الفصل السادس عشر
سأل نيفيل، مساء اليوم التالي أثناء انتظاره هو وروبرت للضيف حتى انتهائه من الاغتسال والنزول لتناول العشاء: «هل يجب على كيفين ماكديرموت أن يبدوَ كبائعٍ مُتنقل عند مجيئه إلى الريف؟»
رأى روبرت أن هيئة كيفين في ملابس الريف كانت تُشبه حقًّا مدرِّبَ وثبٍ سيئ السمعة قليلًا يصلُح لتدريب خيولٍ في المسابقات المغمورة، لكنه منَع نفسه من قول ذلك إلى نيفيل. مُتذكرًا الملابسَ التي قد أذهل بها نيفيل الريفَ طيلةَ السنوات القليلة الأخيرة، شعر أن نيفيل ليس أهلًا لأن ينتقِدَ ذَوقَ أحدٍ. كان نيفيل قد حضر العشاء ببدلةٍ رمادية داكنة تقليدية للغاية، وكان من الواضح أنه ظنَّ أن مواكبته الحديثةَ العهد للذَّوق السائد أطلَقَت له العِنان لنسيان الذَّوق التجريبي لماضيه القريب.
«أعتقد أن كريستينا لا تزال مستمرةً في جلدِ مشاعرها ضربًا بالسياط؟»
«بل ضربًا لبياض البيض، حسب مقدرتي على تقدير الأمور.»
اعتبرَت كريستينا أن كيفين بمثابة «شيطان مُتمثِّل في جسد إنسان»، وأحبَّته حبًّا شديدًا. فلم تأتِ صفاته الشيطانية من نظرات عينَيه — رغم أنه بالفعل يبدو قليلًا مثل الشيطان — لكن من حقيقة أنه «يُدافع عن الفاسقين من أجل مكسبٍ دنيوي». وقد أحبَّته لحُسن مظهره، ولكونه آثمًا يُرجى منه صلاح، ولأنه امتدح مخبوزاتها.
«آمُل أن يكون كعك السوفليه، إذن، وليس حَلْوى المرينج. هل تعتقد أنه من الممكن استدراجُ ماكديرموت إلى المجيء للدفاع عنهما في محكمة المقاطعة الرئيسية في نورتون؟»
«أعتقد أنه مشغولٌ كثيرًا على تولِّي ذلك، حتى لو كان الأمر مُثيرًا لاهتمامه. لكن آمُل أن يأتيَ أحدٌ من المُسخَّرين تحت إمرته.»
«الملقَّنون على يد ماكديرموت.»
«تلك هي الفكرة.»
«لا أفهم حقًّا لِمَ كان على ماريون أن تُجهد نفسها لتُقدِّم غداءً إلى ماكديرموت. ألا يُدرك أن عليها إعدادَه ورفع الصحون عن المائدة وغسْلَ كلِّ شيءٍ دون استثناء، ناهيك عن إحضاره من ذلك المطبخ العتيق الذي يبعُد كثيرًا عن غرفة الطعام، ثم إرجاعه إليه.»
«إنها كانت فكرة ماريون أن عليه المجيءَ لتناول الغداء معهما. أعتقد أنها ترى أن المأزق الجديد يستحقُّ العناء المبذول في سبيله.»
«عجبًا، لقد كنتَ طَوال الوقت مولعًا بكيفين، وأنت بكل بساطةٍ لا تعرف كيف تبدأ في استشعار قيمةِ سيدةٍ مثل ماريون. إنه … إنه أمرٌ مُثير للاشمئزاز أنَّ امرأةً كتلك عليها أن تُبدِّد نشاطها وحيويتها على أعمال المنزل المملَّة. إنما ينبغي لها أن تشقَّ طريقها في الأدغال، أو تصعد المنحدرات، أو تحكم سُلالة بربرية، أو تقيس حجم الكواكب. عشَرات الآلاف من الشقراوات الحمقاوات المنعَّمات في الفِراء ليس لديهن ما يفعَلنه سوى إرخاءِ ظهورهن حتى يجفَّ طِلاء أظفارهن المفترسة، وماريون تنقل الفحم. الفحم! وماريون! أعتقد أنَّه في الوقت الذي تنتهي فيه القضية لن يُصبح معهما بنسٌ واحد حتى يدفَعاه لخادمةٍ حتى ولو تمكَّنتا من استقدام واحدة.»
«ليكُن أملُنا أنه بعد انتهاء القضية لا يحكم عليهما بالأشغال الشاقة بموجب حكم قضائي.»
«روبرت، لا يمكن أن يصل الأمر إلى ذلك! هذا مُحال!»
«أجل، هذا محال. أعتقد أنَّ من الصعب دائمًا التصديقَ بأن شخصًا ما نعرفه يجب الزجُّ به إلى السجن.»
«إنه أمر سيئٌ تمامًا أنَّ عليهما دخولَ قفص الاتهام. ماريون. التي لم ترتكب قطُّ عملًا وحشيًّا، أو ماكرًا، أو حقيرًا. ولمجرد أن … أتعرف، لقد قضيتُ وقتًا لطيفًا الليلة الماضية. حيث وجدت كتابًا عن التعذيب، وبقيتُ مُستيقظًا حتى الساعة الثانية أختار أي طريقة سأستخدِمها مع كين.»
«عليك الانضمام إلى ماريون. فذلك طموحها أيضًا.»
«وما طموحك؟» لُمِس تلميحٌ طفيف بالاستخفاف في نبرة صوته؛ كما لو أنه مفهوم أن روبرت الرَّزين لا يحمل أيَّ مشاعرَ عنيفة تجاه تلك المسألة. «أم أنك لم تُفكر في ذلك؟»
قال روبرت بتأنٍّ: «لستُ في حاجةٍ إلى التفكير في ذلك.» ثم تابع قائلًا: «لأني سأُعرِّيها أمام الجميع.»
«ماذا!»
