الفصل الخامس عشر
بحلول عصر يوم الجمعة تراجعَت ثقة روبرت في انتصار الخير في النهاية.
لم تكن رسالةُ الأسقف هي التي هزَّت ثقتَه. في الواقع إن أحداث يوم الجمعة كانت لها أيادٍ كثيرةٌ في سَحب البِساط من تحت قدَمَي الأسقف، ولو قيل لروبرت صباحَ يوم الأربعاء إنه سيندم أشدَّ الندم على أي شيءٍ تسبَّب في جرح كبرياء الأسقف لَمَا كان سيُصدق ذلك.
فقد جرَت رسالةُ سيادته طبقًا للتوقُّعات. حيث قال إن مجلة «ذا ووتشمان» كانت تُعارض العنف بقوةٍ وهي، بكل تأكيد، لن تَحيد عن ذلك الآن، لكن في بعض الحالات يتَّضح أن العنف ليس إلا عَرَضًا على حالةٍ اجتماعية عميقة من الاضطرابِ، والاستياءِ، وغيابِ الأمان. كما هو الحال في قضية نالاباد الأخيرة، على سبيل المثال. (في قضية نالاباد عشَّشَت حالةُ «الاضطراب، والاستياء، وغياب الأمان» تمامًا في صدور لِصَّين لم يتمكَّنا من العثور على سوارٍ من حجر الأوبال الذي جاءا لسرقته، وعلى سبيل الانتقام قتَلا السبعة النائمين المقيمين في المنزل وهم في فِراشهم.) تحينُ أوقاتٌ بلا شك تشعر فيها الطبقةُ الكادحة في داخلها باليأس من تصحيح خطأٍ بَيِّن، ومما لم يكن مُثيرًا للعجب أن بعض الأرواح التي تتَّقدُ حماسةً سِيقَت إلى التعبير عن احتجاج شخصي. (ظن روبرت أن بيل وستانلي سيستعصي عليهما النظر إلى رعاع يوم الإثنين ليلًا بوصفهم «الأرواح المتَّقدة بالحماس»، واعتبر أن «الاحتجاج الشخصي» هو تقليلٌ من حجم تحطيم نوافذ الطابق الأرضي لمنزل فرنتشايز.) الأشخاص الذين يجب أن يُلاموا على الاضطراب — (أُولِعَت مجلة «ذا ووتشمان» باستخدام ألفاظٍ تلطيفية: الاضطراب، الأقل حظًّا، ذَوي الهمم، ضحايا الحظ السيئ، بينما يتحدَّث بقيةُ العالم عن العنف، والفقراء، والمعاقين ذهنيًّا، والبغايا، وفكَّر في تلك اللحظة أن القاسَمَ المشترك بين صحيفة «أك-إيما» ومجلة «ذا ووتشمان»، كان الإيمانَ بأن جميع العاهرات لهن قلوبٌ من ذهب لكنْ سلَكْن مسلكًا خاطئًا) — لم يكونوا ربما أولئك المُضلَّلين الذين عبَّروا عن استيائهم بوضوحٍ جلي، بل السلطات التي قادها ضعفها، وغياب كفاءتها وضعف همَّتها إلى عدم تحقيق العدالة في قضية قد أُسقطت. إن جزءًا من التراث الإنجليزيِّ هو ألَّا يكتفي بإقامة العدالة فحَسْب، بل يجب إقامتها على مرأًى ومسمَعٍ من الجميع، ومكان ذلك كان في محكمةٍ علَنية مفتوحة.
سأل روبرت نيفيل، الذي كان يقرأ الرسالةَ بجانبه: «ما الفائدة التي يظنُّ هو أن أحدًا سيُحقِّقها من إضاعةِ وقت الشرطة في إقامة دعوى تعرِف أن الخَسارة مقدَّرة لها؟»
قال نيفيل: «ستجعلنا نحن قُوى الخير.» ثم تابع قائلًا: «يبدو أنه لم يكن قد فكر في ذلك. إذا رفض القاضي النظرَ في القضية فلن يُمكنَ تفادي الاقتراحِ المطروح بأن عزيزته المسكينة المصابة بكدمات كانت تُدْلي بأكاذيب، أليس كذلك! هل تطرَّقت إلى الكدمات؟»
«لا.»
سيذكر الكدماتِ بالقُرب من نهاية الرسالة. قال سيادته إن «الجسد الهزيل المليء بالكدمات» لهذه الفتاة الصغيرة البريئة، هو إدانةٌ صارخة لقانونٍ فشل في حمايتها وفشل الآن في الانتقام لها. إن إدارة هذه القضية بأكملها كانت تستلزمُ تدقيقًا ثاقبًا.
قال روبرت: «لا بد أن ذلك يجعل سكوتلاند يارد في غاية السعادة هذا الصباح.»
عدَّل له نيفيل: «عصرَ هذا اليوم.»
«لِمَ عصر اليوم؟»
«لن يقرأ أحدٌ في سكوتلاند يارد مطبوعةً مُضللة مثل «ذا ووتشمان». لن يرَوها حتى يُرسِلها أحدٌ إليهم عصر اليوم.»
لكنهم قد رأَوها، عندما طُبِعت. كان جرانت قد قرَأها في القطار. حيث اختارها من كشك الكتب مع ثلاثةٍ آخرين؛ ليس لأنها اختيارُه بل لأنها أحدُ الاختيارات بين تلك ومطبوعات ملونة تظهر على أغلفتِها الخارجية حَسْناوات بملابس السباحة.
غادر روبرت المكتبَ وأخذ نسخةً من مجلة «ذا ووتشمان» إلى منزل فرنتشايز مع نسخةٍ من الإصدار الصباحي لصحيفة «أك-إيما»، التي لم يَعُد لديها أيُّ اهتمامٍ آخر بقضية فرنتشايز. منذ الرسالة البسيطة الأخيرة في إصدار يوم الأربعاء فقد توقفت عن الإشارة إلى القضية. كان يومًا رائعًا؛ العُشب في فِناء فرنتشايز كان اخضرارُه غيرَ طبيعي، والواجهة البيضاء المتسخة أضاءها نورُ الشمس ليُضفِيَ عليها قليلًا من الجمال، ومن جدار الطوب الورديِّ يفيض الضياءُ المنعكس على قاعة الاستقبال البالية ويمنحها دفئًا مُبهجًا. حيث جلسوا هناك، ثلاثتهم، في سعادةٍ غامرة. كانت صحيفة «أك-إيما» قد فرَغَت من فضحِهما على الملأ، ورسالة الأسقف لم تكن في نهاية المطاف سيئةً بالدرجة المتوقَّعة، وأليك رامسدن كان منشغلًا بالنيابة عنهم في لاربورو ومن دون شكٍّ سيكشف عاجلًا أم آجلًا الستار عن حقائقَ فيها طوقُ نجاتهما، وقد حل فصل الصيف هنا بلياليه القصيرةِ المبهجة، أما ستانلي فكان يُثبت أنه «صديق مخلص»، والسيدتان قد أجْرَتا بالأمس زيارةً قصيرة ثانية إلى ميلفورد وَفْقًا لتخطيطهما بأن تُصبحا جزءًا من المشهد، ولم تتعرَّضا لشيءٍ غيرِ لائق غيرَ نظرات التحديقِ والازدراء، وبعضِ التعليقات المسموعة بوضوح. إجمالًا، كان الانطباعُ من اللقاء أن كل ما حدث كان مُتوقعًا له أن يكون أسوأَ من ذلك.
سألت السيدة شارب روبرت، وهي تضرب بطرف سبَّابتها الهزيلة صفحةَ المراسلات في مجلة «ذا ووتشمان»: «إلى أي مدًى ستؤثر هذه الرسالة على الموقف؟»
«ليس كثيرًا في ظنِّي. حتى بين صفوة «ذا ووتشمان» يُنظر إلى الأسقف شزرًا نوعًا ما هذه الأيام، حسبما أفهم. حيث انخفضَت شعبيته بعد قضية ماهوني.»
