الفصل الرابع
(عين المنظر الثاني … قاعة قصر الدولة … «هيرونيموس» يقطع القاعة
جيئةً وذهابًا في اضطراب شديد … الباب يطرق … ثم يدخل أحد
حراسه.)
الحارس
(يؤدي التحية)
:
إنهما هنا.
هيرونيموس
:
أدخلهما!
(الحارس يخرج … ولا تمضي لحظة حتى تدخل
«براكسا جورا» ومعها الفيلسوف.)
براكسا
:
أطلقت سراحنا!
هيرونيموس
:
الأخبار ليست سارة!
براكسا
:
بالنسبة إلينا؟
هيرونيموس
:
بالنسبة إليَّ أنا على الأخص!
الفيلسوف
:
يبدو عليك ذلك!
هيرونيموس
:
هل تذكران قولي لكما في السجن عمَّا يمكن أن يحدث إذا لم
أنتصر؟
براكسا
:
هل انهزم الجيش؟
هيرونيموس
:
نعم! … وهو عائد إلى المدينة؛ بل هو الآن على
الأبواب!
براكسا
:
معنى هذا …
هيرونيموس
:
الثورة!
براكسا
:
ضدكَ أنت!
هيرونيموس
:
بالطبع.
براكسا
:
حقًّا! … ثورة الجيش والشعب معًا … لأنك غامرت بهما،
وقامرت وخسرت!
هيرونيموس
:
هذا شأني أنا.
براكسا
:
والنتيجة؟
هيرونيموس
:
موتي بيد الثائرين أو بيد الأعداء، وهو ما يجب ألا
أنتظره!
الفيلسوف
:
بالاختصار قررت أن تموت بيدك، لا بيد غيرك!
براكسا
(صائحة)
:
تنتحر يا «هيرونيموس»؟!
هيرونيموس
:
لا بدَّ من هذا.
الفيلسوف
:
وما شأننا نحن في كل هذا؟! … لماذا جئت بنا الساعة؟… ألكي
نختار لك طريقة موتك؟
براكسا
:
مهلًا يا صديقي «أبقراط»! … رفقًا ولا تسخر به مهما يكن من
أمر سلوكه معنا؛ فهو الآن في محنة … إنه الآن في حاجة إلى
كلمة عطف!
الفيلسوف
:
أظن أنه الآن في حاجة إلى شيء أجدى من هذا!
براكسا
(في أمل)
:
أتستطيع إنقاذه؟!
الفيلسوف
(ساخرًا)
:
أنا؟!
هيرونيموس
:
كفى هراءً! … الوقت ضيق … فلنتكلم فيما دعوتكما من أجله …
إن موتي وحده لن يحل المشكلة، ولن يَحُول دون وقوع الشغب
والفوضى، لا بدَّ من قيام حكومة جديدة تواجه الموقف … أفهمتما
قصدي؟
براكسا
:
تقصد …
هيرونيموس
:
أقصد أن تتولَّي أنتِ السلطة يا «براكسا».
براكسا
:
أنا؟!
هيرونيموس
:
نعم! … وفي الحال؛ كي تعلني إلى الناس خبر موتي وذهاب عهدي،
وتسرعي في معالجة الأمور التي ستسفر عنها الحوادث!
براكسا
:
لا … لا أستطيع!
هيرونيموس
:
تستطيعين!
براكسا
:
وعلى تأييد مَن سأستند في الحكم؟
هيرونيموس
:
على تأييد الشعب!
براكسا
:
ومن أدراكَ أن الشعب سيؤيدني؟
هيرونيموس
:
إن الشعب توَّاق إلى أي تغيير، وسيستقبلك بالحماسة التي
استقبلك بها في يومك الأول، والتي استقبلني بها في يومي الأول،
والتي يستقبل بها كل حاكم جديد في يومه الأول!
الفيلسوف
:
واليوم الثاني؟
براكسا
:
نعم … اليوم الثاني عندما يصحو الشعب من نشوة الفرح
بالجديد، ويبدأ في التقدم بالمطالب!
هيرونيموس
:
مشكلتنا الآن هي في اليوم الأول!
براكسا
:
ما رأيك يا عزيزي أبقراط؟
الفيلسوف
:
أنت تعرفين رأيي.
براكسا
:
نعم وا أسفاه! … أعرف رأيك في حكمي!
