المعرفة والنقد
الشعراء النُّقَّاد
نشر زميلنا الأستاذ محمد خلف الله مقالًا بهذا العنوان في مجلة «الثقافة» (عدد ١٩١)، وقد وجدت فيه آثارًا واضحة لمنهج عام في دراسة الأدب ونقده، لمسته غير مرة في أوساطنا الجامعية وغير الجامعية، ولما كنت أخشى أن يصيب حياتنا الأدبية بالعقم، فإنني أبادر إلى مناقشته.
ولُباب هذا المنهج، كما نستخلصه من مقدمة المقال، هو الدعوة إلى نقد تقريري يقوم على أسس من علوم الجمال والنفس والتاريخ والاجتماع، وهذا ما يفعله الآن بعض الأساتذة الذين يظنون أن الأدب يمكن أن يحدد فهمنا له أو دراستنا لنصوصه بإقحام هذه العلوم وغيرها فيه، وهذا في الواقع ليس تجديدًا، فقد سمع عنه العرب بلسان قدامة بن جعفر، وعرفته أوروبا في قرن الفلسفة، القرن الثامن عشر، وقد فطن لخطئه معاصرو قدامة واللاحقون له، وفي مقدمة «أدب الكاتب» لابن قتيبة أقوى رد عليه.
ولقد عادت أوروبا من ضلالها وأصبحت اليوم تؤمن عن حق بأن لكل علم مناهجه، وأن أي علم لا يمكن أن ينمو إلا إذا كان نموه ذاتيًّا ومن داخله، وأنا أعتقد أن الاتجاه الذي يدعو إليه الأستاذ خلف الله محنة ستنزل بالأدب؛ لأن معناه الانصراف عن الأدب وتذوق الأدب وفهم الأدب، والفرار إلى نظريات عامة لا فائدة منها لأحد.
النقد هو فن دراسة النصوص الأدبية، والتمييز بين الأساليب المختلفة، وهو لا يمكن أن يكون إلا موضوعيًّا، فهو إزاء كل لفظة يضع الإشكال ويحله. النقد وضع مستمر للمشاكل، والصعوبة هي في رؤية هذه المشاكل، وهي متى وُضعت وضح حلها لساعته. والذي يضع المشاكل الأدبية ليس علم الجمال ولا علم النفس ولا أي علم في الوجود، وإنما هو الذوق الأدبي، وهذا شيء ليس له «مرجع إليه». وأسارع فأقول: إن الذوق ليس معناه ذلك الشيء العام المبهم التحكمي، وإنما هو ملكة إن يكن مردها ككل شيء في نفوسنا إلى أصالة الطبع، إلا أنها تنمو وتصقل بالمران. وعند ابن سلام الجمحي وعند الآمدي في ذلك صفحات يجب أن نتدبرها. يقول ابن سلام: «قال قائل لخلف: إذا سمعت أنا بالشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك.» فقال له: «إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته فقال لك الصراف: إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟» وإذن فلكي يصح النقد الذوقي لا بد له من دُربة، وفي هذا يقول ابن سلام أيضًا: «للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه العين ومنها ما يثقفه اللسان، من ذلك اللؤلؤ والياقوت لا يُعرف بصفة ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره، ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم لا تُعرف جودتهما بلون ولا مس ولا طراز ولا حس ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة فيعرف زائفها وستوقها ومفرغها … إلخ.»
أليس هذا ما قاله ابن سلام؟ ولقد عاد الآمدي أكبر نُقَّاد العرب وأصدقهم ذوقًا إلى تنمية هذه الحقائق في «الموازنة»، وفيها يوضح كيف أنه سيعلل أحكامه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ثم يرشدنا إلى أنه سيبقى «ما لم يمكن إخراجه إلى التبيان ولا إظهاره إلى الاحتجاج، وهي علة ما لا يعرف إلا بالدربة ودائم التجربة وطول الملابسة، وبهذا يفضل أهل الحذاقة بكل علم وصناعة من سواهم ممن نقصت قريحته وقلت دربته.» وهو يحكي عن إسحاق الموصلي أن المعتصم سأله يومًا: «أخبرني عن معرفة النغم وبينها»، فأجاب إسحاق: «إن من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤديها الصفة.» وفي الأدب أشياء كثيرة، شأنها شأن النغم يحيط بها الذوق ولا تؤديها الصفة. ويضيف هذا الناقد الكبير: «ليس في وسع كل واحد أن يجعلك — أيها السائل المتعنت والمسترشد المتعلم — في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد إلى قذف ذلك في نفسك ولا في نفس ولده ومن هو أخص الناس به سبيلًا، ولا يأتيك بعلة قاطعة ولا حجة باهرة.»
وهذا كلام صادق عميق، فالذوق الذي نقول به ليس ذلك الذوق النظري الذي يتحدث عنه الفلاسفة، وإنما هو الذوق الأدبي، ذلك الذي يرى أن أبا تمام عندما يصف امرأة «بأنها ملطومة الخدين بالورد» قد أتى كما يقول الآمدي «بالحمق أجمعه».
والذوق خير وسائل المعرفة على أن يكون ذوقًا مدربًا، وأن نأخذه بالمناقشة والتعليل، حتى بعد أن يتم تثقيفه. ولكم من مرة يصدق الذوق ويبطل التعليل، وهذا عند الآمدي كثير الحدوث، ولكم من مرة يستقيم التعليل ثم يخطئ الذوق، كما نرى عند ابن قتيبة. ومع ذلك فالذوق الذي يُعتدُّ به هو الذوق المعلل في حدود الممكن، وإن كان ثمة أشياء «لا تؤديها الصفة».
واعتراض آخر قد يراه البعض، وهو ينظر فيرى أن الإنسانية قد تقدمت، وأن كل شيء قد أصبح اليوم خاضعًا لمنهج العلوم الطبيعية الدقيق، وها هو علم الجمال وعلم النفس وعلم الاجتماع تُجرى فيها التجارب والأبحاث، وتدون النتائج وتستنبط القوانين، فما بالنا لا نستفيد في دراسة الأدب من كل ذلك، بل ما لنا لا نجعل من النقد هو الآخر علمًا له معادلاته ومبادئه؛ وذلك أملًا في إكسابه ثبات المعرفة العلمية وتجنب ما في تأثرات الذوق من تحكُّم، وما في الأحكام الاعتقادية من مسلمات غير ثابتة، وهنا أيضًا أترك الرد للانسون، حتى لا يتساءل صديقنا الأستاذ خلف الله مرة أخرى عن المراجع.
ويعلق لانسون على أقوال رو فيقول: «إن ما نستطيع أن نأخذه عن العلماء هو النزعة إلى استطلاع المعرفة والأمانة العقلية القاسية والصبر الدءوب، والخضوع للمواقع والاستعصاء على التصديق، تصديقنا لأنفسنا وتصديقنا للغير، ثم الحاجة المستمرة إلى النقد والمراجعة والتحقيق، وأنا لا أدري أَعِلْمٌ ما سنعمله عندئذٍ أم لا، ولكني على ثقة من أننا سنعمل خير تاريخ أدبي، وإذا فكرنا في مناهج العلوم فيجب أن يكون ذلك لإثارة ضمائرنا أكثر من أن يكون لبناء معارفنا.»
هذه هي أقوال لانسون وهي عندي تفصل في الخصومة فصلًا نهائيًّا، فالذي نستطيع أن نأخذه عن العلوم — سواء في ذلك العلوم الطبيعية أو العلوم النفسية التي أصبحت اليوم تصطنع مناهج العلوم الطبيعية، كما هو معروف — هو روحها، وأما أن نأخذ عنها مبادئ وآراء وقوانين فهذا خطأ، بل كارثة على الأدب. وكلنا لا ريب يذكر أقوال قدامة عندما رد الرثاء إلى المدح مع كان ويكون وجعل الهجاء نقيض المدح، وحصر الصفات التي يمدح بها في «العقل والشجاعة والعدل والعفة»، وما إلى ذلك من سخافات يسمونها فلسفة. وأنا إذ أقاوم بكل قوتي هذا الاتجاه الذي يصدر عنه الأستاذ خلف الله لا أدعو إلى الكسل أو إلى إهمال أبحاث علماء النفس والجمال والاجتماع، فهذه أشياء أضعنا فيها جزءًا كبيرًا من شبابنا وهي لا ريب تفتح آفاقًا للتفكير، وقد تزيدنا بالإنسان معرفة، ولكني أقول: إنها غير الأدب، وإنه لا يجوز أن نظن أننا سنجدد الأدب في شيء عندما نقحمها فيه، وخير عندي من كل هذا أن نناقش قصيدة شعر أو رواية. وإني لمؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأنه من الأجدى على أستاذ الأدب أن يناقش أمام طلبته أو يعرض على قرائه مناقشة نص أدبي يقف عند تفاصيله ويظهر ما فيه، من أن يشرح لهم في سنين أو في مئات الصفحات نظريات علم النفس أو علم الجمال، فهذه لن تصقل ذوقًا ولن ترهف حسًّا، وتلك هي ملكات الأدب التي يجب أن ننميها وأن نتعهدها، يجب أن نحبس أنفسنا في الأدب، وأما الفرار إلى غيره فلا.
وليس أدل على صحة ما أقول به من واجب قصر المشتغلين بالأدب جهدهم أو على الأقل معظمه على دراسة النصوص الأدبية ذاتها بدلًا من محاولة إدخال الفلسفة على الأدب وتضييع وقتنا في ذلك — من كلام الأستاذ خلف الله نفسه، فنظرته إلى النقد كشيء يقوم على الرؤية ويخالف الخلق الفني، وظنه أن الشعراء والكُتَّاب لا يشتغلون بالنقد ولم يشتغلوا به ولا وضعوا نظريات عامة فيه، وأنه لا بد للنقد من أن يكوِّن لنفسه أولًا فكرة أساسية في الأدب والفن. كل هذا كلام مردود وخطر؛ وذلك لأن ما فيه من حقائق تاريخية غير صحيح، وما فيه من آراء شخصية للزميل الفاضل لا أراه مصيبًا فيها.