سألت ماريون: «مَن هو ماهوني؟»
«أنسيتِ ماهوني؟ ذلك «الوطني» الأيرلندي الذي وضَع قنبلةً في سلَّة الدراجة لسيدةٍ في أحد الشوارع المزدحمة في بريطانيا، ففتَكَت بأربعة أشخاص، من بينهم السيدةُ التي حُدِّدت هُويتُها فيما بعد من خاتَم زواجها. اعتبر الأسقف أن ماهوني ليس إلا شخصًا مُضلَّلًا وليس قاتلًا، وأنه كان يُناضل باسم أقليةٍ مظلومة — الأيرلنديون، صدقي أو لا تُصدقي — وأننا يجب ألَّا نجعلَ منه شهيدًا. كان ذلك أمرًا فجًّا قليلًا حتى على مجلة «ذا ووتشمان»، وعلمتُ أنه منذ ذلك الحين لم تَعُد منزلة الأسقف كما كانت.»
قالت ماريون: «أليس صادمًا كيف ينسى المرءُ أن الأمر لا يَعنيه في شيء؟» وأضافت: «هل شنَقوا ماهوني؟»
«أجل شنقوه، يسرُّني قولُ ذلك — وتلك كانت مفاجأةً مزعجة له. كان الكثيرُ من أسلافه قد استفادوا من المناشدة بأننا يجب ألا نجعلَ من شخصٍ شهيدًا، فلم تَعُد العقول تُدرك أن جريمة القتل تلك هي عمل خطير. وسرعان ما صارت عملًا آمنًا، مثلها مثل التعامُل مع المصرف.»
قالت السيدة شارب: «بمناسبة الحديث عن التعامل مع المصرف، أظنُّ أنه من الأفضل توضيحُ وضعِنا المالي لك؛ ولهذا فعليك التواصلُ مع المحامين السابقين للسيد كرول في لندن، الذين يُديرون شئوننا. سأكتب إليهم لأوضح أنه يجب منحُك كلَّ التفاصيل، حتى تعلم المبلغَ الذي يُمكننا الاتفاق والاستمرار عليه، ونُجري الترتيبات المناسِبة للإنفاق منه على الدفاع عن سُمعتنا. لم تكن تلك تحديدًا الطريقةَ التي خطَّطنا للإنفاق بها.»
قالت ماريون: «لنكُن ممتنِّين أن لدَينا ما نُنفق منه.» ثم تابعَت قائلة: «ماذا يفعل شخصٌ مفلس في قضيةٍ كهذه؟»
لم يكن روبرت يعرف بصراحةٍ شديدة.
أخذ عنوان محامي كرول ثم عاد إلى المنزل لتناوُل الغداء مع العمَّة لين، وفي داخله يشعر بسعادةٍ أكبر مما كان عليه في أيِّ وقتٍ مضى منذ المرة الأولى التي لمح فيها الصفحةَ الأولى من صحيفة «أك-إيما» على مكتب بيل الجمعةَ الماضية. أحسَّ بشعورِ شخصٍ في عاصفةٍ رعدية عنيفة وضجيج العاصفة لم يَعُد يعلو رأسه مباشرةً؛ سيستمرُّ الوضع، ومن المرجَّح أنه سيظلُّ سيئًا، لكن بإمكان الإنسان أن يرى مستقبلًا من خلاله، في حين أنه منذ لحظة واحدةٍ مضت لم يكن هناك سوى «حاضر» مُخيف.
حتى العمة لين بدَت أنها قد نسِيَت أمر فرنتشايز قليلًا، وكانت في أفضل الحالات المثيرة والمحببة لها — إذ كانت مُنشغلةً تمامًا بهدايا عيد الميلاد التي كانت تشتريها لتوءمَي ليتيس في مقاطعة ساسكاتشوان. كانت قد قدَّمت له غداءه المفضَّل — لحمًا باردًا، وبطاطس مسلوقة، وحلوى البراون بيتي مع طبقة سميكة من الكريمة — وبمرور لحظةٍ بعد لحظة كان يستشعر أن الأمر يزدادُ صعوبةً عليه من حيث إدراكُ أن ما مرَّ به كان صباحَ يوم الجمعة الذي رهبه؛ لأنه كان سيرى بداية الحملة التي تشنُّها مجلة «ذا ووتشمان» ضدَّهما. وبدا له أن أسقف لاربورو كان بالفعل ما اعتاد زوجُ ليتيس بأن يُطلق عليه «مُخيب للآمال». لم يكن بوُسعه أن يتصوَّرَ في تلك اللحظة لِمَ أضاع لحظةً واحدة في التفكير فيه.
كان في تلك الحالة المِزاجية عندما عاد إلى المكتب. وعندما أمسك بسماعة الهاتف ليُجيب على اتصال هالم.
قال هالم: «سيد بلير؟» ثم تابع قائلًا: «أنا في فندق روز آند كراون. أخشى أني أحملُ لك أخبارًا سيئة. إن المحقق جرانت هنا.»
«في فندق روز آند كراون.»
«أجل. ومعه مذكرة.»
توقَّف عقل روبرت عن التفكير. ثم سأل بغباءٍ: «مذكرة تفتيش؟»
«لا؛ مذكرة توقيف.»
«مُستحيل!»
«أخشى أن الأمر هكذا.»
«لكن لا يمكنه أن يحصل عليها!»
«أتوقَّع أن الخبر صادمٌ قليلًا لك. أعترف بأني شخصيًّا لم أكن أتوقَّعْه.»
«أتقصد أنه تمكن من الوصول إلى شاهد — شاهد إثبات؟»
«لديه شاهدان. لقد حُسِمت القضية وانتهت.»
«لا أصدِّق ذلك.»
«هل ستأتي، أم نأتي إليك؟ أتوقع أنك ستودُّ أن تأتيَ معنا.»
«إلى أين؟ أوه، أجل. أجل، بالطبع. سآتي إلى فندق روز آند كراون الآن. أين أنتما؟ في الردهة؟»
«لا، في غرفة جرانت. الغرفة رقم خمسة. الغرفة ذات النافذة المفصلية المطلة على الشارع — فوق الحانة.»
«حسنًا. سآتي في الحال. انتبه إلي!»
«نعم؟»
«أهي مذكرة لكِلتَيهما؟»
«نعم. للاثنتَين.»
«حسنًا. شكرًا لك. سآتي إليك في لحظة.»
جلس وهلةً يستعيدُ أنفاسه، ويحاول أن يُحدد أيَّ وجهةٍ يستقبلها. كان نيفيل في الخارج لقضاء مهمة، لكن نيفيل لم يكن أهلًا لتقديم دعم معنوي في أي وقت. ومن ثَم نهض، وأخذ قبعته، ثم اتجه إلى باب «المكتب».
قال، بأسلوب مهذب كان يستخدمُه دائمًا في حضور الموظفين الأصغرِ سنًّا: «سيد هيزيلتاين، من فضلك.» ثم تبعه الرجلُ العجوز إلى الردهة ثم إلى المدخل الذي أناره ضوء الشمس.
قال روبرت: «تيمي.» ثم تابع قائلًا: «نحن في ورطة. المحقِّق جرانت من مقرِّ إدارة الشرطة المركزية حضر هنا ومعه مذكرة توقيف بحقِّ سيدتَي فرنتشايز.» حتى وهو يقول ما قاله استعصى عليه أن يُصدق أن الخبر كان أمرًا واقعًا يحدث بالفعل.
وكذلك لم يُصدِّق السيد هيزيلتاين، فبدا ذلك واضحًا. حيث حدَّق، دون التفوُّه بكلمة؛ وعيناه الواهنتان الشاحبتان في صدمة.
