الأدب المهموس
(١) الشعر المهموس
(١-١) «أخي» لميخائيل نعيمة
أظن أنه قد حان الحين لنوضح ما نبغي من تلك الألفاظ العامة التي كررناها غير مرة طالبين إلى شعرائنا وكتابنا أن يأخذوا بها إذا أرادوا أن يمسوا نفوسنا، نريد أدبًا مهموسًا أليفًا إنسانيًّا، وها نحن اليوم نعرض نموذجًا له.
الهمس في الشعر ليس معناه الضعف، فالشاعر القوي هو الذي يهمس فتحس صوته خارجًا من أعماق نفسه في نغمات حارة، ولكنه غير الخطابة التي تغلب على شعرنا فتفسده؛ إذ تبعد به عن النفس، عن الصدق، عن الدنو من القلوب. الهمس ليس معناه الارتجال فيتغنَّى الطبع في غير جهد ولا إحكام صناعة؛ وإنما هو إحساس بتأثير عناصر اللغة واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها مما تجد، وهذا في الغالب لا يكون من الشاعر عن وعي بما يفعل، وإنما هي غريزته المستنيرة ما تزال به حتى يقع على ما يريد، الهمس ليس معناه قصر الأدب أو الشعر على المشاعر الشخصية، فالأديب الإنساني يحدثك عن أي شيء يهمس به، فيثير فؤادك، ولو كان موضوع حديثه ملابسات لا تمت إليك بسبب.
دعنا ننظر في «أخي» قصيدة ميخائيل نعيمة، فعنده سنجد ما نريد، كنوزًا لا مثيل لها في لغتنا، كنوزًا تثبت في المقارنة لأروع شعر أوروبي.
قصيدة وطنية قيلت في أواخر الحرب الماضية أو بعدها، فهي إذن مما نسميه أدب الملابسات الذي كثيرًا ما نتناقش في إمكان اعتباره أدبًا خالدًا أم لا، وفي فنائه بانقضاء ظروفه أم بقائه بعدها، بل في طبيعة هذا البقاء أهو على نحو ما تبقى الوثائق التاريخية مغبرة في دار المحفوظات أم كأدب دائم الحياة دائم الهز للنفوس:
نفَس مرسل وموسيقى متصلة، فالمقطوعة وحدة تمهد لخاتمتها، وفي هذا ما يشبع النفس، ألا ترى كيف يُعِدُّك للصورة التي يدعوك إلى مشاركته فيها: إذا ضج الغربي بأعماله وقدس موتاه وعظم أبطاله، فلا تهزج للمنتصر، ولا تشمت بالمنهزم؛ لأنه لا فضل لك في هذا ولا ذاك، وما أنت بشيء، وأنت أحق بأن تحزن، وأجدر بأن يخشع قلبك فتركع صامتًا لتبكي موتاك. أية ألفة في الجو، وأية قوة في إعداده!
«أخي!» فأنا إذن شريكه في الإنسانية، وأنا قريب منه وهو قريب مني. ومتى قربت استطاع أن يهمس؛ لأنني سأسمعه، وسيشجيني صوته الرقيق القوي المباشر. وهو ينقل إليَّ قوة إحساسه بفضل قدرته على اختيار اللفظ الذي يستنفد الإحساس: «إن ضجَّ غربيٌّ بأعماله»، والضجيج لفظ بالغ القوة لجرس حروفه وقوة إيحائه، وهو يضج «بأعماله» لا «بالمبالغات الكاذبة». الغربي «يقدس ذكر من ماتوا» وهذه ألفاظ لينة جميلة مؤثرة غنية فيها قدسية الدين، فيها نبل الوفاء، فيها جلال الموت، مشاعر شتًى تجتمع إلى النفس ثروة رائعة، وهو «يعظم بطش أبطاله».
أي قوة في تتابع هذه الحروف المطبقة ظاء ثم طاء وطاء، أعد هذه الجملة على سمعك ثم أنْصِتْ إلى قوتها التي تملأ فمك، كما تملأ الأذن. ثم إن التعظيم غير التحية أو التبجيل، والبطش غير الشجاعة أو الإقدام؛ البطش شيء يصعق وهو يدعوني إلى «ألا أهزج لمن سادوا» والهزج غير الفرح، الهزج غناء، والسيادة لفظ حبيب إلى النفس، مثال تهفو إليه؛ ولهذا فهو يحركها وله فيها أصداء مدوية. «ولا تشمت بمن دانا» والشماتة شعور خسيس تركَّز في هذا اللفظ لكثرة مروره بنفوسنا جميعًا، لفظ يحمل شحنة من الإحساس، وما أحقرها شماتة تلك التي نستشعرها لمن دان! نعم ما أحقر أن نشمت من جثة هامدة، بل مالي أضعف من قوة الشاعر وفي قوله: «من دانا» ما يثيرني فوق ما تثيرني الجثث والأشلاء؟ لأن «من دانا» قد ذل والذل أشق على النفس من الموت، والموت كرامة إذا لم يكن بد من الهوان.
ليس لي إذن أن أهزج لمن ساد، أو أن أشمت بمن دان، وإنما عليَّ أن أركع مثل الشاعر، صامتًا بقلب خاشع دامٍ لنبكي حظ موتانا. وهذه نغمات دينية، ونحن بشر تستطيع أقلامنا أو ألسنتنا أو عقولنا أن تهذي كما تشاء، وأما قلوبنا فمؤمنة، واللهفة إلى الله لا تكاد تفارقنا حتى نعود إليها، وبخاصة إذا قست علينا الحياة أو قسونا نحن على أنفسنا، وها نحن اليوم يقودنا الألم إلى كنف الله، الغربي يقدس ذكر موتاه ويعظم بطش أبطاله، فمالي أنا أهزج لمن ساد وأشمت بمن دان وما أنا بشيء؟ وإنه لعزيز على كل نفس ألَّا تكون شيئًا. وما أخلقني عندئذٍ أن ألتمس رحمة ربي أنا وأخي الذي يجمعني به الألم الإنساني المشترك، ذلك الذي لا يعرف وطنًا ولا قومية، ونحن سنركع صامتين، خاشعة قلوبنا الدامية. أنصت إلى كل هذه الكلمات، أنصت إليها واستشعر جلالها، استشعره بقلبك ثم تصور الصورة وما فيها من جمال التصوف ورهبة الدين ونبل الخشوع الصامت الدامي، سنركع صامتين؛ لأن الله سيعمر قلوبنا، وقد خلت إلا منه، صامتين؛ لأن خشوع الموت سيملؤنا رهبة. وهو بعدُ موتٌ قد حرم حتى العزاء، موت يدمي القلوب ويعقد اللسان؛ لأن إخواننا لم يصيبوا مجدًا ولا رفعوا للوطن ذكرًا، الموت محنة فكيف به إذا لم يخلف عزاء؟ كيف به إذا لم يرفع من قلب أو يخلد أثرًا. تعالَ إذن نبكِ حظ موتانا، حظهم المؤلم التعس المحزن.
وها نحن من جديد — أنا وأخي — نشهد الجندي يعود إلى أوطانه، ومَنِ اغترب يعرف معنى هذه العودة، فما بالك إذا كانت عودة ستنقذك من مخالب الموت؟ والجندي يعود مكللًا بعزة النصر، فيلقي جسمه «المنهوك» في «أحضان خلانه» لست أدري ما مصدر التأثير في البيت، أهو في هذه المدات الثلاث: «منهوك، أحضان، خلان» التي توحي بالتأسي والراحة والحنان، أم هو في إلقاء المنهوك جسمه بين أحضان خلانه؟ جسم منهوك «يلقى» بين الأحضان؛ أي صدق في العبارة! وأي صدق في التأثير! ثم أي تجسيم للصورة التي نكاد نراها! وأما نحن فسنعود من الحرب منهوكين، كما يعود كل الجند، ولكننا لن نلقى خلَّانًا تتلقانا أحضانهم، وأنَّى لنا بهم والجوع لم يترك لنا صحبًا نناجيهم سوى أشباح موتانا؟! أبعد هذا نختلف في حقيقة الشعر، ونروح نهذي بفحولة العبارة وجِدَّة المعنى، وإشراق الديباجة؟ أبعد هذا نتخبط في معنى الأدب، فيذهب البعض إلى أنه الحث على مكارم الأخلاق والعدل الاجتماعي وإصلاح النظم، ويذهب آخرون إلى أنه الأفكار العظيمة والتفكير الكبير والصنعة المدهشة والأسلوب الفني؟!
أية بساطة في التصوير! وأي قرب من واقع الحياة! تلك التي تعضني وتعضك: حياة الفلَّاح الذي يحرث ويزرع بعد أن يبني «كوخه» من جديد. وأما نحن، فقد «جفت سواقينا»! عبارة ساذجة، ولكن كم لها في النفس من أثر، سواقينا التي ألفناها، سواقينا العزيزة التي خلفها لنا الآباء. لقد «هدَّ الذل مأوانا» ثلاثة ألفاظ قوية نافذة جبارة، لا تستطيع أن تستبدل بأي منها غيره دون أن تفسد الشعر وتذهب بقوته، «هد الذل مأوانا»، فهو لم يهدمه، والهدم شيء مبتذل «هد» لفظ موجز مركز موحٍ مصور، وهو قد هد مأوانا، فلم يهد بيتنا ولا دارنا ولا منزلنا ولا قريتنا، بل ولا وطننا، هد مأوانا الذي نحتمي به ونستر خلف جدرانه آلامنا. ثم ما الذي هدَّ هذا المأوى؟ إن الحرب لم تهده، وإلا لبنيناه من جديد، كما سيبني فلاح الغرب كوخه، هدَّه الذل، لفظ دالٌّ ثقيل ثقيل كالصخر، لفظ بغيض، مخيف مثير؛ هد الذل مأوانا. ولم يترك لنا الأعداء غرسًا في أراضينا غير أجياف موتانا، وما آلمه من غرس! تلك الجثث الهامدة، التي ترقد تحت التراب في غير مجدٍ ولا عزاء.
ودع عنك ما في قوله «تم ما لو لم» فهذه أربعة أو خمسة مقاطع متلاحقة منفصلة كثيرة الميمات صعبة النطق في انسجام، ثم انظر فيما دون ذلك «فالبلاء قد عم»، ألفاظ قوية تعبر عن إحساس قوي. وما ينبغي لنا أن نندب وإلا أضفنا الحمق إلى الألم، ومتى أنصتت أذن الغير إلى شكوى الناس، وبخاصة إذا كان هؤلاء الناس ممن لا يهمهم أمرنا؟ وإذن، فليس لي إلا أن آخذ الرفش والمعول، وأن أتبع أخي الذي يدعوني في أسًى إلى أن نواري موتانا! من منا لا يرى هذه الصورة المحزنة؟ من منا لا يحس بدعوة الأخ لأخيه، كي يتبعه وقد سار إلى الجثث الملقاة في العراء في خطًى متثاقلة، معوله على كتفه وأخوه من خلفه واجم النفس حزين الفؤاد؟
والشاعر لا يكتفي بالأموات، بل يهم بضم الأحياء إليهم، وقد تهيأ الجو وحميت الأنفاس فإذا به في القمة، تأتي القصيدة في وحدة موسيقية نفسية تنتظم مقطوعات موحدة لا يزال بعضها يكمل البعض، وتنمو بنمو الإحساس المتصاعد إلى الأشباح حتى تستقر نفس الشاعر:
وهذه هي المقطوعة الأخيرة التي بلغت غاية الألم، ولكني لست أدري هل توحي إلى القارئ بما توحي به إليَّ أم لا؟ إني أحس فيها إثارة لهمتي وتحريكًا لمعاني العزة في نفسي، فأنا لا أومن بأن الدنيا قد خَمَّت بنا، كما خَمَّت بموتانا، وأنا لا أرضى أن أوارى التراب حيًّا، إن في هذه النغمات ما يلهب وطنيتي بل إنسانيتي. وهكذا تنتهي القصيدة إلى هذا الدرس النبيل، والشاعر بعدُ لم يعظ ولم يشدُ بالوطنية، ولا دعاني إلى شيء من تلك المعاني الضخمة التي نتشدق بها، وإنما أشعرني ببؤسي و«ما لي وطن ولا أهل ولا جار»، وما أرتدي إن نمت أو قمت غير رداء الخزي والعار، لقد همَّ الشاعر بأن يدفنني حيًّا، فنفرت عزتي وهاجت شجوني، إنني أقوى نفسًا وأعز جانبًا، وأحمى شجاعة وإن كنت قد أدركت بؤسي، بل ربما لأنني قد أدركت مدى ذلك البؤس.