فأما ملاحظته «عن قلة عدد الشعراء الذين يعنون بالناحية النقدية من فنهم»، فهذا غير صحيح في «مختلف الآداب العالمية»، وأنا لا أدري كيف يقال قول كهذا.
والناظر في تاريخ الآداب يجد نوعين من النقد: نقد نسميه وصفيًّا؛ ونعني به نقد النقَّاد المحترفين الذين درسوا مؤلفات الكُتَّاب والشعراء الآخرين ليستنبطوا حقائق وليصفوا لغيرهم، وهذا النقد قد ابتدأه اليونان وبخاصة أرسطو في كتابيه: «الخطابة» و«الشعر». وأنا لا أقول إن أرسطو كان كاتبًا أو شاعرًا، ولكن ما الرأي في «هوراس» الشاعر اللاتيني الشهير، ألم يكتب «فن الشعر» وهي قصيدة طويلة تزيد على الثلاثمائة بيت في فنون الشعر المختلفة وأصول كل فن ومن تميز فيه؟ وما الرأي في بوالو الشاعر الفرنسي الشهير أيضًا، وقد وضع «فن الشعر» كما فعل هوراس؟ بل ما بال الأستاذ خلف الله يظن أن «الشعراء القدامى» عند العرب لم يتناولوا النقد إلا في بيت للبحتري وبيت لأبي نواس، مع أن لأبي تمام أيضًا بيتًا يقول فيه: «إن الشعر صوب العقل»، وهذا يحدد مذهبه. بل دعنا من البحتري وأبي تمام، ثم لننظر إلى أبي نواس وفي معظم خمرياته وغزله نقد لمذاهب القدماء. الأمر عند أبي نواس ليس أمر بيت من الشعر، بل أبيات إن لم يكن مئات الأبيات.
ومع هذا نسلم مع الأستاذ أن «الشعراء القدامى» عند العرب فيما عدا أبي نواس لم يقتتلوا في سبيل مذاهبهم الأدبية؛ لأن هذه المذاهب لم تكن قد اتضحت بعد ولا تنوعت، ولكن ما الرأي في شاعر كابن المعتز؟ ألم يكتب في النقد كتاب «البديع» الذي يجمع بين علم البيان وفن النقد؟ ألم يكتب في «سرقات الشعراء»؟ ألم يضع الشعراء في طبقات في كتابه «مختصر طبقات الشعراء»؟ ثم ما الرأي في أبي العلاء صاحب «ذكرى حبيب» و«عبث الوليد» و«معجز أحمد»، ثم «رسالة الغفران»؟ وهب أن كتب أبي العلاء كان يغلب فيها الشرح على النقد، وأنه قد ضاع معظمها أيضًا، ولكن أليس لدينا في «رسالة الغفران» نقد من خير ما خلف «الشعراء القدامى»؟
ولنترك القدامى لننظر في المحدثين في الشرق والغرب، وكلنا يعلم أنه منذ القرن السادس عشر؛ أي منذ البعث العلمي كان الشعراء والكُتَّاب هم طليعة النقَّاد وخير النقَّاد، ونقدهم يجمع بين ما نسميه بالنقد الإنشائي، ذلك الذي يدعو إلى مذهب جديد من مذاهب الأدب كالمذهب الكلاسيكي أو الرومانتيكي أو الواقعي … إلخ. ومن منا لا يذكر شكسبير في «هملت» وجيته في «الشعر والحقيقة» وموليير في «الفن الرومانتيكي» وفكتور هيجو في «مقدمة كرومويل» وشيلي في «الدفاع عن الشعر»، وورد زورث في «مقدمته»، وفاليري في «متفرقاته» ودانتي في «اللغة العامية» وديهامل في «دفاع عن الأدب».
بل إنني لا أعرف — أو لا أكاد أعرف — كاتبًا أو شاعرًا لم يكتب ويتحدث في النقد، وهل يظن الأستاذ خلف الله أن أحدًا يستطيع أن يكون شاعرًا أو كاتبًا مجيدًا إلا أن يكون ناقدًا ليبدأ بنقد ما يكتبه ووزنه جملة جملة وحرفًا حرفًا؟ وهلا يرى معي الأستاذ أن كل الفارق بين القدامى والمحدثين هو أن القدامى كانوا ينقدون أنفسهم أو غيرهم دون أن يشعروا بالحاجة إلى كتابة ذلك، وأن المحدثين ينقدون ثم يدونون لتبصير جمهور القُرَّاء بحقائق الأدب؟ ثم من قال: «إن النشاط الفني فيض حيوي متدفق يأبى الوقوف حتى يصل إلى غايته من التصوير أو الإبداع، وإن النشاط النقدي حركة قائمة على الأناة والروية تُعنى بالضرورة بتسلسل الفكرة وإحكام حلقاتها»؟ هذا كلام نرتجله نحن ولم يقل به أحد، لا من الأدباء ولا من علماء الجمال والنفس أنفسهم. وإنما الخلق الفني والنشاط النقدي كلاهما «صناعة كسائر الصناعات» لا بد فيهما من روية وإمعان وتسلسل وإحكام حلقات. وأنا لا أومن بشيء اسمه الإلهام والوحي والعبقرية، وإنما أعرف «التثقيف وإبداع الصناعة» ونقد ما نكتب والجهد وطول المران، وهذه كلها حقائق سبق أن قلتها وسأقولها دائمًا لأنها الحق.
قال أبو عمرو الجاحظ: «طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يعرف إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فألفيته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فرأيته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكُتَّاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات.» فلله در أبي عثمان! لقد غاص على سر الشعر واستخرج أدق من الشعر. وفي هذا النمط ما حدث محمد بن يوسف الحمادي قال: حضر مجلس عبيد الله بن طاهر وقد حضره البحتري فقال: يا أبا عبادة، مسلم أشعر أم أبو نواس؟ فقال: بل أبو نواس. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلبًا لا يوافق على هذا. فقال: «أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحيط بالشعر ولا يقوله، وإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه.»
بذا يتحدث الصاحب بن عبَّاد في رسالته عن «الكشف عن مساوئ شعر المتنبي» (ص٤ و٥)، ومنه ترى أن القدامى قد فطنوا إلى أن النقد شيء مستقل عن كل علم آخر، وأن قوامه الذوق، وأن أقدر الناس عليه هم الشعراء والأدباء.
فما بالنا نترك كل هذه الحقائق الرائعة التي خلفها لنا أجدادنا، ثم نروح نحاول بعث مذهب سقيم كمذهب الأعجمي قدامة.
إن مذهب الأستاذ خلف الله ومن يرى رأيه سينتهي بنا إلى قتل الأدب، والأدب لا يمكن أن نجدده ونوجهه ونحييه إلا بعناصره الداخلية؛ عناصره الأدبية البحتة، وهذا ما يجب علينا جميعًا أن نجاهد في سبيله.
إنه لوهم بعيد أن نظن في علم النفس أو علم الجمال أو غيرهما من العلوم كبير فائدة للأدب، يجب علينا أن نعرف كل تلك الأبحاث، ولكن على أن نحتفظ بتلك المعرفة لأنفسنا ولا نزج بها في الأدب وإلا كنا مفلسين، نوهم الغير ببريق كاذب.
ولقد كتب الأستاذ خلف الله نفسه عن «الذاتية والموضوعية في الفن» بالثقافة منذ أعداد، فماذا أفاد الأدب من ذلك، وإنه لأجدى علينا أن يحلل لنا الأستاذ نصًّا نتذوقه ونحس في ثنايا تحليله أنه يعرف الذاتية والموضوعية وما إلى ذلك معرفة تضيء تحليله من الداخل، ولكن لا تجففه ولا تتلفه ولا تخرجه إلى التعليم المدرسي. وهو لا ريب بأمثال هذا التحليل سينتهي إلى فكرة أساسية عن الأدب، يستطيع أن يحدثنا بها كخلاصة لتجاربه الخاصة، وعندئذٍ ستكون أصدق وأعمق من كل ما تستطيع أن تمنحنا علوم النفس والجمال والاجتماع من أفكار أساسية في الأدب.
المعرفة والنقد
رد الأستاذ خلف الله على مقالي الذي دعوت فيه إلى تنحية العلم عن الأدب ونقده، وذلك تحت عنوان «بعض مناهج الدراسة الأدبية»، واحتاط فلم يذكر اسمي هذا ما أشكره من أجله. والأستاذ خلف الله رجل لبق، ولقد كان من حقي أن ألزم الصمت، ولكني مع ذلك أعود إلى إيضاح رأيي لا رغبة في محاجَّة الأستاذ — فذلك أمر ثانوي — ولكن لأن المسألة المثارة لها عندي أهمية بالغة وهي خليقة بأن تجدد حياتنا الروحية ومناهج دراستنا تجديدًا تامًّا، وتسير بنا إلى اللحاق بمن سبقنا من الشعوب.