«الأمر صادمٌ قليلًا، أليس كذلك، يا تيمي؟» لم يكن عليه أن يأمُلَ في الحصول على دعمٍ من الموظف العجوز الواهن.
رغم حالة الصدمة التي كان عليها السيد هيزيلتاين، ووهنِه، وكِبَر سنِّه، فإنه رجلُ قانون؛ لذا بإمكانه تقديم الدعم. بعد عمرٍ طويل بين القوانين استجاب عقله بعفوية إلى تفاصيل الموقف الدقيقة.
فقال: «مذكرة.» ثم تابع قائلًا: «لِمَ «مذكرة»؟»
أجاب روبرت إجابةً بسيطة بصبرٍ نافد: «لأنه ليس لهم القبضُ على أحدٍ من دونها.» أكان السيد هيزيلتاين يتجاوز حدودَ عمله؟
«لا أقصد ذلك. أقصد، أنهما مُتهَمتان بارتكاب جنحة، وليس جناية. كان بوُسعهم بكل تأكيد أن يجعلوه استدعاءً، أليس كذلك يا سيد روبرت؟ فلا حاجة لهم إلى القبض عليهما، بكل تأكيد، أليس كذلك؟ ليس من أجل جُنحة.»
لم يكن روبرت قد فكَّر في ذلك. فقال: «استدعاء للمثول.» ثم تابع قائلًا: «صحيح، لِمَ لا؟ بالطبع لا شيء يمنعُهم من القبض عليهما إن شاءوا ذلك.»
«لكن لِمَ من المفترض أنهم يريدون ذلك؟ إن سيداتٍ مثل السيدتَين شارب لن يفرَّا هاربتَين. ولن تتسبَّبا في أي ضررٍ آخِرَ وقتِ انتظارهما للاستدعاء. مَن أصدر هذه المذكرة، هل قالوا؟»
«لا، لم يقولوا. شكرًا جزيلًا، يا تيمي؛ كان تأثيرك رائعًا كتأثير نبيذٍ قوي. لا بد أن أذهب سريعًا إلى فندق روز آند كراون الآن — فالمحقق جرانت هناك مع هالم — وعليَّ أن أُواجه العواقب. لا سبيل لإخبار سيدتَي فرنتشايز لأن الهاتف مُعطَّل لدَيهما. ليس عليَّ سوى الذَّهاب إلى هناك لمقابلة جرانت وهالم. فقط هذا الصباح كنا قد بدأنا نرى النور، هكذا ظننَّا. بإمكانك إخبارُ نيفيل عندما يأتي، أليس كذلك؟ وامنَعْه من فِعل أيِّ شيءٍ أحمق أو متهور.»
«أنت تعلم جيدًا يا سيد روبرت أني لم أقدِر في حياتي أن أمنع السيد نيفيل من فعل أيِّ شيءٍ أراد فعله. رغم أنه بدا لي رزينًا في الأسبوع الماضي على نحوٍ مفاجئ. أقصد في استخدامه للأسلوب المجازي.»
قال روبرت، وهو يخرج مُسرعًا إلى الشارع المضيء: «أتمنَّى أن يستمرَّ على ذلك إلى الأبد.»
ساد الهدوء التامُّ مدةَ ما بعد الظهر في فندق روز آند كراون، حيث مرَّ روبرت من البهو ثم صعد سلالمَ عريضةً ضَحْلة دون أن يلتقِيَ بأحدٍ، ثم طرَق باب رقم خمسة. وجرانت، هادئًا ومهذبًا كعادته، سمح له بالدخول. وهالم، الذي يبدو حزينًا نوعًا ما، كان يتَّكئ على التسريحة أمام النافذة.
قال جرانت: «أتفهَّم أنك لم تتوقَّع هذا، سيد بلير.»
«لا، لم أتوقَّع ذلك. صراحةً، إنَّ الخبر صدمةٌ كبيرة لي.»
قال جرانت: «تفضَّل بالجلوس.» ثم أضاف قائلًا: «لا أريد استعجالَك.»
«يقول المحقِّق هالم إن لدَيك أدلةً جديدة.»
«أجل؛ لدَينا ما نعتقد أنها أدلة حاسمة.»
«هل لي أن أعرف ما هي؟»
«بالطبع. لدَينا رجل رأى بيتي كين بينما تأخذها السيارةُ عند موقف الحافلات …»
قال روبرت: «تقصد سيارة.»
«نعم، سيارةٌ، إذا شئت — لكن أوصافها تنطبق على سيارة السيدتَين شارب.»
«وتنطبق كذلك على عشَرات آلاف السيارات في بريطانيا. وماذا بعد؟»
«الفتاة من المزرعة، التي كانت تذهب مرةً أسبوعيًّا للمساعدة في تنظيف منزل فرنتشايز، ستُقسِم أنها سمعت أصواتَ صراخ آتيةً من العلية.»
«هل قلتَ كانت تذهب مرة أسبوعيًّا؟ ألم تَعُد تذهب إلى هناك؟»
«لم تعد منذ أن انتشر القيل والقال عن قضية كين.»
«فهمت.»
«الأدلة ليست ذاتَ قيمةٍ في حدِّ ذاتها، لكنها قيِّمة للغاية بوصفها دليلَ إثباتٍ لقصة الفتاة. على سبيل المثال فاتتها بالفعل حافلةُ لاربورو-لندن. يقول الشاهد لدَينا إن الحافلة تجاوزَته بمسافة نصف ميلٍ على الطريق. وعندما وصل إلى موقف الحافلات رأى بعدَها بدقائق معدودة الفتاة تنتظِر هناك. إن الشارع طويل مُستقيم، طريق لندن الرئيسي من مينشيل …»
«أعرف. أعرفه.»
«أجل؛ حسنًا، عندما كان لا يزال على مسافةٍ قريبة من الفتاة رأى سيارة تتوقَّف جانبها، ورأى الفتاة تستقلُّها، ثم رأى السيارة تسير بها.»
«لكنه لم يرَ مَن قاد بها السيارة، أليس كذلك؟»
«نعم. كان على مسافةٍ بعيدة حتى يرى ذلك.»
«وهذه الفتاة من المزرعة — هل تطوَّعتَ بتقديم المعلومات عن الصراخ؟»
«ليس إلينا. تحدَّثَت عنه إلى صديقاتها، فتصرَّفْنا نحن بناءً على المعلومات، ووجدنا أنها على استعدادٍ تامٍّ لتُعيد القصة بعد القسَم بقول الحق.»
«هل تحدَّثَت عنه قبل انتشار الأقاويل عن اختطاف بيتي كين؟»
«أجل.»
كان ذلك غيرَ مُتوقَّع، مما أثار دهشةَ روبرت. إذا كان ذلك صحيحًا بحقٍّ — أن الفتاة قد أشارت إلى سَماع صُراخ قبل الحديث عن أي تورطٍ للسيدتَين شارب — فالأدلة ستكون دامغة. نهض روبرت وسار إلى النافذة في قلقٍ جيئةً وذَهابًا. ساورَته مشاعرُ حقدٍ من بِن كارلي. فلن يكرهَ بِن هذا بقدرِ ما كرهه هو، وهو يشعر بالعجز وتقطُّعِ السبُل به. بِن سيكون منسجمًا في عمله؛ سيجد عقلُه لذةً في المشكلة وفي مَسعاه أن يتفوَّق بحِيَلِه على السلطة. كان روبرت يُدرك قليلًا أن احترامه الراسخ تجاه السلطة هو عقَبة في طريقه أكثرَ من كونه مكسبًا له؛ فكان في حاجةٍ إلى شيءٍ من اليقين المتأصِّل في بِن بأن السلطة خُلِقت للتحايُل عليها.