هيرونيموس
:
دعكِ الآن من آرائه … المطلوب الآن ليس حُكمًا مثاليًّا؛ بل
أي حكم … أي حكم جديد … تشجَّعي! … وأسرعي … فإن الوقت
أزِف … وعما قليل نسمع لغط الجيش الداخل من الأبواب، وأصوات
الشعب تستقبله بالنحيب، ثم زمجرة الغضب وهدير الوعيد، ثم زحف
الجموع كلها إلى هنا كأمواج البحر الهائج … كل ذلك بسرعة قد
تسبق حسابنا … وعندئذٍ الويل لنا!
براكسا
:
وتريد أن تلقي بي أنا في هذه العاصفة؟
هيرونيموس
:
يجب أن تفعلي! … لا بدَّ من رُبَّان يمسك الآن
بالدَّفَّة!
براكسا
(مترددة)
:
الآن؟!
هيرونيموس
:
نعم … الآن! … لأني بعد لحظة سأدخل الحجرة المجاورة
وأغلقها عليَّ!
الفيلسوف
(ناظرًا إلى الحجرة)
:
وحدك هذه المرة؟
هيرونيموس
:
بل مع الموت!
الفيلسوف
:
نعم … موعد مع الحب، وموعد مع الموت! … ما أقصر الفاصل
بينهما في حياة أمثالك!
براكسا
:
هيرونيموس!
هيرونيموس
(متحركًا نحو الحجرة المجاورة)
:
وداعًا!
براكسا
(في همسة)
:
ستموت!
الفيلسوف
:
بماذا ستنتحر يا «هيرونيموس»؟
هيرونيموس
:
اقترح إذا شئت! … هل لديك موتة نبيلة جديرة بي؟
الفيلسوف
:
ليست لديَّ خبرة بهذه الأمور!
هيرونيموس
:
لا تسأل إذن … إني سأموت كجندي؛ سأغمد سيفي في صدري.
(يتحرك)
براكسا
:
«هيرونيموس»! … «هيرونيموس»! … قبل أن تذهب … أليس لي أن
أطلب إليك شيئًا؟
هيرونيموس
(يقف)
:
ماذا؟
براكسا
:
أُقَبِّلُكَ!
(يتعانقان)
(الفيلسوف يمشط لحيته، ثم يتنحنح!)
براكسا
(تلتفت)
:
معذرةً أيها العزيز «أبقراط»!
الفيلسوف
:
العفو! … العفو!
هيرونيموس
:
والآن … أتركك يا عزيزتي «براكسا» في عناية السماء! …
الوداع!
(يتَّجه نحو الحجرة المجاورة.)
براكسا
(في صيحة)
:
لا … لا تذهب يا «هيرونيموس»! … إني خائفة … لن أستطيع أن
أحكم!
هيرونيموس
:
تشجَّعي!
براكسا
:
لا أستطيع الحكم الآن بمفردي!
هيرونيموس
:
فليساعدك فيلسوفك!
الفيلسوف
:
أنا؟… من قال إن الفيلسوف يستطيع أن يحكم؟
هيرونيموس
:
أنت قلت ذلك … ألا تذكر؟… أنسيت حديثك في السجن عن
التفاحات الثلاث؟
براكسا
:
نعم… نعم… قلت ذلك يا «أبقراط» … قلت: إن الحكم المثالي
هو ذلك الذي يجمعنا نحن الثلاثة في كف واحدة!
الفيلسوف
:
هذا صحيح … ولكننا لم نعد ثلاثة! … ها هو ذا واحد منا ذاهب
ليموت!
هيرونيموس
:
ولكنَّ الاثنين باقيان.
الفيلسوف
:
مائدة الحكم ككل مائدة … لا تقوم على ساقين اثنتين! … لا
بد من ساق ثالثة!
براكسا
(في صيحة)
:
لديَّ فكرة!
هيرونيموس
:
أسرعي! … الوقت أزف.
براكسا
:
لا ضرورة لموتك يا «هيرونيموس»! … ابقَ معنا … ولنتَّحد
نحن الثلاثة … ولنبحث عن تلك الكف التي يجب أن تحكم.
هيرونيموس
:
فات الأوان!
براكسا
:
لا … لم يَفُتْ … في الإمكان أن نعثر على شخص تنصِّبه
ملكًا، ونقف نحن الثلاثة من خلفه.
هيرونيموس
:
ليس في الوقت الآن متَّسَع للبحث عن ملوك … قلت لك إن الجيش
الثائر على الأبواب.
براكسا
:
فلنحاول! … ما رأيك أيها الفيلسوف؟! … تكلم! … بحق
«زيوس»! تكلم!
الفيلسوف
:
فكرة مثل الروح الهائمة في الفضاء.
براكسا
:
أهذا وقت الفلسفة يا «أبقراط»!