من السهل أن ندافع عن المعرفة فهي شيء نبيل، نبيل حتى لا يحتاج إلى دفاع، ومن السهل أن نرى في الذوق الأدبي شيئًا غامضًا أقرب إلى التصوف منه إلى الضوء، وأسهل من كل ذلك أن نستشهد بآراء «آبر كرومبي» لندل على وجود ملكة إنتاج، وملكة نقد، فهذه كلها أشياء نعرفها وهي ليست موضع المناقشة. والذي أريد أن أتبينه هو: هل هناك مجال لجعل النقد علمًا؟ وهل ذلك ممكن باستعانتنا بعلوم النفس والجمال والاجتماع؟
النقد — كما قلت ويقول كل النقَّاد — هو فن دراسة النصوص وتمييز الأساليب. وهذا الفن يستعين بضروب من المعارف، ولكنه لا يستخدمها ليحاول أن يضع بفضلها قوانين عامة للأدب، ثم يأتي فيطبق تلك القوانين على النص الذي أمامه، فما تمشى مع تلك القوانين كان جيدًا، وما خرج عنها كان رديئًا. والعلم — كما نعرف — هو اكتشاف القوانين التي تفسر الظواهر الخاصة بكل جانب من الحياة والوجود، فهل الأدب أحد تلك الجوانب؟
فأما عن علم الأدب فإجماع الأدباء اليوم أنه قد فشل، وكلنا نعرف نظرية «تين» في ذلك، فقد أراد ذلك الناقد الفيلسوف أن يضع للأدب قوانين يفسره بها، ورد تلك القوانين إلى الزمان والمكان والبيئة، وطبق قوانينه على الأدب الإنجليزي، وهبَّ جميع ذوي النظر السليم ضد هذا العلم الذي لا يستقيم. وإنك لتقرأ في كتب المدارس بفرنسا ردودًا على تلك المحاولة لا تستطيع دفعها. والزمان والمكان والبيئة لا يمكن أن تفسر لنا التفاوت الكبير بين بيير كورني وأخيه توما كورني، وأندريه شينييه وأخيه ماري جوزيه شينييه فهؤلاء إخوة اتحدوا في الزمان والمكان والبيئة، ثم اختلفوا في كل ما عدا ذلك، ومنهم من طبَّق مجده الآفاق كبيير كورني، وأندريه شينييه، ومنهم من لا نذكره اليوم إلا للتاريخ كتوما كورني وماري جوزيه شينييه. ثم كيف نعلل في أدبنا تفاوت أبي تمام والبحتري أو الفرزدق وجرير؟ بل كيف نفسر في الأدب أصالة كل كاتب؟ مع أن الأصالة بتعريفها ذاته شيء لا يرد إلى غيره، وهي مجموعة من الخصائص التي تتميز بها روح عن روح. وأنا على ثقة من أن كل علوم الأرض لن تفسر ذلك الشيء الدفين الذي يميز روحي عن روح غيري. والعبرة بعد ليست باتحاد الزمان والمكان والبيئة، بل بطريق استجابة كل نفس لهذه المؤثرات، وتلك الطرق أصيلة في النفوس الأصلية.
وخلق الأدب أو الإنتاج هو الآخر لا يمكن أن يفسره علم النفس، لا القائم منه على الملاحظة الداخلية، ولا الذي يدرس في المعامل؛ وذلك لأن علم النفس لا يسعى إلا إلى إدراك القوانين النفسية العامة التي قد تفسر حياة الأفراد العاديين إذا صح أن هؤلاء يتشابهون. والذين يخلقون الأدب كما قلت نفوس أصيلة لكل نفس منها حقائق، فكيف نريد أن نطبق عليهم قوانين علم النفس العامة التي أشك أكبر الشك في صحتها بالنسبة للعاديين من الناس. نعم، إن هناك محاولات قد عملت في علم النفس الفردي وهذه تتناول بالدرس حياة الأفراد في حدود ما تتميز به تلك الحيوات، ولكن هبنا أقمنا تلك الفروق فأين لنا بنسبها، والوجود كله مجموعة من النسب؟ أليس الأجدى — وتلك حالتنا — أن ندرس طرق إنتاج كل كاتب في نفسه، واقفين عند خصائصه هو مع حرصنا الشديد من كل تعميم مخلٍّ؟ وأما عن محاولة فاليري فالذي لاحظه كل من استمع لمحاضراته بالكوليج دي فرانس هو أن نفسه الخاصة هي التي كانت موضع تحليله وإن ساق الحديث على نحو عام. فهو عندما يتحدث عن خلق الصور واقتناص الفنان لتلك الصور قبل أن تأخذ دلالتها العقلية، يتضح أنه إنما يفسر أسرار شعره هو. إذن، فحتى في هذه المعضلة لا مجال لتعميمات العلم.
بقي تاريخ الأدب والنقد الأدبي.
- (١) تأريخ لفنون الأدب Genres Litteraires، أو كما نقول في الأدب العربي مثلًا أغراض الشعر، فتتناول في الأدب الغربي فن الملاحم نؤرخ له أو فن القصة أو الدراما، وفي الشعر العربي نتتبع تاريخ المدح أو الرثاء … وهكذا.
- (٢) تأريخ للتيارات العقلية والأخلاقية Les courants كدراستنا لتيار شعر اللذة الحسية عند أناكريون ورونسار ومن نحا نحوهما، أو الغزل العذري عند بترارك وبابيف، أو عند العرجي وعمر بن أبي ربيعة، وعند جميل وقيس بن ذريح.
- (٣) تأريخ لعصور الذوق Les époques du goût فندرس عصر الإنتاج الكلاسيكي في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد مثلًا، أو ندرس عصر الصنعة أيام البطالسة بالإسكندرية، ندرس مذهب التثقيف عند أوس بن حجر وزهير والحطيئة وكعب، أو مذهب البديع عند مسلم وبشار وأبي نواس وأبي تمام.
وكل هذه الأنواع إنما نجعلها وحدات لاضطرارنا إلى الاعتماد على الكليات في إدراك ذلك الفيض الذي يكون تراث البشرية الروحي، ولكنا عندما ندقق النظر نجد مفارقات لا حصر لها في داخل كل نوع. فرثاء أصحاب المراثي الذين أفردهم ناقدنا العليم ابن سلام الجمحي بباب خاص، وجعل متمم بن نويرة على رأسهم، غير رثاء البحتري وأبي تمام مثلًا: ذلك لوعة وهذا مدح، وشعر أناكريون اليوناني غير شعر رونسار الفرنسي، ولو اتفقا في التغني بالذات، ذلك يوناني يحب الحياة حتى ليكاد ينهبها نهبًا، وهذا فرنسي من رجال النهضة يقلد القدماء ويود لو أصاب الخلود مثلهم، وأين صفاء البحر الأبيض من ضباب اللوار؟ ثم من يقول بأن إباء جميل وقوة نفسه يشبه رقة ابن ذريح وتولهه؟
وكذلك الأمر في عصور الذوق، فأوس وزهير يغايران الحطيئة في لون النفس؟ هذان ذوا أَنَفَةٍ وترفُّع والحُطيئة هجَّاء لم يُبقِ حتى على نفسه، ثم هل بي حاجة لأن أقرر أن مسلمًا غير بشار، وأن بشارًا غير أبي نواس، وأن أبا تمام يغاير الجميع؟ أين استهتار بشار وأبي نواس مثلًا من فقر حياة أبي تمام؟ بل أين فن هذين من تقليد شيخ البديعيين الذي لم يَعْدُ في كل شعره «الرقص في السلاسل»؛ أعني التقيد بمعاني القدماء ومحاولة تجديد صياغتها.
إذن، فالصواب هو أن هناك رجالًا، كما قال مورياس على فراش موته، وكل ما يعدو الرجال إلى التعميم مجازفة لا يشفع لها إلا الضرورات الملازمة لحياتنا العقلية. فإذا صح هذا، فأي علم وأي قوانين عامة يريد أن يصل إليها الأستاذ خلف الله؟
لم يبقَ أمام زميلنا باب مفتوح غير النقد الأدبي، وهذا ما نريد أن ننظر الآن في إمكان إخضاعه لقوانين عامة.
- (١)
الأولى: تلك التي ابتدأها أرسطو التي ازدهرت في أدب عصر النهضة وهو الأدب المعروف بالكلاسيكي، وأساس تلك المحاولة هو استقراء ما درج عليه عرف الأدباء في كل فن من فنون الأدب، وجعل ذلك العرف قوانين، ومحاولة إخضاع الإنتاج الأدبي لها. وأسهل مثل لذلك هو الوحدات الثلاث في الدراما؛ أعني وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، ووجوب توفرها في كل دراما. ومن الثابت أنه لم يخضع لتلك القوانين حتى في الأدب الكلاسيكي إلا المقلدون من الأدباء؛ وذلك لأنها عكاز الأعمى، وأما كبارهم فقد مزقت عبقرياتهم كلَّ عُرف وكلَّ قانون، تجد الوحدات مثلًا أوضح عند برادون منها عند راسين أو كورني، ويا ويل أدب يحده شيء غير الحياة.
- (٢)
والمحاولة الثانية: هي التي أحاربها اليوم بكل قواي، وهي في الحق من «مخلفات الماضي، من مخلفات القرن التاسع عشر في أوروبا، ومن مخلفات «الأعجمي» قدامة في الأدب العربي، وأعني بها تطبيق القوانين التي اهتدت إليها العلوم الأخرى على الأدب ونقد الأدب، وهنا لا بد لي من تفصيل القول.» وأنا أبدأ بما حدث في أوروبا لكي أنتهى منه في أسطر لأفرغ إلى أدبنا، فهو مادة حياتنا وهو أولى بأن نوفر عليه جهدنا لنوجهه الوجهة الصحيحة المنتجة.
محاولة اقتحام العلم على الأدب إذن قد فشلت، وكان هذا من حسن حظ الأدب الذي هو أدق وأرهف وأعمق وأغنى من أن نخطط له طرقه. الأدب شيء غير دقيق بطبيعته، ومحاولة أخذه بالمعادلات جناية عليه، الأدب مفارقات، ونقد الأدب وضع مستمر للمشاكل الجزئية، فقد يكون جماله في تنكير اسم أو نظم جملة أو كبت إحساس أو خلق صورة أو التأليف بين العناصر الموسيقية في اللغة، ولقد يخلو من كثير من العناصر التي نعدها كالخيال والعاطفة وما إليها، ومع ذلك يروقنا لصياغته أو سذاجته.