قال أخيرًا: «حسنًا، أشكرك على التحدُّث إليَّ بصراحة.» ثم أضاف قائلًا: «والآن إذن، أنا لا أُقلِّل من شأن الجريمة التي تَتَّهِمون بها هاتَين السيدتَين، لكن إنها تحديدًا جنحة وليست جناية، فلِمَ مذكرة توقيف إذن؟ بالطبع كان الاستدعاء سيفي بالغرَض على أكمل وجه؟»
قال جرانت بسلاسة: «الاستدعاء سيكون بلا شكٍّ صحيحًا من الناحية القانونية.» ثم تابع قائلًا: «لكن في الحالات التي تكون فيها الجريمة مُشدَّدة — ومع استياء رؤسائي من القضية الحاليَّة — حينها تُصدَر مذكرة توقيف.»
لم يمنع روبرت نفسَه من التعجُّب من مدى تأثير هذا الاهتمام المزعِج لصحيفة «أك-إيما» على القرارات المتأنِّية لشرطة سكوتلاند يارد. لمح نظرةَ جرانت وعلِم أن جرانت كان قد قرأ أفكاره.
قال جرانت: «الفتاة كانت مُتغيبةً شهرًا بأكمله — إلا يومًا أو يومَين، وقد ضُربت في أماكن مُتفرقة، ضربًا متعمدًا. فهي قضيةٌ لا بد أن نولِيَها اهتمامًا.»
سأل روبرت، مُتذكرًا وجهةَ نظر السيد هيزيلتاين: «لكن ماذا ستَجني من القبض عليهما؟» ثم تابع قائلًا: «لا يُوجَد أدنى شكٍّ في أن السيدتَين لن تتغيَّبا عن المثول للدفاع عن نفسيهما بشأن هذه التهمة. ولا أدنى شكٍّ في أنهما لن ترتكبا جريمةً مُماثلة في تلك المدة. متى أردتَ منهما المثول، بالمناسبة؟»
«أنوي عرْضَهما على محكمة الجنح والمخالفات يوم الإثنين.»
«أقترح إذن أن تُرسِل إليهن استدعاءً للمثول.»
قال جرانت، بتبلُّد: «لقد استقرَّ رؤسائي على إصدار مُذكرة توقيف بحقِّهما.»
«لكن كان بإمكانك أن تركنَ إلى تقييمك للأمور. فرؤساؤك لا عِلم لهم بالأوضاع الداخلية، على سبيل المثال. لو تُرك منزل فرنتشايز دون أحدٍ يسكنه فسيصير حُطامًا في غضون أسبوع. هل فكَّر رؤساؤك في ذلك؟ وإذا ألقيتَ القبض على هاتَين السيدتَين، فليس بإمكانك سوى حبسهما حتى يوم الإثنين، في الوقت الذي سأطلب فيه دفع كفالة. يبدو مُثيرًا للشفقة المجازفة بتعريض منزل فرنتشايز لأعمال شغبٍ لمجرد إشارةٍ بإلقاء القبض. وأعرف أن المحقق هالم لدَيه عجزٌ في توفير رجالٍ لحمايته.»
إن هذا الشد والجذب منح كِلَيهما مهلةً قصيرة. كان مذهلًا كيف ترسَّخ في النفس الإنجليزية هذا الاحترامُ تجاه الممتلَكات؛ فأولُ تغيير قد طرأ على وجه جرانت كان عند ذِكرِ إمكانية تحطُّم منزل فرنتشايز. فتكوَّنت لدى روبرت على نحوٍ غير مُتوقَّع فكرةٌ جيدة عن الرعاع الذين فعَلوا فعلتهم السابقة، وبهذا رجَحَت كفَّتُه في الجدال بذكر المثال. أما بالنسبة إلى هالم، بعيدًا عن القوة المحدودة المتوفرة لدَيه فلم يكن يُرجِّح أن يقف مُشاهدًا أمام احتمالٍ جديد لإثارة شَغب في منطقته واقتفاء أثر مُجرمِين جُدُد.
خلال ذلك الصمت الطويل قال هالم في تردُّد: «هناك منطقٌ وجيه فيما يقوله السيد بلير. إن الشعور بالغضب في الريف مُحتدِم، وأشكُّ أنهم سيتركون المنزلَ على حاله إن صار خاويًا. لا سيما إذا انتشر خبرُ إلقاء القبض عليهما.»
رغم ذلك، استغرق إقناعُ جرانت قرابة نصف الساعة. لسببٍ ما كان هناك شيء شخصي مُتدخِّل في القضية بالنسبة إلى جرانت، ولم يكن بوُسع روبرت أن يتخيَّل ماذا عساه أن يكون، أو لِمَ من المفترض أن يكون.
قال المحقق بعد مدةٍ طويلة: «حسنًا، لستما في حاجةٍ إليَّ لأُصدر استدعاءً.» تخيَّل روبرت، في بهجة وارتياحٍ شديدَين، أن الموقف كان أشبهَ باستخفاف جرَّاحٍ يُطلَب منه فتحُ دُمَّلٍ. «سأترك ذلك إلى هالم وسأعود إلى المدينة. لكنني سأحضر إلى المحكمة يوم الإثنين. أعتقد أنَّ موعد جلسات محكمة المقاطعة الرئيسية قريب؛ لهذا كي نتفادى الحبسَ الاحتياطي يمكن أن نتوجُّه مباشرةً إلى تلك المحكمة. هل بإمكانك أن تعدَّ دفاعك بحلول يوم الإثنين، هل تظنُّ ذلك؟»
قال روبرت باستياء: «أيها المحقِّق، بكل وسائل الدفاع التي تمتلكها مُوكلتاي يمكن أن أُصبح جاهزًا بحلول موعد تناوُل الشاي.»
ما أثار دهشتَه، أن جرانت استدار إليه بابتسامةٍ عريضة أكثرَ من المعتاد عليه معه، وكانت ابتسامةً في غاية اللطف. فقال: «سيد بلير، لقد جعَلتَني أعدِلُ عن قرار إلقاء القبض عصرَ اليوم، لكني لا آخُذ ذلك ضدَّك. بل العكس، أظن أن موُكلتَيك محظوظتان بمحاميهما أكثرَ مما تَستحقانِه. وسيكون دعائي أن تُصبحا أقلَّ حظًّا في استشارتهما القانونية! وإلا فربما أجد نفسي مُقتنعًا بأن أشهد ببراءتهما.»
بهذا ذهب روبرت إلى منزل فرنتشايز من دون أن يكون جرانت وهالم معه، ومن دون أيِّ مذكرة توقيف إطلاقًا. لقد ذهب في سيارة هالم المعهودةِ ومعهما الاستدعاء، وشعر بارتياح شديد عندما فكَّر في المَخرج الذي حصَلا عليه، وأنهكَه الخوفُ عندما فكر في المأزق الذي هما فيه.
قال لهالم أثناء سيرهما: «بدا المحقق جرانت أنَّ له مصلحةً شخصية في تنفيذ تلك المذكرة.» ثم تابع قائلًا: «هل لأن صحيفة «أك-إيما» تؤرِّقه، أتظنُّ ذلك؟»
قال هالم: «لا، قطعًا.» وأضاف: «جرانت لا يُبالي بمثل هذه الأمور مثله كمثل أي إنسان.»
«ما السبب إذن؟»
«حسنًا، إنها قَناعتي الشخصية — تظل بيننا ولا أحدَ سوانا — بأنه استعصى عليه أن يُسامحهما على خداعهما له. أقصد السيدتَين شارب. فهو معروفٌ في سكوتلاند يارد برجاحة حُكمه على البشر، كما تفهم، وبيننا فقط مرةً أخرى، فهو لا يعبأ بالفتاةِ كين أو بقصتِها، وقد تَراجع إعجابُه بهما عندما رأى سيدتَي فرنتشايز، رغم كل الأدلة. والآن يرى أن الصوف يَنقض غزْلَه أمام عينَيه؛ لهذا لا بد أن يُعير القضيةَ اهتمامًا. وكان سيشعر بسعادةٍ غامرة، حسبما أتصور، لو أنه قدَّم لهما مذكرة التوقيف في قاعة استقبالهما.»