«ليست بتلك الطريقة التي فهمتها. سأنزع عنها كلَّ ما يواري ادِّعاءاتها الكاذبة، في محكمةٍ علَنية، وبذلك سيراها الجميع على حقيقتها.»
نظر نيفيل إليه بفضولٍ لوهلة. وقال بهدوء: «فليكُن ذلك.» ثم تابع قائلًا: «لم أعرف أن ذلك شعورُك تجاه القضية يا روبرت.» كان على وشك أن يُضيف شيئًا، لكن انفتح الباب ودخل ماكديرموت، فكانت السهرة قد بدأَت بذلك.
بعد أن تناول العشاء الفاخر الذي قدَّمَته العمةُ لين بشهيَّة، أمل روبرت ألَّا يكون من الخطأ اصطحابُ كيفين إلى غداء يوم الأحد في منزل فرنتشايز. فكان قلقًا بشدة من ألا تنجح السيدتان شارب في هذا الشأن مع كيفين، ومما لا شكَّ فيه أن كيفين شخصٌ مِزاجي، وأن السيدتَين شارب قد لا تأتيان على هوى الجميع. هل كان مُرجَّحًا أنَّ تناوُلَ غداءٍ في منزل فرنتشايز سيكون في صالح قضيتهما؟ غداء تطهوه ماريون؟ من أجل كيفين الذوَّاق؟ عندما قرأ الدعوة لأول مرة — التي سلَّمها إيَّاه ستانلي صباح اليوم — سرَّه أنهما قد بادرَتا بتلك اللفتة، لكنَّ شكًّا تنامى في نفسه رُويدًا رويدًا. وبينما توالَت الأصناف المُعدَّة بامتياز صِنفًا وراء الآخر في تسلسلٍ متأنٍّ عبر المائدة الماهوجنية البرَّاقة للعمة لين، مع وجه كريستينا الكبير الذي يروح ويغدو في سخاءٍ حَماسي خلف ضوء الشمعة، حينها تعاظمَ الشكُّ حتى استحوذ عليه كليًّا. «القوالب التي لم تنتفِش» ربما تملأ صدرَه بشفقةٍ مُحصنة وحانية، لكن لا يُتوقَّع أن يكون لها التأثيرُ نفسُه على كيفين.
على الأقل بدَت السعادة على كيفين من وجوده هنا، هكذا ظن، مُستمعًا إلى ماكديرموت وهو يُصرح بحبِّه للعمة لين، ويرمي كريستينا بكلمةٍ من حين لآخَر ليُبقي على سعادتها ووفائها. يا إلهي، ذلك الأيرلندي! أظهر نيفيل أفضلَ سلوكياته، وأعار اهتمامًا جادًّا، مع دسِّ كلمة «سيدي» وسط الكلام من حينٍ لآخَر؛ أكثر من مرةٍ بما يكفي لتُشعر كيفين برِفعة مكانته ولكن ليس بالقدْر الكافي الذي يُشعره بكِبَر سنِّه. في الواقع، كانت الطريقة الإنجليزية الأكثر ذكاءً في الإطراء. العمة لين كانت مِثلُها مثلُ فتاةٍ متورِّدةِ الوجنتَين ومُشرقة؛ تمتصُّ الإطراء مثل إسفنجةٍ، ثم تُخضِعه إلى عملية كيميائية، ثم تصبُّه صبًّا مرةً أخرى في هيئة سحرٍ آسِر. أثناء الاستماع إلى حديثها أبهج روبرت أنه وجد صورةَ السيدتَين شارب قد شهدَت تحولًا في وجهة نظرها. لمجرد أنهما مُهدَّدتان بالسجن، فقد ترقَّتا من «أولئك الناس» إلى «المسكينتَين». لم يكن لهذا التحولِ صلةٌ بوجود كيفين؛ وإنما كان مزيجًا من الطيبة الفطرية والتفكير المشوَّش.
فكر روبرت، مُتجولًا بعينَيه حول المائدة، أنه من الغريب أن هذا التجمع العائلي — الباعث كثيرًا على السعادة، والدفء، والأمان — من المفترض أن مناسبة حدوثه هي الحاجة الماسَّة لسيدتَين بائستَين تجلسان في ذلك المنزل الذي يسوده سكونٌ تام وسط حقولٍ لا نهاية لها.
أوى إلى الفِراش ولا تزال تُحيط به هالةٌ من دفء هذا التجمُّع، لكنْ في قلبه غُصَّة وقلقٌ محزن. هل ساكنتا منزل فرنتشايز نائمتان الآن؟ وإلى أي مدًى كان النوم قد زار جفونَهما مؤخرًا؟
ظلَّ مُستيقظًا مدةً طويلة، ثم أفاق من نومِه باكرًا؛ مُرهِفًا السمع إلى هدوء الصباح ليوم الأحد. وهو يأمُل أن يُصبح يومًا موفقًا — حيث إن منزل فرنتشايز يبدو في أسوأ حالاته تحت المطر، عندما يصير لونه الأبيضُ المتَّسخ رماديًّا على الأغلب — وأن يُصبح أيًّا كان ما ستطهوه ماريون على الغداء «مُنتفشًا». قبل الساعة الثامنة تحديدًا قَدِمَت سيارةٌ آتية من الريف وتوقفَت أسفل النافذة، وصفَّر شخص بصوت أشبه بنداء بوقٍ هادئ. كان كنداءٍ خاص بسَرية. السَّرية بي. من المفترض أنه ستانلي. فنهض وتطلَّع برأسه من النافذة.
فبدا ستانلي، مكشوفَ الرأس كالعادة — فلم يرَ ستانلي قطُّ مرتديًا أيَّ نوع من غِطاء الرأس — وهو يجلس في السيارة ينظر إليه بعطفٍ متسامح.
قال ستانلي: «أيها النائمون في يوم الأحد.»