والأمر في أدبنا العربي أشد خطورة؛ لأن الأوروبيين لم يجمدوا على الخطأ كما جمدنا، والذي لا شك فيه أن مناهج كل علم أو فن تصدر عن طبيعة ذلك العلم أو الفن، فعندما نريد درس الأدب العربي يجب أن نكون من الفطنة بحيث لا نحاول أن نطبق عليه آراء الأوروبيين وقد صاغوها لآداب غير أدبنا، فعلم الأدب مثلًا كما عرَّفناه سابقًا بأنه محاولة تفسير الظواهر الأدبية ليس له دائمًا مجال في أدبنا؛ لأنك إذا وجدت علاقة ما بين حياة بعض من شعرائنا مثلًا وشعرهم كما هو الحال في أبي نواس والمتنبي وأبي العلاء، وكما كانت الحال في الأدب الجاهلي والأدب الأموي، فإنك لن تجد شيئًا من ذلك عند الشعراء المقلدين الذين نسميهم بالكلاسيكيين الجدد أمثال البحتري وأبي تمام مثلًا. وكذلك نظرية الإنتاج الأدبي قد يكون لها محل عند الشعراء الأوائل الذين اهتدوا بأنفسهم إلى تشبيه الرسم الدارس بالوشم في ظاهر اليد وأمثال ذلك، وأما من تلاهم فلم يعدوا التقليد، ولك عندئذٍ أن تبحث في انتقال القيم الفنية المعروفة وما أدخلوا عليها من تغيير. وكذلك الحال عندما نحاول تأريخ الأدب العربي، ففنونه وتياراته وعصوره غير متميزة، وهم أنفسهم لم يفصلوا القول إلا في مذهب واحد هو مذهب البديع، فهذا وحده هو الذي يشبه مدارس الأدب في أوروبا. وأما ما دون ذلك فمقارنات أشاروا إليها إشارات عابرة، وحاول بعض نُقَّادنا المحدثين أن يجعلها مدارس كما فعل الدكتور طه حسين في مدرسة زهير والحطيئة، ولكنها بعدُ محاولة لا أدري مبلغ ما فيها من جمع ومنع.
إذن، فالذي يبقى لدينا من دراسة القدماء للأدب العربي هو ما نسميه بالنقد الفني، ونعني به ذلك الذي ينظر في النصوص ويحكم فيها من حيث الجودة الفنية وعدمها، وهذا النقد حظ التفسير فيه — ومن ثم ما يسميه الأستاذ خلف الله بالعلم — ضعيف، وهذا أمر طبيعي أملته حقائق الأدب العربي ذاته، وكل محاولة لتجريح هذا الاتجاه واتهامه بأنه غير علمي محاولة ظالمة مخطئة.
ولكن إلى جانب هذا النقد المنهجي الرائع قامت محاولة «قدامة» التي يريد الأستاذ خلف الله أن يجدد محنتها اليوم. وموضع الخطر عند «قدامة» وعند «العسكري» الذي يُعتبر استمرارًا لمذهبه، هو اعتماد نقده على التقاسيم والشكل والتعليم والتحكيم. ومن منا لا يذكر تعريفه للشعر بأنه الكلام الموزون المقفى الذي يدل على معنى، ليخرج غير الكلام الأغراض ومناهجها، وتمكن بأن يكون المدح بأشياء ولا يكون غير الموزون وغير المقفى وغير ذي المعنى وما إلى ذلك من حماقات؟ ومن منا لا يذكر رده الرثاء والفخر إلى المدح وحصره لمعاني تلك بأشياء؟ ثم ماذا فعل في تقسيمه لأوجه البديع غير الخلط حتى في الاصطلاحات، ورفضه أن يسمي المطابق مطابقًا كما سماه ابن المعتز وتسميته له بالمتكافئ، ثم تعريفه المعاظلة بأنها فاحش الاستعارة … وما إلى ذلك من خلط؟ ثم هبه قسَّم الأوجه بل هبه مهَّد السبيل للعسكري ليصل بها إلى خمسة وثلاثين وجهًا، فماذا أفدنا من ذلك؟ وماذا يفيد طلبتنا اليوم من لصق بطاقات على طرق الأداء كما يلصق التجار على بضائعهم، أهذا نقد؟ أهو بلاغة؟ أهو أدب؟ هذا لا شيء؟ هذا إضلال للمتأدبين وإفقار للذوق وإماتة للحاسة الفنية في النفوس. لقد قلت وأكرر إن كتب قدامة وكتاب أبي هلال مستطيرة الشرر، ومن الواجب أن نلفت الأنظار إلى أنه لا يجب أن ينظر إليها المتعلمون إلا كوثائق تاريخية تنير لنا ماضينا، وأما أن نعتبرها كتب نقد فلا, وكفى طغيانها على كتب المتأخرين حتى يومنا، فقد كانت في ذلك محنتنا، ومن واجبنا أن ندافع عن حياتنا التي يغذيها الأدب الصحيح.
أما عبد القاهر الجرجاني فقد قلت للأستاذ خلف الله شفويًّا: إنني لا أعدل بكتاب «دلائل الإعجاز» كتابًا آخر، وأما «أسرار البلاغة» فمرتبته في نظري دون «الدلائل» بكثير، الدلائل تشتمل على نظرية في اللغة وتطبيق تلك النظرية، وأما «أسرار البلاغة» فأقرب إلى الفلسفة النظرية منها إلى النقد الأدبي، وليكن تفصيل ذلك موضوع الحديث الآتي. وكفى أن وصلنا الآن إلى رد اتجاه العلم عن الأدب، وسوف نرى في مذهب عبد القاهر جانبًا كبيرًا من المعرفة التي يجب أن تتوفر للناقد، وهي بعد ليست معرفة نظرية، بل معرفة لغوية وفنية تكتسب بالدُّربة، وبدراسة علوم اللغة لا بدراسة المنطق والسيكولوجية والجمال وما إليها.
نظرية عبد القاهر الجرجاني
يخيَّل إليَّ أنه لا سبيل إلى الوقوف عند الكليات في مناقشة منهج الدراسة في الأدب، فها هو صديقنا الأستاذ خلف الله يرى أن ما أدعو إليه جاهدًا لا يختلف إلا قليلًا عما يقول، وأنا لا ريب يسرني أن أكون على وفاق تام مع الصديق، بل ومع كافة البشر، ولكنني أخشى أن يكون الخلاف أعمق مما يظن، وإن كان ثمة ما يخفف عن نفسي فهو أننا نقتتل لغاية شريفة.
والذي أدعو إليه هو استقلال الأدب عن غيره من مظاهر نشاطنا الروحي: استقلاله بموضوعه ومناهجه، ولي في استقلال الفلسفة التي كانت تشمل قديمًا كل أنواع المعرفة أسوة حسنة. وأما ما يدعو إليه الصديق فذلك ما لا علم به؛ لأنه هو نفسه لم يستقر به على تحديده. وكم أود لو واجهنا الصديق برأي متميز يناهض به رأيي، إذن لاهتزت جوانحي فرحًا، ولقلت: ها نحن قد نضجت ملكاتنا فأصبحت لنا اتجاهات نؤيدها ويؤيدها معنا من يرى الأشياء كما نراها، وبهذا تكون لنا مدارس أدبية كما كانت لغيرنا من الشعوب.
يريد الأستاذ خلف الله أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف: علم النفس وجمال واجتماع، وأنا أعوذ بالله أن أكون عدوًا للمعرفة، ولو أن أديبًا أخبرني أنه يدرس الفلك لشجعته على المضي في دراسته لأن المعرفة — أي معرفة — إن لم تنفع كما يقولون فلن تضر ما حجزناها عن الأدب. وموضوع الخطر هو أن نقحم على دراستنا معارف أقل ما فيها من إضلال هو صرفنا عن أن نركز نظرنا في الأدب كفن لغوي، واهمين أننا نجدده؛ إذ نتناوله بمبادئ علوم أخرى. وأما النظريات اللغوية، وأما علوم اللغة ومناهج اللغة، فذلك موضع دراستنا الذي نعتز به ونرى فيمن يستطيعه على نحو ما استطاعه عبد القاهر كنزًا ثمينًا. المنهج الذي أدعو إليه هو المنهج الفقهي — منهج فقه اللغة — وسوف نرى ذلك المنهج يبتدئ بالنظر اللغوي لينتهي إلى الذوق الأدبي الذي هو لا شك متحكم في كل ما يمت إلى الأدب بصلة، سواء في ذلك أردنا أو لم نرد.
ولنتخذ في إيضاح ما نريد سبيل البواقي، فندل بضرب المثل على ما ليس من منهجنا، ولتكن أمثلتنا من بين المسائل النفسية التي عالجها صديقنا وغيره من النقَّاد المصريين، ولنكتفِ بمثلين: دراسة شخصية الحَجَّاج التي نشرها الأستاذ خلف الله «بالثقافة» ومسألة التصغير عند المتنبي كما نشرها الأستاذ العقاد في «المطالعات».
