حي بن يقظان
ذكر سلفنا الصالح — رضي الله عنهم — أن جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولَّد بها الإنسان من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق؛ لأن تلك الجزيرة أعدل بقاع الأرض هواءً، وأتممها لشروق النور الأعلى عليها استعدادًا، وإن كان ذلك خلاف ما يراه جمهور الفلاسفة وكبار الأطباء؛ فإنهم يرون أن أعدل ما في المعمورة الإقليم الرابع. فإن كانوا قالوا ذلك لأنه صح عندهم أنه ليس على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية، فلقولهم إن الإقليم الرابع أعدل بقاع الأرض وجهٌ، وإن كانوا إنما أرادوا بذلك أن ما على خط الاستواء شديد الحرارة، كالذي يصرِّح به أكثرهم فهو خطأ يقوم البرهان على خلافه.
وذلك أنه قد تبرهن في العلوم الطبيعية أنه لا سبب لتكوُّن الحرارة إلا الحركة، أو ملاقاة الأجسام الحارة، والإضاءة. وتبيَّن فيها أيضًا أن الشمس بذاتها غير حارة ولا متكيفة بشيء من هذه الكيفيات المزاجية، وقد تبيَّن فيها أيضًا أن الأجسام التي تقبل الإضاءة أتمَّ القبول هي الأجسام الصقيلة غير الشفافة، ويليها في قبول ذلك الأجسام الكثيفة غير الصقيلة. فأما الأجسام الشفافة التي لا شيء فيها من الكثافة فلا تقبل الضوء بوجهٍ، وهذا وحده مما برهنه الشيخ أبو علي خاصة، ولم يذكره مَن تقدمه.
فإذا صحَّت هذه المقدمات فاللازم عنها أن الشمس لا تسخِّن الأرض كما تسخِّن الأجسام الحارة أجسامًا أُخر تماسها؛ لأن الشمس في ذاتها غير حارة ولا الأرض أيضًا تسخن بالحركة؛ لأنها ساكنة وعلى حالة واحدة في شروق الشمس عليها وفي وقت مغيبها عنها.
وأحوالها في التسخين والتبريد ظاهرة الاختلاف للحس في هذين الوقتين.
ولا الشمس أيضًا تسخِّن الهواء، أولًا، ثم تسخِّن بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء. وكيف يكون ذلك ونحن نجد أن ما قرب من الهواء من الأرض في وقت الحر أسخن كثيرًا من الهواء الذي يبعد منه علوًا؟! فبقي أن تسخين الشمس للأرض إنما هو على سبيل الإضاءة لا غير؛ فإن الحرارة تتبع الضوء أبدًا، حتى إن الضوء إذا أفرط في المرآة المقعرة أشعل ما حاذاها.
وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية أن الشمس كُروية الشكل وأن الأرض كذلك، وأن الشمس أعظم من الأرض كثيرًا، وأن الذي يستضيء من الشمس أبدًا هو أعظم من نصفها، وأن هذا النصف المضيء من الأرض في كل وقت أشد ما يكون الضوء في وسطه؛ لأنه أبعد المواضع من المظلمة ولأنه يقابل من الشمس أجزاءً أكثر، وما قرب من المحيط كان أقل ضوءًا حتى ينتهي إلى الظلمة عند محيط الدائرة الذي ما أضاء موقعه من الأرض قط.
وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت الشمس على سمت رءوس الساكنين فيه، وحينئذٍ تكون الحرارة في ذلك الموضع أشد ما يكون فإن كان الموضع مما تبعد الشمس عن مسامتة رءوس أهله كان شديد البرودة جدًّا، وإن كان مما تدوم فيه المسامتة كان شديد الحرارة.
وقد ثبت في علم الهيئة أن بقاع الأرض التي على خط الاستواء لا تسامت الشمس رءوس أهلها سوى مرتين في العام، عند حلولها برأس الحمل وعند حلولها برأس الميزان.
وهي في سائر العام ستة أشهر جنوبًا منهم وستة أشهر شمالًا منهم، فليس عندهم حر مفرط ولا برد مفرط، وأحوالهم بسبب ذلك متشابهة.
وهذا القول يحتاج إلى بيان أكثر من هذا لا يليق بما نحن بسبيله، وإنما نبهناك عليه لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولُّد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب.
فمنهم من بتَّ الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان من جملة من تكوَّن في تلك البقعة من غير أم ولا أب، ومنهم من أنكر ذلك وروى من أمره خبرًا نقصُّه عليك، فقال:
إنه كان بإزاء تلك الجزيرة جزيرة عظيمة متسعة الأكناف كثيرة الفوائد عامرة بالناس، يملكها رجل منهم شديد الأَنَفة والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال وحسن باهر، فعضلها ومنعها الأزواج؛ إذ لم يجد لها كفؤًا. وكان له قريب يسمَّى يقظان فتزوجها سرًّا على وجه جائز في مذهبهم المشهور في زمنهم. ثم إنها حملت منه ووضعت طفلًا، فلما خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها وضعته في تابوت أحكمت زمَّه بعد أن أروته من الرضاع وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر وقلبها يحترق صبابةً به وخوفًا عليه، ثم إنها ودَّعته وقالت: «اللهم إنك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئًا مذكورًا، ورزقته في ظلمات الأحشاء وتكفَّلت به حتى تمَّ واستوى، وأنا قد سلَّمته إلى لطفك ورجوت له فضلك خوفًا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد، فكن له ولا تُسْلِمه يا أرحم الراحمين.» ثم قذفتْ به في اليم.
فصادف ذلك جري الماء بقوة المد فاحتمله من ليلته إلى ساحل الجزيرة الأخرى المتقدم ذكرها، وكان المد يصل في ذلك الوقت إلى موضع لا يصل إليه بعدُ علمٌ، فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة مستورة عن الرياح والمطر محجوبة عن الشمس تَزَاور عنها إذا طلعت وتميل إذا غربت.
ثم أخذ الماء في الجَزْر، وبقي التابوت في ذلك الموضع وعلت الرمال بهبوب الرياح وتراكمت بعد ذلك حتى سدت باب الأجمة على التابوت، وردمت مدخل الماء إلى تلك الأجمة. فكان المد لا ينتهي إليها. وكانت مسامير التابوت قد قلقت وألواحه قد اضطربت عند رمي الماء في تلك الأجمة.
فلما اشتدَّ الجوع بذلك الطفل بكى واستغاث، وعالج الحركة، فوقع صوته في أذن ظبية فُقد طلاها، خرج من كِناسه فحمله العقاب. فلما سمعت الصوت ظنته ولدها، فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه، فحنَّت الظبية وَحَنت عليه ورئمت به، وألقمته حلمتها وأروته لبنًا سائغًا، وما زالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى.
هذا ما كان من ابتداء أمره عند من ينكر التولد. ونحن نَصِف هنا كيف تربَّى وكيف انتقل في أحواله حتى يبلغ المبلغ العظيم.
وأما الذين زعموا أنه تولَّد من الأرض، فإنهم قالوا إن بطنًا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينه على مر السنين والأعوام حتى امتزج فيها الحار بالبارد والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى.
وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جدًّا، وكان بعضها يفضل بعضًا في اعتدال المزاج والتهيؤ، وكان الوسط منها أعدل ما فيها وأتمه مشابهةً بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها، وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جدًّا منقسمة بقسمين بينهما حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلَّق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثًا يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل، إذ قد تبيَّن أن هذا الروح دائم الفيضان من عند الله — عز وجل — وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم.
فمن الأجسام ما لا يستضيء به وهو الهواء الشفاف جدًّا، ومنها ما يستضيء به بعض استضاءة وهي الأجسام الكثيفة غير الصقيلة، وهذه تختلف في قبول الضياء، وتختلف بحسب ذلك ألوانها. ومنها ما يستضاء به غاية الاستضاءة وهي الأجسام الصقيلة كالمرآة ونحوها، فإذا كانت هذه المرآة مقعرة على شكل مخصوص حدث فيها النار لإفراط الضياء.
وكذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى فياض أبدًا على جميع الموجودات، فمنها ما لا يظهر أثره فيه لعدم الاستعداد، وهي الجمادات التي لا حياة لها وهذه بمنزلة الهواء في المثال المتقدم، ومنها ما يظهر أثره فيه وهي أنواع النبات بحسب استعداداتها، وهذه بمنزلة الأجسام الكثيفة في المثال المتقدم، ومنها ما يظهر أثره فيه ظهورًا كثيرًا، وهي أنواع الحيوان، وهي بمنزلة الصقيلة في المثال المتقدم.
ومن هذه الأجسام الصقيلة ما يزيد على شدة قبوله لضياء الشمس أنه يحكي صورة الشمس ومثالها.
وكذلك أيضًا من الحيوان ما يزيد على شدة قبوله للروح أنه يحكي الروحَ ويتصور بصورته، وهو الإنسان خاصة، وإليه الإشارة بقوله ﷺ: «إن الله خلق آدم على صورته.»
فإن قويت فيه هذه الصورة حتى تتلاشى جميع الصور في حقها، وتبقى هي وحدها وتحرق سبحات نورها كل ما أدركته؛ كانت حينئذٍ بمنزلة المرآة المنعكسة على نفسها المحرقة لسواها، وهذا لا يكون إلا للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا كله مبيَّن في مواضعه اللائقة به، فليُرجع إلى تمام ما حَكَوه من وصف ذلك التخلق.
قالوا: فلما تعلَّق هذا الروح بتلك القرارة خضعت له جميع القوى وسجدت له، وسُخِّرت بأمر الله تعالى في كمالها، فتكوَّن بإزاء تلك القرارة نفاخة أخرى منقسمة إلى ثلاث قرارات بينهما حجب لطيفة ومسالك نافذة وامتلأت بمثل ذلك الهوائي الذي امتلأت منه القرارة الأولى إلا أنه ألطف منه.
وسكن في هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحدة طائفة من تلك القوى التي خضعت له وتوكلت بحراستها والقيام عليها وإنهاء ما يطرأ فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة الأولى.
وتكوَّن أيضًا بإزاء هذه القرارة من الجهة المقابلة للقرارة الثانية، نفاخة ثالثة مملوءة جسمًا هوائيًّا إلا أنه أغلظ من الأولين. وسكن في هذه القرارة فريق من تلك القوى الخاضعة وتوكلت بحفظها والقيام عليها، فكانت هذه القرارة الأولى والثانية والثالثة أول ما تخلَّق من تلك الطينة المتخمرة على الترتيب الذي ذكرناه.
واحتاج بعضها إلى بعض، فالأولى منها حاجتها إلى الآخرين حاجةَ استخدام وتسخير.
والأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرءوس إلى الرئيس والمدبَّر إلى المدبِّر، وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء رئيس لا مرءوس.
وأحدهما، وهو الثاني، أتمُّ رئاسة من الثالث، فالأول منهما لمَّا تعلَّق به الروح واشتعلت حرارته تشكَّل بشكل النار الصنوبري. وتشكل أيضًا الجسم الغليظ المحدق به على شكله وتكون لحمًا صلبًا وصار عليه غلاف صفيق يحفظه، وسمي العضو كله قلبًا واحتاج لما يتبع الحرارة من التحليل وإفناء الرطوبات إلى شيء يمده ويغذوه ويُخْلِف ما تحلل منه على الدوام وإلا لم يَطُلْ بقاؤه. واحتاج أيضًا إلى يحسَّ بما يلائمه فيجتذبه وبما يخالفه فيدفعه، فتكفَّل له العضو الواحد بما فيه من القوى التي أصلها منه بحاجته الواحدة، وتكفَّل له العضو الآخر بحاجته الأخرى.
وكان المتكفِّل بالحس هو الدماغ، والمتكفل بالغذاء هو الكبد. واحتاج كل واحد من هذين إليه في أن يمدها بحرارته وبالقوى المخصوصة بهما التي أصلها منه فانتسجت بينهما لذلك كله مسالك وطرق، بعضها أوسع من بعض بحسب ما تدعو إليه الضرورة فكانت الشرايين والعروق.
ثم ما زالوا يصفون الخلقة كلها، والأعضاء بجملتها، على حسب ما وصفه الطبيعيون في خلقة الجنين في الرحم، لم يغادروا من ذلك شيئًا إلى أن كمل خلقه وتمت أعضاؤه وحصل في حدِّ خروج الجنين من البطن.
واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة وأنها كانت قد تهيأت لأن يتخلَّق منها كل ما يحتاج إليه في خلق الإنسان من الأغشية المجلِّلة لجملة بدنه وغيرها، فلما كمُل انشقت عنه تلك الأغشية بشبه المخاض وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف.
ثم استغاث ذلك الطفل عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه فلبته ظبية فقدت طلاها.
ثم استوى ما وصفه هؤلاء بعد هذا الموضع وما وصفته الطائفة الأولى في معنى التربية، فقالوا جميعًا:
إن الظبية التي تكفَّلت به وافقت خصبًا ومرعًى أثيثًا، فكثر لحمها ودر لبنها، حتى قامت بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام. وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي. وأَلِف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه. ولم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع العادية، فتربَّى الطفل ونما واغتذى بلبن تلك الظبية إلى أن تم له حولان، وتدرَّج في المشي وأثغر فكان يتبع تلك الظبية وكانت هي ترفق به وترحمه وتحمله إلى مواضع فيها شجر مثمر، فكانت تطعمه ما تساقط من ثمراتها الحلوة النضيجة وما كان منها صلب القشر كسرته له بطواحنها، ومتى عاد إلى اللبن أروته، ومتى ظمئ إلى الماء أوردته، ومتى ضحا ظللته ومتى خصر أدفأته، وإذا جنَّ الليل صرفته إلى مكانه الأول وجللته بنفسها وبريش كان هناك مما مُلئ به التابوت أولًا في وقت وضع الطفل فيه.
وكان في غدوهما ورواحهما قد زلفهما زبزب يسرح ويبيت معهما حيث مبيتهما.
فما زال الطفل مع الظباء على تلك الحال، يحكي نغمتها بصوته حتى لا يكاد يفرَّق بينهما. وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده. وأكثر ما كانت محاكاته لأصوات الظباء في الاستصراخ والاستئلاف والاستدعاء والاستدفاع؛ إذ للحيوانات في هذه الأحوال المختلفة أصوات مختلفة فألفته الوحوش وألفها ولم تنكره ولا أنكرها.
فلما ثبت في نفسه أمثلة الأشياء بعد مغيبها عن مشاهدته حدث له نزوع إلى بعضها وكراهية لبعض.
وكان في ذلك كله ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار وأنواع الريش، وكان يرى ما لها من العَدْو وقوة البطش وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها مثل القرون والأنياب والحوافر والصياصي والمخالب.
ثم يرجع إلى نفسه فيرى ما به من العري وعدم السلاح وضعف العدو وقلة البطش عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثمرات وتستبد بها دونه وتغلبه عليها فلا يستطيع المدافعة عن نفسه ولا الفرار عن شيء منها.
وكان يرى أترابه من أولاد الظباء قد نبتت لها قرون بعد أن لم تكن وصارت قوية بعد ضعفها في العَدْو، ولم يرَ لنفسه شيئًا من ذلك، فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه.
وكان ينظر إلى ذوي العاهات والخلق الناقص فلا يجد لنفسه شبيهًا فيهم.
وكان أيضًا ينظر إلى مخارج الفضول من سائر الحيوانات فيراها مستورة، أما مخرج أغلظ الفضلتين فبالأذناب وأما مخرج أرقِّهما فبالأوبار وما أشبهها، ولأنها كانت أيضًا أخفى قضبانًا منه، فكان ذلك كله يكربه ويسوءه.
فلما طال همه في ذلك كله وهو قد قارب سبعة أعوام ويئس من أن يكمل له ما قد أضرَّ به نقصه، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئًا جعل بعضه خلفه وبعضه قدامه، وعمل من الخوص والحلفاء شبه حزام على وسطه علَّق به تلك الأوراق، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى ذوى ذلك الورق وجف وتساقط عنه.
فما زال يتخذ غيره ويخصف بعضه ببعض طاقات مضاعفة وربما كان ذلك أطول لبقائه إلا أنه على كل حال قصير المدة.
واتخذ من أغصان الشجر عِصيًا وسوَّى أطرافها وعدل متنها.
وكان يهش بها على الوحوش المنازعة له، فيحمل على الضعيف منها ويقاوم القوي منها، فنبل بذلك قدره عند نفسه بعض نباله. ورأى أن ليده فضلًا كثيرًا على أيديها؛ إذ أمكن له بها ستر عورته واتخاذ العصي التي يدافع بها عن حوزته؛ ما استغنى به عما أراده من الذنب والسلاح الطبيعي.
وفي خلال ذلك ترعرع وأربى على السبع سنين، وطال به العناء في تجديد الأوراق التي كان يستتر بها، فكانت نفسه عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذَنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه إلا أنه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الإقدام على ذلك الفعل إلى أن صادف في الأيام نسرًا ميتًا فهدي إلى نيل أمله منه واغتنم الفرصة فيه، إذ لم ير للوحوش عنه نفرةً فأقدم عليه وقطع جناحيه وذنبه صحاحًا كما هي وفتح ريشها وسواها وسلخ عنه سائر جلده وفصله على قطعتين، ربط إحداهما على ظهره وأخرى على سرته وما تحتها وعلق الذنب من خلفه وعلق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك سترًا ودفئًا ومهابة في نفوس جميع الوحوش حتى كانت لا تنازعه ولا تعارضه.