«هل أيقظْتَني لتسخرَ منِّي فحسب؟»
«لا. أحمل رسالةً من الآنسة شارب. تقول عندما تأتي عليك أن تحملَ معك أقوالَ بيتي كين، وغير مسموح بنسيانها مهما كان السبب لأن الأمر ذو أهميةٍ قُصوى. أؤكد أن المسألة مهمَّة! ظلَّت تجيء وتذهب وحالتُها تبدو وكأنها اكتشفَت مليون جنيه.»
قال روبرت، غيرَ مُصدِّق: «تبدو سعيدة!»
«مثل عروسٍ. صدقًا لم أرَ امرأة تبدو هكذا منذ أن تزوجَت ابنةُ عمي بيولا من زوجها بول. كان لبيولا وجهٌ يُشبه كعكة السكون؛ وصدِّقني في ذلك اليوم كانت تبدو مثل الإلهة فينوس، وكليوبترا، وهيلين طروادة مجتمعاتٍ كلُّهن في جسدٍ واحد.»
«هل تدري ما ذلك الشيء الذي يُسعد الآنسة شارب لهذه الدرجة؟»
«لا. جسَستُ النبض بالفعل ببعض التخمينات، لكن يبدو أنها تحتفظ به. على أي حال، لا تنسَ إحضار نسخةٍ من الأقوال، وإلا فلن تأتيَ ردودُ الفعل بالخير، أو شيءٍ من ذاك القبيل. كلمة السر في الأقوال.»
استكمل ستانلي طريقَه نحو سين لين، وأخذ روبرت مِنشفتَه واتجه إلى الحمام في حيرةٍ شديدة. بينما كان في انتظار الفطور، بحَث عن الأقوال بين الوثائق في حقيبة أوراقه، فقرَأها مُتمعِّنًا مرةً أخرى بنظرةٍ جديدة. ما الذي تذكَّرَته ماريون أو اكتشفَته ليجعلَها في غاية السعادة؟ كان من الواضح أن بيتي كين قد وقعَت في خطأٍ ما. ماريون كانت مُبتهِجة، وأرادت منه إحضارَ أقوال بيتي كين عند قدومه. ذلك لم يكن ليَعنيَ شيئًا غير أن نقطةً ما في الأقوال بها دليلٌ على كذب بيتي كين.
وصل حتى نهاية الإفادة من دون العثور على أيِّ جملة لافتةٍ للانتباه ثم بدأ يفتِّش فيها مرةً أخرى. ماذا عساها أن تكون؟ إنها قد قالت إن السماء كانت تمطر، والسماء — ربما — لم تكن تُمطر؟ لم يكن ذلك جوهريًّا، أو حتى مُهمًّا لمصداقيةِ قِصتها. أهي حافلةُ ميلفورد، إذن؟ تلك الحافلة التي قالت إنها فاتتها، عندما كانت في سيارة السيدتَين شارب. أكانت التوقيتات خاطئة؟ لكنهم راجَعوا التوقيتات منذ مدةٍ طويلة، وانطبقَت تقريبًا بما يكفي. أهي «اللافتة المضيئة» على الحافلة؟ أكان الوقتُ مُبكرًا على إضاءة اللافتة؟ لكن ربما كانت تلك زلةً من الذاكرة، وليس عاملًا يُشكِّك في مصداقية أقوالها.
أمل بشغفٍ أن ماريون في حِرصها على الوصول إلى «دليل واحد صغير» في صالحهما لم تكن تُضخم بعضَ التناقُضات التافِهة لتُصبح دليلًا على الكذب. إن خيبة الآمال أسوأُ كثيرًا من ألَّا يُوجَد أملٌ على الإطلاق.
هذا القلق الحقيقي بدَّد من عقله غالبًا القلق الاجتماعي من الغداء، ولم يَعُد يُبالي كثيرًا ما إذا كان كيفين سيستمتِع بوجبته في منزل فرنتشايز أم لا. عندما قالت له العمَّة لين، سرًّا، أثناء استعدادها للذَّهاب إلى الكنيسة: «ماذا تظنُّ أنهما ستُقدمان لكما على الغداء، يا عزيزي؟ أنا واثقةٌ تمامًا أنهما تعيشان على تلك الرقائق المحمَّصة المعبأة، يا لهما من مِسكينتَين.» فردَّ باقتضاب: «إنهما تُميِّزان النبيذَ الفاخر عند تذوُّقه؛ ذلك من المفترض أن يسرَّ كيفين.»
سأل كيفين أثناء القيادة إلى منزل فرنتشايز: «ماذا قد جرى للشاب بينيت؟»
قال روبرت: «لم يُدْعَ إلى الغداء.»
«لا أعني ذلك. ماذا قد جرى للبدلات الملفتة ونبرة الاستعلاء، ولماذا هذا العداء لمجلة «ذا ووتشمان»؟»
«أوه، لقد دبَّ خلافٌ بينه وبين مجلة «ذا ووتشمان» على هذه القضية.»
«صحيح!»
«لأول مرة يُصبح في موضعٍ يسمح له بأن يعرف بنفسه تفاصيلَ قضيةٍ تتحدَّث عنها مجلةُ «ذا ووتشمان» بحذلقة، وكان الأمر صادمًا له نوعًا ما، أظن ذلك.»
«وصلاح الحال هذا هل سيستمرُّ إلى الأبد؟»
«حسنًا، أتعرف، ليس لي أن أُفاجَأ في حالةِ استمراره. بعيدًا عن حقيقة أنه بلغ مرحلةً عمرية يُحجِم فيها المرءُ عن التصرُّفات الطفولية، ويحينُ فيها وقت التغيير، أعتقد أنه كان يُعيد النظر في بعض الأمور، ويتساءل هل أيٌّ من المحظوظين الآخرين في مجلة «ذا ووتشمان» كانوا يستحقُّون الدعم بالفعل أم أنهم لا يستحقُّون مثلما لا تستحقُّ بيتي كين. كوتوفيتش، على سبيل المثال.»