والآن، أليس هذا هو الشعر المهموس الذي ندعو إليه؟ أليس هذا هو الشعر الإنساني الذي نهتز لنغماته، إن بينه وبين الكثير من شعراء مصر قرونًا، وإنه لمن الظلم أن يرتفع بعد ذلك بصوت يحاول أن ينكر على هؤلاء الشعراء — نُعَيمَة وإخوانه بالمهجر — أنهم هم الآن شعراء اللغة العربية، وأن شعرهم هو الذي سيصيب الخلود.
(١-٢) «يا نفس» لنسيب عريضة
حاولنا أن ندل على ما في قصيدة ميخائيل نعيمة «أخي» من عناصر إنسانية نعتقد أنها كفيلة بأن تضمن لها الخلود بين الناس كافة رغم ما قيلت من ملابسات خاصة، وها هي قصيدة أخرى لنسيب عريضة نحللها؛ لأنها تحرك عدة مسائل لا بد من أن نجلوها بضرب المثل: منها الغموض والوضوح، ومنها مشكلة العبارة وما يأخذه البعض ظلمًا على شعراء المهجر من هلهلة النسيج. ثم إن فيها إشارات كثيرة إلى نظريات فلسفية معروفة، ومع ذلك استطاع الشاعر بقوة إحساسه وروعة صوره أن ينجو بها عن استواء الأفكار المجردة. وأخيرًا، فيها ما يمكِّننا من معالجة العناصر الموسيقية في الشعر العربي وكيفية استخدامها.
القصيدة حديث يخاطب به الشاعر نفسه:
وها نحن منذ المقطوعة الأولى في جوٍّ شعري، وننظر في السؤال: «يا نفس ما لك والأنين؟» فلا ندري أهو عتاب أم لوم أم شفقة؟ وهي تتألم وتؤلم على نحو لا نعلمه، ولكننا نحس بصدق الشاعر، وهي تعذب القلب بالحنين وتكتمه ما تقصد، حنين إلى المجهول، ومن عجب أن تكتم النفس ما تجهل، ثم هل هي غير القلب؟ هل هي تعارضه؟ أسئلة لا محل لإلقائها، وما يجوز أن نبحث لها عن حلول توضحها، وإلا ضاع جمال الشعر، حالة نفسية غامضة لا نستطيع إدراكها بعقولنا؛ لأنها أعمق من أن تُجتلى وأغنى من أن تنثر، نفس تشع.
وبذا نسير إلى قلب الفكرة الفلسفية التي ترى الجسم سجنًا للنفس: فكرة إغريقية قديمة، ومع هذا تكسبها الحركة خفة الشعر «الليل مر على سواك» تقرير يعقبه: «أفما دهاهم ما دهاك؟!» استفهام لا نستطيع أن ندرك معناه، وإن كان في السؤال الآخر: «فلم التمرد والعراك؟!» ما يشعر بأنه إنكاري. وأخيرًا تأتي القافلة: «ما سور جسمي بالمتين» منفية مؤكدة في قمة يقف عندها النفَس ويطمئن السيل الموسيقي، وهكذا بالمرور من الخبر إلى الإنشاء ثم العودة إلى الخبر، قد استطاع الشاعر أن يخلق تلك الحركة التي تحاكي ما بنفسه من اضطراب.
وتنصت إلى الموسيقى، فإذا هي أجمل ما في القصيدة. وفي الحق أن شعراء المهجر قد جددوا موسيقى الشعر العربي تجديدًا يستحق أن نطيل فيه النظر، ونحن الآن إزاء بحر تقليدي «مجزوء الكامل»، ولكن انظر كيف استخدمه الشاعر، فالوحدة لم تعد البيت بل المقطوعة «قد نام … تشعرين». وفي كل مقطوعة نجد أربعة أشطر، الثلاثة الأول يقفي بعضها البعض، وأما الشطر الرابع الذي نسميه «القافلة» فيقفي القوافل الأخرى، وعلى هذا النحو تطرد القصيدة. كل وحدة تتكون إذن من ثماني تفاعيل تسيل إلى أن توقفها القافلة النونية الساكنة، ثم تعود فتستأنف سيرها في المقطوعة التالية إلى أن تقف.
وكان من دقة إحساس الشاعر أن وقع على الكامل المتساوي التفاعيل؛ وذلك لأن الإضمار (إسكان الثاني المتحرك) ليس في الحقيقة زحافًا، وهو لا ينقص شيئًا من كم التفعيلة، وإنما يستبدل مقطعين قصيرين «متفاعلن» بمقطع واحد مغلق «متفاعلن» يبلغ في الكم مبلغ المقطعين الآخرين، وبهذا لا يتغير في التفعيلة المزحفة غير الإيقاع بسبب التسكين، وأما طول التفعيلة فيظل ثابتًا. وإذا ذكرنا أن الإضمار هو الزحاف الكثير الدخول على الكامل، وأن الطي (حذف الرابع الساكن) لا يكاد يجتمع إلى الإضمار إلا في التفعيلة الأولى من الشطر الثاني، وأنه في تلك الحالة يغلب أن يعوضه الترفيل (زيادة مقطع في تفعيلة القافية)، إذا ذكرنا كل ذلك أدركنا أن هذا البحر من البحور المتساوية التفاعيل على نحو مطرد، والكامل والوافر هما البحران الوحيدان اللذان تنطبق عليهما تلك الصفة، ولربما كان في ذلك سبب لتسمية الخليل لهما بهذين الاسمين. ونضيف أننا لم نعثر بطي في القصيدة التي ندرسها الآن، وإذا صحت ملاحظتنا وضح السر في إيحاء هذا الوزن بالاطراد، وكل اطراد يلائم الإضناء والحيرة اللذين يزيدهما وضوحًا طول المقطوعة، وهي لا تقف عند سكون القافلة إلا لتعود من جديد، كأمواج البحر التي تتحطم تباعًا مرتدة عند صخر الشاطئ، وهذا يماشي بناء القصيدة المكونة من فروض متتابعة وموجات نفسية متجددة، وهذه وتلك يطول نفسها ويطرد، ثم تفنى ليعود غيرها إلى الظهور؛ توفيق رائع إلى الملاءمة بين موسيقى الشعر وموسيقى الإحساس، بين الصياغة ونفس الشاعر.
ثم إن الاطراد هنا لا ينتهي إلى الفقر والإملال كما يحدث أحيانًا، فقد عرف الشاعر كيف يتجنبه بالحركة الشعرية، ثم بتقسيمه لتفاعيله الثمانية إلى أربع وحدات، ثلاث منها تفصل وتجمع بينها القوافي، ثم يأتي سكون القافلة فيفصل ويجمع بين وحدات القصيدة كلها.
وننظر في اللفظ فتعرض لنا مشكلة طالما أثرناها في مصر هي أخذنا على شعراء المهجر ما نسميه ضعف العربية في الأسلوب، وهذه تهمة يجب أن نقلع عنها؛ لأنني كلما أمعنت النظر في ألفاظهم وتراكيبهم لم أجد لها مثيلًا في شعرنا الحديث، من حيث الدقة والقدرة على إثارة الإحساس. نعم، قد يخطئون في النحو أو الصرف، ولكن هذه في نظري أشياء نادرة لها نظائرها عند أكبر الكتاب، وإلى اليوم لا يزال الفرنسيون يضربون المثل بفولتير في الخطأ في الإملاء، وإنما يعيب الأسلوب عدم التحديد أو العجز عن الإيحاء، وتلك عيوب لا وجود لها في شعرهم. أما استخدامهم للألفاظ المألوفة فلست أرى فيه موضع ضعف بل قوة؛ وذلك لأن الألفاظ المألوفة، ولا أقول المبتذلة، هي التي تستطيع في الغالب أن تستنفد إحساس الشاعر، كما أنها أقدر من الألفاظ المهجورة على دفع مشاعرنا إلى التداعي، وقد كثر استعمالنا لها في الحياة، فتحددت معانيها، وتلونت بلون نفوسنا، فحملت شحنة عاطفية، وهذه صفات من أولى خصائص الأسلوب الشعري، بل أسلوب الأدب بوجه عام. وها نحن نسمع عريضة يقول: «أفما دهاهم ما دهاك»، فندرك «الداهية» التي لها وقع متميز في نفوسنا.
وهذا بلا ريب إسراف في الصور، لا ننكر أنه قلق، وأن نغماته أقوى من الهمس، فيه مبالغة تخرجنا عن الألفة، ونحن لا نكاد نتصور كيف يصف نوح النفس إلى أن يكون «بوق النشور ليوم الدين» ولا نرى ضرورة لهذا العنف في التعبير، ولكن هذا قليل.
أسئلة متدفقة توحي بما في نفس الشاعر من حيرة، وصور جميلة دالة، النفس المضطربة كفريسة بين الذئاب، النفس التي ترجف كحمامة بين الرياح قد بلَّ المطر جناحها، وفي اختيار الألفاظ ذوق دقيق ودليل واضح على أن الشاعر يرى ما يقول، وهل أدل على تلك الرؤية الشعرية من أن نراه بعد أن يصف حالات النفس يلتفت إليها فجأة فيخاطبها وكأنها قد تجسمت أمامه فريسة تضطرب بين الذئاب أو حمامة بللها المطر وسط الرياح:
والشاعر لا يحس في وضوح بغير حزنه، وأما السر في ذلك فتراه يتساءل عنه وهو بعد لا يعلم أتعرفه نفسه أم لا، أوَلا تراه يقول: «لأعي صدى ما قد تعين»؟ فهي قد تعي شيئًا وهو — إذا أباحت له سرَّها — لن يستطيع أن يعي منه غير الصدى.
وهنا ندخل في سلسلة من الفروض الشعرية: يريد بها الشاعر أن يحاول الفهم، وهو في الحق يكاد يكون يائسًا منه، وإنما هو إحساس نفس قلقة تطمع فيما لا يُرام، وكأني بها قد استشرفت يومًا أسرار الوجود. ثم كم في التفاته «يا نفس كم ذا تطمحين؟!» من نفاذ يصل إلى القلوب!
وتلك نغمات أفلاطون الشعرية الجميلة يوم حدثنا عن هبوط النفس من عالم المُثُل الذي لن تستطيع أن تغالب الحنين إليه. ولكم جرت بذلك أنفاس الشعراء منذ «هَبَطَتْ إليك من المحلِّ الأرفع» إلى «الإنسان ملك هوى، فما يزال يذكر السماء»، منذ ابن سينا إلى لامرتين!
فروض لا شك من تصورات العقل، ومع ذلك تنجو بها الصور من البرود، فالنفس تطل من سجنها نحو الحِمى «متلفتة» في لهفة، وهي تحلق في الهواء، كمن يبحث عن مفقود لا يجده، فتعود حزينة («ثكلى تندب» مسرفة مبتذلة). وهي تسلك في عالم الخيال («طرق» لفظة نثرية)، دربًا يقود إلى المحال. ثم تحط رحالها عند سراب «يمتص رِيَّ الصادرين»، وهذه صورة بالغة الجمال والقوة، فالسراب الذي وصلت إليه لم يكتفِ بأن أسفر عن خلاء، بل سلبها ما تملك وامتص ريها، فصدرت عنه أشد ظمأ منها عند الورود.