فصار لا يدنو إليه شيء منها سوى الظبية التي كانت أرضعته وربَّته، فإنها لم تفارقه ولا فارقها إلى أن أسنَّت وضعفت فكان يرتاد بها المراعي الخصبة ويجتني لها الثمرات الحلوة ويطعمها.
وما زال الهزل والضعف يستولي عليها ويتوالى إلى أن أدركها الموت فسكنت حركاتها بالجملة وتعطلت جميع أفعالها.
فكان يناديها بالصوت الذي كانت عادتها أن تجيبه عند سماعه ويصيح بأشد ما يقدر عليه فلا يرى لها عند ذلك حركة ولا تغيرًا.
فكان ينظر إلى أذنيها وإلى عينيها فلا يرى بها آفة ظاهرة، وكذلك كان ينظر إلى جميع أعضائها فلا يرى بشيء منها آفة.
فكان يطمع أن يعثر على موضع الآفة فيزيلها عنها فترجع إلى ما كانت عليه فلم يتأتَّ له شيء من ذلك ولا استطاعه.
وكان الذي أرشده لهذا الرأي ما كان قد اعتبره في نفسه قبل ذلك؛ لأنه كان يرى أنه إذا أغمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى يزول ذلك العائق، وكذلك كان يرى أنه إذا أدخل إصبعه في أذنيه وسدها لا يسمع شيئًا حتى يزول ذلك العارض، وإذا أمسك أنفه بيده لا يشم شيئًا من الروائح حتى يفتح أنفه.
فاعتقد من أجل ذلك أن جميع ما له من الإدراكات والأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أُزيلت العوائق عادت الأفعال.
فلما نظر إلى جميع أعضائها الظاهرة ولم يرَ فيها آفة ظاهرة — وكان يرى مع ذلك العطلة قد شملتها ولم يختص بها عضو دون عضو — وقع في خاطره أن الآفة التي نزلت بها إنما هي في عضو غائب عن العيان، مستكن في بطن الجسد، وأن ذلك العضو لا يغني عنه في فعله شيء من هذه هذه الأعضاء الظاهرة.
فلما نزلت به الآفة عمَّت المضرة وشملت العطلة. وطمع بأنه لو عثر على ذلك العضو وأزال عنه ما نزل به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه وعادت الأفعال إلى ما كانت عليه.
وكان قد شاهد قبل ذلك في الأشباح الميتة من الوحوش وسواها أن جميع أعضائها مصمتة لا تجويف فيها إلا القحف والصدر والبطن، فوقع في نفسه أن العضو الذي بتلك الصفة لن يعدو أحد هذه المواضع الثلاثة. وكان يغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما هو في الموضع المتوسط من هذه المواضع الثلاثة؛ إذ استقر في نفسه أن جميع الأعضاء محتاجة إليه وأن الواجب بحسب ذلك أن يكون مسكنه في الوسط.
وكان أيضًا إذا رجع إلى ذاته شعر بمثل هذا العضو في صدره، ولأنه كان يعترض سائر أعضائه كاليد والرجل والأذن والأنف والعين ويقدِّر مفارقتها، فيتراءى له أنه كان يستغني عنها، وكان يقدِّر في رأسه مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه. فإذا فكَّر في الشيء الذي يجده في صدره لم يأتِ له الاستغناء عنه طرفة عين.
وكذلك كان عند محاربته للوحوش، أكثر ما كان يتقي من صياصيهم على صدره لشعوره بالشيء الذي فيه.
فلما جزم الحُكم بأن العضو الذي نزلت به الآفة إنما هو في صدرها، أجمع على البحث عليه والتنقير عنه؛ لعله يظفر به ويرى آفته فيزيلها. ثم إنه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من الآفة التي نزلت بها أولًا فيكون سعيه عليه.
ثم إنه تفكَّر: هل رأى من الوحوش سواها من صار في مثل تلك الحال ثم عاد إلى مثل حاله الأولى؟ فلم يجد شيئًا! فحصل له من ذلك اليأس من رجوعها إلى حالها الأولى إن هو تركها وبقي له بعض الرجاء في رجوعها إلى تلك الحال إن هو وجد ذلك العضو وأزال الآفة عنه.
فعزم على شق صدرها وتفتيش ما فيه، فاتخذ من كسور الأحجار الصلدة وشقوق القصب اليابسة أشباه السكاكين، وشقَّ بها بين أضلاعها حتى قَطَع اللحم الذي بين الأضلاع وأفضى إلى الحجاب المستبطن للأضلاع فرآه قويًّا، فقوي ظنه بأن مثل ذلك الحجاب لا يكون إلا لمثل ذلك العضو وطمع بأنه إذا تجاوزه ألفى مطلوبه، فحاول شقَّه فصعب عليه لعدم الآلات ولأنها لم تكن إلا من الحجارة والقصب، فاستجدها ثانية واستحدها وتلطف في خرق الحجاب حتى انخرق له فأفضى إلى الرئة، فظن أنها مطلوبه فما زال يقلِّبها ويطلب موضع الآفة بها.
وكان أولًا إنما وجد منها نصفها الذي هو في الجانب الواحد، فلما رآها مائلة إلى جهة واحدة، وكان قد اعتقد أن ذلك العضو لا يكون إلا في وسط الصدر، فيعرض البدن كما هو في الوسط في طوله؛ فما زال يفتش في وسط الصدر حتى ألفى القلب وهو مجلَّل بغشاء في غاية القوة، مربوط بعلائق في غاية الوثاقة، والرئة مطيفة به من الجهة التي بدأ بالشق منها، فقال في نفسه: إن كان لهذا العضو من الجهة الأخرى مثل ما له من هذه الجهة فهو في حقيقة الوسط ولا محالة أنه مطلوبي، لا سيما مع ما أرى له من حسن الوضع وجمال الشكل وقلة التشتت وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم أرَ مثله لشيء من الأعضاء.
فبحث عن الجانب الآخر من الصدر فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع ووجد الرئة كمثل ما وجد من هذه الجهة، فحكم بأن ذلك العضو هو مطلوبه فحاول هتك حجابه وشق شغافه فبكد واستكراه ما قدر على ذلك بعد استفراغ مجهوده.
وجرَّد القلب فرآه مصمتًا من كل جهة فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة فلم يرَ فيه شيئًا! فشدَّ عليه يده فتبيَّن له أن فيه تجويفًا فقال: لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو وأنا حتى الآن لم أصل إليه.
فشقَّ عليه فألفى فيه تجويفين اثنين؛ أحدهما من الجهة اليمنى والآخر من الجهة اليسرى، والذي من الجهة اليمنى مملوء بِعَلَق منعقد، والذي من الجهة اليسرى خالٍ لا شيء به، فقال: لن يعدو مطلبي أن يكون مسكنه أحد هذين البيتين.
ثم قال: أما هذا البيت الأيمن فلا أرى فيه إلا هذا الدم المنعقد.
ولا شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد كله إلى هذه الحال — إذ كان قد شاهد الدماء متى سالت وخرجت انعقدت وجمُدت ولم يكن هذا إلا دمًا كسائر الدماء — وأنا أرى أن هذا الدم موجود في سائر الأعضاء لا يختص به عضو دون آخر، وأنا ليس مطلوبي شيئًا بهذه الصفة إنما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة عين وإليه كان انبعاثي من أول.
وأما هذا الدم فكم مرة جرحتني الوحوش في المحاربة فسال مني كثير منه فما ضرني ذلك ولا أفقدني شيئًا من أفعالي، فهذا بيت ليس فيه مطلوبي.
وأما هذا البيت الأيسر فأراه خاليًا لا شيء فيه، وما أرى ذلك لباطل؛ فإني رأيت كل عضو من الأعضاء إنما لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت على ما شاهدت من شَرَفِه باطلًا؟ ما أرى إلا أن مطلوبي كان فيه! فارتحل عنه وأخلاه.
وعند ذلك طرأ على هذا الجسد من العطلة ما طرأ ففقد الإدراك وعدم الحراك.
فلما رأى أن الساكن في ذلك البيت قد ارتحل قبل انهدامه وتركه وهو بحاله تحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه بعد أن حدث فيه من الخراب والتخريق ما حدث، فصار عنده الجسد كله خسيسًا لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي اعتقد في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك.
فاقتصر على الفكرة في ذلك الشيء، ما هو وكيف هو وما الذي ربطه بهذا الجسد وإلى أين صار ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهًا، وما السبب الذي كرَّه إليه الجسد حتى فارقه إن كان خرج مختارًا. وتشتَّت فكره في ذلك كله وسلا عن الجسد وطرحه. وعلم أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعال كلها لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي اتخذها هو لقتال الوحوش.
فانتقلت علاقته عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه ولم يبقَ له شوق إلا إليه.
وفي خلال ذلك نتن ذلك الجسد وقامت منه روائح كريهة فزادت نفرته عنه وودَّ أن لا يراه.
ثم إنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد لا يدري ما هو! غير أنه كان ينظر إلى أشخاص الظباء كلها فيراها على شكل أمه وعلى صورتها فكان يغلب على ظنه أن كل واحد منها إنما يحركه ويصرفه شيء هو مثل الشيء الذي كان يحرك أمه ويصرفها فكان يألف الظباء ويحن إليها لمكان ذلك الشبه.
وبقي على ذلك برهة من الزمن يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة ويتطلب هل يرى أو يجد لنفسه شبيهًا حسبما يرى لكل واحد من أشخاص الحيوان والنبات أشباهًا كثيرة فلا يجد شيئًا من ذلك.
وكان يرى البحر قد أحدق بالجزيرة من كل جهة فيعتقد أنه ليس في الوجود أرض سوى جزيرته تلك.
واتفق في بعض الأحيان أن انقدحت نار في أجمة قلخ على سبيل المحاكَّة، فلما بصر بها رأى منظرًا هاله وخلقًا لم يعتده قبلُ، فوقف يتعجب منها مليًّا وما زال يدنو منها شيئًا فشيئًا فرأى ما للنار من الضوء الثاقب والفعل الغالب حتى لا تعلق بشيء إلا أتت عليه وأحالته إلى نفسها، فحمله العجب بها وبما ركب الله تعالى في طباعه من الجراءة والقوة على أن يمد يده إليها وأراد أن يأخذ منها شيئًا فلما باشرها أحرقت يده فلم يستطع القبض عليها، فاهتدى إلى أن يأخذ قبسًا لم تستولِ النار على جميعه فأخذ بطرفه السليم والنار في طرفه الآخر فتأتَّي له ذلك وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه، وكان قد خلا في جحر استحسنه للسكنى قبل ذلك.
ثم ما زال يمد تلك النار بالحشيش والحطب الجزل ويتعهدها ليلًا ونهارًا؛ استحسانًا لها وتعجبًا منها.
وكان يزيد أُنسه بها ليلًا لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء، فعظم بها ولوعه واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه، وكان دائمًا يراها تتحرك إلى جهة فوق وتطلب العلو فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها.
وكان يختبر قوَّتها في جميع الأشياء بأن يلقيها فيها فيراها مستولية عليها إما بسرعة وإما ببطء بحسب قوة استعداد الجسم الذي كان يلقيه للاحتراق أو ضعفه.
وكان من جملة ما ألقى فيها على سبيل الاختبار لقوتها شيء من أصناف الحيوانات البحرية — كان قد ألقاه البحر إلى ساحله — فلما أنضجت ذلك الحيوان وسطع قتاره تحركت شهوته إليه فأكل منه شيئًا فاستطابه فاعتاد بذلك أكل اللحم، فصرف الحيلة في صيد البر والبحر حتى مهر في ذلك.
زادت محبته للنار إذ تأتَّى له بها من وجوه الاغتذاء الطيب شيءٌ لم يأتِ له قبل ذلك؛ فلما اشتد شغفه بها لما رأى من حسن آثارها وقوة اقتدارها وقع في نفسه أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي أنشأته كان من جوهر هذا الوجود أو من شيء يجانسه وأكَّد ذلك في ظنه ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته وبرودته من بعد موته — وكان هذا دائمًا لا يختل — وما كان يجده في نفسه من شدة الحرارة عند صدره بإزاء الموضع الذي كان قد شقَّ عليه من الظبية، فوقع في نفسه أنه لو أخذ حيوانًا حيًّا وشق قلبه ونظر إلى ذلك التجويف الذي صادفه خاليًا عندما شق عليه في أمه الظبية لرآه في الحيوان الحي وهو مملوء بذلك الشيء الساكن فيه، وتحقق هل هو من جوهر النار وهل فيه شيء من الضوء والحرارة أم لا.
فعمد إلى بعض الوحوش واستوثق منه كتافًا وشقَّه على الصفة التي شق بها الظبية حتى وصل إلى القلب.
فقصد أولًا إلى الجهة اليسرى منه وشقها، فرأى ذلك الفراغ مملوءًا بهواء بخاري يشبه الضباب الأبيض، فأدخل إصبعه فيه فوجده من الحرارة في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان على الفور.
فصحَّ عنده أن ذلك البخار الحار هو الذي كان يحرك هذا الحيوان وأن في كل شخص من أشخاص الحيوانات مثل ذلك ومتى انفصل عن الحيوان مات.
ثم تحرَّكت في نفسه الشهوة للبحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها وكمياتها وكيفية ارتباط بعضها ببعض، وكيف تستمد من هذا البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به وكيف بقاء هذا البخار المدة التي يبقى ومن أين يستمد وكيف لا تنفذ حرارته؟ فتتبع ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء والأموات ولم يزل يُنعم النظر فيها ويجيل الفكرة حتى بلغ في ذلك كله مبلغ كبار الطبيعيين، فتبين له أن كل شخص من أشخاص الحيوان وإن كان كثيرًا بأعضائه وتفنُّن حواسه وحركاته فإنه واحد بذلك الروح الذي مبدؤه من قرار واحد وانقسامه في سائر الأعضاء منبعث منه، وأن جميع الأعضاء إنما هي خادمة له أو مؤدية عنه، وأن منزلة ذلك الروح في تصريف الجسد كمنزلة من يحارب الأعداء بالسلاح التام ويصيد جميع صيد البر والبحر، فيمد لكل جنس آلة يصيده بها، والتي يحارب بها تنقسم إلى ما يدفع به نكاية غيره وإلى ما ينكي بها غيره.
وكذلك آلات الصيد تنقسم إلى ما يصلح لحيوان البحر وإلى ما يصلح لحيوان البر. وكذلك الأشياء التي يشرِّح بها تنقسم إلى ما يصلح للشق وإلى ما يصلح للكسر وإلى ما يصلح للثقب. والبدن واحد، وهو يصرف ذلك أنحاء من التصريف بحسب ما تصلح له كل آلة وبحسب الغايات التي تُلتمس بذلك التصرف.
كذلك، ذلك الروح الحيواني واحد، وإذا عمل بآلة العين كان فعله إبصارًا، وإذا عمل بآلة الآذن كان فعله سمعًا، وإذا عمل بآلة الأنف كان فعله شمًّا، وإذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقًا، وإذا عمل بالجلد واللحم كان فعله لمسًا، وإذا عمل بالعضد كان فعله حركة، وإذا عمل بالكبد كان فعله غذاءً واغتذاءً.
ولكل واحد من هذه أعضاءٌ تخدمه، ولا يتم لشيء من هذه الفعل إلا بما يصل إليها من ذلك الروح على الطريق التي تسمى عصبًا. ومتى انقطعت تلك الطرق أو انسدت تعطل فعل ذلك العضو.
وهذه الأعصاب إنما تستمد الروح من بطون الدماغ، والدماغ يستمد الروح من القلب، والدماغ فيه أرواح كثيرة؛ لأنه موضع تتوزع فيه أقسام كثيرة، فأي عضو عَدم هذا الروح بسبب من الأسباب تعطل فعله وصار بمنزلة الآلة المطروحة التي لا يصرفها الفاعل ولا ينتفع بها.
فإن خرج هذا الروح بجملته عن الجسد أو فَنِيَ أو تحلَّل بوجه من الوجوه تعطل الجسد كله وصار إلى حالة الموت فانتهى به إلى هذا من منشئه، وذلك أحد وعشرون عامًا.
وفي خلال هذه المدة المذكورة تفنن في وجوه حيله واكتسى بجلود الحيوانات التي كان يشرِّحها واحتذى بها، واتخذ الخيوط من الأشعار ولِحاء قصب الخطمي والخبَّازى والقنَّب وكل نبات ذي خيط.
وكان أصل اهتدائه إلى ذلك أنه أخذ من الحَلفا وعمل خطاطيف من الشوك القوي والقصب المحدد على الحجارة.
واهتدى إلى البناء بما رأى من فعل الخطاطيف، فاتخذ مخزنًا وبيتًا لفضلة غذائه وحصَّن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض لئلا يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه عن تلك الجهة في بعض شئونه.
واستألف جوارح الطير ليستعين بها في الصيد، واتخذ الدواجن ببيضها وفراخها واتخذ من صياصي البقر الوحشية شبه الأسنة وركَّبها في القصب القوي وفي عصي الزان وغيرها. واستعان في ذلك بالنار وبحروف الحجارة حتى صارت شبه الرماح واتخذ تُرسه من جلود مضاعة، كل ذلك لما رأى من عدمه السلاح الطبيعي.
ولما رأى أن يده تفي له بكل ما فاته من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات على اختلاف أنواعها إلا أنها كانت عنه فتعجزه هربًا، فكَّر في وجه الحيلة في ذلك فلم يرَ شيئًا أنجع له من أن يتألف بعض الحيوانات الشديدة العَدْو ويحسن إليها بإعداد الغذاء الذي يصلح لها حتى يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها.