ولننظر عن قُرب في رأي الأستاذ العقاد؛ وذلك لأنه يبدو لأول وهلة ظاهر الوجاهة، والمتنبي لا نزاع في أنه متكبر، كما لا نزاع في أنه قد هجا «الشويعر» و«كويفير» و«الخويدم» و«الأحيمق»، بل «وأهيل عصره». والتصغير في رأي النحاة كثيرًا ما يكون للتحقير، وإذن فالمتنبي يريد بالتصغير أن يحقر خصومه، وهو يحقرهم لأنه متكبر. وهنا يتسلل الخطأ إلى التفكير النفساني؛ وذلك لأني لا أظن أن التصغير في شعر المتنبي كان لتكبره، وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها كافة شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب، أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة لطبيعة نفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير، حتى ولا في شعر المتنبي نفسه، وهو قد استخدمه للتعظيم، قال:
ومعنى الشطر الأول أن الليلة كانت طويلة حتى خيل للشاعر أنها لم تكن ليلة واحدة بل سبعًا، وإذا كان هذا طولها فكيف يصغرها فيقول: «لييلتنا»؟! ولقد سئل المتنبي نفسه في ذلك («الوساطة»، طبعة صبيح، ص٣٣٩): هذا تصغير التعظيم، والعرب تفعله كثيرًا، قال لبيد:
أراد لطف مدخلها فصغرها، وقال الأنصاري: أنا عُذيقها المرجَّب وجُذيلها المحكَّك، فصغر وهو يريد التعظيم. وقال آخر:
وإذن فالمتنبي قد استخدم التصغير في غير التحقير، بل استخدمه في ضده، ومن هذا نرى أن العلاقة بين التكبر والتصغير غير مطردة حتى يستقيم التفسير بفرض إمكان ذلك. وفي الحق أن التصغير لا يفيد التحقير والتعظيم والتلميح وما إليها فحسب، بل يفيد ألوانًا لا حصر لها من العواطف، وإنه لمن الخطأ أن نأتي بتفكيرنا الهندسي فنعمم على غير احتياط. ونحن لسوء الحظ لم نعد نحس اللغة العربية الفصحى، وهذا يقودنا إلى أخطاء كثيرة لا يمكن أن يعصمنا منها نحو ولا بلاغة. ولنفكر جميعًا في الإحساسات المختلفة التي يثيرها في أنفسنا تصغيرنا العامي في قولنا مثلًا: «حتة ولد» و«حتة نتفة ولد»، ولنتصور الملابسات العديدة التي يقول فيها شعبنا أمثال تلك الجمل، لندرك المفارقات الدقيقة التي أشرت إليها. هناك وسائل كثيرة تحتال بها اللغات على تلوين أفكارنا ذلك التلوين الذي لا تحمله ولا يمكن أن تحمله مفردات اللغة، وإنما نلحقه بها بفضل التنغيم في الكلام، وبحيل بلاغية في الكتابة، والتصغير إحدى تلك الحيل، ذلك ما يحدثني به المنهج الفقهي، وأما منهج العلم النفسي فيرى أن تصغير المتنبي كان لتكبره.
هذه الأمثلة أسوقها للتدليل على النتائج البعيدة التي تترتب على استخدام مناهج العلوم الأخرى، أو مبادئها في دراسة الأدب. الأدب فن لغوي كما قلت، فمنهجه هو المنهج الفقهي الفني كما فهمه عبد القاهر الجرجاني وطبقه في «دلائل الإعجاز». والآن ما هو ذلك المنهج؟
على هذا الأساس العام بنى عبد القاهر كل تفكيره اللغوي الفني، قال: «إن الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة لم توضع لتعرف معانيها في أنفسها؛ ولكن لأن يضم بعضها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد. وهذا علم شريف وأصل عظيم، والدليل على ذلك أنَّا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرف بها معانيها في أنفسها، لأدى ذلك إلى ما لا يشك عاقل في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماءَ التي وضعوها لها لنعرفها بها … حتى كأنهم لو لم يكونوا قد وضعوا الحروف لكنا نجهل معانيها، فلا نعقل نفيًا ولا نهيًا ولا استفهامًا ولا استثناء. وكيف والمُواضعة لا تكون ولا تُتصور إلا على معلوم؟! فمحال أن يوضع اسم لغير معلوم، ولأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت: خذ ذاك، لم تكن هذه الإشارة لتُعرِّف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها؛ كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له. ومَن هذا الذي يشك أنَّا لم نعرف الرجل والفرس والضرب والقتل إلا من أساميها؟ لو كان ذلك مساغًا في العقل لكان ينبغي إذا قيل: زيد أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذُكر لك بصفة … وإذا قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن معاني الكلام كلها معانٍ لا تُتصور إلا فيما بين شيئين، والأصل والأول هو الخبر، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه عرفته في الجميع، ومن الثابت في العقول والقائم في النفوس، أنه لا يكون خبر حتى يكون مُخبر به ومخبر عنه، ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إلى فعل من غير أن تريد إسناده إلى شيء، وكنت إذا قلت: اضرب، لم تستطع أن تريد منه معنًى في نفسك من غير أن تريد الخبر به عن شيء مظهر أو مقدر، وكان لفظك به إذا أنت لم ترد ذلك وصوت تصوته سواء.»
-
(١)
أن الألفاظ لم توضع كما أنها لا تستعمل لتعين الأشياء المتعينة بذواتها، وهذه هي نظرية الرمزية في اللغة التي أوضح المفكر الألماني فنت Wundt٥ حدودها؛ وذلك لأنه لدينا عن طريق تجاربنا المباشرة أو تجارب الغير، صورة ذهنية لكل شيء ولكل حدث، وإنما نضع ألفاظ اللغة ونستعملها لنحرك هذه الصورة الذهنية الكامنة، فعندما نقول: «رجل» لا يمكن أن يثير هذا اللفظ في نفوسنا شيئًا، ما لم يكن في ذهننا صورة الرجل، اللفظ رمز لها ومحرك.
-
(٢)
ونحن لا نستخدم ذلك اللفظ لنحرك الصورة الذهنية تحريكًا نريده لذاته، وإلا كنا مجانين؛ وإنما نفعل ذلك لأننا نعتزم أن نخبر عن «الرجل» بشيء ما، وهنا يلحق الجرجاني بأكبر مدرسة حديثة في تحليل اللغة، أعني مدرسة العالم السويسري الثبت رأس علم اللسان الحديث فرديناند دي سوسير F. de Saussure،٦ ثم اللغوي الفرنسي الذائع الصيت أنتوان مييه A. Meillet، ولقد كتب هذا العالم الأخير فصلًا٧ هامًّا عن منهج الدراسة في علم اللسان، وفيه يرد اللغة إلى عنصرين: (أ) مفردات (ب) عوامل الصيغة Morphemes، والمفردات معروفة وهي كلفظة «رجل». وأما عوامل الصيغة فيقصد بها إما ترتيب الكلمة في الجملة، وإما مقطع صوتي كالتنوين في «رجل» وإما علامة الإعراب، وإما أداة نحوية كالألف واللام في «الرجل»، فهذه العوامل هي التي تعطي اللفظة دلالتها التي نقصد إليها عند تفوهنا بالكلمة؛ وذلك لأننا — كما يقول الجرجاني — لا ننطق بلفظة ما إلا لكي نخبر بها أو عنها بشيء، ومن ثم فنحن ننطق بها مضافًا إليها حتمًا عوامل الصيغة من ترتيب أو مقاطع صوتية خاصة، فالرفع لإفادة الإسناد، والألف واللام للتعريف، والابتداء لكذا وكذا. ونحن بعدُ لا نكتفي بلفظ واحد إلا أن يكون جوابًا لسؤال أو اعتمادًا في كلام سابق أو ملابسة راهنة، وإنما نقول: «رجل»، ثم نخبر عنه فنضيف: «جاء» مثلًا، ومن ثم تكون مفردات اللغة لا قيمة لها في ذاتها؛ لأنها لا تكتسب دلالتها المقصودة إلا بفضل عوامل الصيغة.
وإذن، فمفردات اللغة ليست إلا رموزًا لصور ذهنية محصلة من قبل، وهي لا تستخدم لذاتها، بل لتقيم بفضل عوامل الصيغة التي تضيفها إليها طائفة من العلاقات بين الأشياء أو بين الأشياء والأحداث، وهنا ننتهي إلى ما أجملناه في قولنا: اللغة مجموعة من العلاقات لا مجموعة من الألفاظ.
عن هذا «العلم الشريف والأصل العظيم» فرَّع الجرجاني كل آرائه، وجماعها مسألتان؛ الأولى: إنكاره لما رآه الجاحظ من أهمية فصاحة الألفاظ باعتبار تلك الفصاحة صفة في اللفظ ذاته، ثم ثورته على مذهب العسكري الذي يرد جودة الكلام إلى محسنات لفظية تقف عند الشكل. الثانية: تعليقه جودة الكلام بخصائص في النظم: واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت … هذا هو السبيل فلست بواجد شيئًا يرجع صوابه إن كان صوابًا، وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم ويدخل تحت هذا الاسم إلا وهو معنًى من معاني النحو قد أصيب به موضعه وُوضع له، فلا ترى كلامًا قد وُصف بصحة نظم أو فساده، أو وُصف بمزية أو فضل فيه إلا وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل إلى معاني النحو وأحكامه، ووجدته يدل في أصل من أصوله، ويتصل بباب من أبوابه.
والجرجاني أشد إصابة في نقده لآراء العسكري السقيمة، فهو يرى «أن في كلام المتأخرين كلامًا حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ما له اسم في البديع إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليبين، ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده، كمن يثقل العروس بأصناف الحُليِّ حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها» («أسرار البلاغة»، ص٦). وهو يلاحظ «أنك لا تجد تجنيسًا مقبولًا، ولا سجعًا حسنًا حتى يكون المعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق نحوه، وحتى تجده لا تبتغي به بديلًا ولا تجد عنه حولًا. ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه، وأحقه بالحسن وأولاه، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه، أو ما هو لحسن ملاءمته، وإن كان مطلوبًا بهذه الصورة.»
وأما نظرية النظم عند الجرجاني فنظرية كبيرة هامة، وعنده أن دراسة النظم لا تقف عند أمر الصحة بل تعدوه إلى تعليل الجودة، وبعبارة أخرى يمزج الجرجاني «النحو» بما سماه البلاغيون فيما بعد «علم المعاني»، وله في ذلك حكمة بالغة تقتضينا أن نفصل القول في ذلك.