قال كيفين، بأسلوبٍ مُعبِّر: «هاه! الوطني المناضل!»
«أجل. خلال الأسبوع الماضي فقط كان يستفيضُ في الحديث عن واجبنا تجاه كوتوفيتش؛ واجبنا لحمايته ورعايته — وأن نُقدم له في النهاية جوازَ سفر بريطانيًّا، أظن ذلك. أشكُّ إذا كان سيتعامل اليوم مع الأمور بهذه البساطة الشديدة. لقد نضج على نحوٍ رائع في الأيام القليلة الماضية. لم أعرف حتى أن لدَيه بدلةً مثل تلك التي ارتداها الليلة الماضية. لا بد أنها تلك التي ارتداها في حفلة توزيع الجوائز بكُليته؛ لأنه بالتأكيد لم يرتدِ أيَّ ملابس وقورة منذ ذلك الحين.»
«آمُل أن يدوم ذلك من أجلك. فهذا الشابُّ ذكي؛ وفي حالِ تخلُّصه من حِيَله البهلوانية فسيُصبح ذا قيمة جيدة للمكتب.»
«العمة لين حزينةٌ لأنه قد افترق عن روزماري بسبب خلافٍ على قضية فرنتشايز، وتخشى أنه لن يتزوجَ بابنة أسقف في نهاية المطاف.»
«يا لفرحتي! نقطة كبرى في صالحه. سأبدأ في الإعجاب بهذا الشاب. عليك، يا روب، أن تدعمَه في ذلك الانفصال — وكالمعتاد — ستراه يتزوَّج بفتاةٍ إنجليزية لطيفة غبية ستُنجب له خمسةَ أطفال وتُقيم لبقية الجيران مبارياتِ تنس بين الفترات القصيرة لتوقُّف الأمطار في عصر أيام السبت. إنه نوعٌ من الغباء ألطفُ كثيرًا من الوقوف على المنصات وإبداء آراء في موضوعات لا تعرف أصلها. أهذا هو المكان؟»
«أجل، هذا هو منزل فرنتشايز.»
«إنه «منزل غامض» تمامًا.»
«لم يكن غامضًا عند إنشائه. كانت البوابة المزدوجة، كما ترى، لها تصميمٌ بزخارفَ حلزونية — وهو تصميمٌ لطيف نوعًا ما، أيضًا — حتى يصير المكان مرئيًّا من الطريق. لكن تعزيز البوابة بألواحٍ من الحديد هو ما حوَّله من مكانٍ عادي تمامًا إلى مكانٍ سرِّي قليلًا.»
«منزل مِثالي لخدمة غرض بيتي كين على أي حال. يا لحظِّها أنها تذكَّرته!»
كان روبرت سيشعر بالذنب بعد ذلك لأنه لم يثق على نحوٍ أكبر في ماريون؛ في كلٍّ من مسألة أقوال بيتي كين وكذلك الغداء. كان ينبغي أن يتذكَّر اتزانَ عقلها وقدرتها على تحليل الأمور، وكان عليه أن يتذكَّر موهبة السيدتَين شارب في تقبُّل الناس على طبيعتها، والتأثير المريح لذلك على الأشخاص المعنيِّين. لم تتكلَّف السيدتان شارب عناءَ التقيُّد بمعايير العمة لين في الاستضافة، ولم تبذلا محاولةً لتقديم غداءٍ رسمي في غرفة الطعام. حيث أعدَّتا مائدةً لأربعة أفراد أمام نافذة قاعة الاستقبال حيث تسقط أشعة الشمس. كانت مائدةً من خشب أشجار الكرَز، لها تجزيعاتٌ مُبهجة للغاية لكنها في أشدِّ الحاجة إلى التلميع. لكن على الجانب الآخر، كانت كئوس النبيذ لامعةً لدرجةٍ ترقى إلى لمعان الماس. (وقد اعتقد أن هذا يتواءم مع شخصية ماريون التي تُركز على الشيء المهم، وتتجاهل المظاهر.)
قالت السيدة شارب: «إن غرفة الطعام مكانٌ كئيب لدرجةٍ لا تُصدَّق.» وتابعت: «تعالَ وألقِ نظرة يا سيد ماكديرموت.»
كان ذلك أيضًا يتواءم مع شخصية السيدة شارب. فهي لم تدعُ الضيف لتناول نبيذ الشيري وتبادل حديثٍ صغير. لكن تعالَ وشاهد غرفة السفرة المريعة لدَينا. وبذلك يُصبح الضيف جزءًا من المنزل من قبل أن يُدرك ذلك.
قال روبرت لماريون عندما تُركا وحدَهما: «أخبريني، ما الأمر بشأن …»
«لا، لن أتحدث عن الأمر إلا بعد الغداء. لكنه سيُثير إعجابَك. إنه دليلُ توصلتُ إليه من خلال حظٍّ لا يُوجَد في روعته مثيل، وقد فكَّرتُ فيه الليلة الماضية، عندما علمت أن السيد ماكديرموت سيأتي على الغداء اليوم. سيجعل كل شيءٍ مختلفًا تمامًا. أظن أنه لن يوقف القضية، وإنما سيجعل كلَّ شيء مختلفًا بالنسبة إلينا. إنه «الشيء الصغير» الذي صليتُ من أجله كي يُصبح دليلًا في صالحنا. هل أخبرتَ السيد ماكديرموت؟»
«عن رسالتك. لا، لم أقل أيَّ شيء. ظننتُ أنه من الأفضل ألا أخبره.»
قالت وهي تنظر إليه بمتعةٍ مُحيِّرة: «روبرت!» ثم أردفَت قائلة: «لم تكن واثقًا فيَّ. خشيتَ أني أهذي.»