وكان بتلك الجزيرة خيل برية وحمر وحشية فاتخذ منها ما يصلح له وراضها حتى كمل له بها غرضه، وعمل عليها من الشرَك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتأتى له بذلك ما أمله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها.
وإنما تفنن في هذه الأمور كلها في وقت اشتغاله بالتشريح وشهوته في وقوفه على خصائص أعضاء الحيوان وبماذا تختلف. وذلك في المدة التي حدَّدنا منتهاها بأحدٍ وعشرين عامًا.
ثم إنه بعد ذلك أخذ في مآخذ أُخر من النظر فتصفَّح جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد، من الحيوانات على اختلاف أنواعها، والنبات والمعادن وأصناف الحجارة والتراب والماء والبخار والثلج والبرد والدخان واللهيب والجمر، فرأى لها أوصافًا كثيرة وأفعالًا مختلفة وحركات متفقة ومضادة، وأمعن النظر في ذلك وتثبَّت فرأى أنها تتفق ببعض الصفات وتختلف ببعض وأنها من الجهة التي تتفق بها واحدة ومن الجهة التي تختلف فيها متغايرة ومتكثرة، فكان تارة ينظر خصائص الأشياء وما يتفرد به بعضها عن بعض، فتكثر عنده كثرةً تخرج عن الحصر وينتشر له الوجود انتشارًا لا يضبط.
وكانت تتكثر عنده أيضًا ذاته، كان ينظر إلى اختلاف أعضائه وأن كل واحد منها منفرد بفعل وصفة تخصه، وكان ينظر إلى كل عضو منها فيرى أنه يحتمل القسمة إلى أجزاء كثيرة جدًّا، فيحكم على ذاته بالكثرة، وكذلك على ذات كل شيء.
ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق ثانٍ، فيرى أن أعضاءه وإن كانت كثيرة فهي متصلة كلها بعضها ببعض لا انفصال بينها بوجهٍ؛ فهي في حكم الواحد، وأنها لا تختلف إلا بحسب اختلاف أفعالها، وأن ذلك الاختلاف إنما هو بسبب ما يصل إليها من قوة الروح الحيواني الذي انتهى إليه نظره أولًا، وأن ذلك الروح واحد ذاته، وهو حقيقة الذات وسائر الأعضاء كلها كالآلات، فكانت تتحد عنده ذاته بهذا الطريق.
ثم كان ينتقل إلى جميع أنواع الحيوان، فيرى كل شخص منها واحدًا بهذا النوع من النظر.
ثم كان ينظر إلى نوع منها: كالظباء والخيل وأصناف الطير صنفًا صنفًا، فكان يرى أشخاص كل نوع يشبه بعضه بعضًا في الأعضاء الظاهرة والباطنة، والإدراكات والحركات والمنازع، ولا يرى بينها اختلافًا إلا في أشياء يسيرة بالإضافة إلى ما اتفقت فيه.
وكان يحكم بأن الروح الذي لجميع ذلك النوع شيء واحد، وأنه لم يختلف إلا أنه انقسم على قلوب كثيرة، وأنه لو أمكن أن يجمع جميع الذي افترق في تلك القلوب منه ويُجعل في وعاء واحد لكان كله شيئًا واحدًا بمنزلة ماء واحد أو شراب واحد يفرق على أوانٍ كثيرة ثم يجمع بعد ذلك، فهو في حالتي تفريقه وجمعه شيء واحد إنما الغرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى النوع بهذا النظر واحدًا ويجعل كثرة أشخاصه بمنزلة كثرة أعضاء الشخص الواحد التي لم تكن كثيرة في الحقيقة.
ثم كان يُحضر أنواع الحيوانات كلها في نفسه ويتأملها فيراها تتفق في أنها تحس وتغتذي وتتحرك بالإرادة إلى أي جهة شاءت وكان قد علم أن هذه الأفعال هي أخص أفعال الروح الحيواني وأن سائر الأشياء التي تختلف بها بعد هذا الاتفاق ليست شديدة الاختصاص بالروح الحيواني.
فظهر له بهذا التأمل أن الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة وإن كان فيه اختلاف يسير اختص به نوع دون نوع، بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوانٍ كثيرة بعضه أبرد من بعض، وهو في أصله واحد. وكل ما كان في طبقة واحدة من البرودة فهو بمنزلة اختصاص ذلك الروح الحيواني بنوع واحد وإن عرض له التكثر بوجه ما، فكان يرى جنس الحيوان كله واحدًا بهذا النوع من النظر.
ثم كان يرجع إلى أنواع النبات على اختلافها، فيرى كل نوع منها تشبه أشخاصه بعضها بعضًا في الأغصان والورق والزهر والثمر والأفعال، فكان يقيسها بالحيوان ويعلم أن لها شيئًا واحدًا اشتركت فيه هو لها بمنزلة الروح للحيوان وأنها بذلك الشيء واحد.
وكذلك كان ينظر إلى جنس النبات كله فيحكم باتحاده بحسب ما يراه من اتفاق فعله في أنه يتغذى وينمو.
ثم كان يجمع في نفسه جنس الحيوان وجنس النبات فيراهما جميعًا متفقين في الاغتذاء والنمو، إلا أن الحيوان يزيد على النبات بفضل الحس والإدراك والتحرك. وربما ظهر في النبات شيء شبيه به مثل تحوُّل وجوه الزهر إلى جهة الشمس وتحرُّك عروقه إلى الغذاء بسبب شيء واحد مشترك بينهما هو في أحدهما أتمُّ وأكمل وفي الآخر قد عاقه عائق ما، وأن ذلك بمنزلة ماء واحد قسم بقسمين أحدهما جامد والآخر سيال فيتحد عنده النبات والحيوان.
ثم ينظر إلى الأجسام التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو من الحجارة والتراب والماء والهواء واللهب فيرى أنها أجسام مقدَّر لها طول وعرض وعمق وأنها لا تختلف، إلا أن بعضها ذو لون وبعضها لا لون له وبعضها حار والآخر بارد ونحو ذلك من الاختلافات.
وكان يرى أن الحار منها يصير باردًا والبارد يصير حارًّا وكان يرى الماء يصير بخارًا والبخار ماء والأشياء المحترقة تصير جمرًا ورمادًا ولهيبًا ودخانًا، والدخان إذا وافق في صعوده قبة حجر انعقد فيه وصار بمنزلة سائر الأشياء الأرضية فيظهر له بهذا التأمل أن جميعها شيء واحد في الحقيقة وإن لحقتها الكثرة بوجه ما فذلك مثل ما لحقت الكثرة للحيوان والنبات.
ثم ينظر إلى الشيء الذي اتحد به عند النبات والحيوان فيرى أنه جسم ما مثل هذه الأجسام: له طول وعرض وعمق وهو إما حار وإما بارد كواحد من هذه الأجسام التي لا تحس ولا تتغذى وإنما خالفها بأفعاله التي تظهر عنه بالآلات الحيوانية والنباتية لا غير، ولعل تلك الأفعال ليست ذاتية وإنما تسري إليه من شيء آخر ولو سرت إلى هذه الأجسام الأُخر لكانت مثله، فكان ينظر إليه بذاته مجردًا عن هذه الأفعال التي تظهر ببادئ الرأي أنها صادرة عنه، فكان يرى أنه ليس إلا جسمًا من هذه الأجسام فيظهر له بهذا التأمل أن الأجسام كلها شيء واحد: حيها وجمادها متحركها وساكنها، إلا أنه يظهر أن لبعضها أفعالًا بآلات، ولا يدري هل تلك الأفعال ذاتية لها أو سارية إليها من غيرها.
وكان في هذه الحال لا يرى شيئًا غير الأجسام، فكان بهذا الطريق يرى الوجود كله شيئًا واحدًا وبالنظر الأول يرى الوجود كثرة لا تنحصر ولا تتناهى.
وبقي بحكم هذه الحالة مدة، ثم إنه تأمل جميع الأجسام حيها وجامدها، وهي التي عنده تارةً شيء واحد وتارةً كثيرة لا نهاية لها، فرأى أن كل واحد منها لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يتحرك إلى جهة العلو مثل الدخان واللهيب والهواء إذا حصل تحت الماء، وإما أن يتحرك إلى الجهة المضادة لتلك الجهة وهي جهة السفل مثل الماء وأجزاء الحيوان والنبات. وأن كل جسم من هذه الأجسام لن يعرى عن إحدى هاتين الحركتين وأنه لا يسكن إلا إذا منعه مانع يعوقه عن طريقه مثل الحجر النازل يصادف وجه الأرض صلبًا فلا يمكنه أن يخرقه، ولو أمكنه ذلك لما انثنى عن حركته فيما يظهر ولذلك إذا رفعته وجدته يتحامل عليك بميله إلى جهة السفل طالبًا للنزول.
وكذلك الدخان في صعوده لا ينثني إلا أن يصادف قبة صلبة تحبسه؛ فحينئذٍ ينعطف يمينًا وشمالًا، ثم إذا تخلَّص من تلك القبة خرق الهواء صاعدًا لأن الهواء لا يمكنه أن يحبسه.
وكان يرى أن الهواء إذا ملئ به زق جلد ورُبط ثم غوِّص تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء فحينئذٍ يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي كان يوجد منه قبل ذلك.
ونظر هل يجد جسمًا يعرى عن إحدى هاتين الحركتين أو الميل إلى إحداهما في وقت ما؟ فلم يجد ذلك في الأجسام التي لديه، وإنما طلب ذلك لأنه طمع أن يجده فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم دون أن يقترن به وصف من الأوصاف التي هي منشأ التكثر.
فلما أعياه ذلك ونظر إلى الأجسام التي هي أقل الأجسام حملًا للأوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذين الوصفين بوجه، وهما اللذان يعبَّر عنهما بالثقل والخفة، فنظر إلى الثقل والخفة هل هما للجسم من حيث هو جسم أو هما لمعنًى زائد على الجسمية؟ فظهر له أنهما لمعنًى زائد على الجسمية لأنهما لو كانا للجسم من حيث هو جسم لما وجد جسم إلا وهما له.
ونحن نجد الثقيل لا توجد فيه الخفة والخفيف لا يوجد فيه الثقل، وهما لا محالة جسمان ولكل منهما معنًى متفرد به عن الآخر زائد على جسميته. وذلك المعنى هو الذي به غاير كل واحد منهما الآخر ولولا ذلك لكانا شيئًا واحدًا من جميع الوجوه.
فتبين له أن حقيقة كل واحد من الثقيل والخفيف مركبة من معنيين؛ أحدهما: ما يقع فيه الاشتراك منهما جميعًا، وهو معنى الجسمية، والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما عن الآخر. وهما إما الثقل في أحدهما وإما الخفة في الآخر، المقترنان بمعنى الجسمية؛ أي المعنى الذي يحرك أحدهما الآخر علوًا والآخر سفلًا.
وكذلك نظر إلى سائر الأجسام من الجمادات والأحياء فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منهما مركبة من معنى الجسمية ومن شيء آخر زائد على الجسمية، إما واحد وإما أكثر من واحد، فلاحت له صور الأجسام على اختلافها وهو أول ما لاح له من العالم الروحاني، إذ هي صور لا تدرك بالحس وإنما تدرك بضرب ما من النظر العقلي.
ولاح له في جملة ما لاح من ذلك أن الروح الحيواني الذي مسكنه القلب — وهو الذي تقدم شرحه أولًا — لا بد له أيضًا من معنًى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة التي تختص به من ضروب الإحساسات وفنون الإدراكات وأصناف الحركات؛ وذلك المعنى هو صورته وفضله الذي انفصل به عن سائر الأجسام، وهو الذي يعبر عنه النظَّار بالنفس الحيوانية.
وكذلك أيضًا للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو فصله وهو الذي يعبَّر عنه النظَّار بالنفس النباتية.
وكذلك لجميع الأجسام الجمادات — وهي ما عدا الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد — شيء يخصها به يفعل كل واحد منها فعله الذي يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة كل واحد منها وهو الذي يعبر النظَّار عنه بالطبيعة.
فلما وقف بهذا النظر على أن حقيقة الروح الحيواني الذي كان تشوقه إليه أبدًا مركبة من معنى الجسمية ومن معنًى آخر زائد على الجسمية وأن معنى هذه الجسمية مشترك لسائر الأجسام، والمعنى الآخر المقترن به ينفرد به هو وحده هان عنده معنى الجسمية فاطرحه وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي يعبر عنه بالنفس فتشوق إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح الأجسام كلها لا من جهة ما هي أجسام بل من جهة ما هي ذوات صور تلزم عنها خواص ينفصل بها بعضها عن بعض.
فتتبع ذلك وحصره في نفسه، فرأى جملة من الأجسام تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما أو أفعال ما، ورأى فريقًا من تلك الجملة مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليه بصورة أخرى يصدر عنها أفعال ما ورأى طائفة من ذلك الفريق مع أنها تشارك الفريق في الصورة الأولى والثانية تزيد عليه بصورة ثالثة تصدر عنها أفعال ما خاصة بها.
مثال ذلك أن الأجسام الأرضية مثل التراب والحجارة والمعادن والنبات والحيوان وسائر الأجسام هي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة تصدر عنها الحركة إلى الأسفل ما لم يعقها عائق عن النزول، ومتى حرِّكت إلى جهة العلو بالقسر ثم تُركت تحركت بصورتها إلى أسفل.
وفريق من هذه الجملة، وهو النبات والحيوان، مع مشاركته الجملة المتقدمة في تلك الصورة يزيد عليها صورة أخرى، يصدر عنها التغذي والنمو.
والتغذي: هو أن يخلف المغتذي بدل ما تحلل بالفعل منه، بواسطة قوة الغاذية التي تحيل ما حصل له كمال الاستعداد، بسبب القوة الهاضمة من الغذاء بالقوة الواصلة بواسطة الجاذبية إلى مشاكلة جوهر المغتذي؛ حفظًا لشخصه وتكميلًا لمقداره.
والنمو: هو الزيادة بواسطة القوة النامية، وهي التي تزيد في أقطار الجسم، أعني الطول والعرض والعمق، على التناسب الطبيعي بما تدخل في أجزائه من الغذاء، فهذان الفعلان عامان للنبات والحيوان، وهما لا محالة صادران عن صورة مشتركة لهما، وهي المعبر عنها بالنفس النباتية.
وطائفة من هذا الفريق وهو الحيوان خاصة مع مشاركته الفريق المتقدم في الصورة الأولى والثانية تزيد عليه بصورة ثالثة يصدر عنها الحس والتنقل من حين إلى آخر.
ورأى أيضًا كل نوع من أنواع الحيوان له خاصية ينحاز بها عن سائر الأنواع وينفصل بها متميزًا عنها؛ فعلم أن ذلك صادر له عن صورة له تخصه هي زائدة عن معنى الصورة المشتركة له ولسائر الحيوان، وكذلك لكل واحد من أنواع النبات مثل ذلك.
فتبين له أن الأجسام المحسوسات التي في عالم الكون والفساد بعضها تلتئم حقيقته من معانٍ كثيرة زائدة على معنى الجسمية وبعضها من معانٍ أقل، وعلم أن معرفة الأقل أسهل من معرفة الأكثر؛ فطلب أولًا الوقوف على حقيقة صورة الشيء الذي تلتئم حقيقته من أقل الأشياء، ورأى أن الحيوان والنبات لا تلتئم حقائقهما إلا من معانٍ كثيرة لتفنن أفعالهما، فأخَّر التفكير في صورهما.
وكذلك رأى أن أجزاء الأرض بعضها أبسط من بعض فقصد منها إلى أبسط ما قدر عليه. وكذلك رأى أن الماء شيء قليل التركيب لقلة ما يصدر عن صورته من الأفعال، وكذلك رأى النار والهواء.
وكان قد سبق إلى ظنه أولًا أن هذه الأربعة يستحيل بعضها إلى بعض، وأن لها شيئًا واحدًا تشترك فيه وهو معنى الجسمية، وأن ذلك الشيء ينبغي أن يكون خلوًا من المعاني التي تميز بها كل واحد من هذه الأربعة عن الآخر، فلا يمكن أن يتحرك إلى فوق ولا إلى أسفل ولا أن يكون حارًّا ولا يكون باردًا ولا يكون رطبًا ولا يابسًا؛ لأن كل واحد من هذه الأوصاف لا يعم جميع الأجسام، فليست إذن للجسم بما هو جسم.
فإذا أمكن وجود جسم لا صورة فيه زائدة على الجسمية فليس تكون فيه صفة من هذه الصفات، ولا يمكن أن تكون فيه صفة إلا وهي تعم سائر الأجسام المتصورة بضروب الصور.
فنظر هل يجد وصفًا واحدًا يعم جميع الأجسام: حيها وجمادها، فلم يجد شيئًا يعم الأجسام كلها إلا معنى الامتداد الموجود في جميعها، في الأقطار الثلاثة التي يعبَّر عنها بالطول والعرض والعمق فعلم أن هذا المعنى هو للجسم من حيث هو جسم لكنه لم يتأتَّ له بالحس وجود جسم بهذه الصفة وحدها حتى لا يكون فيه معنًى زائد على الامتداد المذكور، ويكون بالجملة خلوًا من سائر الصور.
ثم تفكر في هذا الامتداد إلى الأقطار الثلاثة هل هو معنى الجسم بعينه وليس ثم معنًى آخر أو ليس الأمر كذلك، فرأى أن وراء هذا الامتداد معنًى آخر هو الذي يوجد فيه هذا الامتداد، وأن الامتداد وحده لا يمكن أن يقوم بنفسه كما أن ذلك الشيء الممتد لا يمكن أن يقوم دون امتداد.