استقصاء للصورة واستمرار فيها، وهو مذهب قديم عند كبار الشعراء؛ إذ نراه من أهم خصائص شعر هوميروس الذي يشبه البشر بأوراق الخريف في إحدى أغانيه، فيرى في تساقطها ما يحكي فناءنا، ثم يتابع التشبيه، فيذكر نهوض الأجيال بعضها في أعقاب بعض، كما تخلف الأوراق غيرها … وهو واضح عند بعض شعرائنا كذي الرُّمَّة الذي يصف إشعال النار فيستقصي المراحل ويتابع الصورة، وكابن الرومي الذي يضرب المثل بوصفه لصانع الرقاقة. ومع ذلك فثمة مفارقات، فوصف ذي الرمة لإشعال النار، ووصف ابن الرومي لدحو الرقاقة حرص على التفاصيل التي تتمم اللوحة وتكسبها غنى الواقع، وأما استمرار هوميروس أو استمرار عريضة الآن فهو في خدمة الفكرة أو الإحساس، وهذا أسلوب في الكتابة له جماله:
وهكذا تأتي الصورة الجميلة الدالة، ينتزعها الشاعر من معطيات حواسه المباشرة، فتكسو الفكرة بأغشية الشعر، وتنشر أمامنا مناظر يدركها الخيال، بل تهتز لها النفس.
وننتقل إلى فرضٍ آخر يودعه الشاعر صورًا جديدة:
وهنا نلمس الإغراب ونلمس المعاني البعيدة والصورة المقتسرة، «فالجلوس في سجن الرجاء» ليس من الشعر القريب الحبيب إلى النفس، ولكن لِنَعْدُ عن ذلك إلى ما يليه:
وننظر، فإذا بالصورة الجميلة المألوفة «لوحت باليد والرداء» تتجسم أمام أبصارنا، وبذلك ترفع من سقطة البيت السابق. وأما الكساء الذي يحاك من ماء وطين فصورة بعيدة، وأصدق الصور ما كانت ممكنة في الواقع إن لم تنتزع منه فعلًا.
وهذا استمرار لفكرة النفس السجينة التي لو بلا الله أمرها لأخذته بأصحابها الشفقة فبكى؛ النفس في الجسم تصارعه كالجنين في الرحم، معنًى بعيد وصورة بعيدة، وإن لم تخلُ من قوة.
والآن تنتهي الأفكار الفلسفية وما جرَّت الشاعر إليه من صور بعضها قوي موفق وبعضها مقتسر بعيد، وذلك لما في طبيعة شعر الفكرة من مجازفة خطرة لم يسلم منها أحد من الشعراء فيما أعتقد، حتى ولو كان الشاعر شيلي أو فليري.
ولكننا لا نكاد نصل إلى الإحساس الخالص والصور التي تصاغ للعبارة عنه حتى نرى في نسيب عريضة شاعرًا كبيرًا:
ونمر من الإحساس إلى الصور العاطفية فيبلغ الشاعر قمة المجد:
ها هو الشاعر قد انطلقت نفسه وتحركت حياته كلها، ونسيب عريضة من أولئك المجاهدين الذين نزحوا إلى العالم الجديد يجالدون في سبيل الحياة، وفي قسوة تلك المجالدة ما لا يترك لهم راحة، ولا سبيل إلى الأخذ من لذات الوجود بنصيب. مأساة خليقة بأن تنطقهم بأنبل الشعر، ونسمعه فإذا هو كخير ما نعرف من شعر رومانتيكي، لا شعر أولئك الشعراء الصغار الذين اتخذوا من الرومانتيكية مذهبًا أدبيًّا يتصنعون فيه النحيب، بل كبارهم الذين صدروا عن حالات نفسية صادقة.
ثم أي بساطة مؤثرة في هذه الصورة الجميلة: صورة القلب الذي يبسط يديه كالطفل، والشاعر الذي يرجو نفسه المأخوذة بروعة الجهاد والتحليق في عالم المثل «أن تمد إليه يدًا كالأمهات إلى البنين»! صورة ساذجة، ولكن كم فيها من إنسانية، كم فيها من جمال، كم فيها من قرب إلى النفوس!
وتستمر الصورة:
ومن منا لا تهزه هذه الصورة الأخيرة: صورة الغلام الذي يحبو على باب السنين ولمَّا يلج أبوابها وقد جعلت منه النفس القاسية شيخًا.
وهنا يجب أن نقف عند البيت الأول، فالغلام قد أصبح كحفار القبور، وهذا تشبيه يقبض النفس ويهز كيانها والحفار يئد العواصف، يئدها، وإذن فهي لا تكاد تنمو، بل لا تكاد تظهر حتى يسارع بها إلى الدفن حية، والعواصف شيء قوي مدوٍّ؛ لأنها شهوات القلب المكبوت الذي يهم بالانفجار كلما طال به الضيق، أليس في وأد العواصف قوة الشعر؟ وهو يئدها في الصدور.
ولقد يكون في مطاعنة الشجون واستحالة الجراح عيونًا يسير بها الشاعر في سبل المنون سير الظافرين — الذين يعتبرون الموت غنيمة — من القوة ما يكاد يمس المبالغة البعيدة أو تكلف الأداء، ولكننا مع ذلك لا ننفر من الصورة.
وهو رغم إحساسه بالظفر لا يلبث عندما يصل إلى نهاية الشوط أن يضطرب بصره فتُطلى رؤاه بالسواد، وقد عاوده ضعف البشر فإذا به يقاد بعكاز الحنين. وهذه حقائق نفسية صادقة رغم ما حولها من ضباب الشعر، وفي طرق أدائها بساطة جميلة وبخاصة في «عكاز الحنين» يتكئ عليه متحسسًا سبيله. ونحن إذا جمعنا بين هذه المقطوعة وسابقتها استطعنا أن نفهم إسرافه في الأولى؛ إذ ندرك ما يرمي من إظهار المكابرة التي تموه ما فينا من ضعف.
في البيت الأول صورة دالة، صورة الشاعر وهو يتلمس النور البعيد بأنامل الفكر الشريد، تجسيم جميل يتركز في «الأنامل التي تتلمس». وفي البيت الثاني يتحدث الشاعر عن نشيده، ولكنه غير حديث شعرائنا عن قصائدهم الخطابية القيمة، فالنشيد يسيل من فمه، كما تسيل الدماء من الطعين؛ يسيل لأن الشاعر يتألم، لا لأنه يريد أن يخلع الخلود على عباد الله، أو لأن الآلهة قد اختصته بملكة الشعر.
وبذلك يحدثنا عما نحسه في نشيده: صوت الألم، ورثاء يبكي به الأمل الدفين، وأخيرًا نعود إلى الفكرة فإذا بالروح تصعد:
وتعود الصور — وقد بعدنا عن حياتنا الأرضية — فترفع من استواء الفكرة، كما قلنا «فالدم على قميص النفس»، و«العين التي ستنظر بها إذا دعيت إلى الدخول أمام الله»، كل هذه صور قريبة تزيد من روحانية هذه الخاتمة الجميلة، وتقوي من إحساسنا بذلك الصراع العنيف الذي يدور بنفس الشاعر، وقد ألقت به الحياة إلى الجهاد المستمر.
وأخيرًا — وهذا هو السبب المهم — لأنهم قوم مثقفون، قد أمعنوا النظر في الثقافات الغربية التي لا غنى لنا اليوم عنها، وعرفوا كيف يستفيدون منها بعد أن هضموها في لغاتها الأصلية. فهم إذن ليسوا كأولئك الذين يسرفون في الغرور عن جهل وكسل، ظانين أن الأدب في متناول كل إنسان وأن كل كلام منظوم شعر. الثقافة هي التي تشع في ألفاظ هؤلاء الشعراء، وإنك لتقرأ الجملة لهم فتحس أن خلفها ثروة من التفكير والإحساس.
(٢) النثر المهموس
(٢-١) «أمي» لأمين مشرق
بلغني أن أمين مشرق قد قتلته سيارة بأمريكا فحزنت، وراجعت نفسي في سر ذلك الحزن، وهذا رجل ما رأيته قط، ولا حدثني عنه أحد، وإنما هي مصادفات الحياة ساقتني وأنا طالب إلى كتاب به مختارات لشعراء المهجر. فتحت لنغماتهم نفسي، واصطحبت الكتاب إلى أوروبا سنوات، وعدت بكتابي القديم، كما ذهبت به، وإن تكن جلدته قد ضاعت وأوراقه الأولى قد تآكلت، وأصبحت لا أعرف له عنوانًا. ولكنني أفزع إليه كلما ضاق الصدر أو عض ألم، فأجد بين صفحاته من عبير الروح ما يحيي الإيمان.
أمين مشرق بين من يضمهم كتابي، له فيه صفحات من الشعر والنثر، كما آنست من وحشتي ورفعت من قلبي، أنه صديق قديم.
لقد سبق أن تحدثت عن «الشعر المهموس»، فتساءل نفر عن موضع الهمس من الأدب، ولكنني عندما أستمع لهؤلاء الشعراء لا أفكر في الأدب، إنهم يضعوننا أمام الحياة، ويسرُّون في همس صادق عميق، وهذا «نسيب عريضة» صاحب «يا نفس» التي خالفني في جمالها البعض، أعود أنصت إليه يهدهد طفله في «ترنيمة سرير» حزينة بموسيقاها المطردة.
لست أدري بأي صفة أخص شاعرًا يقول بيتًا كهذا، لكن تأمل قليلًا في فرضه: لو أن الدمع يغذونا أكلنا بعض بلوانا أنا وطفلي الجائع فما نملك غير البكاء، ولكنه لم يقل: «لو أن الدمع يغذونا لأكلناه»، ولو أنه فعل لظل رغم قوته دون تلك القدرة الخارقة. أي محنة أقسى من أن يعز على الرجل حتى التغذي ببلواه؟!
جددت ذكر الشعر المهموس؛ لأنني رأيت أن خصائصه ليست وقفًا على الشعر، هناك أيضًا نثر صادق كالأسرار يتهامس بها الناس، تسمعه فيخيل إليك أنه آتٍ من أعماق الحياة، مثله كمثل نواقيس تلك المدينة التي جرت إحدى أساطير بريتانيا الفرنسية — فيما يُحدِّث رينان — أن المياه قد ابتلعتها، ولكنها لم تسكت أجراس كنائسها التي تدق من حين إلى حين، وبخاصة عندما يستجم البحر فيسقط أهل الشاطئ نغماته المقدسة.
من هذا النثر مناجاة «مشرق» لأمه، وقد قست به الغربة:
«يا علة كياني ورفيقة أحزاني، يا رجائي في شدتي وعزائي في شقوتي، يا لذتي في حياتي وراحتي في مَمَّاتِي، يا حافظة عهدي ومطية سهدي، وهادية رشدي، يا ضاحكة فوق لحدي، أمي، وما أحلاك يا أمي!»
«إذا تركني أهلي فأنت لا تتركيني، وإن ابتعد عني أحبابي فأنت لا تبتعدين، وإن نقمت عليَّ الحياة جميعها فأنت تصفحين وترحمين. أنت يا مُسكِّنة وجعي وألمي، ومبيدة بؤسي وهمِّي، أنت، وما أصفاك يا أمي!»
قد غبت عنك يا أمي، فغاب عن عيني وجهك الباسم بملامحه الرقيقة الرزينة، ومعانيه الدقيقة الحنونة. وتراكمت على رأسي هموم الحياة بضجيجها الهائل، فضعضعت فكري، وزلزلت قلبي، وتقاذفتني أمواج المتاعب والشقاء، فغرت في لجج طامية وظلمات داجية. وبعينين غشَّى عليهما الرعب نظرت من أعماق قنوطي فرأيت وجهك اللطيف الثابت يبتسم إليَّ من الأقاصي البعيدة، فبكيت وبكيت، وصرخت: «يا أمي!»