الفيلسوف
:
وهل للفلسفة وقت إلا عندما تستعصي حلول الأشياء؟
براكسا
:
رأيك في فكرتي؟ … تكلم وأسرع!
الفيلسوف
:
قلت لك هي كالروح الهائمة، لا تُرَى إلا إذا وجدت شخصًا تحل
فيه!
براكسا
:
وإذا وجدنا الشخص؟
الفيلسوف
:
حُلَّ الإشكال.
براكسا
:
أنت معي إذن … ترى فكرتي صائبة إذا وجدنا الملك!
الفيلسوف
:
وفي مثل هذه الساعة ليس هذا بالأمر الهيِّن!
براكسا
(تتحرك في القاعة مضطربة)
:
لا بدَّ من إيجاده بأي طريقة!
هيرونيموس
(يتحرَّك نحو الحجرة)
:
لا تضيعي وقتي أكثر من ذلك!
براكسا
:
انتظر يا «هيرونيموس»! … انتظر! … المسألة ليست بالصعوبة
التي تتصورها!
هيرونيموس
:
إنك تَهرِفين بغير علم يا عزيزتي المسكينة!
براكسا
:
أتوسل إليك! … انتظر لحظة أخرى! … أي شخص؟! … أي شخص
نستطيع أن نأتي به الآن ليحكم في الحال … هذا أمر سهل… أعطني
الفرصة … أعطني قليلًا من الوقت … لا بدَّ من إيجاده! … لا
بدَّ من إيجاده!
الفيلسوف
:
يجب أن تعرفي أن هذا الشخص لا بد أن يكون حائزًا على صفة
مهمة!
براكسا
:
ما هي؟
الفيلسوف
:
أن يكون مغفلًا!
براكسا
:
ماذا تقول؟
الفيلسوف
:
بهذا يستطيع «هيرونيموس»، أن يختفي خلفه في مثل هذه
الظروف!
هيرونيموس
:
أرأيتِ الصعوبة؟… هذا صحيح! … من يضمن لي أن هذا الملك لا
يستهلُّ حكمه بتسليمي للأعداء، أو للمحاكمة، أو للجلاد؟
براكسا
:
حقًّا … هذا ما لم أفكر فيه!
الفيلسوف
:
ها أنا ذا قد فكرت لك!
براكسا
:
مغفل؟!
الفيلسوف
:
من هو؟
براكسا
:
ذلك الذي يلزمنا، يجب أن يكون في قبضتنا، وتحت تأثيرنا، لا
يُبرم شيئًا إلا بوحينا، ولا يُقْدِم على قرار إلا برأينا
وإرادتنا، من دون أن نظهر مع ذلك أمام الناس، أو تكون لنا صفة
رسمية بادية للشعب!
الفيلسوف
:
أين هو هذا الرجل؟! … هذه الأعجوبة! … هذه المعجزة! … هذه
الهبة السماوية؟
هيرونيموس
:
وفي مثل هذه الساعة!
(هرج وضجيج خارج القاعة … وصوت طرق على
الباب.)
براكسا
:
ما هذا؟
هيرونيموس
:
أخبار سيئة أخرى ولا شك … دخل الجيش المدينة … فَلْنَرَ!
… (يتَّجه إلى الباب صائحًا) ما الخبر؟
(الباب يُفتح ويظهر الحارس، وهو يحاول منع
«بلبروس» من الدخول.)
الحارس
:
هذا السيد يريد الدخول عَنوة!
بلبروس
(يحاول التخلص من الحارس صائحًا)
:
امرأتي! … ألا يُسمح لي برؤية امرأتي وقد أُطلق
سراحها؟
هيرونيموس
:
دَعْهُ يدخل!
(الحارس يترك «بلبروس» ويخرج.)
بلبروس
(يندفع نحو براكسا)
:
زوجتي! … زوجتي العزيزة!
(يعانقها)
براكسا
:
«بلبروس»!
بلبروس
:
لو تعلمين أيتها الزوجة الوفية، كم كنت أذرف عليك الدموع
وأنتِ في سجنكِ؟!
(يعانقها)
الفيلسوف
(يمشط لحيته)
:
يا له من منظر مؤثر!
هيرونيموس
(لأبقراط وظهره للزوجين)
:
أكُنَّا في حاجة إلى إضاعة الوقت في هذا أيضًا؟
براكسا
:
ماذا كنت تصنع في غيبتي يا «بلبروس»؟
بلبروس
:
كنت أدعو السماء أن تردَّكِ إليَّ سالمة حرة … وقد استجابت
الآلهة أخيرًا لدعواتي!
براكسا
:
ما أطيب قلبك يا «بلبروس»!
