نقدٌ وَمُلاحَظات الشعلة

بقلم  إبراهيم ناجي
وما كان شعري في نظيم أصوغه
ولكن شعري أن أكون أنا الشعرا
أبو شادي

هكذا أسمى أبو شادي ديوانه الجديد ولم أجد وصفًا ينطبق على أبي شادي وشعر أبي شادي كهذا الوصف! فأما الرجل فهو شعلة حقًّا، هو نورٌ ونارٌ، هو قبَس حيٌّ، هو شعاعٌ طوَّاف متميزٌ بالقلق، منفرد بالهداية، ضاربٌ في مجاهل الليل، مترامٍ فوق عباب جيَّاشٍ مترامٍ! هو ألَقٌ يقتحم الظلمة ويبدِّدها ويغشاها، ولكنه يرهب أطيافها ويخشاها، هو عينٌ جوَّاسة مجهرة، ترمي العالم بالنظرة الرحيمة الواسعة، ثم تعود مغمضة جفنيها على دمعة تترقرق فيها، وحسرة تذوب في محاجرها، هو فيضٌ من سلامٍ وحنانٍ وصفحٍ، ينحدر من نبعٍ قويٍّ صافٍ، فيصطدم بالبغضاءِ، والقسوة والغلِّ … فيقفُ حائرًا عاثرًا متلفتًا هنا وهناك حزينًا، ثم يسترد قوته ويعاوده إيمانه المتين فيعلو ويعبُّ ثم يتدفق جبارًا مكتسحًا!

هذا هو أبو شادي في كلمتين، وشعره صورة منه. وتعريف الشعر في أحدث الآراء أنه «كلمات تعبر عمَّا لا تستطيع الكلمات المألوفة أن تعبر عنه … هو كلمات تستقرُّ النار والروح في قرارها: charged with fire and spirit».

وبقدر هذا اللهب، هذه الشعلة الكامنة، يكون الشاعر شاعرًا أو لا يكون، وينفذ قوله إلى صميم إحساسنا أو لا ينفذ، ويعيش ويخلد أو يموت ويطوى. وليس هذا في الشعر فقط بل في الفن بأكمله؛ فالصورة الفنية الرائعة تكادُ تمشي، وتنطق، وتقول شيئًا، والوجه الجميل هو الوجه الذي ترتسم في تقاسيمه أثر تلك الروح الدفينة. والواقع أننا لا ندري تمامًا كُنْهَ ذلك الشيء الذي ميز شاعرًا مثل بيرون، عن شاعر آخر من النَّظَّامين، غير أن الله ملأ روح الأول بشحن من الأثير الكهربائي، من القوة الخفية الخارقة التي يسميها العالم ماكس بلانك «الكوانتم» … وهي التي تتغلغل في المادة وتكسبها الحياة … وأنعم على الثاني بتيار هادئ قانع متواضع!

•••

ديوان أبي شادي الجديد زاخرٌ بالأمثلة العديدة عن الروح القوية التي تسيطر على شعره وتكسبه جدَّةً وطرافة وتنوعًا!

استمع إلى عابد الجمال في هذا الشعر الجميل:

وأنا العبد الذي ناجَى الإِلهْ
ورأى رؤيا عيانٍ منتهاهْ
ورأى ألفَ ذنوبٍ وعذابْ
ورأى الغفرانَ من بعد الحساب
ورأى المعبدَ في رقعةِ أرضِ
ورأى الجنةَ في لمحةِ غمض!

واستمع إلى العابد في صلاة أخرى:

وأُحرقُ مهجتي الحيرى صلاةً
وقلبُكِ صادفٌ عني وهاني
وأرجع خائبًا من غير معنًى
سوى معنى التحرُّق والتفاني

وانظر إلى حيرة الفنان يستلهم ويستوحي:

فإذا نأيت جعلتُ ألتمس الهوى
والحسنَ بين مصَادر الإلهام
وحَّدتُ فيكِ صبابتي وعبادتي
لمَّا جمعت مَفاتنَ الأيامِ!

وانظر إلى النظرة القاتمة في اليائس التائه:

علامَ التمادي في المُنى حينما نرى
ضحايا المنى أضحوكةَ الحظ والبؤس؟!

ثم تعاوده الرحمة والأمل والصفاء فيقول:

إني لتطفئ نارَ الحقد ما رُزِقَتْ
نفسي من الحبِّ مهما اشتدَّ عاديهِ!

وإن نفسه الصافية لَمرآةٌ للكون وصورةٌ للطبيعة، فحين يراها غائمة في يوم مطير ينشد هذين البيتين الرائعين:

فيا غمامُ أطِلْ سحًّا على زمنٍ
الحسنُ والنورُ بعضٌ من خواطرِهِ
أنتَ الحرِيُّ بسكب الدمع في شجنٍ
فقد صحبتَ قديمًا غرسَ ساحرِهِ!

وبينما هو يُثار في نفسه، في حبه، في فنه، وفي اليوم المطير، وفي اليوم الضاحي والليل الذي يكتنفه، والصبح الذي يوشك أن يتنفس … إذا به يتجاوز هذه الآفاق: فيحلم بمصر، وجمال فتياتها؛ لأن هذا الجزء من الكل، فهو في نظره جديرٌ بشعره، جديرٌ بالتقديس، فيقول:

ولم يدر الألى حَجُّوا وزاروا
وناجَوْا مصرَ في ماضٍ وحالِ
بأن فتاتَها هي سحرُ منفٍ
وآيةُ حسنها الفذِّ المثالِ

وفجأة يترك كل هذا ليطرق بابًا آخر، ليريكَ لونًا من الفلسفة العالية العميقة:

حرامٌ أن تعدَّ الطرس ذخرًا
وأن تعتزَّ من مُلكِ القريضِ
مقاييسُ الزمان قد استحالت
فما أدنى الحبيبَ إلى البغيضِ!

أيُّ صدقٍ وجلالٍ فيما يقول! حقيقة إنه إذا استحال الغم إلى مرارة، والأفق إلى سواد، فما أقرب عن حظوظ الشعوب في فلسفة ممتازة:

حظوظُ الشعوب حظوظُ الدماء
فإن الدماءَ الغِنى الأولُ
وما كرمتْ نطفٌ للهوان
ولا حقرتْ عندما تنبلُ!

فهذا التنوع، والنظرة إلى الحياة: النظرة التي تستقر الرحمة والطيبة في أعماقها، والأمانة التي يؤدي بها الرجل رسالته ككل شاعر ملهَم ممتاز، والصدق في الإحساس والتصوير، كل هذا يجعلك تمعن في هذا الشعر الذي انتزعه من صميم قلبه ومن مرآةِ الكون حوله وقد عكست أضواءَها على ذهنه الحسَّاس المتوقِّد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