النظم عند الجرجاني
منهج فقه اللغة الذي ندعو إليه، عارضين آراء الجرجاني كمثل، لا يتنكر لمعرفة النفس البشرية؛ لأنه يُفرِّق بين تلك المعرفة وقوانين علم النفس، كما لا يتنكر لروح العلم.
وأنا لا أجهل أنه قد يصاح بي: ولكن هناك التحليل العلمي الذي يرد الألوان إلى عناصرها! وأدرك هذا الاعتراض الذي لا يرهبني في شيء؛ لأنني وإن كنت أُجلُّ رجال العلم، وأعتز بنتائج أبحاثهم التي مكنتنا من الحياة وردَّت عنا الكثير من الآلام، إلا أنني أنكر الإنكار كله أن يستطيع العلم أن يحل محل نفسي في إدراك حقائق الأشياء. مَن منَّا يستطيع أن يزعم أن في مقدوره أن يعرف طعم شراب لم يذقه بمعرفة عناصره الكيماوية ونسبها؟ من منا يجرؤ أن يدعي أنه يعرف حيوانًا لم يره قط بدراسة خلاياه تحت المجهر؟ من منا يصل إلى تصور جمال لوحة زيتية بقراءة وصف لها في دليل أحد المتاحف؟ من منا يتوهم أنه سيفهم نفسه بغير نفسه؟ أي قوانين وأي أبحاث ستبصرني بآلامي وأحلامي؟!
معرفة النفس البشرية غير قوانين علم النفس ونظريات السيكولوجيا، وذلك بفرض أننا نحسن فهم تلك القوانين والنظريات، ونقف بها عند ما تستطيعه، فما بَالُكم بهذا الوباء الذي تفشى بيننا في السنين الأخيرة فأخذنا نرى كتابنا وناقدينا يظنون تلك النظريات أثوابًا تصلح لكل نفس، فإن ضاقت فلتمزق، وإن اتسعت فلتشجب. هناك وسيلة سهلة لإدراك الشخصية الروائية أو النموذج البشري، هي أن نتلقَّاه بقلوبنا كما خلقه أصحابه بقلوبهم، وأن نتَّحد به اتِّحادًا شعريًّا، وهذا لا يتطلب إلا هبة من الله، هبة الإحساس ترهفه تجارب الحياة ويسعده خيال قوي يعيننا على أن نحيا حياة غيرنا وكأننا أصحاب تلك الحياة. وأما ما دون ذلك من علم ومعرفة فمكملات لن تسد نقصًا جوهريًّا، ومتى جعلت من الأبله سقراطًا؟!
ونحن بحاجة إلى الأمانة العقلية، إلى الخضوع لموضوع دراستنا، إلى انتزاع الحق من جوف الأشياء. وما نحاربه هو إملاء النظريات على الواقع، هو إتلاف الحقائق بالعلم الباطل، هو مداراة فَرَقنا الروحي بمصطلحات العلم الخاوية، هو ظننا أن المعرفة إدراك للظواهر التي يكتفي بها العلم في عالم المادة، ونحن نرفضها في عالم الروح. إننا نحارب قسر الفكرة، نحارب ادعاء العلم، نحارب التبجح بالمعرفة التي لا تغني، لنعرف كل شيء، على أن نكون قادرين على هضم ما نعرف، ولتشع المعرفة في كل ما نقول أو نكتب، ولكن ليكن الإشعاع من الداخل، ليكن إشعاعًا لطيفًا رقيقًا خفيًّا، كذلك الذي ينساب إلى قلوبنا في جوف الليل من محبة الله.
ذلك عن النفس وعلم النفس، والأمر كذلك في روح العلم وقوانين العلم، فأنا كما أثور على إقحام قوانين علم النفس الهيكلية على الأدب، بينما أدعو إلى الصدور عن معرفة حقيقية بالنفس البشرية، واعين بما نفعل، حتى لا نتهم بأننا كجوردان الذي ظل يتكلم النثر عشرات السنين دون أن يفطن لما يفعل، أقول: إنني على نفس النحو أدعو جاهدًا إلى الأخذ في الأدب بروح العلم، وأما اصطناع قوانينه فلا.
روح العلم غير قوانين العلم، روح العلم ليست إلا ما ذكرت، وأكرر: أمانة عقلية، وخضوع للموضوع وتأبٍّ على التصديق، وتنحية للهوى، ثم استقصاء للتفاصيل، وقصر من الأحكام، وتدعيم للإحساس بنظرات العقل، واتخاذ الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة بتحديده، وتمييزه، ومراجعته، وتعليله ما أمكن التعليل. روح العلم موقف تقفه النفس من الناس والأشياء، وأما العلم فمجموعة من القوانين التي تفسر عادة عالم المادة، تفسر مظاهره. لنأخذ بروح العلم؛ لأنها روح خلقة نبيلة، وأما محاولة تطبيق قوانين العلم على الأدب، فقد رأينا مثلًا دالًّا على خطئها عندما عرضنا لما فعله برونتيير ووضحنا ما سار إليه من ضلال. الأدب مفارقات، الأدب كالنفس البشرية، حفنة من الماء لن تتميز ذراته.
المنهج الفقهي إذن يتضمن روح العلم ويعتز بالنفاذ إلى حقائق النفوس، ولكن هذا ليس ما يميزه عن غيره من المناهج، وروح العلم وفهم النفوس حقيقتان مستقرتان في كل نشاط عقلي منتج، حتى إننا لا نرى فيهما شيئًا يخصصهما بالمنهج الأدبي. المنهج الفقهي يستمد حقيقته من مادة درسه وهي الأدب، ولقد قلنا في مقام سابق إن منهجًا لا يُنتزع من موضوعه مُستمِدًا مبادئه من ذلك الموضوع ذاته، لا يمكن أن يستقيم. والأدب لا ريب فن لغوي، وتلك حقيقة يجب أن نوضحها لنفهمها.
قالوا: إن الأدب ملكة النفس، طبع مفطور، فالشاعر يغني كما يغرد الطائر، ولكن هذا أعجم وذاك مبين، وللطائر دوافعه، وما أظن الطبع خالقًا شيئًا بذاته، أوَلا ترى مع ابن قتيبة أنه لا بد للشاعر مهما كان طبعه غنيًّا من مثير «وللشعر تارات يبعد فيها قريبه ويستصعب ريضه»، وكذلك له «دواعٍ تحث البطيء وتبعث المتكلف»؟ بل هبه واتاه الدافع، أتحسب أن الشعر جمرات من الإحساس؟ الجمرات تحرق، والإحساس العنيف يعقد اللسان. وإنما يكون الشعر عندما يسكن العنف وتهدأ حدقة العين فتستطيع الإبصار، عندئذٍ تستغل الإرادة ما بقي في النفس، ويبدأ الشاعر في الجهد الذي لا يستقيم شعر بدونه. الشعر صناعة جيدها ما أحكم حتى اختفى. الشعر طبع ودوافع وإرادة وجهد وصناعة.
ونحن بعدُ لا نستطيع دائمًا كل ما نريد. ونحن بعدُ لا نصل دائمًا بجهدنا إلى الكمال. وموضع المشقة في الأدب ليس إلا في القدرة على إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ. قال ديهامل: «كم من مرة أستمع إلى رجال أو نساء يتحدثون وسط الجموع في عربة قطار، أو أثناء وجبة طعام، فتحدثني نفسي كل مرة: ها قد وقعت على صفة نفسية، أو تسقَّطت علاقة أو لمحت دافعًا خفيًّا! ولكني عاجز عن أن أصوغ ما اكتشفت ألفاظًا، ربما أستطيع فيما بعدُ أن أصور ما أحسست به أما الآن فلا. وأنا أعلم أني إن لم أصب التوفيق فسيأتي من بعدي غيري يفيد من تجاربنا وتساعده عبقريته فينجح في العبارة عما لمحناه.»
إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ هو ما يميز الأدب عن غيره من الفنون، الأدب طريقة من طرق العبارة عن النفس يعبر باللفظ، كما يعبر المصور بالألوان والناحت بالأوضاع، ومن ثم وجب أن يكون منهجه منهجًا لغويًّا. وأنا أعرف ما يثيره هذا اللفظ في النفوس من مخاوف، فمن الناس من يظن أننا سنعود به إلى الدراسة اللفظية التي أفسدت الأدب وسلبته روحه، ولكن هذا خوف ظالم؛ لأن اللغة مستودع تراثنا الروحي، ومن الثابت أننا لا نملك من أفكارنا وأحاسيسنا إلا ما نستطيع إيداعه اللفظ الذي يوضح الفكرة ويميز الإحساس، وهذه النظرية الصحيحة هي موضع اعتزازنا بتفكير عبد القاهر.
الكاتب الكبير يدرك ما في نفسه مكسوًّا مجسمًا، يدركه ملفوظًا، يستشعر الفكر والإحساس مرتبطًا بعوالم أخرى، وإذا بالمجاز جزء من الإحساس أو الفكرة، ومن ثم لم يكن هناك محل لأن نخشى اللفظية. وتلك لا تكون إلا عند من يدركون مواضيع قولهم إدراكًا مجردًا عن صورها، ثم يحتالون لوضعها في صور تظل منفصلة عنها، مصطنعة الإلصاق، ومن هذا النوع الكثير من المحسنات اللفظية المفضوحة؛ ولهذا نقول: إن الصناعة الحقة هي تلك التي تُحكم حتى تختفي.