الفيلسوف
(صائحًا)
:
وجدتها! … وجدتها! … «يوريكا»! … «يوريكا»!
هيرونيموس
:
ماذا بك أيضًا أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف
:
وجدتها! … وجدتها!
هيرونيموس
:
وجدت ماذا؟
الفيلسوف
:
هبة السماء!
براكسا
(تلتفت)
:
ماذا تقول يا «أبقراط»؟
الفيلسوف
:
المعجزة! … هبة السماء!
براكسا
:
أين هي؟… أين هي؟
الفيلسوف
:
إلى جانبك … زوجك!
براكسا
:
زوجي؟… «بلبروس»؟
الفيلسوف
:
هو بعينه!
براكسا
(تتأمل زوجها وتصيح)
:
حقًّا … حقًّا …! يا للحظ السعيد! … يا لحسن الطالع! …
إن الآلهة ولا شك هي التي قد أرسلته الآن! … هو «زيوس» ولا
ريب قد استمع إلى توسلاتنا، فبعث إلينا بهذه المعجزة في الوقت
المناسب … شكرًا لك يا «زيوس»! … (تعانق زوجها صائحةً بفرح)
شكرًا لك يا «زيوس»!
بلبروس
(غير فاهم)
:
هه؟… ماذا حدث؟
براكسا
:
«هيرونيموس» اشكر السماء! … لقد حُلَّت المشكلة! … وجاءت
المعجزة!
هيرونيموس
(وهو يتأمل بلبروس)
:
نعم! … يبدو لي أنه الشخص المطلوب!
بلبروس
(ينظر إليها غير فاهم)
:
هو من؟
الفيلسوف
(يتأمل «بلبروس» بدَوره)
:
حائز لجميع الشروط!
بلبروس
(ينظر إليهم متسائلًا)
:
عمَّن تتكلمون؟
براكسا
:
عن هبة السماء التي كنَّا ننتظرها.
بلبروس
:
متى؟
الفيلسوف
:
عن المعجزة التي كنا نبحث عنها، ووجدناها!
بلبروس
:
أين؟
هيرونيموس
:
عن الرجل الذي ينقذ الموقف!
بلبروس
:
من؟
براكسا
:
أنت … أنت!
بلبروس
:
أنا؟!
براكسا
:
أنت الذي سيمنع دمًا بريئًا من أن يُسفَك.
هيرونيموس
:
وأنت الذي سيمنع كارثة قوية من أن تقع.
الفيلسوف
:
وأنت الذي سيمنع قلبًا عاشقًا من أن يُفجَع!
بلبروس
:
ما هذا الذي تقولون؟
براكسا
:
أنت الذي سيفعل كل هذا يا «بلبروس»!
هيرونيموس
:
أنت الذي سينقذ كل شيء يا «بلبروس»!
الفيلسوف
:
أنت أمل الجميع يا «بلبروس»!
بلبروس
:
أفهِموني بحق «زيوس» ما هو الموضوع؟
براكسا
:
الموضوع هو أنك المتصرف الآن في حياتنا!
هيرونيموس
:
وفي حياة البلد!
الفيلسوف
:
وفي حياة الحب!
بلبروس
:
أنا؟!
براكسا
:
نعم … أنت الملك!
هيرونيموس
:
الملك «بلبروس»!
الفيلسوف
:
فليحيَ الملك «بلبروس»!
بلبروس
(يحملق في وجوههم)
:
ما من شك في أنكم أصبتم بالجنون!
براكسا
:
نحن الآن في ساعةٍ دقيقةٍ رهيبة ويجب أن تصدقنا، وأن تأخذ
الأمر على سبيل الجِد!
بلبروس
:
أنا ملك؟! … أهذا جِد!
هيرونيموس
:
ليس لدينا الآن صفاء البال، ولا الوقت المتسع لنمزح معك …
أنت الآن ملك، ويجب أن تصدق ذلك!
بلبروس
:
أصدق ذلك؟! … ما قولك أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف
:
صدِّق! … صدِّق! … هنالك ظروف تفرض علينا أن نصدق غير
المعقول.
بلبروس
:
أنا ملك؟!
الفيلسوف
:
ولِمَ لا؟… أهذه أول مرة يفعل فيها القدر هذه
الفَعلة؟!
بلبروس
:
ومن الذي نصَّبني ملكًا؟
براكسا
:
صاحب السلطة … من صاحب السلطة الآن؟
بلبروس
:
«هيرونيموس» بالطبع!
هيرونيموس
:
نعم … أنا الذي أراد أن تكون أنت ملك هذا الشعب!