آه، ما أقسى الغربة وما أمر الوحشة! قد كرهت البقاء يا أمي، واشتاقت نفسي إلى ماضيها الأمين، قد كرهت التمشي بين القصور الفخمة وروائح العطور الفائحة من التماثيل المتخطرة في «برودواي» واشتاقت حواسي إلى رائحة الأمومة المنتشرة من «فسطانك» العتيق، فقد كرهت «نيويورك» وكرهت «أمريكا» وكرهت العالم، ولم يبقَ في الحياة إلاك، إلاك يا أمي.
في المساء عندما أنطرح على فراشي الخشن القاسي، أذكر يديك اللطيفتين الناعمتين. وفي الليل لمَّا تمتزج أفكاري بأبخرة الأحلام أشعر بقدميك الصغيرتين تنقران الأرض حول سريري. وفي الصباح أفتح عيني لأراك، فلا أرى غير جدران غرفتي السوداء، ولأسمعك، فلا أسمع غير أصوات الغرباء. وفي النهار أمشي بين النساء مفتشًا متسائلًا: «أيتها النساء، هل رأيتنَّ أمي؟»
جراء الكلاب تجلس في أحضان أمهاتها، وفراخ الدجاج تحتمي تحت أجنحة أمهاتها، وغصون الأشجار تبقى معانقة أمهاتها، وأنا — أنا وحدي — بعيد عنك، مشوق إليك يا أمي.
إذا مت، يا أمي، إذا قتلني وجدي ودفنت آمالي في هذه الأرض القاسية الغريبة، فاجلسي عند الغروب قرب غابة السنديان وأصغي، هناك روحي امتزجت بنسمات الغابة، وأشجارها يرتلن بهدوء متمايلات مرددات: «يا أمي، يا أمي، يا أمي!»
هذه أنفاس «أمين مشرق» أعيد قراءتها، ثم أستشعر ما فيها من حرارة ونبل. أوَما تحس بروح جميلة يحزنك أن مات صاحبها، مات بعيدًا عن «غابة السنديان». وأي قرار أجمل من «أمي» يتردد من حين إلى حين، فكأنك تلقى واحات بصحراء محرقة، واحات ناعمات الظلال «ما أحلاك يا أمي، وما أصفاك يا أمي … وصرخت: يا أمي، هل رأيتنَّ أمي؟ إني مشوق إليك يا أمي …» كم تسكن النفس إلى هذا القرار. وماذا يذكر عن أمه؟ يذكر فتات الحياة التي عرف كبار الشعراء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة. يذكر يديها اللطيفتين الناعمتين، ووقع قدميها الصغيرتين حول سريره، يذكر «فسطانها» العتيق وبيتهم الصغير المنفرد. ومن قبلُ ما حزَّ في نفس «كوبر» أن كانت أمه إلى مهده في ظلام الليل تغطيه؛ خوفًا من أن يصيبه برد. هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تحركنا؛ لأنها نسيج الحياة، نسيجها الحقيقي، وبهذه التوافه عبر الموهوبون من الأدباء عن أكبر المشاعر. وموضع الإعجاز هو أن نقول الأشياء الكبيرة بألفاظ صغيرة، ولا تحسبن أن هذا أمر هين، فليس أشق من أن نلاحظ ما نراه كل يوم.
لست أدري أأفصحت أم لا، ولكني في الحق أعتمد على نفاذ روح القارئ؛ لأني يائس من أن أحمل إليه ما في نفسي حملًا تامًّا، ولهذا أترك له دائمًا مشاطرتي التفكير والإحساس، عليه أن يصل ما أقطع، وأن يفصِّل ما أُجمل، وأن يضفي على الإشارة ما خلفها، عليه أن يجهد كما أجهد، وإلا أصبح عبثًا ما نكتب، إنه عندئذٍ لن يعمق نفسًا، لن يشق خيالًا، لن يشحذ ذهنًا. لكلٍّ أن يرجع إلى نفسه، فهي منبع المعرفة؛ منبعها الوحيد، وما أنا وغيري إلا سبل تسوق كلًّا إلى نفسه.
أدباء المهجر يَردُّونَني إلى تلك النفس التي نعتز بها؛ ولهذا أحبهم. وأنا بعد لا أبرئ نفسي من التأثر بالأدب الغربي الذي تأثر به هؤلاء الأدباء، ولكني أرجو مخلصًا أن يأخذ المثقفون منا ثقافةً شرقيةً غالبةً أنفسَهم بالإمعان في ذلك الأدب، فإنهم سيجدون فيه عناصر إنسانية تمسنا جميعًا، شرقيين وغربيين، بل إن فيه خير ما في الشرق، فيه تلك اللهفة الروحية التي وجهت أجدادنا منذ آلاف السنين إلى رحمة الله، فيه مزيج عجيب من القوة والضعف، ذلك المزيج الذي عنه تصدر عظمة مزاجنا الشرقي. وأما خروجه على بعض موضوعاتنا الشعرية، وأما تأبيه على لغة الشعر التقليدية، وأما ركونه إلى التعبير المباشر القوي فتلك حسنات، أو أقل: إنها الطريق الوحيد الذي لم يكن بد للأدب العربي الحديث من انتهاجه؛ لكي يفلت من الصنعة إلى الصدق، لكي يرتد إلى الحياة.
يجب أن نطرب للجمال، يجب أن نؤمن بالصدق، وشعراء المهجر يعرفون الصدق والجمال.
(٣) مناقشات حول الأدب المهموس
(٣-١) حول ترنيمة السرير
أرسل الأستاذ عزمي يوسف كلمة إلى «الثقافة» عن نسبة «ترنيمة السرير» إلى «نسيب عريضة»، وهو يذكر أنها لإلياس فرحات، ولكنني راجعت كتابي القديم (ص٢١٤) فوجدتها لنسيب عريضة، كما ذكرتها في مقالي، وقد ظهر لي أن كتابي هو أيضًا «بلاغة العرب في القرن العشرين»، وهو نفس المرجع الذي رجع إليه الأستاذ عزمي يوسف، ولعل تفسير ذلك التناقض في اختلاف الطبعات، ولقد اتفق أن لاقيت الأستاذ محيي الدين رضا المحرر بجريدة المقطم وناشر «بلاغة العرب في القرن العشرين»، وسألته في نسبة «الترنيمة» فأخبرني أنها لنسيب عريضة، ووعدني بأن يخبرنا عن المجلة التي أخذ منها «الترنيمة»، وهي إحدى المجلات التي تصدرها الجالية العربية بأمريكا.
وأنا شاكر للأستاذ عزمي يوسف إحساسه الرقيق.
والترنيمة طويلة لم أذكر منها إلا الأبيات الستة الأولى، ولقد راعني ما أثاره مقالي عن الهمس في الأدب من جدل، ولكنني ما زلت عند ما أومن به. وأنا بعدُ لا أدعي أنني قلب صلد لا يستشعر الحنان، وأنا فقير كغيري إلى الكثير من الرحمة — على الأقل رحمة الله — ومع ذلك أرفض القول بأن أدب المهجر ضعيف منهوك، أين إذن نجد قوة النفس؟ أين نجد القدرة على الانفعال؟ أين نجد توثب ووميض العقول؟ أين نجد نبض الحياة؟! ليست القوة مكابرة باطلة! ليست القوة حياء كاذبًا، القوة ليست نفاقًا اجتماعيًّا.
قالوا: إن الصدق في الأدب هو مقياسه الوحيد، وهذا قول بدائي، الأدب أعمق من الصدق، الأدب ليس تصويرًا للواقع ولا تسقطًا لأصداء الحياة، الأدب خلق للصدق.
ولننظر فيما يحمل البيت الأول من صدق نراه عاريًا عنه، وذلك لما هو واضح من أن ظلام الليل لا يطفئ النجوم بل يزيدها تلألؤًا. ومع ذلك، أي صدق نفسي في ذلك البيت الرائع! وهذا رجل نشر الحزن بنفسه ظلامًا لم يلبث أن غشي بصره، فللنجوم أن تتلألأ دون أن يرى لها بريقًا:
هؤلاء قوم ليسوا ضعافًا، إنهم يسمون الأشياء بأسمائها، قوم لا ترهبهم الألفاظ، يتغنى الشاعر «من القهر» لجوع طفله، ولكن مَنْ منا لا يحس أن هذا القهر ليس يأسًا وإنما هو استجمام للتوثب؟! من منا لا يحس بنفس الشاعر العاتية متحفزةً خلف هذا القهر الإنساني؟! ليس الأدب ألفاظًا، الأدب روح لا تدري من أين تطالعك، روح لا تدركها إلا الأرواح.
قلت فيما سبق: إن شعراء المهجر يصدرون عن قلب فيه لهفة إلى الله، ولو أنني قلت: إنهم متصوفون، لما عدوت الحق؛ فالتصوف ليس إلا وقدة في الإحساس، كل شعور قوي تصوف مهما كان موضوع ذلك الشعور؛ ولهذا نرى الناس يقتتلون في غير مقتل حول تصوف شاعر كالخيام: أمادي هو أم روحي؟ وهل خمره خمر الدنان أم خمر الروح؟ والأمر بعدُ سواء، الخيام روح حارة، وكذلك الأمر عند شعراء المهجر، أين منهم فتور أغلب شعرائنا؟ أين منهم فقرنا الروحي؟ أين منهم ضعف نفوسنا؟ أين منهم نفاقنا الخُلقي؟! انظر إلى شاعرنا كيف يجمع بين القيم الإنسانية في ملاك الرب الذي يناجي الطفل كالأم، أليس حنان الأم نفسًا من روح الله؟ أوَما تراه يشبه الهمس؟! الفن اختيار، وهؤلاء الشعراء يعرفون كيف يختارون التفاصيل الدالة الغنية بفيضها الإنساني.
وفي شفاء النور للعميان ما يعزز فهمنا لإطفاء ظلمة الليل لنجوم السماء. ثم ما القول في هذا الأمل الباسم؟ عجيب أمر هؤلاء الشعراء، يبتسمون للأمل، ومع ذلك تهزنا ابتسامتهم، وكأني بها تبعث الحزن في النفس، وهي بعد ابتسامة تشرق وسط الظلام، ابتسامة يحوطها الحزن، أوَلَا ترى معي شاعرنا وهو يشد على نفسه فيعزيها بأيام سعيدة؟ إنني أحس بالجهد في تلك الابتسامة الرائعة، وبعد ذلك يقول قائل: إن أدبهم ضعيف وإننا في حاجة إلى أدب طروب قوي، ومن يستطيع أن يدلني على قوة تصدر عن الطرب؟ الطرب شيء مبتذل لم نره قط مادة لأدب قوي، وهو بعد لا يحرك النفوس، الأدب عزاء عن الحياة، والعزاء قوة. الشعر في العالم كله ضيق بالحياة وعلاج لها، ولكنه ليس يأسًا، فاليأس صمت. وموضع الإعجاز هو أن يدفعك ذلك الضيق إلى متسع الوجود، هو أن تشفي الشكوى من الألم.
وبعد ذلك بأبيات:
•••
•••
هذا هو الهمس الذي لا أدري كيف يتهم بالضعف، وأنا بعد أحس فيه قوة لا أجدها في نفوس معظم شعرائها. والأمر ليس من الشاق تفسيره، فنحن قوم لصيقون بالأرض، قوم يؤثرون الاستكانة على المغامرة. لقد طوَّفت في الكثير من بقاع الأرض فلم أرَ مصريًّا يجالد غريبًا على الحياة، وعدت إلى مصر ودرت ببصري فلم أرَ إلا مظلومًا خاضعًا لظالمه، أو متألمًا يخشى أن يشكو ألمه. رأيت ضعف النفاق، في كل مكان أرى رجالًا قليلي الشبه بالرجال، فمن أين تأتينا القوة؟ نحن قوم لا يجسر أحدنا أن يرفع بصره إلى من يظنه أقوى منه، فكيف بنا نحدق في الحياة التي تصعق من يناهضها؟!