لا خوف إذن من أن يعود بنا عبد القاهر إلى اللفظية، وما يجوز أن يرهبنا هذا الخوف فنتخلى عن المنهج الطبيعي في دراسة الأدب، وما دمنا قد فطنا إلى الدور الذي يلعبه اللفظ في خلق مادة الأدب ذاتها، فمن واجبنا أن نأخذ في بحثنا بالمنهج الفقهي، ونحن بذلك نجمع بين عناصر الأدب الإنسانية وعناصره اللغوية؛ لأن هذه مستودع ثمين لا يقل قدرًا عما أودع فيه، وبفضله — في النهاية — يتميز الأدب عن كل ما عداه.
ليست العبرة إذن عند عبد القاهر باللفظ في ذاته، وإنما هي بالنظم.
الذوق عند الجرجاني
يقول الجرجاني: «وإذ قد عرفت أن مدار أمر النظم على معاني النحو وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أن الفروق والوجوه كثيرةٌ ليس لها غايةٌ تقف عندها ونهايةٌ لا تجد لها ازديادًا بعدها. ثم اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها مع بعض واستعمال بعضها مع بعض … وإنما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل منها الصور والنقوش. فكما أنك ترى الرجل قد تهدَّى في الأصباغ التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ وفي مواضعها ومقاديرها وكيفية مزجه لها وترتيبه إياها إلى ما لم يهتدِ إليه صاحبه؛ فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب وصورته أغرب، كذلك حال الكاتب والشاعر في توخيهما معاني النحو ووجوهه التي علمت أنها محصول النظم.»
وهذا ينتهي بنا إلى ما نراه اليوم وما ندعو إليه جاهدين من أن النقد وضع مستمر للمشاكل، وأن لكل جملة أو بيت مشكلته التي يجب أن نعرف كيف نراها ونضعها ونحكم فيها، وهذا هو النقد الموضوعي الذي نؤمن بفائدته. وهو بعدُ ليس بالأمر الهين؛ لأنه لا بد لنا كما يقول روسو من فلسفة كبيرة لنلاحظ ما يقع عليه بصرنا، ثم إن الملاحظة لا تكفي، بل لا بد من وضع الإشكال، ووضعه — فيما يحكي المثل الأوروبي — حل له، ومن ثم حكم فيه.
لا بد إذن من الحكم على النظم الذي أمامنا من حيث إنه يجمع بين معانٍ متباينة، ونحن بعملنا هذا لا نقف عند الألفاظ، بل ولا عند الجمل، وإنما ننظر في المعنى عند تمامه والفراغ من تأليف عناصره، ننظر في المعنى منظومًا. ومن البين أن الذوق هو الفيصل الأخير في الحكم على هذه الدقائق، وإلى هذا فطن الجرجاني بحسه الأدبي الصادق، فكتب تلك الصفحة الرائعة التي نوردها كاملة لأهميتها البالغة، قال: «اعلم أنك لن ترى عجبًا أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم؛ وذلك لأنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن ها هنا نظمًا أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصِّرهم بذلك تسدر أعينهم وتضل عنهم أفهامهم؛ وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئًا غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني، فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم؛ لأنك تعالج مرضًا مزمنًا وداء متمكنًا. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو، عرض لهم من بعدُ خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم؛ وذلك أنهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يُتصور أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه، بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيه له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في كلام دون كلام. والداء في هذا ليس بالهين ولا هو بحيث إذا رُمْتَ العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفًا والسعي منجحًا؛ لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها وتصوِّر لهم شأنها أمور خفية ومعانٍ روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتحدث له علمًا بها حتى يكون مهيئًا لإدراكها وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساسًا بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء، ومن إذا أنشدته قول أبي نواس:
أمن لها وأخذته الأريحية عندها … وأنت تعوِّل في محاجتك على استشهاد القرائح وسبر النفوس وفليها.» وبهذا يعود عبد القاهر إلى النقاد الكبار أمثال ابن سلام والآمدي وعبد العزيز الجرجاني الذين يرون في الذوق وفي «استشهاد القرائح وسبر النفوس» المرجع النهائي في كل نقد أدبي صحيح.
والآن قد يتساءل قارئ يقظ: من أين يدخل الذوق؟ والذوق لا يكون إلا حيث نسلم للكاتب بحرية في اختيار طرق العبارة عما يريد، وعبد القاهر نفسه لا يرى هناك اختيارًا ما، وعنده أن المعنى لا بد متحكم في اللفظ. والجواب على هذا الاعتراض خليق بأن يزيد النظرية وضوحًا. وصاحبها ينكر أن تكون المزية في اللفظ، وإذن فهو لا يحكِّم الذوق في الموازنة بين ألفاظ ممكنة، وإنما المزية في المعنى، وفي المعنى تكون المفاضلة، وفي المعنى يكون الاختيار. والأمر ليس نظمًا لألفاظ، بل نظمًا لمعانٍ، فنحن نحكِّم الذوق في اجتماع بعض المعاني إلى بعض. ويحتال عبد القاهر ليُخضع اللفظ أيضًا للذوق فتأتي عبارته عن المعنى مضمنة للمعنى الملفوظ؛ أي المعنى المعبر عنه، وفي هذا إفراط في الدقة يكاد يمس المغالطة. ولكننا في الحق نستطيع أن نقبل منه هذا الاحتيال إذا نظرنا للمسألة نظرة تاريخية، فذكرنا طغيان اللفظية في ذلك الحين، ومحاربة عبد القاهر لها بكل قواه. وكلنا لا ريب يذكر ذلك التكلف الثقيل الذي ظهر عند أنصار البديع في الشعر، ثم امتد إلى النثر فأتلف أسلوب الصاحب بن عباد وأبي هلال العسكري وجانبًا من أسلوب ابن العميد نفسه.
ويتحكم الذوق إذن عند الجرجاني في نظم المعاني التي نعبر عنها، خذ لذلك مثلًا تعليقه على أبيات إبراهيم بن العباس:
«فإنك ترى من الرونق والطلاوة ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو: «إذ نبا» على عامله الذي هو: «تكون»، وأن لم يقل فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر، ثم أن قال: «تكون»، ولم يقل كان، ثم أن نكَّر الدهر ولم يقل: فلو إذ نبا الدهر، ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى من بعد، ثم أن قال: «وأُنكر صاحب»، ولم يقل وأنكرت صاحبًا، لا ترى في البيتين الأولين شيئًا غير الذي عددته لك يجعله حسنًا في النظم وكله من معاني النحو كما ترى.»
وتسوق فكرة النظم عبد القاهر إلى تخطي الإعراب والجملة البسيطة إلى الجملة المركبة فيكتب فصلًا «في النظم يتَّحد في الوضع ويدق في الصنع»، قال: «واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخِّي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثانٍ منها بأول، وأن يُحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعًا واحدًا، وأن يكون حالك فيها حالَ الباني يضع بيمينه ها هنا في حال ما يضع بيساره هناك، نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين، وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة، فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معًا كقول البحتري:
ونوع آخر قول كُثيِّر:
و… و… إلخ.»
ومن البيِّن أن عبد القاهر في هذه الملاحظات قد أحس بوجود الجمل المركبة التي تشمل عدة معانٍ بعضها قيود لبعض أو متممات. ويا ليت اللاحقين له ساروا في هذه السبيل! ولو أنهم فعلوا لاستقام فهمنا لممكنات لغتنا، ولعرفنا مثلًا الطرق التي لدينا للتعبير عن الأزمنة المطلقة والأزمنة النسبية في الجملة الأصلية، وفي الجمل التبعية التي تلقاها في اللغات الأوروبية والتي نحتال فنعبر عنها في لغتنا بكافة الحيل غير واعين بما نفعل.
ومع ذلك فعبد القاهر لم ينظر إلى هذه المركبات إلا من حيث الجودة، فهو يرى في اجتماع تلك المعاني بعضها إلى بعض إعجازًا من الشعراء، وهو لا يُعنى بدراسة نحوها قدر عنايته بنقدها نقدًا أدبيًّا، ومرد ذلك النقد وفيصله هو الذوق، الذوق الذي يُحس ثم تأتي المعرفة فتعلل ما يمكن تعليله، ولقد يخطئ رغم استقامة الذوق.
خلط بين القيم
يقول ديهامل: «إن دليل الصحة هو أن لا يفكر الفرد في جسمه، فهو يتخذ كل يوم بعض الاحتياطات الأولية، وبذا تتم عنايته، فيأكل ويشرب ويغتسل ويغدو إلى أعماله، فهل تراه من ساعة إلى ساعة ومن دقيقة إلى أخرى يتساءل في لهفة عن حركة بنكرياسه أو غدده الكلوية؟ أبدًا، بل إن هناك مجالًا للأمل في أن يجهل حتى اسمها وحتى موضعها من الجسم، فإذا أحسَّ بمعدته دل ذلك على أن هذه المعدة ليست في حالة جيدة.» وما يصدق على صحة الجسم يصدق على اتزان الهيئة الاجتماعية وسلامة بنائها، فعندما نسمع أصواتًا ترتفع من كل جانب تنادينا بأن نضع الأدب في خدمة الحياة الراهنة ومعالجة مشاكلها، وأن تقف أقلامنا على الحديث عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وعندما نرى كل محاولاتنا في توسيع أفق الفكر أو إرهاف الحس توصف بأنها «هراء مسخته رغبة المهارة وخلبته صفة البراعة وحب الظهور، حتى انحط عن بعض ألعاب التسلية، أو صار وسيلة للكسب ومطية لخدمة الأغراض الخاصة … إلخ»، مما تفضل فجاد به صاحب مقال «ما بعد المنهج الفقهي»، عندما يحدث كل ذلك لا نملك إلا أن نصيح في عزم وقوة بأن الهيئة الاجتماعية التي نعيش بينها مريضة، وأن واجبنا وواجب كل من يستطيع شيئًا في هذا السبيل أن يعلم لتشخيص الداء والتماس الدواء.