بلبروس
:
وأنت؟… ماذا تعمل؟
هيرونيموس
:
سأعتزل! … وأتوارى!
بلبروس
:
ولماذا تفعل ذلك؟
هيرونيموس
:
هذا شأني أنا … أليس لي الحق في أن أترك الحكم وقتما
أريد!
بلبروس
:
ولماذا اخترتني أنا بالذات؟
هيرونيموس
:
لأنك خير مَن يَصلح!
بلبروس
:
خير مَن يصلح أن يكون ملكًا على هذا الشعب؟ … أنا؟!
(يضحك)
براكسا
(في قلق)
:
لماذا تضحك هكذا يا «بلبروس»؟
بلبروس
:
أنا خير من يصلح ملكًا؟!
هيرونيموس
:
نعم … وأنا الذي يقول لك ذلك!
بلبروس
(يضحك)
:
آه … دعوني أضحك!
هيرونيموس
:
ليس الآن وقت الضحك يا «بلبروس»!
بلبروس
:
أعرف ذلك … إن وقته لم يَحِنْ بعدُ!
هيرونيموس
(في قلق)
:
ماذا تعني؟
بلبروس
:
أعني أن وقته عندما أرى وجه صديقي «كريميس» رؤية العين،
ولكني الآن أضحك لمجرد التصور! … نعم … أتصور منذ الآن دهشته
عندما يعلم أني قد صلحت لأن أكون ملكًا كبيرًا … وهو الذي قال
لي يومًا: إني لا أصلح إلا لأن أكون كبيرًا للخراف!
(يضحك)
هيرونيموس
:
ثِقْ يا «بلبروس» بأنك تصلح.
الفيلسوف
:
للاثنين!
بلبروس
:
نعم! … سوف يعجب «كريميس» أول الأمر! … ولكنه بعد ذلك
سيقول لي: …
هيرونيموس
:
لديك الغد كله تحادث فيه صديقك ويحادثك، كما تريدان! … أما
الآن فاللحظات معدودة … ويجب أن نشرع في العمل سريعًا قبل أن
تفاجئنا الحوادث … هلمَّ بنا! … أنت الآن الملك.
بلبروس
:
الآن؟… الآن؟!
هيرونيموس
:
نعم، الآن … منذ هذه اللحظة!
بلبروس
:
مهلًا! … مهلًا! … أيستطيع الإنسان أن يصير ملكًا في
لحظة؟!
الفيلسوف
:
هذا هو الشيء الذي يستطيعه الإنسان في أقل من لحظة!
بلبروس
:
ولكني عندما عُيِّنت قاضيًا …
هيرونيموس
:
ذاك شيء آخر!
بلبروس
:
ولكن …
هيرونيموس
:
لا تضيع وقتنا!
بلبروس
:
ألا تعطوني وقتًا للتفكير؟
هيرونيموس
:
التفكير؟! … أأنت ممن يعرفون هذه العادة السيئة؟!
براكسا
:
لا تتردَّد يا «بلبروس»!
بلبروس
:
إني خائف!
براكسا
:
ليس في الأمر ما يخيف!
بلبروس
:
كلَّا … لست أريد.
براكسا
:
ماذا تقول؟
هيرونيموس
:
ماذا أسمع؟
بلبروس
:
لست أريد أن أكون ملكًا.
براكسا
:
أجُنِنْتَ؟
بلبروس
:
إني لم أَجِئْ هنا الساعة لأصير ملكًا … بل جئت لأرى زوجتي
بعد طول الغياب … وأعود بها إلى بيتنا … لنعيش معًا في هدوء
بقية عمرنا … جئت أفتح لكِ ذراعي يا «براكسا» العزيزة وأقول
لك: «فلنعد أخيرًا إلى عُشنا … عشنا الماضي … الذي عرَفنا في
دفئه الهناء الزوجي، قبل أن تنتزعكِ منه أطماع الحكم، فتتركيه
خرابًا لتعمري المجالس والسجون!» جئت أقول ذلك وأصحبك إلى
بيتنا، لنعيش حياتنا الأولى السعيدة قانعيْنِ
راضيَيْنِ.
براكسا
:
إنك أحمق.
هيرونيموس
:
يا للأبله!
الفيلسوف
(في صوت خافت)
:
عندما بدأ يقول كلامًا معقولًا اتهمتموه بالْبَلَهِ
والحُمق!
هيرونيموس
:
ماذا تقول أيها الفيلسوف؟
الفيلسوف
:
لا شيء!