«خشيتُ أنك ربما تبنين حقيقةً كبيرة على أساسٍ صغير أكثر من … أكثرَ مما قد يحتمِله. كنتُ …»
قالت، بنبرةٍ مُطمْئِنة: «لا تخَف. سيحتمل. هل تحبُّ أن تأتيَ إلى المطبخ وتحملَ لي صينية الحساء؟»
ومن ثَم تمكَّنا من تقديم الطعام بدون عناء. حيث حمل روبرت صينية بها أربعة صحون من الحساء، ثم تبعته ماريون بطبقٍ كبير مُغطًّى بغطاء شيفيلد فِضي، وبدا أن تلك هي كل الوليمة. عند انتهائهم من شُرب الحساء، وضعَت ماريون الطبق الكبير أمام والدتها، وزجاجة نبيذ أمام كيفين. كان الطبق عبارة عن دجاجة مطهية على الطريقة الفرنسية وحولها كل الخَضروات الخاصة بها؛ أما النبيذ فكان مونراشي.
قال كيفين: «مونراشي!» ثم أضاف قائلًا: «أنت سيدة رائعة.»
قالت ماريون: «أخبرَنا روبرت بأنك من مُحبي نبيذ الكلاريت، لكن ما تبقى في غرفة النبيذ الخاصة بالسيد كرول قد تجاوزَ مدة صلاحيته بوقتٍ طويل. لهذا كان الاختيار محصورًا بين ذاك ونبيذ بورجندي أحمر ثقيل للغاية والذي هو جيد في الليالي الشتوية، لكنه ليس مناسبًا بالدرجة مع واحدةٍ من دجاجات مزرعة ستابلس في يوم صيفي.»
قال كيفين شيئًا عن أن النساء قلَّما تُبدي اهتمامًا بأي شيءٍ لا يفور، أو ينفجر.
علَّقَت السيدة شارب: «صراحةً، لو كان مُمكنًا بيعُ تلك الزجاجات لبِعْناها، لكننا سُعداء لدرجةٍ تفوق الوصف أنها كمياتٌ قليلة مُتبقِّية وقد تغيَّر مذاقها. تربَّيت على تقدير النبيذ. كان لزوجي غرفةُ نبيذ جيدة بعضَ الشيء، رغم أن ذوقه لم يكن جيدًا مثلي. لكن أخي في ليسوايز لدَيه غرفةُ نبيذ أفضل، وذوقٌ رفيع يليق بها.»
قال كيفين، بينما ينظر إليها وكأنه يبحث على وجهِ شبهٍ: «ليسوايز؟» ثم أضاف قائلًا: «أنت لست أختَ تشارلي ميريديث، أليس كذلك؟»
«بلى. هل تعرف تشارلز؟ لكن لا يمكنك ذلك. أنت صغيرُ السِّن للغاية.»
قال كيفين: «أول مُهر اشتريتُه بنفسي كان مَن ربَّاه هو تشارلي ميريديث.» وتابع: «ظل لديَّ سبعَ سنوات ولم يرتكب خطأً واحدًا أبدًا.»
وبعد ذلك، لم يَعُد كلاهما، بالطبع، يُبدي أيَّ اهتمامٍ بالآخرين، ولا اهتمامًا مُفرطًا بالطعام.
لمح روبرت نظرةَ الابتهاج والتهنئة التي تنظر بها ماريون إليه، فقال: «لقد ظلمتِ نفسَكِ ظلمًا شديدًا لمَّا قلتِ إنك لا تُجيدين الطهو.»
«لو كنتَ امرأةً للاحظتَ أني لم أطْهُ أيَّ شيء. أفرغتُ الحساء من علبته، وسخَّنته، ثم أضفتُ بعض الشيري والتوابل؛ أما الدجاجة فوضَعتُها في القِدْر كما جاءت بالضبط من مزرعة ستابلس، وصببتُ عليها ماءً مغليًّا، وأضفتُ كل شيءٍ يمكن أن يخطر ببالي ثم تركتُها على الموقد وصلَّيت من أجلها، والجبنة الكريمية جاءت هي الأخرى من المزرعة.»
«واللفائف المذهلة المقدَّمة مع الجبنة الكريمية؟»
«صاحبة المنزل الذي يُقيم فيه ستانلي هي مَن أعدَّتها.»
فضحكا معًا، في هدوء.
غدًا ستذهب إلى قفص الاتهام. غدًا ستظهر في عرضٍ عام لإمتاع ميلفورد. لكن اليوم حياتها لا تزال مِلكًا لها، فبإمكانها أن تُشاركه البهجة، وتَسعد بتلك اللحظة. أو هكذا بدا الأمر تقريبًا إن كانت عيناها اللامعتان دليلًا على سعادتها.
أخذا أطباقَ الجبنة من أمام الاثنين الآخَرَين، اللذين لم يوقِفا حديثَهما انتباهًا لحركة الأطباق، وحمَلا صينيتَي الأطباق المتسخة إلى المطبخ وأعدَّا القهوة هناك. كان المكان معتمًا بشدةٍ مع أرضيةٍ ذاتِ بلاطاتٍ حجرية، وحوضٍ عتيق أقبَضَه ما إنْ وقع بصرُه عليه.
قالت ماريون، ملاحِظةً اهتمامَه بالمكان: «لا نُشغِّل الموقد إلَّا في أيام الإثنين عند الانتهاء من التنظيف.» ثم تابعت قائلة: «وعدا ذلك نطهو على مَوقد الزيت الصغير.»
فكَّر في الماء الساخن الذي يسيل على الفور في حوض الحمام المشرق عندما فتح صُنبور الماء صباح اليوم، فخجل من نفسه. بعد سنواتٍ طِوالٍ من الحياة الناعمة؛ إذ ليس بإمكانه تخيُّلُ أن يستحمَّ أحدٌ بماءٍ سُخِّن على مَوقد زيت.
قالت، أثناء صبِّ القهوة الساخنة في الإبريق: «صديقك ظريف، أليس كذلك؟ وشرير قليلًا — ربما يرتعدُ الواحد منَّا خوفًا منه كمُحامٍ للخَصم — لكنه ظريف.»