واعتبر ذلك ببعض هذه الأجسام المحسوسة ذوات الصور كالطين مثلًا، كان له طول وعرض وعمق على قدر ما، ثم إن تلك الكرة بعينها لو أُخذت وردَّت إلى شكل مكعب أو بيضي لتبدل ذلك الطول وذلك العرض وذلك العمق وصارت على قدر آخر غير الذي كانت عليه، والطين واحد بعينه لم يتبدل، غير أنه لا بد له من طول وعرض وعمق على أي قدر كان، ولا يمكن أن يعرى عنها غير أنها لتعاقبها عليه تبيَّن له أنها معنًى على حياله ولكونه لا يعرى بالجملة عنها تبيَّن له أنها من حقيقته.
فلَاحَ له بهذا الاعتبار أن الجسم بما هو جسم مركب على الحقيقة من معنيين؛ أحدهما: يقوم منه مقام الطين للكرة في هذا المثال، والآخر: يقوم مقام طول الكرة وعرضها وعمقها أو المكعب أو أي شكل كان به.
وأنه لا يفهم الجسم إلا مركبًا من هذين المعنيين، وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر.
ولكن الذي يمكن أن يتبدل ويتعاقب على أوجه كثيرة وهو معنى الامتداد يشبه الصورة التي لسائر الأجسام ذوات الصور، والذي يثبت على حال واحدة وهو الذي ينزل منزلة الطين المتقدم يشبه معنى الجسمية التي لسائر الأجسام ذوات الصور.
وهذا الشيء الذي هو بمنزلة الطين في هذا المثال هو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة.
فلما انتهى نظره إلى هذا الحد وفارق المحسوس بعض مفارقة وأشرف على تخوم العالم العقلي، استوحش وحن إلى ما أَلِفَه من عالم الحس، فتقهقر قليلًا وترك الجسم على الإطلاق؛ إذ هذا الأمر لا يدركه الحس ولا يقدر على تناوله.
وأخذ أبسط الأجسام المحسوسة التي شاهدها وهي تلك الأربعة التي كان قد وقف نظره عليها.
فأول ما نظر إلى الماء فرأى أنه إذا خُلِّي وما تقتضيه صورته ظهر منه برد محسوس وطلب النزول إلى أسفل فإذا سخِّن، إما بالنار وإما بحرارة الشمس، زال عنه البرد أولًا وبقي فيه طلب وصار يطلب الصعود إلى فوق، فزال عنه بالجملة الوصفان اللذان كانا أبدًا يصدران عنه وعن صورته ولم يُعرف من صورته أكثر من صدور هذين الفعلين عنها.
فلما زال هذان الفعلان بطل حكم الصورة فزالت الصورة المائية عن ذلك الجسم عندما ظهرت منه أفعال من شأنها أن تصدر عن صورة أخرى وحدثت له صورة أخرى بعد أن لم تكن وصدر عنه بها أفعال لم يكن من شأنها أن تصدر عنه وهو بصورته الأولى؛ فعلم بالضرورة أن كل حدَث لا بد له من محدث، فارتسم في نفسه بهذا الاعتبار فاعل للصورة ارتسامًا على العموم دون تفصيل.
ثم إنه تتبع الصور التي كان قد علمها قبل ذلك صورة صورة فرأى أنها كلها حادثة وأنها لا بد لها من فاعل.
ثم إنه نظر إلى ذوات الصور فلم يرَ أنها شيء أكثر من استعداد الجسم لأن يصدر عنه ذلك الفعل مثل الماء فإنه إذا أفرط عليه التسخين استعد للحركة إلى فوق وصلح لها، فذلك الاستعداد هو صورته إذ ليس ها هنا إلا جسم وأشياء تحس عنه بعد أن لم تكن، فصلوح الجسم لبعض الحركات دون بعض هو استعداده بصورته. ولاح له مثل ذلك في جميع الصور فتبين له أن الأفعال الصادرة عنها ليست في الحقيقة لها وإنما هي لفاعل يفعل بها الأفعال المنسوبة إليها. وهذا المعنى الذي لاح له، وهو قول رسول الله ﷺ: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به.» وفي محكم التنزيل: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى.
فلما لاح له من أمر هذا الفاعل ما لاح على الإجمال دون تفصيل حدث له شوق حثيث إلى معرفته على التفصيل، وهو بعدُ لم يكن فارق عالم الحس، فجعل يطلب هذا الفاعل على جهة المحسوسات وهو لا يعلم بعدُ: هل هو واحد أو كثير؟ فتصفح جميع الأجسام التي لديه، وهي التي كانت فكرته أبدًا فيها، فرآها كلها تتكون تارة وتفسد أخرى، وما لم يقف على فساد جملته وقف على فساد أجزائه مثل الماء والأرض فإنه رأى أجزاءهما تفسد بالنار وكذلك الهواء رآه يفسد بشدة البرد حتى يتكون منه الثلج فيسيل ماءً.
وكذلك سائر الأجسام التي كانت لديه لم يرَ منها شيئًا بريئًا عن الحدوث والافتقار إلى الفاعل المختار، فاطرحها كلها وانتقلت فكرته إلى الأجسام السماوية.
وانتهى إلى هذا النظر على رأس أربعة أسابيع من منشئه وذلك ثمانية وعشرون عامًا، فعلم أن السماء وما فيها من الكواكب أجسام؛ لأنها ممتدة في الأقطار الثلاثة: الطول والعرض والعمق، لا ينفك شيء منها عن هذه الصفة، وكل ما لا ينفك عن هذه الصفة فهو جسم؛ فهي إذن كلها أجسام.
ثم تفكَّر هل هي ممتدة إلى غير نهاية، وذاهبة أبدًا في الطول والعرض والعمق إلى غير نهاية؟ أو هي متناهية محدودة بحدود تنقطع عندها ولا يمكن أن يكون وراءها شيء من الامتداد؟ فتحير بعد ذلك بعض الحيرة.
ثم إنه بقوة نظره وذكاء خاطره رأى أن جسمًا لا نهاية له أمر باطل وشيء لا يمكن، ومعنًى لا يُعقل. وتقوَّى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة سنحت له بينه وبين نفسه، وذلك أنه قال: أما الجسم السماوي فهو متناهٍ من الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا لا أشك فيه؛ لأنني أدركه ببصري. وأما الجهة التي تقابل هذه الجهة وهي التي يداخلني فيها الشك فإني أيضًا أعلم من المحال أن تمتد إلى غير نهاية؛ لأني إن تخيلت أن خطين اثنين يبتدئان من هذه الجهة المتناهية ويمران في سَمْك الجسم إلى غير نهاية حسب امتداد الجسم، ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين أبدًا يمتدان إلى غير نهاية، ولا ينقص أحدهما عن الآخر، فيكون الذي قُطع منه جزء مساويًا الذي لم يُقطع منه شيء، وهو محال. كما أن الكل مثل الجزء محال.
وأما ألا يمتد الناقص معه أبدًا بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتداد معه فيكون متناهيًا، فإذا رُدَّ عليه القدْرُ الذي قُطع منه أولًا، وقد كان متناهيًا، صار كله أيضًا متناهيًا، وحينئذٍ لا يقصر عن الخط الآخر الذي لم يقطع منه شيء، ولا يفضل عليه فيكون إذن مثله، وهو متناهٍ فذلك أيضًا متناهٍ، فالجسم الذي يفرض فيه هذه الخطوط متناهٍ، وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناهٍ.
فإذا فرضنا أن جسمًا غير متناهٍ فقد فرضنا باطلًا ومحالًا.
فلما صح عنده بفطرته الفائقة التي تنبهت لمثل هذه الحجة؛ أن جسم السماء متناهٍ، أراد أن يعرف على أي شكل هو وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده.
فنظر أولًا إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب فرآها كلها تطلع من جهة المشرق وتغرب من جهة المغرب، فما كان منها يمر على سَمْت رأسه رآه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب رآه يقطع دائرة أصغر من تلك، وما كان أبعد عن سمت الرأس على أحد الجانبين كانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب، حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والأخرى حول القطب الشمالي، وهي مدار الفرقدين.
ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولًا، كانت هذه الدوائر كلها على سطح أفقه.
ومتشابهة الأحوال في الجنوب والشمال، وكان القطبان معًا ظاهرين له وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معًا فكان يرى غروبهما معًا.
واطرد له ذلك في جميع الكواكب وفي جميع الأوقات؛ فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة وقوَّى ذلك في اعتقاده ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضًا من أنها تظهر لبصره على قدر واحد من العِظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات أقرب إلى بصره منها في وقت آخر، ولو كانت كذلك لكانت مقاديرها وأعظامها تختلف عند بصره فيراها في حال القرب أعظم مما يراها في حال البعد؛ لاختلاف أبعادها عن مركزه حينئذٍ بخلافها على الأول، فلما لم يكن شيء من ذلك تحقق عنده كروية الشكل.
وما زال يتصفح حركة القمر فيراها آخذة من المغرب إلى المشرق، وحركات الكواكب السيارة كذلك، حتى تبين له قدر كبير من علم الهيئة وظهر له أن حركتها لا تكون إلا بأفلاك كثيرة كلها مضمنة في فلك واحد هو أعلاها، وهو الذي يحرك الكل من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة، وشرح كيفية انتقاله.
ومعرفة ذلك يطول، وهو مثبت في الكتب ولا يحتاج منه في غرضنا إلا للقدر الذي أردناه.
فلما انتهى إلى هذه المعرفة ووقف على أن الفلك بجملته وما يحتوي عليه كشيء واحد متصل بعضه ببعض وأن جميع الأجسام التي كان ينظر فيها أولًا: كالأرض والماء والهواء والنبات والحيوان وما شاكلها هي كلها في ضمنه وغير خارجة عنه وأنه كله أشبه شيء بشخص من أشخاص الحيوان، وما فيه من الكواكب المنيرة هي بمنزلة حواس الحيوان، وما فيه من ضروب الأفلاك المتصل بعضها ببعض هي بمنزلة أعضاء الحيوان، وما في داخله من علم الكون والفساد هي بمنزلة ما في جوف الحيوان من أصناف الفضول والرطوبات التي كثيرًا ما يتكون فيها أيضًا حيوان كما يتكون في العالم الأكبر.
فلما تبين له أنه كله كشخص واحد في الحقيقة، واتحدت عنده أجزاؤه الكثيرة بنوع من النظر الذي اتحدت عنده الأجسام التي في عالم الكون والفساد، تفكر في العالم بجملته: هل هو شيء حدث بعد أن لم يكن، وخرج إلى الوجود بعد العدم؟ أو هو أمر كان موجودًا فيما سلف ولم يسبقه العدم بوجه من الوجوه؟ فتشكك في ذلك ولم يترجَّح عنده أحد الحكمين على الآخر.
وذلك أنه كان إذا أزمع على اعتقاد القدم اعترضته عوارض كثيرة من استحالة وجود ما لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا نهاية له. وكذلك أيضًا كان يرى أن هذا الوجود لا يخلو من الحوادث فهو لا يمكن تقدمه عليها وما لا يمكن أن يتقدم على الحوادث فهو أيضًا محدَث.
وإذا أزمع على اعتقاد الحدوث اعترضته عوارض أخرى وذلك أنه كان يرى أن معنى حدوثه بعد أن لم يكن لا يفهم إلا على أن الزمان تقدمه والزمان من جملة العالم وغير منفك عنه فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان.
وكذلك كان يقول: «إذا كان حادثًا فلا بد له من محدِث، وهذا المحدث الذي أحدثه لمَ أحدثه الآن ولم يحدثه من قبل ذلك؟ ألطارئ طرأ عليه — ولا شيء هناك غيره — أم لتغير حدث في ذاته؟ فإن كان، فما الذي أحدث ذلك التغيُّر؟
وما زال يفكر في ذلك عدة سنين، فتتعارض عنده الحجج ولا يترجح عنده أحد الاعتقادين على الآخر.
فلما أعياه ذلك جعل يتفكر ما الذي يلزم عن كل واحد من الاعتقادين، فلعل اللازم عنهما يكون شيئًا واحدًا! فرأى أنه إن اعتقد حدوث العالم وخروجه إلى الوجود بعد العدم فاللازم عن ذلك ضرورة أنه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود بنفسه، وأنه لا بد له من فاعل يُخرجه إلى الوجود، وأن ذلك الفاعل لا يمكن أن يدرَك بشيء من الحواس؛ لأنه لو أُدرِك بشيء من الحواس لكان جسمًا من الأجسام، ولو كان جسمًا من الأجسام لكان من جملة العالم، وكان حادثًا واحتاج إلى محدث، ولو كان ذلك المحدث الثاني أيضًا جسمًا لاحتاج إلى محدث ثالث والثالث إلى رابع، ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية، وهو باطل.
فإذن لا بد للعالم من فاعل ليس بجسم، وإذا لم يكن جسمًا فليس إلى إدراكه لشيء من الحواس سبيل، لأن الحواس الخمس لا تُدرِك إلا الأجسام، أو ما يلحق الأجسام. وإذا كان لا يمكن أن يُحس فلا يمكن أن يتخيَّل؛ لأن التخيل ليس شيئًا إلا إحضار صور المحسوسات بعد غيبتها، وإذا لم يكن جسمًا فصفات الأجسام كلها تستحيل عليه وأول صفات الأجسام هو الامتداد في الطول والعرض والعمق وهو منزَّه عن ذلك وعن جميع ما يتبع هذا الوصف من صفات الأجسام.
وإذا كان فاعلًا للعالم فهو لا محالة قادر عليه وعالم به، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
ورأى أيضًا أنه إن اعتقد قِدم العالم وأن العدم لم يسبقه وأنه لم يزل كما هو، فإن اللازم عن ذلك أن حركته قديمة لا نهاية لها من جهة الابتداء؛ إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه. وكل حركة فلا بد لها من محرِّك ضرورةً، والمحرك إما أن يكون قوة سارية في جسم من الأجسام — إما جسم المحرِّك نفسه وإما جسم آخر خارج عنه — وإما أن تكون قوة ليست سارية ولا شائعة في جسم.
وكل قوة سارية في جسم وشائعه فيه فإنها تنقسم بانقسامه وتتضاعف بتضاعفه، مثل الثقل في الحجر مثلًا، المحرك له إلى أسفل، فإنه إن قُسم الحجر نصفين انقسم ثقله نصفين، وإن زيد عليه آخر مثله زاد في الثقل آخر مثله، فإن أمكن أن يتزايد الحجر أبدًا إلى غير نهاية كان تزايد هذا الثقل إلى غير نهاية، وإن وصل الحجر إلى حدٍّ ما من العِظم ووقف وصل الثِّقَل إلى ذلك الحد ووقف. لكنه قد تبرهن أن كل جسم فإنه لا محالة متناهٍ، فإذن كل قوة في الجسم فهي لا محالة متناهية.
فإن وجدنا قوة تفعل فعلًا لا نهاية له فهي قوة ليست في جسم، وقد وجدنا الفلك يتحرك أبدًا حركة لا نهاية لها ولا انقطاع إذا فرضناه قديمًا لا ابتداء له، فالواجب على ذلك أن تكون القوة التي تحركت ليست في جسمه، ولا في جسم خارج عنه، فهي إذن لشيء بريء عن الأجسام وغير موصوف بشيء من أوصاف الجسمية. وقد كان لاح له في نظره في عالم الكون والفساد أن حقيقة وجود كل جسم إنما هي من جهة صورته التي هي استعادة لضروب الحركات، وأن وجوده الذي له من جهة مادته وجود ضعيف لا يكاد يُدرك فإن وجود العالم كله إنما هو من جهة استعداده لتحريك هذا المحرك البريء عن المادة وعن صفات الأجسام المنزَّه عن أن يدركه حس أو يتطرق إليه خيال، سبحانه. وإذا كان فاعلًا لحركات الفلك على اختلاف أنواعها فعلًا لا تفاوت فيه ولا فتور، فهو لا محالة قادر عليها وعالم بها.
فانتهى نظره بهذا الطريق إلى ما انتهى إليه بالطريق الأول، ولم يضرَّه في ذلك تشككه في قِدم العالم أو حدوثه. وصح له على الوجهين جميعًا وجود فاعل غير الجسم ولا متصل بجسم ولا منفصل عنه ولا داخل فيه ولا خارج عنه؛ إذ الاتصال والانفصال والدخول هي كلمات من صفات الأجسام وهو منزَّه عنها.
ولما كانت المادة في كل جسم مفتقرة إلى الصورة، إذ لا تقوم إلا بها ولا تثبت لها حقيقة دونها، وكانت الصورة لا يصح وجودها إلا من فعل هذا الفاعل؛ تبين له افتقار جميع الموجودات في وجودها إلى هذا الفاعل وأنه لا قيام لشيء منها إلا به، فهو إذن علة لها وهي معلومة له سواء كانت محدثة الوجود بعد أن سبقها العدم أو كان الابتداء لها من جهة الزمان، ولم يسبقها العدم قط، فإنها على كلا الحالتين معلولة ومفتقرة إلى الفاعل متعلقة الوجود به، ولولا دوامه لم تدم ولولا وجوده لم توجد ولولا قِدمه لم تكن قديمة، وهو في ذاته غني عنها وبريء منها! وكيف لا يكون كذلك وقد تبرهن أن قدرته غير متناهية وأن جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها ولو بعض التعلق هو متناهٍ منقطع.
فإذن العالم كله بما في السماوات والأرض والكواكب وما بينها وما فوقها وما تحتها فعله وخلقه ومتأخر عليه بالذات وإن كانت غير متأخرة عليها بالزمان.