براكسا
:
«بلبروس»! … زوجي … أتوسل إليك أن تقبل … أممكن أن يرفض
إنسان مثل هذه الفرصة … إنها فرصة قلما تتاح لفرد عادي …
إنها فرصة لن تتكرر.
بلبروس
:
ولماذا لا تنتهزينها أنت؟… وكيف فاتتك أنتِ التي سبق لكِ
الحكم … ومارسْتِه وأحببته وسعيت إليه؟
براكسا
:
إن الشعب لم يَعُدْ يريدني.
بلبروس
:
وهل الشعب يريدني أنا؟
براكسا
:
الأمر مختلف … إني لا أستطيع أن أحكم إلا برأي المجلس،
والمجلس غير موجود الآن! … أما أنت فإن الأمر الواقع هو الذي
يفرضك الآن على الناس!
هيرونيموس
:
ليس هنا المسألة … إن الشعب سيرضى بك ملكًا؛ لأنك رجل جديد،
تمثل صفحة جديدة … هذا كل شيء!
بلبروس
:
ملك؟ … ولماذا ملك؟
براكسا
:
لأنك لا تستطيع أن تكون كما كنت أنا؛ لأنك لم تُنتخب من
الشعب … ولا أن تكون كما كان «هيرونيموس» لأنك لم تكن قائدًا
للجيش!
بلبروس
:
الشعب لم ينتخبني، والجيش لم يعرفني.
الفيلسوف
:
ولهذا لا يمكن أن تكون إلا ملكًا.
بلبروس
:
ومن الذي أتى بي إذن؟
براكسا
:
السماء! … أنت هبة السماء! … ألم تقل ساعة جئتنا: إنك هبة
السماء! … هلمَّ يا «بلبروس»! … لا تعقِّد الأمور … أرجوك
… أتوسل إليك!
بلبروس
:
تريدين ذلك يا «براكسا»؟!
براكسا
:
نعم! … لا ترفض! … اقْبَلْ! … من أجلي!
بلبروس
:
ولكني لا أعرف هذه المهنة!
هيرونيموس
:
هذه ليست مهنة!
بلبروس
:
وما هو عملي إذن؟
براكسا
:
لا شيء!
بلبروس
:
كيف ذلك؟… لا شيء؟ لا شيء مطلقًا؟… ولكني رجل اعتدت أن
أفعل شيئًا في يومي … ولو النظر في قضية أو قضيتين.
براكسا
:
كل عملك هو أن تعرف كيف تبتسم … أظن هذا لا يحتاج إلى خبرة
كبيرة.
بلبروس
:
أبتسم؟
براكسا
:
نعم لجموع الشعب في الحفلات.
بلبروس
:
أهذا كل المطلوب مني؟!
(ضجة تُسمَع خارج الباب.)
هيرونيموس
(يصغي)
:
صه! … من يا ترى القادم؟!
براكسا
(في همس)
:
أيتها السماء!
هيرونيموس
(يتَّجه إلى الباب ويصيح)
:
من في الخارج؟
(الحارس يدخل)
الحارس
:
امرأة تريد الدخول!
المرأة
(تصيح على العتبة)
:
«براكسا جورا»!
براكسا
:
هذه كاتمة سري … أدخلها!
(الحارس يُدخل كاتمة السر ويخرج.)
كاتمة السر
(تعانق براكسا)
:
عرفت اليوم أنك مطلقة السراح.
براكسا
:
يا لكِ من صديقة مخلصة!
كاتمة السر
:
كم حَزِنتُ من أجلكِ!
براكسا
:
يجب أن ننسى الآن تلك الأيام، وأن ننظر إلى الغد بقلوب
صافية!
كاتمة السر
:
نعم … إن أحداثًا جسامًا تنتظرنا في الغد! … كل الناس
يتحدثون اليوم في هذا الأمر!
براكسا
:
وعمَّا قليل يتحدث الناس بخبر مهم … سيُدْخِل عليهم
الاطمئنان والاستبشار!
كاتمة السر
:
خبر مهم؟
براكسا
(تنظر إلى «هيرونيموس»)
:
أظن أنه لا ضرر من أن نفضي إلى كاتمة سري السابقة
بالخبر.
هيرونيموس
:
لقد اعتزلْت.
كاتمة السر
:
أنت يا «هيرونيموس»؟! … لقد أحسنت اختيار الساعة.
براكسا
:
والشعب يحكمه الآن رجل جديد … ملك … حيِّي الملك!
كاتمة السر
:
ملك؟! … أين هو؟
براكسا
:
ها هو ذا أمامك!
كاتمة السر
(ملتفتةً إلى الفيلسوف)
:
أنت يا أبقراط؟
الفيلسوف
:
كنت أحسبكِ أكثر ذكاءً!