عندما توقَّفا عند بوابة فرنتشايز وأخرج روبرت مِفتاحَه، قال هالم: «إذا فتحت كِلا الجانبَين فسأُدخل سيارتي، حتى لو مَكثنا وقتًا قصيرًا. لا داعيَ للإعلان عن أننا هنا.» فخطر ببال روبرت، وهو يفتح البوابة الحديدية على مِصراعَيها، أنه عندما تقول الممثلاتُ الزائرات «رجال الشرطة التابعون لكم مُذهلون» فهنَّ لم يعرفن حقيقة الأمر. ثم عاد إلى داخل السيارة وقاد هالم مسافةً مُستقيمة قصيرة، ثم التفَّ في المسار الدائري المؤدي إلى الباب. عندما خرج روبرت من السيارة اقتربَت ماريون من زاوية المنزل، وهي ترتدي قفازات الزراعة وتنورةً قديمة للغاية. وعندما حرك الهواءُ شعرَها من الجبين تبدَّل حالُه من كونه داكنًا كثيفًا كما كان، إلى لونٍ أشقرَ فاتح. وكانت شمس أوائل فصل الصيف قد أكسَبَتها سُمرةً كالغجرية أكثرَ من أي وقتٍ مضى. والوقت لم يكن قد سمح لها عند مجيء روبرت المفاجئ بإخفاء تعبير ملامحها، كما أن إشراق وجهها كلِّه عندما رأته قد جعل قلبَه يتمايل.
قالت: «يا للمفاجأة اللطيفة! لا تزال أُمي مُستلقية لكنها ستنزل بعد قليل، وبإمكاننا أن نشرب الشاي. فأنا …» ثم تحوَّلَت نظرتها إلى هالم وبدأ صوتها في الاختفاء في حالةٍ من الرِّيبة. «مساء الخير أيها المحقق.»
«مساء الخير آنسة شارب. أعتذِر على قطع فترة استراحة والدتك، لكن ربما كان بإمكانكِ أن تطلُبي منها النزول. فالأمر مهم.»
توقفَت برهةً، ثم سارت بهما إلى الداخل. «أجل، بكل تأكيد. هل وقعَت بعضُ … بعضُ التطورات الجديدة؟ تفضَّلا بالدخول والجلوس.» ثم قادتهما إلى قاعة الاستقبال التي أصبح يعرفها حقَّ المعرفة الآن — المِرآة الجذَّابة، والمِدْفأة المريعة، والكرسي المشغول بالخرز، و«قِطع الأثاث» الجيدة، والسجادة الوردية البالية التي بهتَ لونها ليصير رماديًّا مُتسخًا — فوقَفَت هناك، وتفحَّصت وجْهَيهما، بينما تستشعر الخطرَ الجديد الذي يحوم في الأجواء.
سألت روبرت: «ما الأمر؟»
لكن هالم قال: «أعتقد أن الأمر سيكون أيسر إذا أحضرتِ السيدة شارب وأُخبركما به في الوقت نفسِه.»
وافقَت، ثم استدارت لتنصرف وهي تقول: «أجل. أجل، بكل تأكيد.» لكن لم يكن هناك داعٍ لانصرافها. فالسيدة شارب دخلَت الغرفة، في حالةٍ تُشبه كثيرًا الحالةَ التي كانت عليها في تلك المرة السابقة عندما كان هالم وروبرت قد حضَرا في تلك الغرفة معًا: الخصلات القصيرة من شعرها الأبيض التي تقف أطرافها منتصبةً في المكان الذي كانت الوسادة قد دفعَتها لأعلى، وعيناها اللامعتان الفضوليَّتان اللتان تُشبهان عين النورس.
قالت: «صِنفان من الناس لا ثالث لهما يصلان بسياراتٍ لا تُحدث صوتًا. المليونيرات والشرطة. ونظرًا إلى أن لا معارفَ لنا من الصنف الأول — ولدينا معارفُ تتَّسع دائرتُها من الصنف الأخير — فاستنتجْتُ أنه قد وصل بعضٌ مما لدَينا من المعارف.»
«أخشى أن وجودي سيكون غير مُرحَّب به أكثر من المعتاد يا سيدة شارب. جئتُ لإخطاركما باستدعاءٍ لكِ وللآنسة شارب.»
قالت ماريون في حيرة: «استدعاء؟»
«استدعاءٌ للمثول أمام محكمة الجُنَح والمخالفات صباح يوم الاثنين للردِّ على تهمة الاختطاف والاعتداء الموجَّهة إليكما.» كان واضحًا أن هالم لم يكن سعيدًا.
قالت ماريون بنبرةٍ بطيئة: «لا أُصدق ذلك.» وتابعَت: «لا أصدِّق ذلك. أتقصد أنكم تتَّهِموننا بهذه التُّهمة؟»
«أجل، يا آنسة شارب.»
استدارت إلى روبرت وقالت: «لكن كيف؟ ولِمَ الآن؟»
قال روبرت: «تعتقد الشرطة أنها حازت على دليلٍ الإثبات الذي كانت تحتاج إليه.»
سألت السيدة شارب، صادرًا منها ردُّ فعلٍ لأول مرة: «ما الدليل؟»
«أظن أن أفضل ترتيبٍ هو أن يُسلِّمكما الاستدعاء المحقق هالم، ثم يُمكننا أن نتناقش في الموقف باستفاضةٍ عندما ينصرف.»
قالت ماريون: «أتقصد أن علينا قَبولَه؟» وأضافت: «وأن أمثُل أمام المحكمة العامة — وأمي كذلك — حتى نرد على … اتهامنا بمِثل هذه التهمة؟»
«أخشى أنه لا خيارَ بديلًا أمامنا.»
بدَت من ناحيةٍ خائفةً من اقتضابه في الحديث، ومُستاءةً من الناحية الأخرى من خِذلانه في الدفاع عنهما. أما هالم، فعندما سلَّمها وثيقةَ الاستدعاء، بدا مُدركًا لهذا الشعور الأخير ومستاءً منه بدَوره.
«أظن من الواجب إخباركما، في حال أنه لن يُخبركما بذلك، أنه لولا السيدُ بلير هنا لم يكن الأمر سيقتصِر على مجرد استدعاء، وإنما كان سيصل إلى مذكرة بتوقيفكما، وكنتما ستنامان الليلةَ في زنزانةٍ بدلًا من فِراشكما. لا تنزعِجي يا آنسة شارب، سأنصرف، لا داعي لأن تُرافِقيني نحو الباب.»
أما روبرت، مُشاهِدًا له وهو ينصرف ومُتذكرًا كيف كانت السيدة شارب قد أساءَت معاملته في أول مرةٍ حضر فيها في تلك الغرفة، فقد فكَّر في أن هذا الإنجاز المحرَز إنما كان ثمرةَ جهود الجميع.
سألت السيدة شارب: «أذلك حقيقي؟»
قال روبرت: «حقيقي تمامًا.» ثم أخبرهما عن وصول جرانت للقبض عليهما. «لكني لستُ أنا مَن وجَب شكرُه على إفلاتِكما من مذكرة التوقيف، وإنما هو السيد هيزيلتاين الموظف العجوز في المكتب.» ووضَّح كيف استجاب عقلُ الموظف العجوز بعفويةٍ إلى هذا التغيير ذي الطابَع القانوني.