كما أنك إذا أخذت في قبضتك جسمًا من الأجسام ثم حرَّكت يدك فإن ذلك الجسم لا محالة يتحرك تابعًا لحركة يدك حركةً متأخرة عن حركة يدك تأخرًا بالذات وإن كانت لم تتأخر بالزمان عنها، بل كان ابتداؤهما معًا فكذلك العالم كله معلول ومخلوق لهذا الفاعل بغير زمان: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
فلما رأى جميعَ الموجودات فعله، تصفحها من بعد ذلك تصفحًا على طريق الاعتبار في قدرة فاعلها، والتعجب من غريب صنعته ولطيف حكمته ودقيق علمه فتبيَّن له في أقل الأشياء الموجودة فضلًا عن أكثرها من آثار الحكمة وبدائع الصنعة ما قضى منه كل العجب، وتحقق عنده أن ذلك لا يصدر إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال وفوق الكمال: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ.
ثم تأمل في جميع أصناف الحيوان كيف أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هداه لاستعماله؟ فلولا أنه هداه لاستعمال تلك الأعضاء التي خُلقت له في وجوه المنافع المقصود بها لما انتفع بها الحيوان وكانت كلًّا عليه، فعلم بذلك أنه أكرم الكرماء وأرحم الرحماء.
ثم إنه مهما نظر شيئًا من الموجودات له حسن، أو بهاء، أو كمال، أو قوة، أو فضيلة من الفضائل — أيَّ فضيلة كانت — تفكَّر وعلم أنها من فيض ذلك الفاعل المختار — جل جلاله — ومن جوده ومن فعله، فعلم أن الذي هو في ذاته أعظم منها وأكمل وأتمَّ وأحسن وأبهى وأجمل وأدوم، وأنه لا نسبة لهذه إلى تلك.
فما زال يتتبع صفات الكمال كلها فيراها له وصادرة عنه ويرى أنه أحق بها من كل ما يوصف بها دونه.
وتتبع صفات النقص كلها فرآه بريئًا منها ومنزَّهًا عنها، وكيف لا يكون بريئًا منها وليس معنى النقص إلا العدم المحض أو ما يتعلق بالعدم؟ وكيف يكون للعدم تعلق أو تلبس بمن هو الموجود المحض الواجب الوجود بذاته المعطي كل ذي وجود وجوده، فلا وجود إلا هو؛ فهو الوجود وهو الكمال وهو التمام وهو الحسن وهو البهاء وهو القدرة وهو العلم وهو هو وكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ.
فانتهت به المعرفة إلى هذا الحد على رأس خمسة أسابيع من منشئه وذلك خمسة وثلاثون عامًا. وقد رسخ في قلبه من أمر الفاعل ما شغله عن الفكرة في كل شيء إلا فيه، وذهل عما كان فيه من تصفح الموجودات والبحث عنها حتى صار بحيث لا يقع بصره على شيء من الأشياء إلا ويرى فيه أثر الصنعة من حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول.
فلما حصل له العلم بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي لا سبب لوجوده، وهو سبب لوجود جميع الأشياء، أراد أن يعلم بأي شيء حصل له هذا العالم، وبأي قوة أدرك هذا الموجود، فتصفح حواسه كلها وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، فرأى أنها لا تدرك شيئًا إلا جسمًا أو ما هو في الجسم، وذلك أن السمع إنما يدرك المسموعات وهي ما يحدث من تموج الهواء عند تصادم الأجسام، والبصر إنما يدرك الألوان، والشم يدرك الروائح، والذوق يدرك الطعوم واللمس يدرك الأمزجة والصلابة واللين والخشونة والملاسة، وكذلك القوة الخيالية لا تدرك شيئًا إلا أن يكون له طول وعرض وعمق.
وهذه المدركات كلها من صفات الأجسام وليس لهذه الحواس إدراك شيء سواها؛ ذلك لأنها قوًى شائعة في الأجسام ومنقسمة بانقسامها فهي لذلك لا تدرك إلا جسمًا منقسمًا؛ لأن هذه القوة إذا كانت شائعة في شيء منقسم فلا محالة أنها إذا أدركت شيئًا من الأشياء فإنه ينقسم بانقسامها، فإذن كل قوة في جسم فلا محالة أنها لا تدرك إلا جسمًا أو ما هو في جسم.
وقد تبيَّن أن هذا الموجود الواجب الوجود بريء من صفات الأجسام من جميع الاتجاهات فإذن لا سبيل إلى إدراكه إلا بشيء ليس بجسم ولا هو قوة في جسم ولا تعلُّق له بوجه من الوجوه بالأجسام ولا هو داخل فيها ولا خارج عنها ولا متصل بها ولا منفصل عنها.
وقد كان تبين له أن إدراكه بذاته، ورسخت المعرفة به عنده؛ فتبين له بذلك أن ذاته التي أدركه بها أمر غير جسماني لا يجوز عليه شيء من صفات الأجسام وأن كل ما يدركه من ظاهر ذاته من الجسيمات فإنها ليست حقيقة ذاته وإنما حقيقة ذاته ذلك الشيء الذي أدرك به الموجود المطلق الواجب الوجود.
فلما علم أن ذاته ليست هذه المتجسمة التي يدركها بحواسه ويحيط بها أديمه هان عنده بالجملة جسمه وجعل يتفكر في تلك الذات الشريفة التي أدرك بها ذلك الموجود الشريف الواجب الوجود ونظر في ذاته تلك الشريفة هل يمكن أن تبيد أو تفسد وتضمحل أو هي دائمة البقاء؟ فرأى أن الفساد والاضمحلال إنما هو من صفات الأجسام بأن تخلع صورة وتلبس أخرى مثل الماء إذا صار هواء والهواء إذا صار ماء والنبات إذا صار ترابًا والتراب إذا صار نباتًا، هذا هو معنى الفساد.
وأما الشيء الذي ليس بجسم ولا يحتاج في قوامه إلى الجسم وهو منزه بالجملة عن الجسمانية فلا يُتصوَّر فساده البتة.
فلما ثبت له أن ذاته الحقيقية لا يمكن فسادها أراد أن يعلم كيف يكون حالها إذا طرحت البدن وتخلت عنه وقد كان تبيَّن له أنها لا تطرحه إلا إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع القوى المدركة فرأى أن كل واحدة منها تارةً تكون مدركة بالقوة وتارةً تكون مدركة بالفعل، مثل العين في حال تغميضها أو إعراضها عن البصر فإنها تكون مدركة بالقوة، ومعنى مدركة بالقوة أنها لا تدرك الآن وتدرك في المستقبل. وفي حال فتحها واستقبالها للمبصر تكون مدركة بالفعل، ومعنى مدركة بالفعل أنها الآن تدرك.
وكذلك كل واحدة من هذه القوى تكون مدركة بالقوة وتكون مدركة بالفعل، وكل واحدة من هذه القوى إن كانت لم تدرك قط بالفعل فهي ما دامت بالقوة لا تتشوق إلى إدراك الشيء المخصوص بها لأنها لم تتعرف به بعدُ، مثل مَن خُلق مكفوف البصر، وإن كانت قد أدركت بالفعل تارةً ثم صارت بالقوة فإنها ما دامت بالقوة تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت إلى المدرك وتعلقت به وحنَّت إليه مثل من كان يصيرًا ثم عمي فإنه لا يزال يشتاق إلى المبصرات.
وبحسب ما يكون الشيء المدرَك أتم وأبهى وأحسن يكون الشوق أكثر والتألم لفقده أعظم؛ ولذلك كان تألم من يفقد بصره بعد الرؤية أعظم من تألم من يفقد شمه؛ إذ الأشياء التي يدركها البصر أتم وأحسن من التي يدركها الشم. فإن كان في الأشياء شيء لا نهاية لكماله ولا غاية لحسنه وجماله وبهائه وهو فوق الكمال والبهاء والجمال وليس في الوجود كمال ولا حسن ولا بهاء ولا جمال إلا صادر من جهته وفائض من قِبله فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد أن تعرف به فلا محالة أنه ما دام فاقدًا له يكون في آلام لا نهاية لها كما أن من كان مدركًا له على الدوام فإنه يكون في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية وراءها وبهجة وسرور لا نهاية لهما.
وقد كان تبين له أن الموجود الواجب الوجود متصف بأوصاف الكمال كلها ومنزه عن صفات النقص وبريء منها.
وتبين له أن الشيء الذي به يتوصل إلى إدراكه أمر لا يشبه الأجسام ولا يفسد لفسادها فظهر له بذلك أن من كانت له مثل هذه الذات المعدة لمثل هذا الإدراك فإنه إذا أُطرح البدن بالموت فإما أن يكون قبل ذلك — في مدة تصريفه للبدن — لم يتعرف قط بهذا الموجود الواجب الوجود ولا اتصل به ولا سمع عنه، فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى ذلك الموجود ولا يتألم لفقده.
وأما جميع القوى الجسمانية فإنها تبطل ببطلان الجسم فلا تشتاق أيضًا إلى مقتضيات تلك القوى ولا تحن إليها ولا تتألم لفقدها.
وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها، سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن.
وإما أن يكون قبل ذلك — في مدة تصريفه للبدن — قد تعرف بهذا الموجود وعلم ما هو عليه من الكمال والعظمة والسلطان والحسن إلا أنه أعرض عنه واتبع هواه حتى وافته منيته وهو على تلك الحال فيحرم المشاهدة وعنده الشوق إليها فيبقى في عذاب طويل وآلام لا نهاية لها.
فإما أن يتخلَّص من تلك الآلام بعد جهد طويل ويشاهد ما تشوَّق إليه قبل ذلك، وإما أن يبقى في آلامه بقاءً سرمديًّا بحسب استعداده لكل واحد من الوجهين في حياته الجسمانية.
وأما مَن تعرَّف بهذا الموجود الواجب الوجود قبل أن يفارق البدن، وأقبل بكلِّيته عليه والتزم الفكرة في جلاله وحسنه وبهائه ولم يعرض عنه حتى وافته منيته، وهذا على حال من الإقبال والمشاهدة بالفعل؛ فهذا إذا فارق البدن بقي في لذة لا نهاية لها وغبطة وسرور وفرح دائم لاتصال مشاهدته لذلك الموجود الواجب الوجود وسلامة تلك المشاهدة من الكدر والشوائب، ويزول عنه ما تقتضيه هذه القوى الجسمانية من الأمور الحسية التي هي — بالإضافة إلى تلك الحال — آلام وشرور وعوائق.
فلما تبيَّن له أن كمال ذاته ولذتها إنما هو بمشاهدة ذلك الموجود الواجب الوجود على الدوام مشاهدةً بالفعل أبدًا حتى لا يعرض عنه طرفة عين؛ لكي توافيه منيته وهو في حال المشاهدة بالفعل، فتتصل لذته دون أن يتخللها ألم. وإليه أشار الجنيد، شيخ الصوفية وإمامهم، عند موته بقوله لأصحابه: هذا وقت يؤخذ منه الله أكبر وأحرم للصلاة.
ثم جعل يتفكَّر كيف يتأتى له دوام هذه المشاهدة بالفعل حتى لا يقع منه إعراض فكان يلازم الفكرة في ذلك الموجود كل ساعة فما هو إلا أن يسنح لبصره محسوس ما من المحسوسات أو يخرق سمعه صوت بعض الحيوان أو يتعرضه خيال من الخيالات أو يناله ألم في أحد أعضائه أو يصيبه الجوع أو العطش أو البرد أو الحر أو يحتاج القيام لدفع فضوله فتختل فكرته ويزول عما كان فيه ويتعذر عليه الرجوع إلى ما كان عليه من حال المشاهدة إلا بعد جهد.
وكان يخاف أن تفجأه منيته وهو في حال الإعراض فيفضي إلى الشقاء الدائم وألم الحجاب.
فساءه حاله ذلك وأعياء الدواء.
فجعل يتصفح أنواع الحيوانات كلها وينظر أفعالها وما تسعى فيه لعله ينظر في بعضها أنها شعرت بهذا الموجود وجعلت تسعى نحوه فيتعلم منها ما يكون سبب نجاته.
فرآها كلها إنما تسعى في تحصيل غذائها ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح والاستظلال والاستدفاء وتجدُّ في ذلك ليلها ونهارها إلى حين مماتها وانقضاء مدتها.
ولم يرَ شيئًا منها ينحرف عن هذا الرأي ولا يسعى لغيره في وقت من الأوقات، فبان له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا اشتاقت إليه ولا تعرفت إليه بوجه من الوجوه، وأنها كلها صائرة إلى العدم أو إلى حال شبيه بالعدم.
فلما حكم على ذلك بالحيوان علم أن الحكم على النبات أولى؛ إذ ليس للنبات من الإدراكات إلا بعض ما للحيوان.
وإذا كان الأكمل إدراكًا لم يصل إلى هذه المعرفة فالأنقص إدراكًا أحرى أن لا يصل مع أنه رأى أيضًا أن أفعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد.
ثم إنه بعد ذلك نظر إلى الكواكب والأفلاك فرآها كلها منتظمة الحركات جارية على نسق ورآها شفافة ومضيئة بعيدة عن قبول التغيير والفساد فحدس حدسًا قويًّا أن لها ذوات سوى أجسامها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وأن تلك الذوات العارفة ليست بأجسام ولا منطبعة في أجسام مثل ذاته هو العارفة، وكيف لا يكون لها مثل تلك الذوات البريئة عن الجسمانية ويكون لمثله على ما به من الضعف وشدة الاحتياج إلى الأمور المحسوسة، وأنه من جملة الأجسام الفاسدة ومع ما به من النقص؟ فلم يَعُقْه ذلك عن أن تكون ذاته بريئة عن الأجسام لا تفسد فتبين له بذلك أن الأجسام السماوية أولى بذلك وعلم أنها تعرف ذلك الموجود الواجب الوجود وتشاهد على الدوام بالفعل؛ لأن العوائق التي قطعت به هو عن دوام المشاهدة من العوارض المحسوسة لا يوجد مثلها للأجسام السماوية.
ثم إنه تفكر: لم اختُصَّ هو من بين سائر أنواع الحيوانات بهذه الذات التي أشبه بها الأجسام السماوية.
وقد كان تبيَّن له أولًا من أمر العناصر واستحالة بعضها إلى بعض وأن جميع ما على وجه الأرض لا يبقى على صورته بل الكون والفساد متعاقبان عليه أبدًا وأن أكثر هذه الأجسام مختلطة مركبة من أشياء متضادة ولذلك تئول إلى الفساد وأنه لا يوجد منه شيء صرفًا، وما كان منها قريبًا من أن يكون صرفًا خالصًا لا شائبة فيه فهو بعيد عن الفساد جدًّا مثل الذهب والياقوت، وأن الأجسام البسيطة صرفة؛ ولذلك هي بعيدة عن الفساد والصور لا تتعاقب عليها.
وتبيَّن له هنالك أن جميع الأجسام التي في عالم الكون والفساد منها ما تتقوَّم حقيقتها بصورة واحدة زائدة على معنى الجسمية — وهذه هي الأسطقسات الأربعة — ومنها ما تتقوم حقيقتها أكثر من ذلك كالحيوان والنبات.
فما كان قوام حقيقته بصور أقل كانت أفعاله أقل وبُعده عن الحياة أكثر؛ فإن عدم الصورة جملة لم يكن فيه إلى الحياة طريق، وصار في حال شبيهة بالعدم. وما كان قوام حقيقته بصور أكثر كانت أفعاله أكثر ودخوله في حالة الحياة أبلغ، وإن كانت تلك الصور بحيث لا سبيل إلى مفارقتها لمادتها التي اختصَّت بها كانت الحياة حينئذٍ في غاية الظهور والكمال والقوة.
فالشيء العديم الصورة جملة هو الهيولى والمادة، ولا شيء من الحياة فيها وهي شبيهة بالعدم، والشيء المتقوم بصورة واحدة هي الأسطقسات الأربعة وهي في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد، ومنها تتركَّب الأشياء ذوات الصور الكثيرة.
وهذه الأسطقسات ضعيفة الحياة جدًّا؛ إذ ليست تتحرك إلا حركة واحدة وإنما كانت ضعيفة الحياة لأن لكل واحد منها ضدًّا ظاهر العناد يخالفه في مقتضى طبيعته ويطلب أن يغير صورته.
فوجوده لذلك غير متمكن وحياته ضعيف والنبات أقوى حياةً منه والحيوان أظهر حياةً منه.
وذلك أن ما كان من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد فلقوته فيه يغلب طبائع الأسطقسات الباقية ويبطل قواها ويصير ذلك المركَّب في حكم الأسطقس الغالب فلا يستأهل لأجل ذلك من الحياة إلا يسيرًا ضعيفًا. وما كان من هذه المركبات لا تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد منها، فإن الأسطقسات أظهر فيه، ولا يستوي عليه أحدها فيكون بعيد الشبه من كل واحد من الأسطقسات وتكون فيه متعادلة متكافئة، فإذن لا يبطل أحدها قوة الآخر بأكثر مما يبطل ذلك الآخر قوته، بل يفعل بعضها في بعض فعلًا متساويًا فلا يكون فعل أحد الأسطقسات أظهر فيه ولا يستولي عليه أحدها فيكون بعيد الشبه من كل واحد من الأسطقسات فكأنه لا مضادَّة لصورته فيستأهل الحياة بذلك.
ومتى زاد هذا الاعتدال وكان أتم وأبعد من الانحراف كان بعده عن أن يوجد له ضد أكثر وكانت حياته أكمل.