نحن قوم متزمتون يظنون النفاق الاجتماعي فضيلة، قوم حسيون، إذا تغزلنا جاء غزلنا إما إسفافًا في الخضوع وإما «طرطشة» في العاطفة، قوم تعوزهم القوة المتماسكة. نحن قوم كثيرو الادعاء عن جهل، نكابر الغربيين، وندعي الدعاوى العريضة الباطلة، ونزج بالقومية وما إليها لتغطي جهلنا المريع. مَنْ مِنْ أدبائنا أو شعرائنا يعرف أن من واجب الأديب أن يكون مثقفًا ثقافة منظمة عميقة مهضومة؟ من منهم يدرك أن الأدب ليس خلقًا من العدم؟
هذه بعض الأمراض النفسية التي تفسد أدبنا؛ ولهذا أوثر شعر المهجر، ولقد عللت إيثاري بما في ذلك الشعر من همس، وحاولت ما استطعت أن أوضح معنى ذلك الهمس، فقال البعض: إنني أتعصب لنوع من الأدب يستجيب له مزاجي الخاص، ولكن الأمر ليس أمر تعصب، كما أنه ليس ضيقًا في النفس يمنعها عن الإصغاء لغيره من الأدب، وإنما هو إيمان بروح إنسانية قوية أحسها في ذلك الأدب، روح نافذة موحية. ومن عجب أن نقول: إن الشعر الخطابي إذا خلا من موسيقى اللفظ وقوة النفس اللذين نجدهما عند المتنبي في الشرق وهيجو في الغرب مثلًا، أفسدت الخطابة الشعر، ثم يأتي من يقول: إننا لا نطرب لشعر المتنبي.
الشاعر العظيم هو من ينجح في أن يهزك، وهو قد يستطيع ذلك بضخامة موسيقاه كما قد يستطيعه برقتها. وأما أولئك الذين تقرأ لهم فلا ينبض منك حس، ولا يهتز قلب، فلست أدري من أين يأتيهم الشعر! لقد تصفحت مثلًا «أعاصير مغرب» فعجبت لمن يجرءون على تسميتها شعرًا، وهي نثرية في مادتها، نثرية في أسلوبها، نثرية في روحها. ونثريتها بعدُ مبتذلة سميكة، حتى الإحساس فيها شيء لا يطمئن إليه النفس.
الأدب الجيد لا بد أن يلونه الإحساس، وصاحب «أعاصير مغرب» من الكتاب الذين قد تبهرك مهارتهم العقلية في التخريج، ولكنني لا أذكر إلا في النادر الذي لا يذكر، أنه قد استطاع يومًا أن يحرك في نفسي إحساسًا، فكيف له يقول الشعر؟ وكيف يجوز لنا أن نقارن شعرًا «كالأعاصير» ونحوها بشعر المهجر الحي؟
أنا لا أريد أن أملي ذوقي على أحد، ولكنني أحاول أن أبصِّر بالقيم الإنسانية التي يجب أن يتجه إليها أدبنا إذا أردنا أن نلحق بغيرنا، بدلًا من الجمود على الباطل الذي نحن فيه.
(٣-٢) الشعر الخطابي
يريد الأستاذ السيد قطب أن يجعل ما سميته الهمس في الشعر نوعًا من الأدب يتميز بالإحساس الذي يغذيه، فهو شعر الحنين أو «الحنية» كما يقول. وهو يحذر القُرَّاء من آرائي لخضوعها لطبع خاص أقرب إلى المرض منه إلى الصحة، ولكنني بحمد الله لست مريضًا، ولا أذكر أني مرضت يومًا ما، وأنا على العكس سليم الجسم صلب البناء متمتع بكل قواي الجسمية والعقلية، وشخصي بعد ليس موضع الحديث. والهمس في الشعر ليس «الحنية»، ولا هو خاص بنوع من الإحساس، وإنما هو مذهب في الفن، مذهب عام لا يتقيد بمادة.
وإذن فأنا لا أريد أن أملي ذوقي على أحد؛ وذلك لأن الذوق وإن يكن من أعمق ملكاتنا البشرية في إدراك مواضع الجمال والقبح، إلا أنه لا يمكن أن يصبح وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدى الغير، إلا إذا علل بأسباب عقلية وفنية ونفسية تستطيع أن توحي بمثل ما نحس به، وإلا أصبح ما نقول ادعاء كاذبًا إن لم يكن نصبًا.
ولقد حاولت تمييز «الشعر المهموس» بمعارضته «بالشعر الخطابي»، ولكنني فيما يظهر لا أزال محتاجًا إلى مزيد من الإيضاح. وها أنا اليوم أتناول قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل، وجدتها مصادفة في عدد ٧ من يونيو سنة ١٩٤٣م من «الرسالة» بعنوان «حصاد القمر».
الأستاذ محمود حسن إسماعيل يذكرني دائمًا بالمتنبي، ففي شعره رنين قوي تجده في بسطة أوزانه وضخامة ألفاظه، بل في بعض صوره الشعرية المجتلبة على نفس النحو الذي كان المتنبي يصطنعه أحيانًا متتلمذًا لأبي تمام. ولكني أبادر فأقرر أن شعر المتنبي غير شعر محمود إسماعيل في معدنه النفسي وفي رؤيته الشعرية.
- (١) أولهما: أن للمتنبي نفس قوية عاتية متماسكة، عاطفة المتنبي مغلقة مركزة عميقة؛ ولهذا قلما تلوح كاذبة، عاطفة المتنبي نار داخلية لا تراها وإن ألهبت اللفظ أو أوقدت الصورة. وأما إحساس محمود حسن إسماعيل فمفضوح، ويأبى شاعرنا إلا أن يزيده افتضاحًا بقصاصات النثر التي يعلقها فوق قصائده، وفي هذا ابتذال، للنفس عنه نفرة، عاطفة محمود حسن إسماعيل «مطرطشة» حتى لتلوح «سرابًا عاطفيًّا» Pathetic fallacy، كما يقول نُقَّاد الإنجليز.
- (٢) ثانيهما: اضطراب الرؤية الشعرية Vision Poetique عند محمود إسماعيل، بل إنني لأخشى ألا يكون له حقل شعري على الإطلاق، وهذا أمر يتضح لمن يراجع صوره في أية قصيدة من قصائده، فإنه لا بد واجد بينها من التنافر ما يقطع بأنه لا يرى الأشياء رؤية شعرية صحيحة. تراه يجمع بين صور لا يمكن أن تكون وحدة للموصوف، ولو أنه حرص على الرؤية الشعرية الصادقة لرأيت التجانس الذي يعوزه، وأنا بعد أرجح أنه يلتمس الصور من ذاكرته لا مما يراه ببصره أو يدركه بحسه.
ونحن عندما لا نجد لدى الشاعر العاطفة المتماسكة والرؤية الشعرية لا نستطيع أن نحكم بتفوق فنه؛ وذلك لأن الرنين الخطابي مهما بلغت قوته لا يمكن أن يسمو بالشعر. فلغيري إذن أن يُعجب بقوة أَسْر محمود إسماعيل واستحصاء لفظه وغرابة صوره، وأما أنا فما دمت لا أستطيع أن أدرك ببصري حقيقة ما يصف ولا أن أسكن إلى نوع إحساسه، فإنني لا أتردد في رفض شعره وتفضيل «نُعيمة» أو «عريضة» عليه؛ وذلك لصدق شعراء المهجر في فنهم.
- (١)
أولاهما: روح الشعر، روح غفل ولكنها قوة من قوى الطبيعة، قوة تحتاج إلى التثقيف الصحيح. ولو جاز لي أن آمل من هذا الشاعر الإصغاء إلى موضعي النقض الكبيرين اللذين أشرت إليهما فيما سبق لرجوت أن نجد فيه شاعرًا يعتز به عصرنا.
- (٢)
وثانيهما: قدرته على الانفعال، وفي هذا ما يلهب الحس، فيدرك المرء بقلبه ما لا تدركه العقول. وما يحتاج إليه محمود إسماعيل لاستغلال قدرته إنما هو نوع من النظام يركز به إحساسه ويرد ما فيه من فضول.
ثم إنني أريد أن يطمئن الأستاذ قطب أن أحكامي على أدباء المهجر ليست سريعة ولا هي عن جهل، فقد قرأت الكثير مما كتب وإن لم أتحدث عنه، وأمر اشتغالي بالدكتوراه حدث عارض لم يستوعب قط كل وقتي. وأنا لا زلت عند رأيي في أدب الحكيم ومحمود طه وغيرهما مع تحفظ واحد؛ هو أنني اقتصرت في مقالاتي على كتب بعينها ليكون النقد موضعيًّا ومن ثم منتجًا. ولقد قرأت لكل كاتب معظم كتبه الأخرى فوجدت الخصائص التي ذكرتها واضحة، وإن تكن ثمة اتجاهات أخرى تحتاج إلى علاج خاص كتصوير الحكيم لبعض الشخصيات تصويرًا ناجحًا في «عودة الروح».
وكاستخدامه الهيومر في «أهل الفن»، ولكن أدبه، كما قلت أدب فكرة في جملته.
وكذلك الأمر في حديثي اليوم عن محمود إسماعيل هذا الحديث الذي لا أبغي من ورائه لجاجة وإنما أبغي الخير، خير الشاعر وخير أدبنا الجديد، فأحكامي عنه تستند إلى قراءة شبه شاملة لما كتب، وإن كنت سأكتفي اليوم بنقد قصيدة واحدة من قصائده حرصًا على الدقة.
القصيدة كما يقول الشاعر في بطاقته: «وحي سياحة قمرية في ليلة من ليالي الحصاد»، وها هو شاعرنا يبدأ بوصف الحقل: «سيان في جفنه الإغفاء والسهر» وإذن فنحن في حالة هيام شعري تستوي فيه اليقظة والنوم، نحن إن أردت في حلم يقظة «نعسان يحلم والأضواء ساهدة»، وهذا لا ريب جو الإلهام الشعري، ولكنه جو قد قيد الشاعر. ونحن لا يعنينا منه صدقه أو تصنعه، فالشاعر يدعونا إلى هذا الجو وقد أعاننا على أن نحيط أنفسنا به لنخلق فيها جوًّا مشابهًا. وننظر مع الشاعر فماذا نرى؟ نرى أن السنابل قد نامت واستيقظ القمر فإذا بنا أمام مقابلة مصنوعة؛ لأننا لا نرى نوم السنابل بوضوح ولا يقظة القمر، القمر الذي ينشر الأحلام. وهذا يسلمنا إلى ملاحظة عامة خطيرة على شعر محمود إسماعيل وهي مصدر ما فيه من تنافر؛ وأعني بها «تشخيصه» للأشياء. والتشخيص لا ريب من وسائل الفن القوية، ولكنه لا يمكن أن يكون مجرد عبث أو مهارة، بل من الواجب أن تمليه الأشياء إملاء يقربه الفن وقد مسه بجناحه فإذا به كالحقائق، والفن إلى حد بعيد إيهام بالخلق، خلق واقع شعري، فهل نجح الشاعر في ذلك؟
وأن يجاور هذا التصوير الجميل تشبيهه لظل النخلة «بمضطهد» وأغصان الدوح بأشباح قافلة، غاب عنها الرفيقان: «الركب والسفر» وقد نزل على الدوح ضيفان: «الليل والقدر» ليتم الازدواج الكاذب: الليل والقدر والركب والسفر، أما الليل فنستطيع أن نفهمه، ولكن ما شأن القدر هنا، وما الرأي في «غياب السفر» كناية عن ثبات الدوح وعدم تحركه؟ قد يكون في غياب الركب ما يشعر بالوحشة، ولكنني في الحق لا أدرك العبارة عن السكون بغياب السفر، والأغصان «مبهورة ذاهلة»، ولكنها مع ذلك قد تكون «منتعشة بشجو الرياح»، وما أريد أن أدركه هو وضع تلك الأغصان، كيف كانت أو كيف رآها الشاعر «ذاهلة أم منتعشة؟» إنني لا أطيق ما يلقيه الشاعر في نفسي من عجز عن إدراك ما رأى.