كاتمة السر
(حيرَى)
:
مَن إذن؟… لا أرى هنا أحدًا؟
بلبروس
:
وأنا؟! … ألا ترينني أصلح لأن أكون الملك؟
كاتمة السر
:
أنت؟… أنت يا «بلبروس»؟… مزاح ظريف!
براكسا
:
بل الأمر جِد!
هيرونيموس
:
نعم! … «بلبروس» هو الملك!
كاتمة السر
:
ملك؟… هو؟!
(تضحك)
بلبروس
:
أرأيتم؟! … ها هي ذي قد ضحكت!
براكسا
(مؤنِّبَةً لكاتمة السر)
:
تضحكين في هذا الظرف الخطير، والأمر كما أكَّدنا لكِ في غاية
الجِد!
كاتمة السر
(متراجعة)
:
إنما ضحكت من … من الفرح … نعم … من الفرح والغبطة! …
وأسألك العفو أيها … الملك!
بلبروس
:
المركز لا يناسبني؟… هيه؟… أليس كذلك؟
كاتمة السر
:
بالعكس! … لكأنه خُلِقَ لك!
بلبروس
:
هل أنت مقتنعة حقًّا؟
كاتمة السر
:
كلَّ الاقتناع … إني أرى الآن أن هذا طبيعي جدًّا.
بلبروس
:
طبيعيٌّ أن أكون الملك؟
كاتمة السر
:
ولِمَ لا؟!
بلبروس
:
هذا لطف وكرم، ما قولكِ لو سألتكِ أن تعودي كاتمة للسر كما
كنتِ؟
كاتمة السر
:
أنا؟
بلبروس
:
ولِمَ لا؟… إذا كان من الطبيعي أن أكون ملكًا من دون أن
يسبق لي ممارسة هذا العمل، أفلا يكون من الطبيعي قيامك بوظيفة
كنت تمارسينها من قبلُ؟
كاتمة السر
:
كاتمة سر من؟
براكسا
:
القصر.
كاتمة السر
(ﻟ «براكسا»)
:
ما دمتِ أنتِ ها هنا، فليس لي أن أبتعد.
براكسا
:
بالطبع سأكون هنا … إلى جانب زوجي … أعينه على تحمُّل
أعبائه الخطيرة!
بلبروس
:
أعبائي الخطيرة … أهناك شيء غير الابتسام؟… أترينه عِبئًا
كبيرًا عليَّ؟… أحتاج فيه إلى معونة؟
الفيلسوف
:
ليس الابتسام بالأمر الهيِّن في كل الأحوال، لمن كانت له
عينان تبصران حقائق الأشياء!
براكسا
:
لن يكون الملك «بلبروس» مكلفًا بالبصر والتفكير يا
«أبقراط»؟… أنسيت؟!
الفيلسوف
:
حقًّا … لن يحتاج إلى عينيه ورأسه!
بلبروس
:
لن أحتاج إلى عيني ورأسي؟! … رأسي هذا!
الفيلسوف
:
لا أنت ولا شعبك.
براكسا
:
هذا من حسن الحظ!
الفيلسوف
:
ولن يحتاج كذلك إلى قلبه!
هيرونيموس
:
ولن يحتاج إلى ساعده ويده.
بلبروس
:
ما هذا الذي تقولون؟!
كاتمة السر
:
ألم تفهم يا مولاي؟!
بلبروس
:
لا … لم أفهم شيئًا!
كاتمة السر
:
الأمر بسيط، سيكون لك رأس وقلب ويد غير هذه التي خُلِقْتَ
بها.
بلبروس
:
ولكني أريد أن أحتفظ بهذه الأعضاء التي خُلِقْتُ بها!
براكسا
:
مستحيل يا «بلبروس»! … إنك لم تعد رجلًا عاديًّا … أنت
الآن ملك!
بلبروس
:
وهل الملك تُعار له أعضاء ليست له؟
هيرونيموس
:
هذا ضروري!
بلبروس
:
لا أريد إذن أن أكون ملكًا!
هيرونيموس
:
هذا الرجل سيقتلني غيظًا … إن الموت بالسيف لأهون
عليَّ!
براكسا
:
«أبقراط» … أرجو منك أن توضح له الأمر … أقنعه بعقلك
ورأيك!
الفيلسوف
:
أصغِ إليَّ يا «بلبروس»! … هل تثق بي؟
بلبروس
:
كل الثقة!
الفيلسوف
:
هل تُقَدِّر تفكيري؟
بلبروس
:
كل التقدير!
