرب الشاطئ، وتتراقص الأسماك في الغميق. التقابل مع زرقة السماء. قتامة البنى باختلاط الأمواج العالية والطحالب والأعشاب. الأمواج المطلخمة بالزيت والأوساخ ونفايات القاع. تتبدل الأيام تبدُّلَ أمواج البحر، لكن أحوال المد والجزر قائمة، متواصلة، لا تعرف التوقف ولا الانتهاء. حال الأمواج منذ تشكَّلت العلاقة بين البحر واليابسة؛ هو عناد العلاقة بينه وبين قدري عبد الجبار.
تنبه — في استعادته ما حدث — إلى ما فاته قولُه. لو أنه كشف عن سر تذكره، بعد أن انفضَّت الندوة؟ لو أنه سأل بما يلف الحبل حول عنق قدري جيدًا؟ لو أنه استعاد تلاحق الأحداث من البدايات؟
قال في الفراغ ما لم يُتَح له قوله في الندوة. همس، علا صوته، سأل، أجاب، هدد، توعد، أشاح بيده.
الموجات المتلاحقة يجتذبها جزر البحر. تعود — بالمد — ثانية.
لا يهزمها التلاشي.