ولما كان الروح الحيواني الذي مسكنه القلب شديد الاعتدال؛ لأنه ألطف من الأرض والماء وأغلظ من النار والهواء صار في حكم الوسط ولم يضاده شيء من الأسطقسات مضادة بيِّنة، فاستعد بذلك لصورة الحيوانية فرأى أن الواجب على ذلك أن يكون أعدل ما في هذه الأرواح الحيوانية مستعدًّا لأتم ما يكون من الحياة في عالم الكون والفساد، وأن يكون ذلك الروح قريبًا من أن يقال إنه لا ضد لصورته فيشبه لذلك هذه الأجسام السماوية التي لا ضد لصورها ويكون روح ذلك الحيوان، وكأنه وسط بالحقيقة بين الأسطقسات التي لا تتحرك إلى جهة العلو على الإطلاق ولا إلى جهة السفل، بل لو أمكن أن يُجعل في وسط المسافة بين المراكز وأعلى ما تنتهي إليه النار في جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد لثبت هناك ولم يطلب الصعود ولا النزول.
ولو تحرك في المكان لتحرك حول الوسط كما تتحرك الأجسام السماوية، ولو تحرك في الوضع لتحرك على نفسه وكان كروي الشكل إذ لا يمكن غير ذلك فإذن هو شديد الشبه بالأجسام السماوية.
ولما كان قد اعتبر أحوال الحيوان ولم يرَ فيها ما يُظن به أنه شعر بالموجود الواجب الوجود وقد كان علم من ذاته أنها قد شعرت؛ به قطع بذلك على أنه هو الحيوان المعتدل الروح الشبيه بالأجسام السماوية، وتبين له أنه نوع مباين لسائر أنواع الحيوان، وأنه إنما خُلق لغاية أخرى وأُعِدَّ لأمر عظيم لم يعدَّ له شيء من أنواع الحيوان، وكفى به شرفًا أن يكون أخس جزأيه — وهو الجسماني — أشبه الأشياء بالجواهر السماوية الخارجة عن عالم الكون والفساد المنزَّهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيُّر.
وأما أشرف جزأيه فهو الشيء الذي به عرف الموجود الواجب الوجود، وهذا الشيء العارف أمر رباني إلهي لا يستحيل ولا يلحقه الفساد ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يُدرك بشيء من الحواس ولا يتخيل ولا يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يُتوصَّل إليه به، فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلوم والعلم، لا يتباين في شيء من ذلك؛ إذ التباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها، ولا جسم هنالك ولا صفة جسم ولا لاحق بجسم.
فلما تبين له الوجه الذي اختصَّ به من بين سائر أصناف الحيوان بمشابهة الأجسام السماوية رأى أن الواجب عليه أن يتقبلها ويحاكي أفعالها ويتشبه بها جهده.
وكذلك رأى أنه بجزئه الأشرف الذي به عرف الموجود الواجب الوجود فيه شبه ما منه من حيث هو منزَّه عن صفات الأجسام، كما أن الواجب الوجود منزَّه عنها. ورأى أيضًا أنه يجب عليه أن يسعى في تحصيل صفاته لنفسه من أي وجه أمكن، وأن يتخلق بأخلاقه ويقتدي بأفعاله ويجدَّ في تنفيذ إرادته ويسلم الأمر له ويرضى بجميع حكمه رضًا من قلبه ظاهرًا وباطنًا بحيث يسر به، وإن كان مؤلمًا لجسمه وضارًّا به ومتلفًا لبدنه بالجملة.
وكذلك أيضًا رأى أن فيه شبهًا من سائر أنواع الحيوان بجزئه الخسيس الذي هو من عالم الكون والفساد وهو البدن المظلم والكثيف الذي يطالبه بأنواع المحسوسات من المطعوم والمشروب والمنكوح. ورأى أيضًا أن ذلك البدن لم يخلق له عبثًا، ولا قُرن به لأمر باطل، وأنه يجب عليه أن يتفقَّده ويصلح شأنه، وهذا التفقد لا يكون منه إلا بفعل يشبه أفعال سائر الحيوان.
فاتجهت عنده الأعمال التي يجب عليه أن يفعلها نحو ثلاثة أغراض: إما عمل يتشبه بالحيوان غير الناطق، وإما عمل يتشبه بالأجسام السماوية، وإما عمل يتشبه به بالموجود الواجب الوجود.
- فالتشبه الأول: يجب عليه من حيث البدن المظلم ذو الأعضاء المنقسمة والقوى المختلفة والمنازع المتفننة.
- والتشبه الثاني: يجب عليه من حيث له الروح الحيواني الذي مسكنه القلب، وهو مبدأ لسائر البدن ولما فيه من القوى.
- والتشبه الثالث: يجب عليه من حيث هو؛ أي من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود.
وكان أولًا قد وقف على أن سعادته وفوزه إنما هما في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود حتى يكون بحيث لا يعرض عنه بطرفة عين.
ثم إنه نظر بالوجه الذي يتأتى له به هذا الدوام، فأخرج له النظر أنه يجب عليه الاعتمال في هذه الأقسام من التشبهات: أما التشبه الأول، فلا يحصل له به شيء من هذه المشاهدة بل هو صارف عنها وعائق دونها؛ إذ هو تصرف في الأمور المحسوسة والأمور المحسوسة كلها حجب معترضة دون تلك المشاهدة، وإنما احتيج إلى هذا التشبه لاستدامة هذا الروح الحيواني الذي يحصل به التشبه الثاني بالأجسام السماوية.
فالضرورة تدعو إليه من هذا الطريق ولو كان لا يخلو من تلك المضرة.
وأما التشبه الثاني فيحصل له به حظ عظيم من المشاهدة على الدوام لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ إذ مَن يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة يعقل ذاته ويلتفت إليها حسبما يتبين بعد هذا.
وأما التشبه الثالث فتحصل به المشاهدة الصرفة والاستغراق المحض الذي لا التفات فيه بوجه من الوجوه إلا إلى الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت.
وكذلك سائر الذوات كثيرة كانت أو قليلة إلا ذات الواحد الحق الواجب الوجود — جل وتعالى وعز.
فلما تبين له أن مطلوبه الأقصى هو هذا التشبه الثالث وأنه لا يحصل له إلا بعد التمرن والاعتمال مدة طويلة في التشبه الثاني، وأن هذه المدة لا تدوم له إلا بالتشبه الأول، وعلم أن التشبه الأول، وإن كان ضروريًّا فإنه عالق بذاته وإن كان معينًا بالعرض لا بالذات لكنه ضروري؛ فألزم نفسه ألا يجعل لها حظًّا من هذا التشبه الأول إلا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا بقاء للروح الحيواني بأقل منها.
ووجد ما تدعو إليه الضرورة في بقاء هذا الروح أمرين؛ أحدهما: ما يمده به من داخل ويخلف عليه بدل ما يتحلل منه وهو الغذا.
والآخر: ما يقيه من الخارج ويدفع عنه وجوه الأذى، من البرد والحر والمطر ولفح الشمس والحيوانات المؤذية ونحو ذلك.
ورأى أنه إن تناول ضرورية من هذه جزافًا كيفما اتفق، ربما وقع في السرف وأخذ فوق الكفاية، فكان سعيه على نفسه من حيث لا يشعر، فرأى أن الحزم له أن يفرض لنفسه فيها حدودًا لا يتعداها ومقادير لا يتجاوزها. وبان له أن الغرض يجب أن يكون في جنس ما يتغذى به. وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي تكون بين العودات إليه.
فنظر أولًا في أجناس ما به يتغذى فرآها ثلاثة أضرب؛ أولًا: إما نبات لم يكمل بعدُ نضجه ولم ينتهِ إلى غاية تمامه، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها.
وإما ثمرات النبات الذي قد تمَّ وتناهى وأخرج بذره، ليتكون منه آخر من نوعه؛ حفظًا له، وهي أصناف الفواكه رطبها ويابسها.
وإما حيوان من الحيوانات التي يتغذى بها؛ إما البرية وإما البحرية.
وكان قد صح عنده أن هذه الأجناس كلها من فعل ذلك الموجود الواجب الوجود، الذي تبين له أن سعادته في القرب منه وطلب التشبه به. ولا محالة أن الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكأن ذلك اعتراض على فعل الفاعل. وهذا الاعتراض مضاد لما يطلبه من القرب منه والتشبه به.
فرأى أن الصواب كان له لو أمكن أن يمتنع عن الغذاء جملةً واحدة، لكنه لما لم يمكنه ذلك ورأى أنه إن امتنع عنه آل ذلك إلى فساد جسمه فيكون ذلك اعتراضًا على فاعله أشد من الأول؛ إذ هو أشرف من تلك الأشياء الأُخر التي يكون فسادها سببًا لبقائه.
فاستهل أيسر الضررين وتسامح في أخف الاعتراضين، ورأى أن يأخذ من هذه الأجناس إذا عدمت أيها تيسر له، بالقدر الذي يتبين له بعد هذا. فأما إن كانت كلها موجودة فينبغي له حينئذٍ أن يتثبت ويتخير منها ما لم يكن في أخذه كبير اعتراض على فعل الفاعل؛ وذلك مثل لحوم الفواكه التي تناهت في الطيب وصلح ما فيها من البزر لتوليد المثل على شرط التحفظ بذلك البزر بأن لا يأكله ولا يفسده ولا يلقيه في موضع لا يصلح للنبات مثل الصفاة والسبخة ونحوهما.
فإن تعذر عليه وجود مثل هذه الثمرات ذات اللحم الغاذي كالتفاح والكمثرى والإجَّاص ونحوها، كان له عند ذلك أن يأكل إما من الثمرات التي لا يغذو منها إلا نفس البزر كالجوز والقسطل، وإما من البقول التي لم تصل بعدُ حدَّ كمالها.
والشرط عليه في هذين أن يقصد أكثرها وجودًا وأقواها توليدًا، وألا يستأصل أصولها ولا يُفني بزرها.
فإن عدم هذه فله أن يأخذ من الحيوان أو من بيضه. والشرط عليه في الحيوان أن يأخذ من أكثره وجودًا ولا يستأصل منه نوعًا بأسره. هذا ما رآه في جنس ما يتغذى به. وأما المقدار فرأى أن يكون بحسب ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها.
وأما الزمان الذي بين كل عودتين فرأى أنه إذا أخذ حاجته من الغذاء أن يقيم عليه ولا يتعرض لسواه حتى يلحقه ضعف يقطع به عن بعض الأعمال التي تجب عليه في التشبه الثاني، وهي التي يأتي ذكرها بعد هذا.
فأما ما تدعو إليه الضرورة في بقاء الروح الحيواني مما يقيه من خارج، فكان الخطب فيه عليه يسيرًا؛ إذ كان مكتسيًا بالجلود وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من خارج فاكتفى بذلك ولم يرَ الاشتغال به، والتزم في غذائه القوانين التي رسمها لنفسه وهي التي تقدَّم شرحها.
ثم أخذ في العمل الثاني، وهو التشبه بالأجسام السماوية والاقتداء بها والتقبل لصفاتها وتتبع أوصافها؛ فانحصرت عنده في ثلاثة أضرب: الضرب الأول: أوصاف لها بالإضافة إلى ما تحتها من عالم الكون والفساد، وهي ما تعطيه إياه من التسخين بالذات أو التبريد بالعرض والإضاءة والتلطيف والتكثيف، إلى سائر ما تفعل فيه من الأمور التي بها يستعد لفيضان الصور الروحانية عليه من عند الفاعل الواجب الوجود.
والضرب الثاني: أوصاف لها في ذاتها، مثل كونها شفافة ونيرة وطاهرة منزهة عن الكدر وضروب الرجس، ومتحركة بالاستدارة بعضها على مركز نفسها وبعضها على مركز غيرها.
والضرب الثالث: أوصاف لها بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود، مثل كونها تشاهد مشاهدة دائمة ولا تعرض عنه وتتشوق إليه وتتصرف بحكمه وتتسخر في تتميم إرادته، ولا تتحرك إلا بمشيئته وفي قبضته. فجعل يتشبه بها جهده في كلٍّ من هذه الأضرب الثلاثة.
أما الضرب الأول: فكان تشبهه بها أن ألزم نفسه ألا يرى ذا حاجة أو عاهة أو مضرة أو ذا عائق من الحيوان أو النبات وهو يقدر على أزالتها عنه إلا ويزيلها.
فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب أو تعلق به نبات آخر يؤذيه أو عطش يكاد يفسده أزال عنه ذلك الحاجب إن كان مما يزال، وفصل بينه وبين ذلك المؤذي وتعهده بالسقي ما أمكنه.
ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سَبُعٌ أو نشب به ناشب أو تعلق به شوك أو سقط في عينيه أو أذنيه شيء يؤذيه، أو مسه ظمأ أو جوع تكفَّل بإزالة ذلك كله عنه جهده وأطعمه وسقاه.
ومتى وقع بصره على ماء يسيل إلى سَقْي نبات أو حيوان وقد عاقه عن ممره ذلك عائق من حجر سقط فيه أو جُرف انهار عليه أزال ذلك كله عنه.
وما زال يمعن في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ فيه الغاية.
وأما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه أن ألزم نفسه دوام الطهارة وإزالة الدنس والرجس عن جسمه والاغتسال بالماء في أكثر الأوقات وتنظيف ما كان من أظافره وأسنانه ومغابن بدنه وتطيبها بما أمكن من طيبات النبات وصنوف الدهون العطرة وتعهد لباسه بالتنظيف والتطييب حتى كان يتلألأ حسنًا وجمالًا ونظافة وطيبًا.
والتزم مع ذلك ضروب الحركة على الاستدارة؛ فتارةً كان يطوف بالجزيرة ويدور على ساحلها ويسيح بأكنافها، وتارةً كان يطوف ببيته أو ببعض الكدى أدوارًا معدودة: إما مشيًا وإما هرولة، وتارة يدور على نفسه حتى يغشى عليه.
وأما الضرب الثالث: فكان تشبهه بها فيه أن كان يلازم الفكرة في ذلك الموجود الواجب الوجود ثم يقطع علائق المحسوسات، ويغمض عينيه ويسد أذنيه ويضرب جهده عن تتبع الخيال ويروم بمبلغ طاقته ألا يفكر في شيء سواه ولا يشرك به أحدًا ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها.
فكان إذا اشتد في الاستدارة غابت عنه جميع المحسوسات وضعف الخيال وسائر القوى التي إلى الآلات الجسمانية وقوي فعل ذاته — التي هي بريئة من الجسم — فكانت في بعض الأوقات فكرته قد تخلص عن الشوب ويشاهد بها الموجود الواجب الوجود ثم تكر عليه القوى الجسمانية فتفسد عليه حاله وترده إلى أسفل السافلين، فيعود من ذي قبل. فإن لَحِقه ضعف يقطع به من غرضه تناول بعض الأغذية على الشرائط المذكورة ثم انتقل إلى شأنه من التشبه بالأجسام السماوية بالأضرب الثلاثة المذكورة.
ودأب على ذلك مدة وهو يجاهد قواه الجسمانية وتجاهده وينازعها وتنازعه. وفي الأوقات التي يكون له عليها الظهور وتتخلص فكرته عن الشوب يلوح له شيء من أحوال أهل التشبه الثالث. ثم جعل يطلب التشبه الثالث ويسعى في تحصيله فينظر في صفات الموجود الواجب الوجود.
وقد كان تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل أنها على ضربين: إما صفة ثبوت كالعلم والقدرة والحكمة، وإما صفة سلب كتنزهه عن الجسمانية ولواحقها وما يتعلق بها ولو على بعد.
وأن صفات الثبوت يشترط فيها هذا التنزيه حتى لا يكون فيها شيء من صفات الأجسام التي من جملتها الكثرة فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية ثم ترجع كلها إلى معنًى واحد هي حقيقة ذاته.
فجعل يطلب كيف يتشبه به في كل واحد من هذين الضربين.
أما صفات الإيجاب، فلما علم أنها كلها راجعة إلى حقيقة ذاته وأنه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه؛ إذ الكثرة من صفات الأجسام، وعلم أن علمه بذاته ليس معنًى زائدًا على ذاته بل ذاته هي علمه بذاته، وعلمه بذاته هو ذاته؛ تبين له أنه إن أمكنه هو أن يعلم ذاته فليس ذلك العلم الذي علم به ذاته معنًى زائدًا على ذاته، بل هو هو! فرأى أن التشبه به في صفات الإيجاب هو أن يعلمه فقط دون أن يشرك بذلك شيئًا من صفات الأجسام فأخذ نفسه بذلك.
وأما صفات السلب فإنها كلها راجعة إلى التنزه عن الجسمية، فجعل يطرح أوصاف الجسمية عن ذاته، وكان قد أطرح منها كثيرًا في رياضته المتقدمة التي كان ينحو بها بالتشبه بالأجسام السماوية. إلا أنه أبقى منها بقايا كثيرة، كحركة الاستدارة — والحركة من أخص صفات الأجسام — وكالاعتناء بأمر الحيوان والنبات والرحمة لها والاهتمام بإزالة عوائقها، فإن هذه أيضًا من صفات الأجسام؛ إذ لا يراها أولًا إلا بقوة هي جسمانية ثم يكدح في أمرها بقوة جسمانية أيضًا. فأخذ في طرح ذلك كله عن نفسه إذ هي بجملتها مما لا تليق بهذه الحالة التي يطلبها الآن.
وما زال يقتصر على السكون في قصر مغارته مُطرقًا غاضًّا بصره معرضًا عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركة، فمتى سنح لخياله سانح سواه طرده عن خياله جهده ودافعه وراض نفسه على ذلك ودأب فيه مدة طويلة بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغذى فيها ولا يتحرك.
وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره جميع الذوات إلا ذاته فإنها كانت لا تغيب عنه في وقت استغراقه بمشاهدة الموجود الأول الحق الواجب الوجود.
فكان يسوءه ذلك ويعلم أنه شوب في المشاهدة المحضة وشركة في الملاحظة.
وما زال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد، والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق. وغابت ذاته في جملة تلك الذوات وتلاشى الكل واضمحل وصار هباءً منثورًا ولم يبقَ إلا الواحد الحق الموجود الثابت الوجود.
وهو يقول بقوله الذي ليس معنًى زائدًا على ذاته: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، ففهم كلامه وسمع نداءه ولم يمنعه عن فهمه كونه لا يعرف الكلام ولا يتكلم. واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فلا تعلِّق قلبك بوصف أمر لم يخطر على قلب بشر، فإن كثيرًا من الأمور التي قد تخطر على قلوب البشر يتعذر وصفها فكيف بأمر لا سبيل إلى خطوره على القلب ولا هو من عالمه ولا من طوره؟! ولست أعني بالقلب جسم القلب ولا الروح التي في تجويفه، بل أعني به صورة تلك الروح الفائضة بقواها على بدن الإنسان، فإن كل واحد من هذه الثلاثة قد يقال له قلب ولكن لا سبيل لخطور ذلك الأمر على واحد من هذه الثلاثة ولا يتأتى التعبير إلا عما الخطر علها.
ومن رام التعبير عن تلك الحال فقد رام مستحيلًا، وهو بمنزلة من يريد أن يذوق الألوان المصبوغة من حيث هي الألوان ويطلب أن يكون السواد مثلًا حلوًا أو حامضًا.
لكنا مع ذلك لا نخليك عن إشارات نومئ بها إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل قرع باب الحقيقية؛ إذ لا سبيل إلى التحقق بما في ذلك المقام إلا بالوصول إليه.
فأصغِ الآن بسمع قلبك وحدِّث ببصر عقلك إلى ما أشير به إليك لعلك أن تجد منه هديًا يلقيك على جادة الطريق! وشرطي عليك ألا تطلب مني في هذا الوقت مزيد بيان بالمشافهة على ما أُودعه هذه الأوراق فإن المجال ضيق والتحكم بالألفاظ على أمر ليس من شأنه أن يَلِفظ به خطر.
فأقول إنه لمَّا فني عن ذاته وعن جميع الذوات ولم يرَ في الوجود إلا الواحد القيوم وشاهد ما شاهد ثم عاد إلى ملاحظة الأغيار عندما أفاق من حاله تلك التي هي شبيهة بالسكْر خطر بباله أنه لا ذات له يغاير بها ذات الحق تعالى، وأن حقيقة ذاته هي ذات الحق وأن الشيء الذي كان يظن أولًا أنه ذاته المغايرة لذات الحق ليس شيئًا في الحقيقة، بل ليس ثَمَّ شيء إلا ذات الحق وأن ذلك بمنزلة نور الشمس الذي يقع على الأجسام الكثيفة فتراه يظهر فيها.
فإنه وإن نُسب إلى الجسم الذي يظهر فيه فليس هو في الحقيقة شيئًا سوى نور الشمس.
وإن زال ذلك الجسم زال نوره وبقي نور الشمس بحاله لم ينقص عند حضور ذلك الجسم ولم يزد عند مغيبه.
ومتى حدث جسم يصلح لقبول ذلك النور قَبِله، فإذا عدم الجسم عدم ذلك القبول ولم يكن له معنًى. وتقوَّى عنده هذا الظن بما كان قد بان له من أن ذات الحق — عز وجل — لا تتكثر بوجه من الوجوه وأن علمه بذاته هو ذاته بعينها.
فلزم عنده من هذا أن مَن حصل عنده العلم بذاته فقد حصلت عنده ذاته. وقد كان حصل عنده العلم فحصلت عنده الذات.
وهذه الذات لا تحصل إلا عند ذاتها ونفس حصولها هو الذات فإذن هو الذات بعينها.
وكذلك جميع الذوات المفارقة للمادة العارفة بتلك الذات الحقة التي كان يراها أولًا كثيرة، وصارت عنده بهذا الظن شيئًا واحدًا.
وكادت هذه الشبهة ترسخ في نفسه لولا أن تداركه الله برحمته وتلافاه بهدايته فعلم أن الشبهة إنما ثارت عنده من بقايا ظلمة الأجسام وكدورة المحسوسات فإن الكثير والقليل والواحد والوحدة والجمع والاجتماع والافتراق هي كلها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق — عز وجل — لبراءتها عن المادة لا يجب أن يقال إنها كثيرة ولا واحدة؛ لأن الكثرة إنما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض. والوحدة أيضًا لا تكون إلا بالاتصال. ولا يفهم شيء من ذلك إلا في المعاني المركبة المتلبسة بالمادة.
غير أن العبارة في هذا الموضع قد تضيق جدًّا؛ لأنك إن عبَّرت عن تلك الذوات المفارقة بصيغة الجمع حسب لفظنا هذا أَوْهَمَ ذلك معنى الكثرة فيها وهي بريئة عن الكثرة. وإن أنت عبَّرت بصيغة الإفراد أَوْهَم ذلك معنى الاتحاد وهو مستحيل عليها.
وكأني بِمَن يقف على هذا الموضع من الخفافيش الذين تظلم الشمس في أعينهم يتحرك في سلسلة جنونه ويقول: لقد أفرطتَ في تدقيقك حتى إنك قد انخلعت عن غريزة العقلاء واطَّرحت حكم المعقول؛ فإن من أحكام العقل أن الشيء إما واحد وإما كثير فليتئد في غلوائه وليكفَّ من غرب لسانه وليتهم نفسه وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو بين أطباقه بنحو ما اعتبر به حي بن يقظان حيث كان ينظر فيه بنظر آخر فيراه كثيرًا كثرة لا تنحصر ولا تدخل تحت حدٍّ، ثم ينظر فيه بنظر آخر فيراه واحدًا. وبقي في ذلك مترددًا ولم يمكنه أن يقطع عليه بأحد الوصفين دون الآخر.
هذا، والعالم المحسوس منشأ الجمع والإفراد وفيه الانفصال والاتصال والتحيز والمغايرة والاتفاق والاختلاف، فما ظنه بالعالم الإلهي الذي لا يقال فيه كل ولا بعض، ولا ينطق في أمره بلفظ من الألفاظ المسموعة إلا وتوهم فيه شيء على خلاف الحقيقة، فلا يعرفه إلا من شاهده ولا تثبت حقيقته إلا عند من حصل فيه؟
وأما قوله: حتى انخلعت عن غريزة العقلاء واطَّرحت حكم المعقول، فنحن نسلم له ذلك ونتركه مع عقله وعقلائه فإن العقل الذي يعنيه هو وأمثاله إنما هو القوة الناطقة التي تتصفَّح أشخاص الموجودات المحسوسة وتقتنص منها المعنى الكلي.
والعقلاء الذين يعنيهم هم الذين ينظرون بهذا النظر. والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسدَّ عنه سمعه مَن لا يعرف سوى المحسوسات وكلياتها وليرجع إلى فريقه الذين، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ.
فان كنت ممَّن يقتنع بهذا النوع من التلويح والإشارة إلى ما في العالم الإلهي ولا تحمِّل ألفاظنا من المعاني على ما جرت العادة بها في تحميلها إياه، فنحن نَزيدك شيئًا مما شاهده حي بن يقظان في مقام أولي الصدق الذي تقدم ذكره فنقول: إنه بعد الاستغراق المحض والفناء التام وحقيقة الوصول شاهد الفَلك الأعلى الذي لا جسم له ورأى ذاتًا بريئة عن المادة ليست هي ذات الواحد الحق ولا هي نفس الفَلك ولا هي غيرهما، وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة من المرائي الصقيلة فإنها ليست هي الشمس ولا المرآة ولا هي غيرهما.
ورأى لِذات ذلك الفَلك المفارقة من الكمال والبهاء والحسن ما يعظم عن أن يوصف بلسان ويدق عن أن يكسى بحرف أو صوت، ورآه في غاية من اللذة والسرور والغبطة والفرح بمشاهدته ذات الحق جل جلاله. وشاهد أيضًا للفلك الذي يليه — وهو فلك الكواكب الثابتة — ذاتًا بريئة عن المادة أيضًا، ليست هي ذات الواحد الحق ولا ذات الفلك الأعلى المفارقة ولا نفسه ولا هي غيرها، وكأنها صورة الشمس التي تظهر في المرآة قد انعكست إليها من مرآة أخرى مقابلة للشمس. ورأى لهذه الذات أيضًا من البهاء والحسن واللذة مثل ما رأى لتلك التي للفلك الأعلى. وشاهد أيضًا للفلك الذي يلي هذا وهو فلك زُحَل ذاتًا مفارقة للمادة ليست هي شيئًا من الدواب التي شاهدها قبله ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة مقابلة للشمس، ورأى لهذه الذات أيضًا مثل ما رأى لما قبلها من البهاء واللذة.
وما زال يشاهد لكل فلك ذاتًا مفارقة بريئة عن المادة ليست هي شيئًا من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تنعكس من مرآة على مرآة على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك. وشاهد لكل ذات من هذه الذوات من الحسن والبهاء واللذة والفرح ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إلى أن انتهى إلى عالم الكون والفساد وهو جميعه حشو فلك القمر، فرأى له ذاتًا بريئة عن المادة ليست شيئًا من الذوات التي شاهدها قبلها ولا هي سواها.
ولهذه الذات سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف فم، وفي كل فم سبعون ألف لسان يسبح بها ذات الواحد الحق ويقدسها ويمجدها لا يفتر. ورأى لهذه الذات التي توهَّم فيها الكثرة وليست كثيرة من الكمال واللذة مثل الذي رآه لما قبلها.
وكأن هذه الذات صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج وقد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها.
ثم شاهد لنفسه ذاتًا مفارقة لو جاز أن تتبعض ذات السبعين ألف وجه لقلنا إنها بعضها. ولولا أن هذه الذات حدثت بعد أن لم تكن لقلنا إنها هي! ولولا اختصاصها ببدنه عند حدوثه لقلنا إنها لم تحدث! وشاهد في هذه الرتبة ذواتًا مثل ذاته لأجسام كانت ثم اضمحلت ولأجسام لم تزل معه في الوجود، وهي من الكثرة في حدٍّ بحيث لا تتناهى إن جاز أن يقال لها كثيرة أو هي كلها متحدة إن جاز أن يقال لها واحدة.
ورأى لذاته ولتلك الذوات التي في رتبته من الحسن والبهاء واللذة غير المتناهية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا يصفه الواصفون ولا يعقله إلا الواصلون العارفون.
وشاهد ذواتًا كثيرة مفارقةً للمادة كأنها مرايا صدئة قد ران عليها الخَبث وهي مع ذلك مستدبرة للمرايا الصقيلة التي ارتسمت فيها صورة الشمس ومولية عنها بوجوهها. ورأى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يقم بباله قط، ورآها في آلام لا تنقضي وحسرات لا تنمحي، قد أحاط بها سرادق العذاب وأحرقتها نار الحجاب ونشرت بمناشير بين الانزعاج والانجذاب. وشاهد هنا ذواتًا سوى هذه المعذبة تلوح ثم تضمحل وتنعقد ثم تنحلُّ فتثبَّت فيها وأنعم النظر إليها فرأى هولًا عظيمًا وخطبًا جسيمًا وخلقًا حثيثًا وأحكامًا بليغة وتسوية ونفخًا وإنشاء ونسخًا.
فما هو إلا أن تثبت قليلًا فعادت إليه حواسه وتنبَّه من حاله تلك التي كانت شبيهة بالغشي وزلت قدمه عن ذلك المقام ولاح له العالم المحسوس وغاب عنه العالم الإلهي؛ إذ لم يكن اجتماعهما في حال واحدة إذ الأخرى والدنيا كضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
فإن قلت يظهر مما حكيته من هذه المشاهدة أن الذوات المفارقة إن كانت لجسم دائم الوجود لا يفسد كالأفلاك كانت هي دائمة الوجود، وإن كانت لجسم يئول إلى الفساد كالحيوان الناطق فسدت هي واضمحلت وتلاشت حسبما مثَّلث به في مرايا الانعكاس فإن الصورة لا ثبات لها إلا بثبات المرآة فإذا فسدت المرآة صح فساد الصورة واضمحلت هي، فأقول لك: ما أسرعَ ما نسيت العهد وحِلت عن الربط! ألم نقدم إليك أن مجال العبارة هنا ضيق وأن الألفاظ على كل حال توهم غير الحقيقة، وذلك الذي توهمته إنما أوقعك فيه أن جعلت المثال والممثل به على حكم واحد من جميع الوجوه.
ولا ينبغي أن يُفعل ذلك في أصناف المخاطبات المعتادة، فكيف ها هنا والشمس ونورها وصورتها وتشكلها والمرايا والصور الحاصلة فيها كلها أمور غير مفارقة للأجسام ولا قِوام لها إلا بها وفيها؟! فلذلك افتقرت في وجودها إليها وبطلت ببطلانها.
وأما الذوات الإلهية والأرواح الربانية فإنها كلها بريئة عن الأجسام ولواحقها ومنزهة غاية التنزيه عنها، فلا ارتباط ولا تعلق لها بها. وسواء — بالإضافة إليها — بطلان الأجسام أو ثبوتها ووجودها أو عدمها، وإنما ارتباطها وتعلقها بذات الواحد الحق الموجود الواجب الوجود الذي هو أولها ومبدؤها وسببها وموجدها وهو يعطيها الدوام ويمدها بالبقاء والتسرمد، ولا حاجة بها إلى الأجسام بل الأجسام محتاجة إليها.
ولو جاز عدمها لعدمت الأجسام فإنها هي مباديها، كما أنه لو جاز أن تُعدم ذات الواحد الحق — تعالى وتقدس عن ذلك لا إله إلا هو — لعدمت هذه الذوات كلها ولعدمت الأجسام ولعدم العالم الحسي بأسره ولم يبقَ موجود إذ الكل مرتبط بعضه ببعض.
والعالم المحسوس وإن كان تابعًا للعالم الإلهي شبيه الظل له، والعالم الإلهي مستغنٍ عنه وبريء منه فإنه مع ذلك قد يستحيل فرض عدمه إذ هو لا محالة تابع للعالم الإلهي، وإنما فساده أن يبدَّل لا أن يُعدم بالجملة، وبذلك نطق الكتاب العزيز حيثما وقع هذا المعنى منه في تغيير الجبال وتصييرها كالعهن والناس كالفراش، وتكوير الشمس والقمر وتفجير البحار، يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات.
فهذا القدْر هو الذي أمكنني الآن أن أشير إليك به فيما شاهده حي بن يقظان في ذلك المقام الكريم، فلا تلتمس الزيادة عليه من جهة الألفاظ فإن ذلك كالمتعذِّر.
وأما تمام خبره فسأتلوه عليك إن شاء الله تعالى؛ وهو أنه لما عاد إلى العالم المحسوس وذلك بعد جولانه حيث جال سئم تكاليف الحياة الدنيا واشتد شوقه إلى الحياة القصوى فجعل يطلب العود إلى ذلك المقام بالنحو الذي طلبه أولًا حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولًا ودام فيه ثانيًا مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى عالم الحس. ثم تكلف الوصول إلى مقامه بعد ذلك فكان أيسر عليه من الأولى والثانية وكان دوامه أطول.
وما زال الوصول إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة والدوام يزيد فيه طولًا مدة بعد مدة حتى صار يصل إليه متى شاء ولا ينفصل عنه إلا متى شاء، فكان يلازم مقامه ذلك ولا ينثني عنه إلا لضرورة بدنه التي كان قد قللها حتى كان لا يوجد أقل منها.
وهو في كل ذلك كله يريد أن يريحه الله — عز وجل — من كل بدنه الذي يدعوه إلى مفارقة مقامه ذلك فيتخلَّص إلى لذته تخلصًا دائمًا ويبرأ عما يجده من الألم عند الإعراض عن مقامه ذلك إلى ضرورة البدن. وحينئذٍ اتفقت له صحبة أبسال، وكان من قصته معه ما يأتي ذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ذكروا أن جزيرة قريبة من الجزيرة التي وُلد بها حي بن يقظان على أحد القولين المختلفين على صفة مبدئه انتقلت إليه ملة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء المتقدمين صلوات الله عليهم.
وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التي تعطي خيالات تلك الأشياء وتثبت رسومها في النفوس حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور، فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة وتتقوى وتظهر حتى قام بها ملكها وحمل الناس على التزامها.
وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من أهل الفضل والرغبة في الخير يسمى أحدهما أبسال والآخر سلامان فتلقيا تلك الملة وقبلاها أحسن قبول وأخذا على أنفسهما بالتزام جميع شرائعها والمواظبة على جميع أعمالها واصطحبا على ذلك.
وكانا يتفقهان في بعض الأوقات فيما ورد من ألفاظ تلك الشريعة في صفة الله — عز وجل — وملائكته وصفات المعاد والثواب والعقاب.
فأما أبسال فكان أشد غوصًا على الباطن وأكثر عثورًا على المعاني الروحانية وأطمع في التأويل. وأما سلامان صاحبه فكان أكثر احتفاظًا بالظاهر وأشد بُعدًا عن التأويل وأوقف عن التصرف والتأمل. وكلاهما مُجِدٌّ في الأعمال الظاهرة ومحاسبة النفس ومجاهدة الهوى.
وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد وتدل على أن الفوز والنجاة فيهما، وأقوال أُخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة.