ثم إن القمر «هيمان يحمل وجد الليل أضلعه»، وقديمًا قاتل النقَّاد أبا تمام لقوله: «ماء الملام»، وثار به الآمدي؛ إذ وصف حمرة الخدين ﺑ «ملطومة الخدين بالورد»، فماذا يقول المسكين الآمدي لو سمع محمود إسماعيل يتحدث عن «أضلع القمر».
وأنا لا أريد أن أطيل فقد أبنت بالأمثلة السابقة عما أريد من «الرؤية الشعرية».
وأما «طرطشة» العاطفة فليست واضحة في هذه القصيدة الوصفية وضوحها في قصائده العاطفية وهي كثيرة بديوانه «هكذا أغني». ومع ذلك، نجد في هذه القصيدة أيضًا كثيرًا من «التأوه»، و«الآهات» و«الكبد» و«كبدي» و«يا كبدا»، وما إليها.
انظر مثلًا إلى قوله يخاطب القمر:
«قلب كقلبك مجروح»، وقوله لنفس المخاطب: «إن العذاب الذي أضناك في كبدي»، ثم حدثني عما تستطيع أن ترى من جروح في قلب القمر الهادئ البارد الحالم الحزين حزنًا رقيقًا لا يعرف الدماء، ثم ما هذا الضنى الآخذ بكبد الشاعر وكيف يوحي به القمر؟ أليس هذا إسرافًا معيبًا ووضعًا للإحساس في غير موضع؟
«الله أكبر يا ابن النيل يا كبدا»، أوَما نحس بنفرة نفسية من «يا كبدا» هذه؟ كيف تخاطب القمر: «يا كبدا»؟!
وبعد، فأنا لا أدري كيف يجوز لنا أن نضع هذا الفن الذي نردده اليوم في مستوى فن شعراء المهجر المرهف القوي المباشر؟ كيف نقارن هذا الضجيج بمهمسهم الفني؟ وأما عن النثر فما أظن القُرَّاء في حاجة إلى أن أدلهم على أن رثاء أحد الشبان لأمه الذي أورده الأستاذ قطب لا يمكن بحال من الأحوال أن يقارن «بأمي» لأمين مشرق، فرثاء الشاب المذكور لا إيقاع فيه ولا نبل في الإحساس ولا توفيق في اختيار التفاصيل. وكيف تريد من شاب يؤلمه من موت أمه أنهم لم يعودوا يعرفون «بأسرة» أن يصل في فن الكتابة إلى مشرق الذي يذكر «فستانها العتيق» و«يديها اللطيفتين» ووقع قدميها حول سريره، وغابة السنديان، وما إلى ذلك من فتات الحياة التي يعرف كبار الشعراء — كما قلت — كيف يلتقطونها بأنامل ورعة، فيصلون من التأثير في نفوسنا إلى ما لا تصل إليه «الأبواق والطبول»؟
(٣-٣) إيضاح أخير
الحنية
قلت: إنني لا أحب اللجاجة فكيف إذا انقلبت مزيجًا من المهاترة والمغالطة؟! وها هو الأستاذ سيد قطب يعود إلى «مزاجي» الخاص فيدعي أن آثر شخصية لدي من شخصيات القصص التي حللتها في سلسلة النماذج البشرية، هي شخصية «فيليسيتيه» للكاتب الفرنسي «فلوبير»، وذلك لما بها من «حنية»، كما يقول.
ولكنني لم أوثر شخصية على أخرى إلا أن يريد الأستاذ قطب حملي على ذلك الإيثار. و«فيلسيتيه» بعدُ ليست النموذج الوحيد الذي تحدثت عنه، فثمت «فوست» يمثل الإقبال على الحياة والهم إلى المعرفة عن سبيل المغامرات، و«دون كيشوت»، المجالد للبشر، رغم إخفاقه، و«هملت» العقل النافذ نفاذًا يشل الإرادة، و«جوليان سوريل» الثائر على مواضعات الحياة الاجتماعية.
و«ألست» الناقم على البشر انحلال أخلاقهم، و«فيجارو» المنتقم من الحياة بالسخرية، و«إبراهيم الكاتب» الذي تعلق بالحياة حتى مجها، «وجفروش» الطفل الباسم عن جسارة قلب، وغيرهم ممن لا صلة لهم «بالحنية» والمزاج الخاص.
لقد حللت هذه النماذج مظهرًا ما فيها، وهي عندي سواء، فلا محل إذن لمغالطة الأستاذ قطب وإصراره على زعمه أني لا أوثر إلا لونًا واحدًا من الإحساس.
ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يضيف إلى المغالطة المهاترة، بحيث لا أرى بُدًّا من أن تكون هذه الكلمة آخر حديث لي في هذا الموضوع.
يرى الأستاذ قطب أن نوع الإحساس الذي أوثره في زعمه خاص بالنساء وبذوي الأمزجة الخاصة، وأنا لا يرهبني أن يكون إحساسي على هذا النحو.
ويعصمني من تلك الرهبة جهلٌ نفضته عن نفسي، وبربرية لا يزال يسدر فيها الفطريون من الناس.
لقد سمع الأستاذ قطب أستاذه العقاد يكتب مقالات يثبت فيها أن المرأة غير الرجل، وأن بينهما اختلافًا سحيقًا في الطبيعة، وسمع الحمقى من الرجال يزدرون المرأة ويعتبرونها سبةً أن يشبه الرجل المرأة في شيء؛ فلم يرَ سبيلًا للمهاترة خيرًا من أن يرد إحساسي إلى المرأة وإلى ذوي الأمزجة الخاصة.
وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان، وليس بصحيح أن بين الرجل والمرأة اختلافًا حاسمًا في الطبيعة، وقديمًا زعم اليونان — وزعمهم حق — أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة، بل خلقت أعضاء مختلفة، ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة كيفما اتفق، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة أو نقاء المرأة من عنصر الرجل. ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها، فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة، ومن يدعي ذلك إنما يصدر عن عقل باطن أمرضته سخافات العقلية الاجتماعية التي نحيا بينها.
واليونان لا ريب كانوا في خرافتهم هذه أنبه مني ومن العقاد، وطبعًا من الأستاذ قطب. وإنه لمن الحمق أن نحاول تنقص الرجل برد إحدى أحاسيسه إلى المرأة، والشعوب المتحضرة ترى على العكس من ذلك أن في إحساس الرجل كالمرأة موضع فخار لكبار رجال الفن والأدب. ولعل الأستاذ قطب قد سمع من العقاد أن رينان قد وُصف بأعظم الصفات كفنان عندما قيل عنه «إنه يفكر كرجل، ويحس كامرأة، ويتصرف كطفل.»
الفتات
وأما فتات الحياة «التي يعرف كبار الأدباء كيف يلتقطونها بأنامل ورعة» فالظاهر أن الأستاذ قطب لم يدرك ما أردته منها، وها أنا أبسط القول. والأستاذ قطب لا بد قد فهم عن الأستاذ الكبير العقاد أن كل فن اختيارات للتفاصيل الدالة، فالمصور يختار من الألوان والأضواء وتفاصيل المنظر أقدر الجزئيات على الإيحاء، وكلما سما الفنان في فنه ورهف في وسائله عرف كيف يختار تلك الجزئيات الصغيرة. وليس ثمة علاقة بين «فتات الحياة» التي يختارها «وضخامة الإحساس» الذي يريد أن يثيره، فالإحساس من الواجب طبعًا أن يكون قويًّا. وموضع الإعجاز هو أن يثير الفنان هذا الإحساس القوي «بالفتات» التي لن يدركها الأستاذ قطب، بل إن جميع المثقفين في حقائق الفن والأدب ليعلمون — لخبرتهم الطويلة بكافة الفنون في العالم المتمدين — أن إثارة الإحساسات القوية لا يمكن أن تكون بغير فتات الحياة الأليفة الوثيقة الصلة بالبشر. وأما الطنطنة، وأما تضخيم التوافه، وأما عجيج الألفاظ، وأما التبجح بالقوة الجوفاء؛ فهذه وسائل العجز والادعاء والجهل.
أضرب للأستاذ قطب مثلًا بسيطًا أختاره من السينما لنبعد عن الأدب العسير الفهم.
في إحدى الأفلام أراد مؤلف القصة أن يحمل المشاهدين على إدراك ضيق بطل الرواية لطول انتظاره أمرًا يهمه فلم ينطقه بخطبة، ولم يعبث بملامحه ولم يحمله على تمزيق ملابسه أو شد شعره، بل ولا على الصياح في أجواز الفضاء، بل عرض على الشاشة بطلنا وأمامه منفضة سجاير خالية، ثم غير المنظر وعرض الرجل في نفس الجلسة، وأمامه المنفضة وقد امتلأت بأعقاب السجاير حتى فاضت. هذه المنفضة المليئة بأعقاب السجاير لا شك من فتات الحياة، بل من هناتها. ولكن، أوَما يرى الأستاذ قطب أنها وسيلة قوية من وسائل الأداء وأنها قد حملتنا على إدراك نفسية البطل إدراكًا لن تبلغه قصيدة طويلة من قصائد الأستاذ قطب؟
هذه هي فتات الحياة التي يجب أن نعرف قدرها في الفن، ولكننا قوم فطريون، نظن الفن ألوانًا فاقعة وضجيجًا خاويًا. نعم يا أستاذ قطب، أنا أوثر «الأطياف الباهتة»؛ لأنها نسيج كل فن رفيع، وأما الأطياف الزاهية فلا تسر غير البدائيين من الناس، أوَلا ترى إلى زنوج أفريقيا كيف يستهويهم الأحمر القاني والأصفر الكركم؟
وأعود فأكرر أننا في سبيل الحديث عن طرق الأداء في الفن، وأما قوة الإحساس المثار فلا دخل لها بالفتات، إلا أن يكون هذا الفتات مبعث ذلك الإحساس القوي.
وأما أنني أستطيع أن أستقل بالمشاعر الضخمة وبالفحولة والجهارة أو لا أستطيع، فهذه دعوى لا أحب أن أناقشها لأنها صغيرة، ولسنا في مجال مبارزة أنحدر إليها، ورحم الله من قال: «أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار.» ونحن نناقش مسائل فنية يدور حولها الأستاذ قطب، يدور من الخارج.
مختارات الأستاذ قطب
قلت: إنني أحب المتنبي وأرى فيه شاعرًا كبيرًا، ويأبى الأستاذ قطب إلا أن يقول ويكرر أنني لا أحبه. وهو يقرن العقاد إلى المتنبي، وفي هذا ظلم للمتنبي وللعقاد، فالمتنبي شاعر والعقاد لا شأن له بالشعر، ولا أدل على ذلك من مختارات قطب نفسها.
لقد أتى الأستاذ قطب بنموذج للنثر المصري الجيد «رثاء أحد الشبان لأمه»، والشاب صاحب الرثاء هو الأستاذ قطب نفسه، واحتجاج الإنسان بنثره الخاص شيء سمج، وأمعن في السماجة أن يتحدث المرء عن نفسه في مناقشة الغير فيدعي أن في نثره «معاني كبيرة وأحاسيس عميقة»، هذا الأسلوب ليس من آداب المناقشة؛ ولهذا أهمل نثر الأستاذ قطب كله وأترك له مهمة الحديث عن نفسه.
وأما مختاراته الشعرية فهي أولًا لشاعر مصري كبير، وثانيًا لشاعر من شعراء الشباب المصريين. فأما شاعر الشباب فهو أيضًا الأستاذ قطب؛ ولهذا أهمله وأهمل شعره؛ لأنني لا أطيق هذا الصفاقة. ثم إنني لا أرى من اللياقة أن أناقش أشعار التلميذ، بينما لدي أشعار الأستاذ نفسه، لدي أشعار المصري الكبير العقاد، فالشعر له والأستاذ قطب في ركابه.