«وما هذا الدليل الجديد الذي يظنون أنه لدَيهم؟»
أجاب روبرت بنبرةٍ جادَّة: «إن لدَيهم دليلًا بالفعل.» ثم أضاف قائلًا: «وليس هناك مجردُ ظن.» فأخبرهما عن أن الفتاة أُقِلَّت بسيارةٍ على طريق لندن في مينشيل. «هذا يؤيد فحسبُ ما كنَّا نرتاب فيه طَوال الوقت: أنه حينما غادرَت تشيريل ستريت، ظاهريًّا في طريق عودتها إلى المنزل، فإنها كانت على موعدٍ. لكن الدليل الآخر أكثرُ خطورةً بكثير. أخبرتِني ذات مرة أنَّ لديك سيدةً — فتاة — من المزرعة، كانت تأتي مرةً في الأسبوع وتتولَّى مهام التنظيف من أجلك.»
«روز جلين، صحيح.»
«أتصور أنها لم تَعُد تأتي منذ انتشار الإشاعات.»
«منذ انتشار الإشاعات …؟ أتقصد قصة بيتي كين؟ أوه، لقد طُرِدَت قبل أن يُعرف بالأمر.»
قال روبرت سريعًا: «طُردت؟»
«أجل. لِمَ فوجئتَ بهذه الدرجة؟ من واقع خِبرتنا مع العمالة المنزلية فالطرد ليس حدَثًا غيرَ مُتوقَّع.»
«لا، لكن في هذه الحالة ربما كان ذلك يُفسِّر أشياءَ كثيرة. ما السبب الذي طرَدتِها من أجله؟»
قالت السيدة شارب العجوز: «السرقة.»
زادت ماريون على ما قيل: «كانت تنشل دومًا شلنًا أو شلنَين من أحد أكياس النقود حالَ تركه هنا أو هناك، لكن لأننا كنَّا في أشدِّ الحاجة إلى المساعدة غضَضْنا الطَّرْف عن هذا وأبعَدْنا أكياسَ النقود عن طريقها. ينطبق الأمر كذلك على أي مُتعلقات صغيرة يمكن نشلُها، مثل الجوارب. ثم بعد ذلك سرقَت الساعة التي كانت لديَّ منذ عشرين عامًا. كنت قد خلعتُها لغسل بعض الأشياء — فرغاوي الصابون كانت ترتفِع حتى الذراعَين، كما تعرف — وعندما رجعت لأبحث عنها كانت قد اختفت. سألتها عنها، لكنها بالطبع «لم تكن قد رأتها». كان الأمر مجاوزًا للحد. تلك الساعة كانت جزءًا مني، جزءٌ لا يقلُّ عن شعري أو أظفاري. لم يكن هناك سبيلٌ لاستردادها؛ لأنه لم يكن لدَينا دليلٌ قط على أنها هي مَن أخذَتها. لكن بعد أن كانت قد انصرفَت تناقشنا في الأمر وفي صباح اليوم التالي اتجهنا إلى المزرعة، وأشَرنا فحسبُ إلى أننا لن نحتاجَ إليها بعد ذلك. كان ذلك في يوم الثلاثاء — وهي تأتينا دائمًا يوم الإثنين — وفي عصر ذلك اليوم بعد أن كانت أمي قد صعدَت لتستريح وصل المحقق جرانت، وبيتي كين في السيارة.»
«فهمت. أكان حاضرًا أيُّ شخصٍ آخرَ عندما أخبرتِ الفتاة في المزرعة بطردها؟»
«لا أتذكَّر. لا أظنُّ ذلك. هي ليست من المزرعة … أقصد من مزرعة ستابلس؛ فأهلها رائعون. هي إحدى بنات العامِلين هناك. وحسبما أتذكَّر فإننا قابلناها خارج كوخِهم وذكَرنا الأمر بشكلٍ عابر.»
«كيف استقبلت الأمر؟»
«تورَّد وجهها بشدَّة وانتفضَت قليلًا.»
علَّقت السيدة شارب: «صارت حمراءَ كالبنجر وممتعضة كديكٍ رومي.» ثم تابعَت قائلة: «لمَ تسأل؟»
«لأنها ستُقسِم على أنها عندما كانت تعمل هنا سمعَت أصواتَ صُراخ قادمةً من العلية.»
قالت السيدة شارب، على نحوٍ مُتأمِّل: «أستفعل ذلك حقًّا؟»
«الأسوأ من ذلك بكثيرٍ أن هناك دليلًا على أنها نوَّهَت عن أصوات الصراخ قبل انتشار أيِّ إشاعاتٍ عن مشكلة بيتي كين.»
أحدثَ هذا صمتًا تامًّا. أحسَّ روبرت مرةً أخرى بمدى الهدوء الذي يعمُّ أرجاء المنزل، والصمت التام. حتى الساعة الفرنسية التي تقف على رفِّ المدفأة كانت صامتة. وستائر النافذة تحرَّكت إلى الداخل على إثر هبوب بعض الهواء ثم عادت إلى مكانها من دون صوتٍ وكأنها كانت تتحرك في فيلم.
قالت ماريون أخيرًا: «ذلك ما يُعرف بأنه ضربة قاضية.»
«صحيح. حتمًا.»
«ضربةٌ قاضية لك، أيضًا.»
«لنا، هذا صحيح.»
«لا أقصد مهنيًّا.»
«حقًّا؟ كيف إذن؟»
«صرتَ تُوَاجَه باحتمالية أننا كنَّا نكذب.»
قال بضجرٍ، مُستخدمًا اسمَها لأول مرة ودون أن يُلاحِظ أنه قد استخدمه هكذا: «حقًّا، يا ماريون!» ثم أضاف قائلًا: «ما يُواجِهني، إن وُجِد أيُّ مجالٍ لذلك، هو الاختيار بين كلامك وكلام أصدقاء روز جلين.»
لم يبدُ أنها كانت تستمع إليه. فقالت في تأثرٍ شديد: «أتمنَّى، يا إلهي، كم أتمنَّى لو أن لدَينا دليلًا واحدًا بسيطًا، مجرد دليل واحد صغير في صالحنا! إنها تُفلت — تلك الفتاة تُفلت ومعها كل شيء، كل شيء. ونظل نحن نقول «هذا غير حقيقي»، لكن ليس لنا سبيلٌ أن نُثبت بأنه غير حقيقي. كل شيء سلبي. كل شيء غيرُ محسوم. كل شيء إنكارٌ ضعيف. تجتمع الشواهدُ لتدعم أكاذيبَها، ولا شيء يحدُث ليُساعد في إثبات أننا نقول الحقيقة. لا شيء.»
قالت والدتُها: «اجلسي يا ماريون.» ثم تابعت قائلة: «الغضب لن يُحسِّن الموقف.»
«بإمكاني أن أقتل تلك الفتاة؛ بإمكاني أن أقتلها. يا إلهي، بإمكاني أن أُعذبَها مرتَين في اليوم لمدة سنة ثم أبدأ مرةً أخرى في بداية العام الجديد. كلما أفكر فيما قد فعلته فينا …»
قاطعها روبرت قائلًا: «لا تُفكري هكذا. لكن فكِّري بدلًا من ذلك في اليوم الذي يُطعَن في صِدقها في محكمةٍ علنية مفتوحة. لو أني أعرف أيَّ شيءٍ عن طبيعة البشر بالفعل، فإن هذا سيؤلم الآنسة كين على نحوٍ أسوأ بكثير من الضرب الذي يُسدِّده لها شخصٌ ما.»
قالت ماريون مُتشكِّكة: «هل لا تزال تُصدِّق أن ذلك ممكن؟»
«أجل. لا أعرف تمامًا كيف سنفعل ذلك. لكني أؤمن حقًّا أننا سنفعله.»
«من دون دليلٍ صغير في صالحنا، ولا دليل واحد؛ والأدلة … تتكشف لصالحها؟»
«أجل. حتى بالرغم من ذلك.»