الفيلسوف
:
هل تريد أن يكون لك رأسي؟
بلبروس
:
لا.
براكسا
(صائحة)
:
أجُننتَ يا «بلبروس»؟!
بلبروس
:
بل هو الذي سيُجَنُّ؛ لأنه يريد أن يتخلص من رأسه!
براكسا
:
إنه يريد أن يُسدي إليك خدمة!
بلبروس
:
بل أنا الذي يريد أن يُسدي إليه خدمة، وأجعله يحتفظ برأسه …
ما دام عندي رأسي!
الفيلسوف
:
لقد صَدَقَ.
براكسا
:
ماذا تقول يا «أبقراط»؟
الفيلسوف
:
هو الذي أقنعني!
براكسا
(نافدة الصبر)
:
وأخيرًا؟! … وأخيرًا؟!
كاتمة السر
:
اتركوا لي عقله وقلبه ويده … إنه يعرف بفطرته البسيطة ما
ينبغي أن يفعل!
(أصوات مختلطة تأتي من بعيد! … كأنها أصوات
هياج.)
هيرونيموس
:
ما هذا؟!
كاتمة السر
(تتَّجه نحو النافذة وتفتحها)
:
أصوات الشعب.
براكسا
:
الشعب؟
هيرونيموس
:
لا بد أنه اختلط بفلول الجيش الداخلة من الأبواب.
براكسا
:
ما العمل؟… ما العمل؟
كاتمة السر
:
لديَّ فكرة!
براكسا
:
تكلِّمي! … أسرعي!
كاتمة السر
:
أذهب أنا لأستقبل الشعب عند اقترابه من القصر، وأذيع فيه خبر
تولي الملك الجديد … حتى يشغله الخبر عن التمادي في
الهياج!
براكسا
:
اذهبي! … ولْتعاونْك الآلهة!
(كاتمة السر تخرج مسرعة.)
هيرونيموس
:
والآن؟… ما موقفي؟
براكسا
:
مصيرك في يد الملك!
بلبروس
:
أنا؟
براكسا
:
نعم … أنت يا «بلبروس» … أنت الملك شئت أو كرهت … وقد
ذهبت كاتمة السر تعلن ذلك إلى الناس … فاصنع بنا ما أنت
صانع.
بلبروس
:
وماذا أصنع بكم؟ … أشيروا عليَّ!
براكسا
:
أرأيت؟ … ها أنت ذا في حاجة إلى أن نعيرك رأسًا يشير
عليك!
الفيلسوف
(همسًا)
:
لا تقولي له ذلك! … إن الناس يفضلون أن يستعيروا عقول غيرهم
من دون أن يعلموا!
براكسا
:
هل تريد أن يبقى «هيرونيموس» حيًّا!
بلبروس
:
بالطبع!
(الأصوات في الخارج تقترب … وهي تهتف هتافًا
يتضح شيئًا فشيئًا.)
براكسا
(تصغي)
:
يا للآلهة! … بماذا يهتف الشعب؟!
هيرونيموس
:
إن الأصوات تقترب من القصر!
براكسا
(تقترب من النافذة)
:
صه! … يا للكارثة!
(أصوات الشعب في الخارج تتضح.)
الشعب
(في الخارج)
:
فليسقط «هيرونيموس»! … فليسقط «هيرونيموس»!
هيرونيموس
:
الآن عرفت ما يريد الشعب.
براكسا
:
يريد اعتزالك!
هيرونيموس
:
أتظنين هذا يكفيه؟
براكسا
:
إذا طالب بأكثر من ذلك فإن الملك سيعلن أنه عفا عنك … أليس
كذلك يا «بلبروس»؟
بلبروس
(وهو يصغي إلى هرج الشعب)
:
نعم بالتأكيد!
(الأصوات في الخارج.)
الشعب
(في الخارج)
:
يسقط «هيرونيموس»! … يحيا «بلبروس»!
بلبروس
(في صيحة فرح)
:
يهتفون باسمي!
براكسا
:
نعم… أرأيتَ؟
الشعب
(في الخارج)
:
يحيا «بلبروس»! … يحيا الملك «بلبروس»!
بلبروس
:
يجب أن أبتسم أليس كذلك؟… يجب أن أبدأ في مهام
مهنتي!
براكسا
:
اقترب من النافذة! … وارفع يدك … حتى يروك!
(«بلبروس» يظهر للناس في النافذة.)
الشعب
(يصيح في الخارج صياحًا حماسيًّا)
:
ها هو ذا الملك! … «بلبروس»! … «بلبروس» يحيا الملك
«بلبروس»! … يحيا الملك «بلبروس»!
(ستار)