فتعلَّق أبسال بطلب العزلة ورجح القول فيها لما كان في طباعه من دوام الفكرة وملازمة العبرة والغوص على المعاني، وأكثر ما كان يتأتى له أمله من ذلك بالانفراد.
وتعلق سلامان بملازمة الجماعة ورجح القول فيها لما كان في طباعه من الجبن عن الفكرة والتصرف. فكانت ملازمته الجماعة عنده مما يدرأ الوسواس ويزيل الظنون المعترضة ويعيذ من همزات الشياطين. وكان اختلافهما في هذا الرأي سبب افتراقهما.
وكان أَبْسَال قد سمع عن الجزيرة التي ذُكر أن حي بن يقظان تكوَّن بها وعرف ما بها من الخصب والمرافق والهواء المعتدل، وأن الانفراد بها يتأتى لملتمسه، فأجمع على أن يرتحل إليها ويعتزل الناس بها بقية عمره.
فجمع ما كان له من المال واشترى ببعضه مركبًا تحمله إلى تلك الجزيرة وفرَّق باقيه على المساكين وودَّع صاحبه سلامان وركب متن البحر، فحمله الملاحون إلى تلك الجزيرة ووضعوه بساحلها وانفصلوا عنها.
فبقي أبسال بتلك الجزيرة يعبد الله — عز وجل — ويعظمه ويقدسه ويفكر في أسمائه الحسنى وصفاته العليا فلا ينقطع خاطره ولا تتكدر فكرته. وإذا احتاج إلى غذاء تناول من ثمرات تلك الجزيرة وصيدها ما يسد بها جوعته. وأقام على تلك الحال مدة وهو في أتم غبطة وأعظم أُنس بمناجاة ربه.
وكان كل يوم يشاهد من ألطافه ومزايا تُحَفه وتيسيره عليه في مطلبه وغذائه ما يثبِّت يقينه ويقر عينه. وكان في تلك المدة حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة فكان لا يبرح مغارته إلا مرة في الأسبوع لتناول ما سنح من الغذاء؛ فلذلك لم يعثر عليه أبسال بأول وهلة بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة ويسيح في أرجائها فلا يرى إنسيًّا ولا يشاهد أثرًا فيزيد بذلك أنسه وتنبسط نفسه لما كان قد عزم عليه من التناهي في طلب العزلة والانفراد.
إلى أن اتفق في بعض تلك الأوقات أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه وأبسال قد ألمَّ بتلك الجهة، فوقع بصر كل منهما على الآخر. فأما أبسال فلم يشك أنه من العباد المنقطعين وصل تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها. فخشي إن هو تعرض له وتعرف به أن يكون سببًا في فساد حاله وعائقًا بينه وبين أمله.
وأما حي بن يقظان فلم يدرِ ما هو لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوانات التي كان قد عاينها قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف فظن أنها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه مليًّا.
وولَّى أبسال هاربًا منه خيفةَ أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن الحقائق.
فلما رآه يشتد في الهرب، خنس عنه وتوارى له حتى ظن أبسال أنه قد انصرف عنه وتباعد من تلك الجهة. فشرع أبسال في الصلاة والقراءة والدعاء والبكاء والتضرع والتواجد حتى شغله ذلك عن كل شيء.
فجعل حي بن يقظان يتقرب منه قليلًا قليلًا وأبسال لا يشعر به حتى دنا منه، بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، ويشاهد خضوعه وبكاءه، فسمع صوتًا حسنًا وحروفًا منظمة لم يعهد مثلها من شيء من أصناف الحيوان.
ونظر إلى أشكاله وتخطيطه فرآه على صورته وتبيَّن له أن المدرعة التي عليه ليست جلدًا طبيعيًّا وإنما هي لباس مُتَّخذ مثل لباسه هو. ولما رأى حسن خشوعه وتضرعه وبكائه لم يشكَّ في أنه من الذوات العارفة بالحق فتشوق إليه وأراد أن يرى ما عنده وما الذي أوجب بكاءه وتضرعه فزاد في الدنو منه حتى أحس به أبسال فاشتد في العَدْوِ واشتدَّ حي بن يقظان في أثره حتى التحق به — لما كان أعطاه الله من القوة والبسطة في العلم والجسم — فالتزمه وقبض عليه ولم يمكنه من البراح.
فلما نظر إليه أَبْسال وهو مكتسٍ بجلود الحيوان ذوات الأوبار وشعره قد طال حتى جلل كثيرًا منه ورأى ما عنده من سرعة العَدْو وقوة البطش فَرِق منه فَرَقًا شديدًا وجعل يستعطفه ويرغب إليه بكلام لا يفهمه حي بن يقظان ولا يدري ما هو غير أنه يميز فيه شمائل الجزع.
فكان يؤنسه بأصوات كان قد تعلمها من الحيوانات ويجر يده على رأسه ويمسح أعطافه، ويتملق إليه ويظهر البِشر والفرح به. حتى سكن جأش أبسال وعلم أنه لا يريد به سوءًا.
وكان أبسال قديمًا، لمحبته في علم التأويل، قد تعلم أكثر الألسن ومهر فيها، فجعل يكلِّم حي بن يقظان ويسائله عن شأنه بكل لسان يعلمه ويعالج إفهامه فلا يستطيع، وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع ولا يدري ما هو، غير أنه يُظهر له البِشر والقبول، فاستغرب كل واحد منهما أمر صاحبه.
وكان عند أبسال بقية من زاد كان قد استصحبه من الجزيرة المعمورة فقرَّبه إلى حي بن يقظان فلم يدرِ ما هو لأنه لم يكن شاهده قبل ذلك.
فأكل منه أبسال وأشار إليه ليأكل، ففكَّر حي بن يقظان فيما كان ألزم نفسه من الشروط لتناول الغذاء ولم يدرِ أصل ذلك الشيء الذي قُدِّم له، ما هو، وهل يجوز له تناوله أم لا! فامتنع عن الأكل. ولم يزل أبسال يرغِّب إليه ويستعطفه. وقد كان أولع به حي بن يقظان فخشي إن دام على امتناعه أن يوحشه فأقدم على ذلك الزاد وأكل منه.
فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط الغذاء، وندم على فعله وأراد الانفصال عن أبسال والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى مقامه الكريم فلم يتأتَّ له، فرأى أن يقيم مع أبسال في عالم الحس حتى يقف على حقيقة شأنه ولا يبقى في نفسه هو نزوع إليه وينصرف بعد ذلك إلى مقامه دون أن يشغله شاغل، فالتزم صحبة أبسال.
ولما رأى أبسال أيضًا أنه لا يتكلم آمن غوائله على دينه ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين فيكون له بذلك أعظم أجر وزلفى عند الله.
فشرع أبسال في تعليمه الكلام أولًا بأول بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه ويحمله على النطق فينطق بها مقترنًا بالإشارة حتى علمه الأسماء كلها ودرَّجه قليلًا قليلًا حتى تكلم في أقرب مدة.
فجعل أبسال يسأله عن شأنه ومن أين صار إلى تلك الجزيرة فأعلمه حي بن يقظان أنه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أبًا ولا أمًّا أكثر من الظبية التي ربَّته ووصف له شأنه كله وكيف ترقى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول.
فلما سمع أبسال منه وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس العارفة بذات الحق — عز وجل — ووصف ذلك الحق — تعالى وجل — بأوصافه الحسنى ووصف له ما أمكنه وصفه مما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وآلام المحجوبين لم يشك أبسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله — عز وجل — وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خاطره وتطابق عنده المعقول والمنقول وقربت عليه طريق التأويل ولم يبقَ عليه مُشكل في الشرع إلا تبين له ولا مغلق إلا انفتح ولا غامض إلا اتضح وصار من أولي الألباب.
وعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالتزم خدمته والاقتداء به والأخذ بإشارته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي قد تعلمها في ملته.
وجعل حي بن يقظان يستفحصه عن أمره وشأنه فجعل أبسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم وكيف كانت سِيرهم قبل وصول الملة إليهم. وكيف هي الآن بعد وصولها إليهم. ووصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي والجنة والنار والبعث والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط.
ففهم حي بن يقظان ذلك كله ولم يرَ فيه شيئًا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم. فعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به مُحِقٌّ في وصفه صادق في قوله رسول من عند ربه، فآمن به وصدَّقه وشهد برسالته.
ثم جعل يسأله عما جاء به من الفرائض ووضعه من العبادات فوصف له الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبهها من الأعمال الظاهرة فتلقى ذلك والتزمه وأخذ نفسه بأدائه امتثالًا للأمر الذي صحَّ عنده صدق قائله.
إلا أنه بقي في نفسه أمران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما؛ أحدهما: لمَ ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهي وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم واعتقاد أشياء في ذات الحق هو منزَّه عنها وبريء منها، وكذلك في أمر الثواب والعقاب؟ والأمر الآخر: لمَ اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح الاقتناء للأموال والتوسُّع في المأكل حتى يفرغ الناس للاشتغال بالباطل والإعراض عن الحق؟ وكان رأيه هو ألا يتناول أحد شيئًا إلا ما يقيم به الرمق، وأما الأموال فلم تكن لها عنده معنًى.
وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال كالزكاة وتشعبها والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب ذلك كله ويراه تطويلًا، ويقول: إن الناس لو فهموا الأمر على حقيقته لأعرضوا عن هذه البواطل وأقبلوا على الحق واستغنوا عن هذا كله ولم يكن لأحد اختصاص بمال يُسأل عن زكاته أو تُقطع الأيدي على سرقته أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة.
وكان الذي أوقعه في ذلك ظنه أن الناس كلهم ذوو فطر فائقة وأذهان ثاقبة ونفوس حازمة، ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة والنقص وسوء الرأي وضعف العزم وأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا.
فلما اشتد إشفاقه على الناس وطمع أن تكون نجاتهم على يديه حدثت له النية في الوصول إليهم وإيضاح الحق لديهم وتبييه لهم، ففاوض في ذلك صاحبه أبسال وسأله هل تمكنه حيلة في الوصول إليهم فأعلمه بما هم فيه من نقص الفطرة والإعراض عن أمر الله، فلم يتأتَّ له فهم ذلك وبقي في نفسه تعلُّق بما كان قد أمَّله.
وطمع أَبْسال أيضًا أن يهدي الله على يديه طائفة من معارفه المريدين الذين كانوا أقرب من التخلص من سواهم فساعده على رأيه ورأيا أن يلتزما ساحل البحر ولا يفارقاه ليلًا ولا نهارًا لعل الله إن يُسَنِّي لهما عبور البحر فالتزما ذلك وابتهلا الله تعالى أن يهيئ لهما من أمرهما رشدًا.
فكان من أمر الله — عز وجل — أن سفينة في البحر ضلَّت مسلكها ودفعتها الرياح وتلاطم الأمواج إلى ساحلها. فلما قربت من البر رأى أهلها الرجلين على الشاطئ، فدنوا منهما فكلمهم أَبْسال وسألهم أن يحملوهما معهم فأجابوهما إلى ذلك وأدخلوهما السفينة، فأرسل الله إليهم ريحًا رخاء حملت السفينة في أقرب مدة إلى الجزيرة التي أمَّلاها فنزلا بها ودخلا مدينتها.
واجتمع أصحاب أَبْسال به فعرَّفهم شأن حي بن يقظان فاشتملوا عليه اشتمالًا شديدًا وأكبروا أمره واجتمعوا إليه وأعظموه وبجَّلوه. وأعلمه أَبْسال أن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس وأنه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز.
وكان رأس تلك الجزيرة وكبيرها سلامان، وهو صاحب أَبْسال الذي كان يرى ملازمة الجماعة ويقول بتحريم العزلة، فشرع حي بن يقظان في تعليمهم وبث أسرار الحكمة إليهم.
فما هو إلا أن ترقَّى عن الظاهر قليلًا وأخذ في وصف ما سبق إلى فهمهم خلافه فجعلوا ينقبضون عنه وتشمئز نفوسهم مما يأتي به، ويتسخطونه بقلوبهم وإن أظهروا له الرضا في وجهه إكرامًا لغربته فيهم ومراعاةً لحقِّ صاحبهم أَبْسال.
وما زال حي بن يقظان يستلطفهم ليلًا ونهارًا ويبين لهم الحق سرًّا وجهارًا فلا يزيدهم ذلك إلا نبوًّا ونفارًا مع أنهم كانوا محبين للخير راغبين في الحق إلا أنهم لنقص فطرتهم كانوا لا يطلبون الحق من طريقة ولا يأخذونه بجهة تحقيقه ولا يلتمسونه من بابه بل كانوا لا يريدون معرفته من طريق أربابه، فيئس من إصلاحهم، وانقطع رجاؤه من صلاحهم لقلة قبولهم.
وتصفح طبقات الناس بعد ذلك فرأى كل حزب بما لديهم فرحون قد اتخذوا إلههم هواهم ومعبودهم شهواتهم وتهالكوا في جميع حطام الدنيا وألهاهم التكاثر حتى زاروا المقابر، لا تنجع فيهم الموعظة ولا تعمل فيهم الكلمة الحسنة ولا يزدادون بالجدل إلا إصرارًا.
وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها ولا حظ لهم منها، قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم.
فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط بهم وظلمات الحجب قد تغشَّتهم والكل منهم — إلا اليسير — لا يتمسكون من مِلَّتهم إلا بالدنيا وقد نبذوا أعمالهم على خِفَّتها وسهولتها وراء ظهورهم واشتروا بها ثمنًا قليلًا وألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع ولم يخافوا يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار، بان له وتحقق على القطع أن مخاطبتهم بطريق المكاشفة لا تمكن وأن تكليفهم من العمل فوق هذا القدر لا يتفق، وأن حظ أكثر الجمهور من الانتفاع بالشريعة إنما هو في حياتهم الدنيا ليستقيم له معاشه ولا يتعدى عليه سواه فيما اختُصَّ هو به، وأنه لا يفوز منهم بالسعادة الأخروية إلا الشاذ النادر وهو مَن أراد حرث الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن. وأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. وأي تعب أعظم وشقاوة أطم ممَّن إذا تصفَّحت أعماله من وقت انتباهه من نومه إلى حين رجوعه إلى الكرى لا تجد منها شيئًا إلا وهو يلتمس به تحصيل غاية من هذه الأمور المحسوسة الخسيسة؛ إما مال يجمعه أو لذة ينالها أو شهوة يقضيها أو غيطًا يتشفَّى به أو جاهٍ يحرزه أو عمل من أعمال الشرع يتزين به أو يدافع عن رقبته، وهي كلها ظلمات بعضها فوق بعض في بحر لُجِّي وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا.
فلما فهم أحوال الناس وأن أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق علم أن الحكمة كلها والهداية والتوفيق فيما نطقت به الرسل ووردت به الشريعة لا يمكن غير ذلك ولا يحتمل المزيد عليه، فلكل عملٍ رجالٌ وكل ميسر لما خلق له: سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.
فانصرف إلى سلامان وأصحابه فاعتذر عما تكلَّم به معه وتبرأ إليهم منه وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من الْتزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة وقلة الخوض فيما لا يعنيهم والإيمان بالمتشابهات والتسليم لها والإعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات الأمور. وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة والإقبال على الدنيا، وحذرهم منه غاية التحذير. وعلم هو وصاحبه أَبْسال أن هذه الطائفة المريدة القاصرة لا نجاة لها إلا بهذه الطريق وأنها إن رفعت عنه إلى بقاع الاستبصار اختلَّ ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السعداء وتذبذبت وانتكست وساءت عاقبتها. وإن هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين فازت بالأمن وكانت من أصحاب اليمين، وأما السابقون السابقون فأولئك هم المقربون.
فودَّعاهم وانفصلا عنهم وتلطفا في العود إلى جزيرتهما حتى يسَّر الله — عز وجل — عليهما العبور إليها. وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولًا حتى عاد إليه واقتدى به أَبْسال حتى قرب منه أو كاد، وعبدا الله في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين.
هذا — أيدنا الله وإياك بروح منه — ما كان من نبأ حي بن يقظان وأَبْسال وسلامان وقد اشتمل على حظ من الكلام لا يوجد في كتاب ولا يُسمع في معتاد خطاب، وهو من العلم المكنون الذي لا يقبله إلا أهل المعرفة بالله ولا يجهله إلا أهل الغِرَّة بالله.
وقد خالفنا فيه طريق السلف الصالح في الضنانة به والشُّحِّ عليه. إلا أن الذي سهَّل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب ما ظهر في زماننا من آراء مفسدة نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها حتى انتشرت في البلدان وعمَّ ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء — صلوات الله عليهم — وأرادوا تقليد السفهاء والأغبياء أن يظنوا أن تلك الآراء هي الأسرار المضنون بها على غير أهلها فيزيد بذلك حبهم فيها وولوعهم بها.
فرأينا أن نلمع إليهم بطرف من سر الأسرار لنجتذبهم إلى جانب التحقيق ثم نصدهم عن ذلك الطريق، ولم نُخلِّ مع ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيرة من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعًا لمن هو أهله ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه.
وأنا أسأل إخواني الواقفين على هذا الكلام أن يقبلوا عذري فيما تساهلت في تبيينه وتسامحت في تثبيته فلم أفعل ذلك إلا لأني تسنَّمت شواهق يزلُّ الطرف عن مرآها، وأردت تقريب الكلام فيها على وجه الترغيب والتشويق في دخول الطريق.
وأسأل الله التجاوز والعفو، وأن يوردنا من المعرفة به الصفو، إنه منعم كريم. والسلام عليك أيها الأخ المفترض إسعافه ورحمة الله وبركاته.