قالت السيدة شارب: «هل هذا تفاؤلٌ طبيعي فيك فحسبُ أم إيمانك الفطريُّ بانتصار الخير، أم ماذا؟»
«لا أعرف. أعتقد أن الحقيقة لها مِصداقية في حدِّ ذاتها.»
قالت بأسلوبٍ فظ: «دريفوس لم يجد أنها ذاتُ مصداقية للغاية، ولا سلاتر، ولا غيرهم من الأشخاص المعروفين.»
«لكنهم وجدوها ذات مصداقية في النهاية.»
«حسنًا، صراحةً، لا أطمح في حياة بالسجن تنتظر الحقيقة حتى تثبت مصداقيتها.»
«لا أعتقد أن الأمر سيصل إلى ذلك. أقصد إلى السجن. عليكما الحضور يوم الإثنين، وحيث إنه ليس لدَينا أدلة دفاع مناسبة فستُحالان بلا شكٍّ إلى المحاكمة. لكن يمكننا طلَب الإخراج من السجن بكفالة، وذلك يعني أنه بإمكانكما البقاء هنا حتى الاستدعاء إلى محكمة المقاطعة الرئيسية في نورتون. وقبل ذلك آمُل أن يكون أليك رامسدن قد عثر على أدلةٍ تُدين هذه الفتاة. تذكَّري أننا لا يتوجَّب علينا أن نعرف حتى ما كانت تفعله في المدة المتبقية من الشهر. كلُّ ما علينا إثباتُه هو أنها فعلَت شيئًا مُغايرًا في اليوم الذي تقول إنكما اصطحبتُماها فيه بالسيارة. إذا أثبَتنا هذه المعلومة فستُنقَض قصتها بالكامل. وطموحي أن نُثبتها على رءوس الأشهاد.»
قالت ماريون: «أن نفضحها علنًا مثلما فضحَتنا صحيفة «أك-إيما»؟ أتظن أن ذلك سيُؤثر فيها؟» ثم أضافت قائلة: «مثلما أثَّر فينا؟»
«بعد أن كانت بطلةَ الخبر المدوِّي في الصحف، ناهيك عن أنها مركزُ الإعجاب لأسرةٍ مُحِبة وحنونٍ، ثم ينكشِف سِترها على مرأًى من الجميع بأنها كاذبة، وغشَّاشة، وسيئة السيرة والسلوك؟ أظن أن ذلك سيؤثِّر فيها. وهناك شيء واحد سيؤثر فيها على وجه التحديد. إن إحدى نتائج مغامرتها الطائشة هي استعادة اهتمام ليزلي وين بها؛ الاهتمام الذي كانت قد فقدَته عند خِطبته. وما دامَت هي بطلةً زائفة فستضمن ذلك الاهتمام؛ وبمجرد كشفها فستفقدُه إلى الأبد.»
علَّقَت السيدة شارب: «لم أظنَّ أبدًا أني سأرى فيض الكرم الذي يسير في عروقك النبيلة مُتعكرًا لهذه الدرجة، يا سيد بلير.»
«لو كانت هربَت كنتيجةٍ لخِطبة الفتى — ولعلها كذلك بدرجةٍ كبيرة — فلم أكن لأشعر نحوها سِوى بالشفقة. فهي في مرحلةٍ عمرية غير متَّزنة، وخِطبته لا بد أنها كانت صدمةً لها. لكن لا أعتقد أن لهذا علاقةً كبيرة بالأمر. أعتقد أنها ابنةُ أمِّها؛ فليس إلا أنها كانت تسلك قبل الأوان قليلًا الطريقَ الذي سلَكَته أمُّها. فهي على القدر نفسِه من الأنانية، والانصياع للهوى، والطمع، والمظهر الخدَّاع الذي كانت عليه السلالة التي جاءت منها. والآن عليَّ أن أنصرف. قلتُ إني ربما سأعود إلى المنزل في الساعة الخامسة إذا أراد رامسدن الاتصالَ بي ليُطلِعَني على الأخبار. وأريد الاتصال بكيفين ماكديرموت وطلب مساعدته فيما يخصُّ الدفاع وأشياء أخرى.»
قالت ماريون: «أخشى أننا — على وجه الدقة، أنا — كنَّا نتعامل بأسلوبٍ جافٍّ قليلًا حيالَ هذا.» ثم أردفَت قائلة: «لقد فعلتَ، ولا تزال تفعل، الكثيرَ من أجلنا. لكن الأمر كان صادمًا بشدة. وغيرَ مُتوقع تمامًا وفجائيًّا. عليك أن تُسامحني إذا …»
«لا شيء يستدعي أن أُسامحكِ عليه. أعتقد أنكما قد استقبلتما الخبرَ على نحوٍ جيد. هل أتيتما بأحدٍ ليحلَّ محل روز الكاذبةِ التي على وشك الإدلاء بشهادة زور؟ لا يمكنكما القيامُ بالأعمال المنزلية لهذا المنزل الضخم بمفردكما.»
«حسنًا، لا أحد في المنطقة سيأتي، بلا شك. لكن ستانلي — ماذا عسانا أن نفعل من دون ستانلي؟ — ستانلي يعرف سيدةً يمكن إقناعها أن تأتيَ بالحافلة مرةً في الأسبوع. تعرف، عندما يُصبح التفكير في تلك الفتاة فوقَ احتمالي، أُفكر في ستانلي.»
قال روبرت، مبتسمًا: «أجل.» وأضاف: «فهو من خيار الناس على وجه الأرض.»
«إنه حتى يُعلِّمني الطهو. أعرف الآن كيف أقلب البيضَ في المقلاة دون إفسادِ شكله. طلب منِّي قائلًا: «هل لكِ أن تُجري مُحاوَلةً بشأنها وكأنكِ تقودين سيمفونية؟» وعندما سألتُه كيف صار ماهرًا بهذه الدرجة فقال إنه بسبب «الطهو في خيمةٍ مساحتها قدمان مربَّعتان».»
سألت السيدة شارب: «كيف ستعود إلى ميلفورد؟»
«ستُوصِّلني حافلةُ وقتِ ما بعد الظهر من لاربورو. لم تتلقَّيا خبرًا عن إصلاح هاتفكما، أليس كذلك؟»
فهمت السيدتان السؤالَ على أنه تعليقٌ وليس استفهامًا. ومِن ثَم تركَته السيدة شارب في قاعة الاستقبال وانصرفَت، لكن ماريون رافقَته حتى البوابة. وعندما عبَرا دائرة العُشب التي يُحيط بها الممرُّ المتفرع للسيارات، علَّق قائلًا: «من الجيد أنه ليس لديك أسرةٌ كبيرة وإلا لصار لدَيك مسارٌ بالٍ بدايةً من العشب وحتى الباب.»
قالت، وهي تنظر إلى الخط الأغمق في العشب غير المستوي: «هذا صحيح.» ثم أردفَت قائلة: «إن السير حول هذا المُنحنى الذي لا داعيَ له هو أمر يفوق احتمالَ طبيعة البشر.»
حديث عابر، هكذا كان يظن؛ مجرد حديث عابر. كلمات لا هدف منها سوى التغطيةِ على موقفٍ قاسٍ. كان قد بدا غايةً في الشجاعة والتآلُف مع مبدأ مصداقية الحقيقة، لكن إلى أي مدًى كان ذلك مجرد شكلٍ ظاهري؟ ما الاحتمالات المطروحة بأن يكشف رامسدن عن دليلٍ في الوقت المناسب لتقديمه إلى المحكمة يوم الإثنين؟ في الوقت المناسب لمحكمة المقاطعة الرئيسية؟ واحتمالات كثيرة مطروحة عكس ذلك، أليس كذلك؟ كان من الأفضل أن يصير معتادًا على تلك الفكرة.