ولنأخذ من الصور الشعرية التي أوردها الأستاذ قطب للشاعر الكبير العقاد قصيدته «الكون جميل» («الرسالة» عدد ٥٢٠)، قال الشاعر:
وقال الأستاذ قطب معلقًا على جمال هذه الأبيات: إن فيها ألفة، وإنه يكاد يلمح الشاعر «متسع الحدق مفغور الفم وهو ينشق بل يلتهم ما في الطبيعة.» وأنا لا أدري أي ذوق أدبي ذلك الذي يحمل الناقد على تصوير الشاعر «متسع الحدق مفغور الفم»! وهل يستطيع القارئ أن يتصور هذه الصورة القبيحة دون أن يملكه الاشمئزاز والضحك؟ تصور شاعرًا مفتوح العينين فاغر الفم، هذه صورة أبله لا صورة شاعر!
ثم أين الجمال في هذه الأبيات؟
ما هذه الصفحة؟ أهي الأثير؟ وهل هي غير الزرقاء؟ وهبها كانت غيرها، أهي كالخد؟ هذا الفضاء الرحب، الفضاء المترامي الذي تسبح فيه الروح فلا تنتهي إلى غاية، هذا الفضاء خد؟ وكيف تصقل الأثير، الأثير اللين الشفاف الخفيف؟
هل يرى القارئ عين الحبيب وهي تلمع نحو الخليل فتشبه لمعة الشمس؟ لا بد أنها عين حمراء تقدح الشرر وترسل اللهيب:
أنا أعلم أن الدخيل معناه الطفيلي، أهو الشوق الطفيلي؟ أهو الشوق الداخلي؟ وهل ترى الجسم يهتز كرجفة الزهر؟ لو أن الهزة كانت في القلب لقلت: شاعر يشارك الطبيعة بإحساسه، ولكنه الجسم كله، يخيل إليَّ أنني أرى فيلًا يهتز بجوار وردة تتمايل على غصنها:
مرج ونخيل لا تخصيص فيها ولا اختيار، أين الفن في يممت نحو المروج وعلى البُعد نخيل؟ وهذا نثر لا روح فيه.
وأما غاية العجب فتأخذك من قوله:
تسمع قل ولا تحفل بشيء، فتتنبه حواسك، ويستيقظ إحساسك ويصحو عقلك لهذا التحدي القوي وتلك الشجاعة النادرة، وتحسب أن الشاعر سيخرج على قانون من قوانين الوجود أو على حقيقة من الحقائق الإنسانية الثابتة، ثم ننظر فإذا به لا يأتيك بغير هذه الجملة المبتذلة «إنما الكون جميل»، وأنت تتساءل عن سر هذا القصر وذلك التأكيد فلا تهتدي إلى شيء.
ها هو شعر الشاعر الكبير فما بالك بشعر الشاعر الصغير؟!
(٤) الهمس في الأناشيد
تحدثنا في مقالات سابقة عن الهمس في الشعر والنثر، وكانت مناقشات يمجها الذوق الخلقي، فقد أرى البعض في رفاهة الحس ولطافة الروح أنوثة، ورددنا بأن ذلك ليس وقفًا على النساء؛ إذ من الواضح أن الله لم يقصر بعض الصفات على جنس دون جنس، وإنما نحن بإزاء نِسَب. وكنت أظن أن الحديث كله دائر على الرجولة والأنوثة من الناحية النفسية، وأما عن الناحيتين الأخلاقية والاجتماعية، فذلك ما لم يخطر لي ببال في مجادلة رجال يتصدَّون لتثقيف الجماهير. وكم كانت دهشتي عندما رأيت كاتبًا يذهب إلى أبعد من الرجولة الأخلاقية والاجتماعية، فيدعي «أني أفخر بمشابهة المرأة في تكوينها»، مع أنه يعرف معنى كلامي حق المعرفة، بدليل أنه قد فطن هو نفسه منذ سبعة عشر عامًا فيما يقول إلى «أن حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة، فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والجسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس.» وأنا لم أقل غير هذا، فالحديث كما قلت لم يَعْدُ الناحية النفسية، ومع ذلك يسف الكاتب فيعتقد أنه قد وصل مني إلى شيء عندما قال أنني أفخر بمشابهة المرأة في تكوينها. وأكبر ظني أن الإنسانية كلها مجمعة على أن «أنوثة» قادة البشر من «كبار الرجال» الذين وصفوا بتلك الصفة مثل: تاجور، ورينان، ولامرتين، وشنييه وغيرهم، خير من «رجولة» صاحبنا وأذنابه. أولئك مخلدون حباهم الله تفكير الرجال وإحساس النساء وسذاجة الأطفال، وهؤلاء لا تسمع منهم إلا صلفًا وغرورًا ومهاترة مخزية.
ولنترك هذا الحديث الذي ينزل بالقلوب إلى آخر يرتفع بها، وأمامي الآن نشيد من الشعر اللبناني تذكرته؛ إذ جاءني خطاب يخبرني بوفاة فؤاد البعلبكي، أحد الطلاب اللبنانيين بجامعة فؤاد، ولكم طربنا — أساتذة وطلبة — لصوت هذا الراحل الكريم وهو يتغنَّى به مع جوقة من إخوانه. تعاودني هذه الذكرى فيزداد حزني وفاة ذلك الشاب الرقيق الصوت، الأنيق السمت، العزيز النفس الطيب الخُلق، ألا يرحمه الله! وأتلمس سر طربنا لهذا الشعر، فأرى فيه إلى جانب الأنغام خاصيتين هامتين يكملان معنى الهمس في نفس ذلك المعنى الذي لا بد من الوصول إلى رفع كل لبس عنه حتى يسفر، فيتحقق ما نرجوه من توجيه شعرنا الحديث تلك الوجهة التي ندعو إليها بإيمان، يزيده رسوخًا أنه نبع عن إحساس لن يمل العقل البحث عن تعليله وإيضاحه.
فأما أولى الخاصتين، فهي ظاهرة الحب بل العشق. والحب ليس وقفًا على الغزل الجنسي كما قد يُظن، فلغته من الناحية النفسية هي المنفذ الصادق لكل شعور حار. ومن عجب أن يفطن نقاد العرب أنفسهم إلى هذه الحقيقة الكبيرة فيحسون بلغة العشق عند أكبر شعراء العرب الخطابيين نفسه، وهو المتنبي، فيقول الثعالبي في «اليتيمة»: إن المتنبي قد خاطب الممدوح بمثل مخاطبة المحبوب، وإنه قد استعمل ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد، وهو يرى في هذا مذهبًا تفرد به شاعر الحمدانيين. وهذا حق، وإن يكن الثعالبي لم يستطع تعليل تلك الظاهرة؛ لأن النقد العربي بجملته لم يحاول أن يصل بين نفسية الشاعر وشعره، وذلك لسبب واضح، هو أنه لم ينضج إلا في العصر العباسي، وهو العصر الذي لم يعد يعبر فيه الشاعر التقليدي عن الحياة، وأصبح يرسف في محاكاة القديم، حتى لم يعد فضل للمحدثين في غير تجويد العبارة عن المعاني المطروقة والتفنن في «البديع»، وجارى النقد الشعر فأصبح نقدًا فنيًّا بحتًا، ومن هنا لا ندهش عندما نرى الثعالبي يعلل استخدام المتنبي للغة الحب في غير الغزل بأن ذلك كان «اقتدارًا منه وتبحرًا في الألفاظ والمعاني.» ثم يضيف سببًا آخر هو «رغبة الشاعر في رفع رأسه عن درجة الشعراء، والسمو بها إلى مماثلة الملوك.» وهذه الأسباب وإن تكن صحيحة إلا أنها لا تكفي، بل لعلها تعدو السبب الحقيقي الذي نجده في طبيعة المتنبي النفسية وفي ملابسات حياته، فقد كان الرجل قوي الانفعال سريع التأثر، زخرت نفسه بشتى المشاعر ففاضت في لغة الحب، ولقد أحب سيف الدولة حبًّا حقيقيًّا؛ إذ رأى فيه رجلًا شهمًا كريمًا، وزاده حبًّا له كونه عربيًّا في زمن غلب فيه الأعاجم وسيطروا على العرب في كل مكان، إلا في حلب حيث كان يرابض الحمداني يحمي الثغور ضد الروم، ثم يخضع القبائل الثائرة، ويتبع النصر بالعفو عنهم ليضمهم إلى جانبه في دفاعه المجيد ضد أمراء بيزنطة أعداء العرب جميعًا. ولقد ترك الشاعر أمير حلب مغضبًا، ومكث في مصر عند أعداء بني حمدان أربع سنوات، ثم عاد إلى العراق، ومع ذلك لم يهج قط صديقه الحبيب، ولا عدا في ذكره له حدَّ العتاب الذي تفاوت لينًا وشدة بتفاوت حالات الشاعر النفسية. بل لقد رأيناه يرثي أخته خولة رثاء مؤثرًا يدل على حزن حقيقي ومشاطرة لأخيها في ألمه، ودعاه سيف الدولة إلى أن يعود إلى جواره فاعتذر، ومع ذلك لم يكتم فرحه بخطاب تلك الدعوة الكريمة التي أتته من صديقه القديم. ولقد عبَّر عن حزنه لفراق ذلك الصديق غير مرة في شعر صادق جميل مؤثر، وبخاصة أثناء إقامته بمصر.
وقوله من قصيدة أخرى:
وقوله:
أحب إذن شاعرنا سيف الدولة حبًّا حقيقيًّا، وحزن لفراقه حزنًا موجعًا:
وكذلك قوله:
… إلخ، مما يفيض غرامًا أو ما يشبه الغرام. وألف الشاعر تلك اللغة، فظهرت في مدحه لغير سيف الدولة، ككافور في قوله: «وما أنا بالباغي على الحب رشوة …» وقوله:
وابن العميد بقوله:
وعضد الدولة بقوله:
ولتعليل تلك اللغة في مخاطبة قوم لم يكن المتنبي يحبهم حبه الصادق لأمير حلب، يجب أن نفطن إلى حقائق نفسية أخرى عند الشاعر، وأخص تلك الحقائق اثنتان: الطموح والسذاجة، فالطموح من طبيعته أن يخلط بين الغايات والوسائل، فترى صاحبه يحب كل وسيلة إلى الغاية التي يستهدف، وكأن الغاية قد اختلطت بالوسيلة. وإذا اجتمعت السذاجة إلى الطموح، كما حدث عند المتنبي، لم يكن غريبًا أن يحب الرجال الذين رأى فيهم كل وسائل إلى غاياته، وأن يسرف في هذا الحب عندما تخيل إليه سذاجته أن غاياته المحبوبة قد تحققت أو أصبحت في حكم المتحققة. ولعل في بيته الشهير:
وهو ما يمثل نفسية الرجل الطموح خير تمثيل، فهو لا يحب إلا من يولي الجميل ولا يرى الطيب إلا حيث ينبت العز. ونحن الآن لا نناقش قيمة هذا الإحساس من الناحية الأخلاقية، ولكننا نقرر حقيقة نفسية ثابتة، نجدها عند النفوس المندفعة الطموحة الساذجة في الغالب، والمتنبي من بينها.
وينتهي بنا هذا التحليل السريع إلى نقطة البدء، وهي مقدرة المتنبي على الانفعال، وبهذه المقدرة نعلل استخدامه لغة العشق أيضًا في الكلام على الحرب كقوله:
وقوله:
فأنت ترى الطعن عنده كالقُبَل، وترى الحرب عاشقة للشجاع، وأمثال ذلك كثير في شعره.
هذه هي الظاهرة التي لاحظها الثعالبي وقد عللناها بما نراه متمشيًا مع نفسية الشاعر، وهي بعد لا تقف عند المدح أو الفروسية، بل تكاد تمتد إلى معظم شعره. والقُرَّاء لا ريب يذكرون نظرية صديقنا الباحث العميق محمود شاكر، وهي التي يزعم فيها أن المتنبي قد أحب خولة حب غرام، ومن أكبر أدلته على ذلك ما في رثائه من حرارة الألم. ونحن وإن كنا غير واثقين من صحة هذا الفرض، إلا أننا مغتبطين إلى الظاهرة العامة التي لاحظها صاحب «اليتيمة» وأمَّنا عليها، فالمتنبي — ككل شاعر كبير — غني بنغمات الحب.