قال روبرت، بحزنٍ: «هؤلاء هم الأيرلنديون.» وتابع: «يبدو طبيعيًّا بالنسبة إليهم مثله مثل التنفُّس. أما نحن الإنجليز المساكين فنسير الهُوينى في طريقٍ وعر أمامنا، ونتساءل كيف سلَكوه.»
ومِن ثَمَّ التفتَت إليه لتُعطيه الصينية كي يحملها، وبهذا صارت أمامه وأيديهما متلامسةٌ تقريبًا. فقالت: «يتمتع الإنجليز بصفتَين هما أكثرُ ما أُقدِّرهما في هذا العالم. صِفتان تُبرِّران السبب في أنهم حكَموا الأرض. العطف والاعتمادية — أو التسامح والمسئولية، إذا كنت تُفضل هذَين المصطلحَين. صفتان لم يمتلكهما الكيلتيون، وهو السبب في أن الأيرلنديين لم يرثوا شيئًا غيرَ المشاحَنة. تبًّا، نسيتُ الكريمة. انتظر لحظة. فنحن نُحافظ على برودتها في غرفة غسل الملابس.» ثم عادت بالكريمة وقالت، بلهجةٍ قروية ساخرة: «سمعت أنه يُقال إن هناك شيئًا يُدعى ثلاجاتٍ في منازلِ بعض الناس الآن، لكننا في غِنًى عن أيٍّ منها.»
وبينما كان يحمل القهوة إلى ضوء الشمس الساطع في قاعة الاستقبال، تصور البرودة المُرجِفة لمثل هذه المطابخ في فصل الشتاء من دون أيِّ مَوقد مُستعرٍ كما قد كان في أيام الرخاء لهذا المنزل عندما كان يُسيطر أحدُ الطهاة على ستةٍ من الخدم وتُشترى عربة كاملة من الفحم. تمنى روبرت أنْ لو أخَذ ماريون بعيدًا عن هذا المكان. لكنه لم يكن يعرف تمامًا إلى أين سيأخذها — فمنزله تملؤه هالة العمة لين. لا بد أن يكون مكانًا حيث لا شيء لتُلمِّعه ولا شيء لتحمِله وكل شيء حرفيًّا يمكن إنجازه بضغطةِ زر. لم يكن بإمكانه أن يتخيَّل ماريون تقضي شيخوختها في تلميع بعض قطع الأثاث الماهوجنية.
أثناء تناولهم القهوة ساق الحوار بلطفٍ حول إمكانية بيعِهما لمنزل فرنتشايز في وقتٍ من الأوقات وشراء بيتٍ صغير في مكانٍ ما.
قالت ماريون: «لا أحدَ سيشتري المكان. إنه مثل فيل أبيض. منزل مكلِّف ولا فائدة من ورائه. ليس كبيرًا بما يكفي كي يُصبح مدرسة، وموقعه بعيدٌ عن المدينة؛ لذا لا يصلح كشقق سكنية، وأكبر من أن تعيش فيه أسرةٌ واحدةٌ في هذه الأيام.» ثم أضافت، وعيناها ممعِنتان في الحائط الورديِّ خلف النافذة: «ربما يصلح لمستشفى أمراضٍ عقلية»؛ ورأى روبرت أن كيفين استرقَ نظرةً إليها ثم ولَّى مُسرعًا ببصره. «المكان هادئ، على الأقل. لا أشجار لتُصدر حفيفًا، ولا لبلاب لينقر على زجاج النوافذ، ولا طيور لتنعق حتى تدفعَك إلى الصراخ. فالمكان في غاية الهدوء يُناسب أعصابًا مُنهَكة. ربما أن شخصًا ما قد يُفكر فيه لهذا الغرض.»
لهذا أحبَّت الهدوء؛ السكون الذي كان قد ارتآه مُميتًا. لعل ذلك ما كانت تهفو إليه في حياتها الصاخبة والمزدحمة والحافلة بطلباتٍ عاجلة في لندن، حياتها في الغُرَف المتهالكة والضيقة. لهذا كان هذا المنزل الكبير الهادئ المخيف مَلاذًا آمنًا.
لكنه لم يَعُد الآن ملاذًا آمنًا.
يومًا ما — أتمنَّى من الله أن يأتيَ ذلك اليوم — يومًا ما سوف يُجرد بيتي كين مما حظِيَت به من ثقةٍ وحبٍّ إلى الأبد.
قالت ماريون: «والآن، أنت مدعوٌّ لمعاينة «العلية المشئومة».»
قال كيفين: «أجل، أنا مُهتمٌّ أشدَّ الاهتمام برؤية الأشياء التي ادَّعت الفتاة أنها تعرَّفَت عليها. بدَت لي جميعُ أقوالها نِتاجَ تخميناتٍ منطقية. مثل السجاد الأكثر خشونةً على المجموعة الثانية من درجات السُّلَّم. أو خِزانة الأدراج الخشبية — وهو شيء ستجده بكل تأكيد في منزلٍ ريفي. أو صندوق الأمتعة ذي السطح المستوي.»
«أجل، كانت مخيفةً قليلًا حينها الطريقة التي ظلَّت تكتشف بها الأشياء التي لدَينا — ولم يكن الوقت قد اتَّسع لي لأستجمِع قُوايَ العقلية — ولم يتبيَّن لي إلا بعد ذلك بمدةٍ ضآلةُ ما حدَّدَته حقًّا في أقوالها. وقد ارتكبَت خطأً فادحًا تمامًا، لم يخطر ببالِ أحدٍ إلا في الليلة الماضية. هل أحضرتَ الأقوال، يا روبرت؟»
«أجل.» وأخرجَها من جيبه.