في تمام الساعة الخامسة والنصف اتصل رامسدن ليُعطيه التقرير الموعود، فكان إحدى خيبات الأمل التي لا حدَّ لها. كانت هي الفتاةَ التي يبحث عنها، بكل تأكيد، لكنه فشل في التعرُّف على الرجل بوصفه أحدَ المقيمين في فندق ميدلاند، وبالتالي لم يحصل على أيِّ معلوماتٍ عنه. لكنه لم يعثر حتى على أي أثرٍ لها في أي مكان. وقد أُعطِيَت نُسخ من الصورة للرجال التابعين له فأجْرَوا بها تحرياتٍ في المطارات، ومحطات السكة الحديدية، ووكالات السفر، وأكثر الفنادق المحتمَلة. فلم يزعم أحدٌ أنه قد رآها. وهو نفسُه قد مشَّط لاربورو، وسرَّه قليلًا اكتشافُه بأن الصورة المعطاة له يسهل التعرفُ عليها على أقلِّ تقدير؛ إذ سرعان ما جرى التعرف عليها في الأماكن التي تردَّدَت عليها بيتي كين بالفعل. في الدارَين الرئيستَين لعرض الأفلام، على سبيل المثال — حيث كانت تذهب بمفردها، طبقًا للمعلومات التي أدْلَت بها فتياتُ شباك التذاكر — وفي مرحاض السيدات بمحطة الحافلات. وكان قد أجرى محاولةً في المرائب، لكن محاولته باءت بالفشل.
قال روبرت: «أجل.» ثم تابع قائلًا: «لقد التقطها عند موقف الحافلات على طريق لندن في مينشيل. في المكان الذي كانت عادةً تذهب إليه لتلحق بالحافلة التي ستُعيدها إلى المنزل.» ثم أخبر رامسدن بآخِر المستجدَّات. وأضاف: «لهذا فالمعلومات صارت مطلوبةً حقًّا على وجه السرعة الآن. فهما ستَمثُلان أمام المحكمة يوم الإثنين. لو أن باستطاعتنا إثباتَ ما كانت تفعله في تلك الليلة الأولى. فذلك سيدحضُ قصتها من أولها لآخرِها.»
سأل رامسدن: «ما كان نوع السيارة؟»
أعطاه روبرت أوصافَها، فتنهَّد رامسدن بصوتٍ مسموعٍ على الهاتف.
وافقه روبرت: «هذا صحيح.» ثم أردف قائلًا: «تسير عشرات الآلاف منها تقريبًا بين لندن وكارلايل؟ حسنًا، سأترك لك التصرفَ في الأمر. أريد الاتصال بكيفين ماكديرموت وإخبارَه بمُصابنا.»
لم يكن كيفين في جلسةِ محكمة، ولا حتى في الشقة في المنطقة المحيطة بكاتدرائية سان بول، ففتش عنه أخيرًا في منزله القريب من قرية وايبريدج. بدا مُسترخيًا ووَدودًا، لكنه انتبهَ في الحال عند علمِه بأن الشرطة قد حصلت على دليلها. استمع من دون تعليقٍ بينما كان روبرت يحكي له القصة.
انتهى روبرت من حديثه قائلًا: «وبهذا كما ترى، يا كيفين، فنحن في ورطة مُخيفة.»
قال كيفين: «وصف تلميذٍ مبتدئ، لكنه دقيقٌ على نحوٍ رائع. نصيحتي لك أن تجعلهما يمثلان أمام محكمة المخالفات والجنح، وتُركز على محكمة المقاطعة الرئيسية.»
«كيفين، هل بإمكانك أن تأتيَ في عطلة نهاية الأسبوع، وتسمح لي بالتحدُّث إليك في هذا الشأن؟ مضَت ستُّ سنوات، والعمة لين كانت تقول ذلك البارحة، منذ أن قضيتَ ليلةً معنا؛ لذا وجبَت الزيارة عليك على أي حال. أيمكنك ذلك؟»
«وعدتُ شون بأني سآخُذه إلى مدينة نيوبري يوم الأحد لينتقيَ مُهرًا.»
«لكن أليس بوُسعك تأجيل ذلك؟ أنا واثق أن شون لن يُمانع إذا عرَف أن التأجيل من أجل قضية إنسانية.»
قال والده المحب: «لن يُبديَ شون أدنى اهتمامٍ بأي سبب لا يصبُّ مباشرة في مصلحته. صورة طبق الأصل من أبيه. هل ستُقدِّمني إلى ساحرتَيك إذا جئت؟»
«بلا أدنى شك.»
«وهل ستصنع لي كريستينا فطائرَ الزبدة؟»
«حتمًا.»
«هل لي أن أحظى بالغرفة التي بها كلماتٌ منسوجة على البساط الصوفي؟»
«كيفين، هل ستأتي؟»
«حسنًا، إن ميلفورد قرية في غاية الملل، ما عدا في فصل الشتاء» — كان هذا إشارةً إلى الصيد، حيث يُحبُّ كيفين ركوبَ الخيل في الريف — «وقد كنتُ أتطلَّع إلى ركوب الخيل يوم الأحد على منحدَرات التلال. لكن أن تجتمع الساحرتان، وفطائرُ الزبدة، والغرفة ذات الكلمات المنسوجة على البِساط الصوفي جملةً واحدة فهذا حدثٌ ليس بصغير.»
كان على وشك إنهاء المكالمة، لكن كيفين استوقفَه وقال: «مهلًا، استمِع إليَّ، يا روب؟»
قال روبرت: «ماذا؟»، ثم انتظر.
«هل فكَّرت في احتمال أن الشرطة مُحقةٌ في ذلك؟»
«أتقصد أن القصة العبَثية للفتاة ربما تكون حقيقية؟»
«أجل. هل تضعُ ذلك في الاعتبار … كاحتمال، هذا ما أقصده؟»
بدأ روبرت في غضبٍ: «لو كنتُ وضعتُه في الاعتبار لَمَا كان عليَّ …» ثم ضحك. وقال: «تعال وتفقدهما.»
أكد له كيفين قائلًا: «سآتي، سآتي»، ثم أنهى المكالمة.
اتصل روبرت بالمرأب، وعندما أجاب بيل سأل إن كان ستانلي لا يزال هناك.
قال بيل: «من الغريب أنك لا تستطيع سَماعه من مكانك.»
«ما الأمر؟»
«كنَّا نُنقذ ذلك المهر الكستنائيَّ الذي يمتلكُه ماتْ إليز من حفرةِ فحص السيارات الخاصة بنا. هل أردتَ التحدُّث إلى ستانلي؟»
«ليس ما أردتُه هو التحدُّثَ إليه. لكن هل تتكرَّم وتطلُب منه المرورَ لأخذ رسالةٍ إلى السيدة شارب في طريقه بعد حلول الليل؟»
«أجل، بالتأكيد. بالمناسبة يا سيد بلير، هل صحيحٌ أن مأزقًا جديدًا طرَأ على قضية منزل فرنتشايز — أو أنه لا يحقُّ لي أن أسأل؟»
هذه هي ميلفورد! هكذا فكَّر روبرت. كيف فعَلوا ذلك؟ هل المعلومات تنتشر كحبوب اللقاح في الهواء؟
قال: «أجل، أخشى أنَّ مأزقًا قد حلَّ بهما.» ثم أردف قائلًا: «أتوقَّع أنهما ستُخبران ستانلي به عندما يذهب إليهما الليلة. لا تتركه يغفل عن أمر الرسالة، هل تستطيع؟»
«بالطبع، من دون شك.»
كتَب إلى سيدتَي فرنتشايز لإخبارهما بقدوم كيفين ماكديرموت يوم السبت ليلًا، وهل بإمكانه أن يأتيَ به لمقابلتهما يوم الأحد عصرًا قبل مغادرته إلى المدينة.