أما أننا نعيش في هيئة اجتماعية مريضة، فذلك ما لا يقبل الشك، وفي وفرة ما يُكتب اليوم عن حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكبر دليل على ذلك المرض، وإنه لمن الواجب كما قلت أن نلتمس العلاج، والآفة الكبرى التي لا بد من تسليط الضوء عليها هي آفة الخلط بين القيم.
في المقالة التي أناقشها الآن خلط بين أشياء لم تفهم، فالكاتب قد خلط بين الأدب وغيره من مواضيع الكتابة كالسياسة والاجتماع والاقتصاد كما خلط بين الأدب ومنهج دراسة الأدب.
خلط الكاتب بين الأدب وغيره من الأبحاث، ومصدر الخلط في تفكيره إنما أتاه كما أتى غيره ممن تلقاهم وتسمعهم بكل سبيل من معرفته معرفة ناقصة مبتسرة ببعض الجمل التي أذاعها المبسطون بأوروبا كعبارة أرنولد عن الأدب بأنه «نقد للحياة»، وعبارة كارل ماركس عن فلسفة التاريخ «بمادية التاريخ»؛ أي تحكم نظم الاقتصاد في تطور التاريخ، ورسم الخطة لذلك التطور. وأما أن يتمهل كاتبنا في فهم ما يعنيه أرنولد «بنقد الحياة»، وأما أن يُمعن النظر في العوامل الإنسانية غير المادية التي لا تقل أثرًا عن النظم الاقتصادية في السيطرة على سيرة التاريخ، فذلك ما لا يريده كاتبنا، ولعله لا يستطيعه.
وأما أن يتحدث الأدب عن حياتنا النفسية، وأما أن يمد الأدب من آفاق تفكيرنا، وأما أن يرهف الأدب إحساسنا، وأما أن نحاول بعث ماضينا، أو نشر الثقافة الحرة، فكل هذا هراء وادعاء وحذلقة، ولو صح هذا لوجب أن نوفر جهدنا على الصحف الحزبية اليومية نبشر فيها بهذا المذهب أو ذاك.
والداء بعدُ أعمق من كل ذلك، فهناك خلط مخيف بين الثقافة الحرة والتفكير العملي، هناك عدد من الناس يظنون أننا لسنا بحاجة إلى الثقافة الحرة؛ لأن هذه الثقافة لا يحتاجها إلا المرهفون المنعمون الأغنياء، وما نحتاجه نحن إنما هو التفكير العملي؛ أي التفكير السياسي الذي يخفف — بالحلول التي يدعو إليها، والتي قد ينجح في تنفيذها — من فقر البؤساء والمحرومين والمظلومين. وكاتب هذه السطور ليس بغافل عن البؤس والجهل والمرض، ولا عن فتك الأوبئة بمواطنينا، ولقد سبق له أن تحدث عن ذلك في «الثقافة» بعنوان «بؤسنا المادي»، ولكنه يرفض الخلط بين الأشياء، ويرى في هذا الخلط جهلًا مخيفًا يجب أن يحاربه بكل قوته.
مثل من يزعمون أن الثقافة الحرة ترف لا نفع من ورائه كمثل من يقول للدول المحاربة إن من واجبك أن تغلقي جامعاتك ومعاملك؛ لأنك لست في حاجة إلى التفكير الخالص، بل في حاجة إلى مصانع للذخيرة والمؤن. وناصح كهذا لا يدل بنصيحته تلك على فهم عميق، فإن الجامعات والمعامل هي التي تفتح المصانع، واليوم الذي يتوقف فيه التفكير الخالص عن العمل، ستتوقف فيه المصانع؛ لأن هذه إنما تطبق التفكير الخالص الذي يبدو للجهلاء بعيد الصلة بالإنتاج المادي.
وكذلك الأمر في الأدب الخالص، فهو الذي يشحذ إدراك كاتبنا فيستطيع أن يصف التفكير الحر بأنه «هراء» وهو الذي يرهف حسه فيجعله يقدر بؤس غيره، بل هو الذي يحمله على الوعي بما هو فيه من بؤس، هو ونحن والجميع، وعندما يقف الأدب عن تقديس المعاني الخالدة من خير وجمال لن يستمع أحد لصيحات كاتبنا ولو صاغها قوية قوة كتاب «رأس المال».
ثم أي فائدة في أن نعيد ما قلناه وقاله غيرنا مئات المرات، في مصر ظلم اجتماعي في توزيع الثروات، بل في توزيع الحقوق حتى القانوني منها، وهذا ما يعرفه الصغير والكبير، في مصر إلى جانب الظلم الاجتماعي فقر عام، لا سبيل إلى علاجه بغير تعزيز الصناعة في مصر، وجهل لن يبدده إلا علم صحيح، في مصر مرض لن يُقضى عليه ما لم تعالج عقلية الأطباء، في مصر أدواء كثيرة نعرفها جميعًا ونعرف طرق علاجها، ولكن العلاج لن يجدي إلا إذا أعدنا التربية الخلقية لمن يقومون على ذلك العلاج. وأي نتيجة لكتابتي وكتابة غيري في كل ذلك؟! الأمر لا يحتاج إلى كتابة، وإنما يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى تنظيم أحزاب، وهذا ليس من شأني كرجل قد قَبِل أن يقف نفسه الآن على نشر الثقافة في حدود قدرته.
واجبي إذن هو أن أقول لكاتب المقال: إن نقد الحياة ليس معناه ما ذكرت، وإنما معناه «فهم الحياة»؛ أي فهم النفس البشرية، ذلك الفهم الذي يغضبك أن توفَّر عليه قلمنا، وكل ما تكتب ليس له غاية غير هذا الفهم، سواء أكان عن خوالج نفسية أو طرائق لغوية أو موضوعات نموذجية، أو آلام وآمال خاصة.
ونحن مطمئنون إلى أن جهدنا لن يضيع سدًى إذا وصلنا إلى شيء مما نريد.
وأكبر دليل على أن أرنولد لم يقصد من «نقد الحياة» إلى ما ذكرت هو أن الرجل قد أنفق جهدًا كبيرًا في إقناع معاصريه بضرورة دراسة القدماء وبخاصة الإغريق مما تستطيع أن تتبينه من «مقدمته» لقصائده، ومن «مقالاته في النقد»، وهو يفعل ذلك لإيمانه بأن القدماء قد فهموا من النفس البشرية جانبًا كبيرًا، وأنهم قد صاغوا ما فهموا في جمال لا نعرف أفعل منه في تهذيب النفوس.
وأما عما نراه في تفاهة التوافر على دراسة الجاحظ وقدامة والعسكري والجرجاني فأمر عجب، إن حاولنا بعث تراثنا القديم قال أمثالك: هذا هراء! وإن حاولنا نقل التراث الغربي قلتم: هؤلاء مترجمون! فماذا تريدوننا أن نفعل؟ أظن أنه الصمت.
هناك شيء يجب أن نقوله وهو أننا اليوم في مرحلة يجب أن تتوفر فيها كل الجهود على أمرين: (١) نشر الكتب العربية القديمة ودراستها وبعثها. (٢) نقل التراث الأوروبي عن سبيل الترجمة. ومن الواجب أن يفهم الجميع أن النشر والترجمة هما أشرف عمل وأنبل نشاط نستطيع التوفر عليه الآن، بل أقول: إنه من الضروري أن نعرف معنى التواضع والأمانة العقلية وروح العلم الصحيح، وأن نُشرب أنفسنا بالوطنية، فنعمل مخلصين لمصلحة بلادنا بنشر تراثنا القديم ونقل التراث الغربي كاملين، فعندئذٍ يحق لنا أن نفخر بعملنا، وأن نعتز بمجهودنا؛ إذ نكون قد مهدنا لنهضة وطننا نهضة حقيقية لا كتلك التي تخدعك اليوم، وما هي إلا بهرج زائف ونصب عقلي.
أي نفع لبلادنا بل لأنفسنا في أن ندعي التأليف ويكون عملنا هو عدم أمانة في الترجمة، نترجم ما يسهل علينا فهمه ونهمل ما يشق، ثم ننثر حول النص الأوروبي شيئًا من هذياننا الشخصي، وبعد ذلك ندعي أننا قد ألَّفنا كتبًا، ومن يستطيع في هذا البلد أن يدرك أصالتك — إن كانت لك أصالة — وأنت تتكلم عن نصوص ومؤلفين ومؤلفات مجهولة من الجميع.
إن كان صاحب المقال حريصًا على موضوع أدبي عملي يكتب فيها فيصيب من ورائه المجد فأنا أدله على ذلك الموضوع الذي لا يقل أهمية عن المسائل الاقتصادية، وذلك هو أن يحمل الحكومة على إنشاء وزارة للنشر والترجمة، لا تقل ميزانيتها عن ميزانية أكبر وزارة، وأن يكون عملها، نشر الكتب العربية القديمة، وترجمة عيون الأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والكيمياء … إلخ الموجودة الآن بالعالم الغربي.
عندئذٍ سأومن بأن كل مشاكلنا ستحل، وأن أفراد الشعب سيجدون تلك الحلول ويملونها على حاكميهم، فإن لم يستطع كاتبنا أن يقوم بحملة كهذه رجوته أن يتركنا — الأستاذ خلف الله وأنا — نقتتل رغم صداقتنا الشخصية حول منهج الأدب وحقائق اللغة، فمن يدرينا لعل الهنات أن تخصب نفسًا أو تشق خيالًا أو تهذب ذوقًا.
Cours de linguistiqué générale 3éme edition Paris-Payôt 1931.
Le vers Francais: ses moyens, d’expression son harmonie, Paris 1917.
وهو من خير ما كتب النقاد العلماء في العصر الحديث.