والحب هو الذي يمس نفوسنا عندما نستمع إلى أناشيد لبنان، وفي هذا تختلف أناشيدنا في جملتها عن أناشيدهم، فنحن نصدر، إما عن زهو كقولنا: «بلادك يا مصر بلاد الأسود» أو نحن «زوابع من نار، في قوة الإعصار، في عزمه الجبار، كنا على الدنيا فنا … نحن السيوف المشروعات.» وإما أن ندعو إلى حروب كحروب دون كيشوت نحو: «يا قاعد في دارك والعالم في نار، ما تحمل سلاحك وتحمي الديار»، أو «يا فرحتي، في الحرب حاخدم أمتي» بلغتها المخنثة السمجة التي يصدعنا بها الراديو المصري المشئوم صباح مساء.
وهذان البيتان هما القرار الذي تردده الجوقة، وقوام الإحساس فيه ربط الوطن بمستقر الأجداد، ثم طيب المقام به ونشوة الانتماء إليه، وتأتي المقطوعة الأولى:
وهذا شعر سهل قريب، ولكنك تحس بلغة الحب تتقد بين مقاطعه، وكأن السمر وضوء القمر، والكوكب الهادي، والليل لما اعتكر، والنهر والوادي، والفجر لما انتشر ليست من الظواهر الشائعة بين البشر، بل شيء خاص، خاص بأرض أجدادي، يخيل إليَّ أن هذه الأشياء كلها غيرها في البقاع المغايرة للوطن الذي يتغنى به الشاعر، هناك شيء من التخصيص لا أدري من أين أتى، فهو يجري في المقطوعة كلها، يجري في الإحساس الصادق بالجمال، يجري في يسر العبارة، يجري في «فيك» بعد «عشقت» الأولى، وفي «باء» «بأرض أجدادي» بعد «والفجر لما انتشر»، يجري في موسيقى اللفظ، وحرارة القلب.
ويعود القرار: عليك مني السلام … إلخ، ثم تأتي المقطوعة الثانية ولعلها أجمل ما في النشيد:
وهنا يجتمع الإحساس بالجمال الخاص، بالجمال الدال على وطن بعينه، الجبال ذات الثلوج تذوب كاللآلئ، يجتمع إلى لوعة النفس، لوعة فيها روحية التصوف، سالت الثلوج كدمع المقل، سالت سبحان مجريها، ضاعت كرمز الأمل, ثروة روحية في تلك المعاني التي بلون بعضها وقد تدفقت في وحدة نفسية بالغة العمق. انظر إلى نار الوطنية تئج في تشبيه ثلوج الجبل الجميل كاللؤلؤ يُدمع المقل، انظر إلى التصوف الديني في سبحان مجريها، انظر إلى العتاب القوي المثير للهمم في «ضاعت كرمز الأمل».
ويعود القرار مرة ثالثة، ثم تصل إلى المقطوعة الأخيرة:
أوَما يفعلُ هذا العتاب في النفس أكثر مما تفعل ألفاظنا الضخمة ونداءاتنا الغليظة المسرفة؟ فالنفس تناجي هذا الوطن، وقد نزلت به محن جرحت أهليه، هلَّا عالجتموها! وها أنتم تهاجرون التماسًا لسعة الحياة، ولكن أما للوطن أن يلتمس فيكم حماته؟! هذا الوطن الجميل «يا ما أحيلى السكن في أرض أجدادي!» عتاب فيه إغراء قوي، حتى العبارة عذبة جميلة مؤثرة «يا ما أحيلى السكن»، يا ما أحيلاه في أرض أجدادي! هذا هو سحر الألفاظ، سحر مستمد من القلوب.
وبعد، فأنا أخشى أن يكون مصدر ما في أشعارنا من غلظ، ضعف في الحاسة الفنية، حاسة الإحساس بالجمال، ثم نقص في القدرة الحقيقية على الحب بمعناه الإنساني الصحيح، ويزيد هذا الخوف في نفسي وضوحًا ما ألاحظه من أن شعبنا لا يفطن إلى شيء اسمه جمال في شجرة أو نهر، فجر أو غسق، وإنما يعرف ذلك من سمع منا أو تعلم أن هناك شيئًا بهذا الاسم. وإن الله لم يخلق الأشياء لما فيها من نفع مادي للإنسان فحسب، بل خلقها أيضًا لمعانٍ روحية. سل مثلًا فلاحًا عن جمال شيء، تحس لساعتك أنك تخاطبه عن أمر خلا منه ذهنه على الإطلاق، وليس لذلك سبب غير الجهل، فالإحساس بالجمال ذاته لا بد أن يوقظه العلم، واللبنانيون أكثر اتصالًا منا بثقافة الغرب؛ ولذلك نضح إحساسهم، ورهفت أذواقهم، ونضجت نفوسهم. ومن هنا ترانا ندعو جاهدين إلى نقل الثقافة الغربية إن كنا نريد نهضة حقيقية، وما النهضة إلا نوع من الحياة لا أفكار تردد أو نظريات تسرد.
(٤-١) الأدب عسر لا يسر٦
ونحن بعد ذلك لا نكتب لنسكب ما في نفوسنا في أنفس الغير، وإنما لنعين كل نفس على الوعي بمكنونها؛ إذ النفوس عامرة بكل حق وجمال، والمقال الجيد هو ما يأخذ بتلك النفوس إلى حيث يستقر منها ذلك الحق وذلك الجمال.
يخيَّل إليَّ أن الطبيعة البشرية كقطعة الرخام حَلَّتها الطبيعة بأجمل «التجازيع»، ولكنها مختفية كما هو الأمر في الرخام، ولكي تظهر تلك التجازيع لا بد لها من محك يذهب بالطبقة السطحية التي تخفيها، وهذا المحك في الطبيعة البشرية هو الحياة. فنحن إذ نكتب لا نفعل ذلك إلا لأن الحياة قد كشفت لنا عما في طبيعتنا من «تجازيع» نطلع الغير عليها لتعينهم على اكتشاف ما اكتشفنا، فيجدون في أنفسهم ما وجدنا. ذلك أنه وإن تكن تجاربنا الخاصة لن تغني الغير عن التجربة الذاتية، إلا أنه ما من شك في أن حياتنا الروحية خاضعة لقانون عام هو قانون «ادخار الطاقة»؛ فالرواية التمثيلية نراها فتشفي النفس من غريزة مكبوتة أو أمل مكتوم، وكأننا أحيينا تلك الغريزة وحققنا ذلك الأمل، وهكذا تحل المشاهدة وما يصاحبها من مساهمة خيالية محل المزاولة الفعلية، وبهذا نجنب أنفسنا التجربة المباشرة، وندخر ما في جهدنا من طاقة، والأمر في الرواية كغيره في كل أثر أدبي أو فني.
وإذن، فنحن نكتب لنساعد الغير على اكتشاف نفسه، ونحن نريحه بتجاربنا من المزاولة الفعلية، وخلاصة تجاربنا في أكثر الأحيان ليست من الوضوح بحيث يُظن إلا أن تكون تجارب مدعاة، فالحياة لسوء حظنا أعمق من أن تسلم إلينا أسرارها، والخلق الأدبي ليس خلقًا عقليًّا بل خلق حواس، فليس لرجل الفن أن ينتظر حتى تأخذ الصور الحسية عنده دلالتها العقلية، وإلا حكمنا عليه ببعد طبيعته عن إمكان ذلك الخلق، وإنما هو يأخذها عند نبعها، قبل أن تصل إلى نفسه فتسقط في الميدان العقلي الذي يشترك فيه جميع الناس. وكيف نستطيع أن ندعي الخلق بما هو شائع بين البشر؟
ومن هذه الصورة الحسية نصوغ ما نعرضه على القارئ وقد شاطرنا صفة الإنسانية واثقين أنه واجد في نفسه ما يماثلها، ونحن بعد ذلك لا نعرض عليه ما في نفوسنا من حب أو ألم تطفلًا منا وزجًّا له فيما لا يعنيه ليضيق بنا نفسًا، بل لإيماننا بأنه يحب ويألم كما نحب ونألم. والواقع أنه ليس هناك أي خلق أدبي يسند إلى حادثة بذاتها، فالكاتب للغزل لا يتغنى بامرأة بعينها بالغًا حبه لها ما بلغ، وإنما أقصى ما يستطيع أن يفعل هو أن يحضرها إلى نفسه ليخلق جوًّا يستطيع بفضل ما يشيع فيه من حرارة أن ينفذ إلى صميم النفس البشرية إطلاقًا.
والفنان يعرف أنه صائر إلى الفناء، وهو منذ نشأته يحس بأن في نفسه رسالة لا بد من أدائها، وهمه الأول هو تحديد تلك الرسالة وقد شاعت في نفسه غامضة، فليس لإنسان أن يزيده نصبًا وقد شد عزمه لجمع ما انتثر من تلك الرسالة، ولا أن يطالبه بتأديتها دفعة واحدة، فلو أنه استطاع لما توانى، وإنما لنا وعلينا أن نمهله متلقين ما يحمل لنا من فتات، مقدرين له جهده، عالمين أنه خير للإنسانية أن تؤدي نفس واحدة رسالتها ولو نقطة نقطة من أن يملأ الناس آلاف الصفحات المستعارة.
هذا هو الأديب كما أظنه، وأما من يدَّعون الأدب بغير رسالة تطرب بها نفوسهم فتلك أرواح خلقت خطأ كما خلق أكثر الناس بغير سبب، ولا مبرر إلا إتلاف الحياة على من يستحق الحياة.
وكلما فكرت في أمر الأدب أو الفن عندنا عاودتني تلك الذكرى، وبودي لو ساقت هذا الرجل قدماه إلى بلادنا، فما أشك أنه واجد ما يملأ أضعاف سلته.
فالأدب عندنا تزجية فراغ أو احتيال على العيش، وفي هذا امتهان لحياتنا لا حد له، وهو إن سعى إلى غاية جاءت غايته حقيرة، فمن قائل: إنه منبر وعظ وسبيل إرشاد، ومن قائل: إنه مصري أو يجب أن يكون مصريًّا، والكل يجمع على ضرورة تيسيره لكافة الناس حتى نكسب من ورائه المال.
وأنا بعدُ أعلم أننا بوجه عام لم نزل في حالة فطرية؛ حيث تقاس الأشياء بما تعود به من نفع مادي أو معنوي مباشر، وأنه لا بد لنا من زمن حتى نصل إلى تقدير الحق والجمال في ذاتهما.
ولكن أما لنا أن نحاول بسط أجنحتنا؟ وشباب هذه الأمة يحتفز نشاطًا، فما له لا يأخذ عدته، فيبحث وينقب عما نشير إليه، يغني بتفاصيله نفسه؟
فرجاؤنا إلى الشباب اليقظ أن يرجع إلى ما يشير إليه الكاتب، فيستوعبه ليرى أثره العام في نفسه، وليذكر مثل هذا الشاب أن الثقافة الحقيقية «هي ما يبقى في النفس بعد أن ننسى ما حصلنا»، وهذه الثقافة هي ما نحاول أن نمده بها، وإن يكن ذلك غير مغنيه عن الرجوع بنفسه إلى كتب البسط، فمهمتنا ليست في ذلك، وإنما هي في تعليمه كيف يجد نفسه.
الأدب عسر لا يسر، وما ينبغي أن يكون غير ذلك، على أنك مجازى بغير ريب عن جهدك، فسترى أمامك عوالم لم تحلم بها من قبل، وسيأتي يوم يخيل إليك فيه بمجرد نظرة، أنك تشق الحجب فترى في النفوس ما تكنه من جمال أو قبح، كما سترى خلف الأشياء ما فيها من حق أو باطل. وأي كسب يعدل كسبًا كهذا؟ وأي معنًى للحياة بغير الفطنة إلى أسرارها وغاياتها؟