مناقشات لغوية
اللغة والتعريب
فأما عن «عثرت به» فقد قلت: إن المعنى الذي أريد التعبير عنه هو العثور بالشيء؛ أي ملاقاته اتفاقًا، ولم أرد «العثور عليه»؛ أي الاطلاع الذي يدل على علم ومعرفة وبحث وجهبذة لا أدعيها.
والذي يدهشني هو تفضل هؤلاء العلماء بلفت نظري إلى «مختار الصحاح» ودوائر المعارف وتراكيب اللغة الإنجليزية، وهذه كلها مراجع ما كنت أحلم بوجودها.
والعلماء الكبار أمثال الكرملي وزكريا إبراهيم لا ريب يعلمون أن لغات العالم كلها مجازات ميتة وأن تلك المجازات رغم موتها تحتفظ دائمًا بشيء من معناها الحقيقي، فأنا عندما أقول «عثرت بالشيء» مفسرًا بقولي: «وقعت عليه» يكون معنى ذلك أنني اطلعت عليه ولكن مصادفة كما يعثر حافر الجواد بأحد الكنوز، وبذلك أعبر عن المعنى الذي في نفسي تعبيرًا لا تحققه «على» بما تفيده من قصد إلى غاية وسعي لبلوغها.
ثم إن مسألة الصحة والخطأ في اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يُحرص عليها في غير مجال التعليم المدرسي، وأما العلم فقد تقدم وأصبحت المناهج تاريخية فترى العلماء اليوم لا يقررون الخطأ والصواب في اللغات، وإنما يستقرئون الاستعمالات عند كبار الكُتَّاب ويفسرون ما يطرأ على اللغة من تطور. ومن الغريب أن نظل نحن متردين في طرق التفكير التي تخلص منها العالم المتحضر منذ أكثر من قرن! فاللغة العامية ذاتها ليست مجموعة أخطاء، وإنما هي تطور عادي مألوف في كل اللغات، واللغة الفرنسية والإيطالية كذلك ليستا أخطاء في اللغة اللاتينية.
وأما عنصر الثبات في اللغة وهو ما يطالب به الأديب زكريا حتى لا يصير الأمر فوضى، فذلك ما لا أستطيع أنا أن أدخله في اللغة، بل ولا المجمع اللغوي نفسه، عنصر الثبات هو استعمال كبار الكُتَّاب لمفردات اللغة وتراكيبها، ثم قراءة مؤلفات كبار الكُتَّاب في المدارس والجامعات لتشيع تلك الاستعمالات، وكل محاولة غير هذه السبيل لن تجدي شيئًا.
ويَزيد الأمرَ تعقيدًا أن تعريب الأسماء لا يمكن أن يكون وفقًا لقرارات يصدرها المجمع اللغوي أو الأستاذان الكرملي وزكريا إبراهيم، وإنما الأمر أمر استعمال: استعمال كبار الكُتَّاب الذين لهم من الشهرة ما يجعل تعريبهم يذيع بين الناس.
خذ لذلك مثلًا ما استقر عليه العرف في فرنسا منذ القرن السابع عشر، تجد أن أسماء الأعلام الشهيرة التي تتداولها الألسن قد أعطيت صيغة فرنسية؛ ولذلك يقولون: فرجيل وهومير وسوفوكل وأوربيد وأشيل. وأما الأسماء التي لا ترد إلا على ألسنة الخواص من العلماء فقد تركت لها صيغتها اللاتينية أو اليونانية؛ ولذلك يقولون: كورنيليوس وإنيكوس وبيون وموسكوس ومن إليهم.
وإذن، فالأمر أعقد مما ظن الأديب زكريا إبراهيم، وأساتذة الجامعة يؤلمهم أن يبلبلوا أذهان القراء، ولكن ما الحيلة والمسائل معقدة؟ أليس من الأجدى علينا وعليكم أن تتركونا نتحسس السبل ونجاهد حتى نصل إلى تعريب سهل قريب مستساغ نرجو معه أن تنتشر الألفاظ التي نفضلها فتنحل المشاكل ويرتفع اللبس؟ ثم أليس من الخير أن نعرب عن إحدى اللغات المنتشرة في بلادنا بدلًا من التعريب عن لغات قديمة لا يعدو من يعرفها من مواطنينا الذين نكتب لهم الأصابع؟
عثرت به وعثرت عليه٢
وعلى هذا يتضح لنا أن عثر في معناها الأصلي لم تكن تفيد الاطلاع مصادفة أو عن بحث في شيء، وإنما أفادت هذين المعنيين تجوزًا، وحروف الجر في كافة اللغات من أدوات نقل المعنى، ومن ثم عندما نقول: عثر بي أو عثر عليَّ، يجب أن نحدد المفارقات بين الاستعمالين تبعًا لدلالة حرفي الجر ومنحاهما في نقل المعنى.
والذي لا شك فيه أننا نقول: «عثر الجواد بحجر»، ونكون بذلك في حدود المعنى الحقيقي، بحيث إذا تجوزنا أو قلنا: عثرت بفكرة، نكون أقرب ما يكون إلى مضمون المعنى الحقيقي أيضًا. ومن الواضح أن في ذلك المعنى ما يدل على المصادفة؛ لأن الجواد لا يبحث عن حجر ليعثر به. وأما عندما نقول: عثرت على فكرة، فالحس اللغوي يبصرنا بأننا هنا قد بعدنا عن المعنى الحقيقي وما يحمل من دلالة المصادفة؛ لأنه على الأقل يتضمن العثور بالفكرة ثم الوقوع عليها، وليس من الضروري أن نعثر بالشيء ثم نقع عليه؛ إذ قد يفلت منا، فالعثور على الشيء فيه معنى إيجابي هو ما أحسست ولا أزال أحس فيه بمدلول البحث.