ومن ثم صعدوا، هي وروبرت وماكديرموت، إلى المجموعة الأخيرة من درجات السُّلَّم العارية ثم قادتهما إلى داخل العلية. وقالت: «صعدتُ إلى هنا الليلةَ الماضية في جولتي المعتادة في يوم السبت في أرجاء المنزل بالمِمسحة. هذا هو الحل المتوفِّر لدَينا لمشكلة تنظيف المنزل، في حال أن ذلك يُثير اهتمامك. تُمرَّر على كل الأرضيات مرةً واحدة في الأسبوع ممسحةٌ كبيرة لها قدرةٌ على الامتصاص، مُبلَّلة جيدًا بمادةٍ مُلمِّعة. تستغرِق المهمة خمسَ دقائق في كل غرفة وتُزيل الغبار بعيدًا.»
كان كيفين يتفقَّد الغرفة، ويُعاين المشهد من النافذة. وقال: «هذا إذن المشهد الذي وصفَتْه.»
قالت ماريون: «أجل، ذلك هو المشهد الذي وصفَتْه. ولو أنني أتذكَّر بدقةٍ الكلمات الواردة في أقوالها، مثلما تذكَّرتُها الليلة الماضية، فإنها قالت شيئًا إنه لا يمكنها … روبرت، هل لك أن تتفضَّل بقراءة الجزء الذي تصفُ فيه المشهد من النافذة؟»
بحث روبرت عن الفِقرة ذات الصلة، ثم أخذ يقرؤها. بينما انحنى كيفين قليلًا إلى الأمام مُحدقًا في النافذة الدائرية الصغيرة، وماريون تقف وراءه، بابتسامةٍ خافتة كعرَّافة.
قرأ روبرت: ««من نافذة العلية كان بإمكاني أن أرى سورًا عاليًا من الطوب في منتصفه بوابةٌ حديدية ضخمة. كان يُوجَد طريق على الجانب الآخر من السور؛ لأني رأيتُ أعمدةَ خطوطِ الهاتف والبرق. لا، لم يكن بوُسعي ملاحظةُ أيِّ حركة سَير عليه؛ لأن السور كان مرتفعًا للغاية. ليس سِوى أسطح الأحمال المنقولة على الشاحنات في بعض الأحيان. ولا يسَعُك الرؤية من البوابة؛ لأن ألواحًا حديديةً مُثبَّتةٌ عليها من الداخل. وداخل البوابة هناك مسارٌ للسيارات يسير في اتجاهٍ مُستقيم قليلًا ثم ينقسِم إلى مسارَين يُشكِّلان دائرةً تُفضي إلى الباب. لا، لم تكن حديقة، فقط …»»
صاح كيفين، وهو يعتدل فجأة: «ماذا!»
سأل روبرت، واندهش: «ماذا عن أي شيء؟»
«اقرأ الجزء الأخير مرةً أخرى، ذلك الجزء عن مسار السيارات.»
««وداخل البوابة هناك مسارٌ للسيارات يسير في اتجاه مستقيم قليلًا ثم ينقسم إلى مسارَين يُشكلان دائرةً تُفضي إلى …»»
لكن أوقفَه ضحكٌ عالٍ من كيفين. كلمة واحدة غير مُتوقَّعة تحمل انتصارًا مبهجًا.
قالت ماريون أثناء ذلك الصمت الفجائي: «أرأيت؟»
قال كيفين بهدوء، وعيناه اللامعتان تتملَّيان في المشهد بإعجاب: «أجل.» وتابع: «ثمة شيء لم تنتبه إليه.»
تحرَّك روبرت عندما أفسحَت ماريون له الطريق ليقفَ مكانها، وبذلك رأى ما كانا يتحدثان عنه. فحدود السطح بسوره الصغير يقطع مشهدَ الفِناء قبل أن يتفرَّع مسارُ السيارات بأي شكلٍ من الأشكال. وليس لأحدٍ محبوس في تلك الغرفة أن يعرف شيئًا عن نِصفَي الدائرة اللذَين يُفضيان إلى المدخل.
قالت ماريون: «كما ترى، فالمحقِّق قرأ الوصف عندما كنَّا مُجتمِعين في قاعة الاستقبال. وعلمنا جميعًا أن الوصف كان دقيقًا. أقصد التوصيفَ الدقيق لما كان عليه الفِناء؛ ولهذا تعامَلنا لاشعوريًّا على أنه أمرٌ مفروغ منه. حتى المحقق. أتذكَّر نظرتَه إلى المشهد من النافذة لكنها كانت إيماءةً تلقائية تمامًا. لم يخطر ببال أيٍّ منَّا أن المشهد ربما لم يبدُ كما وصف. في الواقع، ما عدا تفصيلة واحدة صغيرة كانت كما وصفت.»
قال كيفين: «ما عدا تفصيلة واحدة صغيرة.» وتابع: «إنها وصلَت في الظلام وهربَت في الظلام، وتقول إنها حُبِسَت في الغرفة طَوال الوقت؛ لهذا ليس بإمكانها أن تعرف أيَّ شيءٍ عن المسار المتفرِّع. ماذا تقول، مرةً أخرى، عن وصولها، يا روب؟»
بحث روبرت عن الفقرة ثم قرأ:
««توقفت السيارة في النهاية وخرجَت السيدة الشابة، ذاتُ الشعر الأسود، ثم دفعَت بوابةً كبيرة مزدوجة على مِصراعَيها لدخول السيارة. ثم عادت إلى السيارة وقادتها حتى وصلنا إلى منزلٍ. لا، كان الظلام حالكًا لدرجةٍ استحالت معها رؤيةُ نوع المنزل، باستثناء أنه كان له درجاتُ سُلَّم مؤديةٌ إلى الباب. لا، لا أتذكر عدد درجات السُّلَّم؛ أعتقد أنها أربعُ أو خمسُ درجات. أجل، بالتأكيد كانت مجموعةً صغيرة من درجات السُّلَّم.» ثم تستمرُّ في السرد عن أخذها إلى المطبخ لتناول القهوة.»
قال كيفين: «إذن.» وتابع: «ماذا عن روايتها عن مجموعة درجات السُّلَّم؟ أيُّ وقت من الليل كان ذلك؟»
قال روبرت وهو يُقلب الصفحات: «في وقتٍ ما بعد العشاء إذا كنتُ أتذكَّر بشكلٍ صحيح.» وأضاف: «بعد حلول الظلام، على أيِّ حال. ها هي.» ثم قرأ:
««عندما وصلتُ إلى العتبة الأولى، تلك التي فوق الردهة، كان بإمكاني سَماعُهما تتحدَّثان في المطبخ. لم يكن هناك أيُّ ضوءٍ في الردهة. ثم واصلتُ النزول إلى المجموعة الأخيرة من درجات السلم، وأنا أتوقَّع في كل لحظة أن إحداهما ستأتي وتُمسك بي، ثم اندفعتُ مسرعةً إلى الباب. لم يكن موصَدًا وركضتُ فورًا إلى الخارج ونزلتُ درجات السُّلم واتجهتُ نحو البوابة ثم إلى الطريق في الخارج. ركضتُ على امتداد الطريق — أجل، كان صُلبًا مثل الطريق الرئيسي — حتى عجزتُ عن الركض أكثرَ من ذلك، واسترحتُ على العشب حتى شعرتُ أني قادرة على المواصلة».»
اقتبس كيفين قائلًا: «كان الطريق صُلبًا، مثل الطريق الرئيسي.» ثم أضاف قائلًا: «والدليل أن الظلام كان حالكًا لدرجةٍ استحالت عليها رؤيةُ سطح الأرض الذي تركض عليه.»
سادت لحظةُ صمت قصيرة.
قالت ماريون: «تعتقد والدتي أن هذا كافٍ لتكذيبها.» نَقَّلَت بصرَها من روبرت إلى كيفين، ثم عادت إليه مرة أخرى، من دون أملٍ كبير. «لكنكما لا تعتقدان هذا، أليس كذلك؟» بصعوبةٍ نُطق هذا في صيغة سؤالٍ.
قال كيفين: «لا. لا. ليس وحده. ربما تتملَّص من ذلك بمساعدةِ محامٍ بارع. ربما تقول إنها كانت قد استنتجَت الدائرة من دوران السيارة عند وصولها. والشيء الذي ربما أنها استنتجَته، بكل تأكيد، كان هو الحركةَ الدائرية العادية للسيارة. ليس لأحدٍ أن يُفكر بعفويةٍ في أي شيءٍ بهذا القدر من الغرابة مثل ذلك المسار الدائري. فهو يُشكِّل مسارًا دقيقًا، هذا كل ما في الأمر — وهذا السبب المرجَّح لأنها تذكَّرته. أظن أنه يجب الاحتفاظُ بهذا الدليل الصغير لمحكمة المقاطعة الرئيسية بصفته دليلًا مُكمِّلًا لباقي الأدلة.»
قالت ماريون: «أجل، ظننتُك ستقول ذلك.» ثم تابعَت قائلة: «لستُ محبطة حقًّا. كنت سعيدةً بالأمر، ليس لأني ظننتُ أنه سيُخلِّصنا من التُّهمة، لكنه سيُخلِّصنا من الشكِّ الذي لا بد أنه … لا بد أنه …» ثم تلعثمَت فجأةً، متحاشيةً النظرَ إلى عينَي روبرت.
أنهى كيفين الجُملة، سريعًا: «لا بد أنه عكَّر أذهانَنا الصافية.» ثم رمَق روبرت بنظرة ماكرة سعيدة. وتابع: «كيف خطر ذلك في بالك الليلة الماضية عندما أتيتِ لمسح الغرفة؟»
«لا أعرف. وقفتُ أتطلَّع من النافذة، أمام المشهد الذي وصفتُه، وفي داخلي أتمنَّى لو أنه بإمكاننا إيجادُ دليلٍ واحد صغير ودقيق في صالحنا. ثم، من دون تفكير، سمعتُ صوت المحقق جرانت وهو يقرأ ذلك الجزء في قاعة الاستقبال. فقد أخبرَنا عن أغلب القصة بأسلوبه، كما تعرف. لكن الأجزاء التي أتَت به إلى منزل فرنتشايز قرأها بكلمات الفتاة. سمعت صوته — وهو صوت لطيف — يقول هذا الجزء عن مسار السيارات الدائري، ومن المكان الذي كنتُ أقِف فيه في تلك اللحظة لم يظهر أيُّ مسار دائري. ربما كانت استجابة لصلواتي الخفية.»
قال روبرت: «أما زلتَ تعتقد أنه من الأفضل أن تظهرا أمام المحكمة غدًا، وندَّخر كلَّ شيءٍ لمحكمة المقاطعة الرئيسية؟»
«أجل. المسألة لا تختلف في الواقع بالنسبة إلى الآنسة شارب ووالدتها. الحضور في مكانٍ يُشبه كثيرًا الحضورَ في مكانٍ آخر — إلا إذا كانت محكمةُ المقاطعة الرئيسية في نورتون أقلَّ ثقلًا على النفس من محكمة الجُنَح والمخالفات في موطنك الرئيسي. وكلما استغرق حضورُهما مدةً قصيرة كان ذلك أفضلَ من وجهة نظرهما. فليس لدَيك دليلٌ لتُقدِّمه أمام المحكمة غدًا؛ لهذا يجب أن يكون حضورًا قصيرًا ورسميًّا. فيقتصر الأمر على استعراض الأدلة لدَيهم، والإعلان عن تأجيل الدفاع، وتقديم طلَب للخروج بكفالة، وهكذا!»
كان هذا مناسبًا لروبرت بما يكفي. لم يُرد أن يُطيل معاناتهما غدًا؛ كان على أي حال يودِعُ ثقةً كُبرى في أي حُكم يصدُر خارج ميلفورد، وأكثر ما لم يكن يريده، بما أن الأمر قد وصل إلى قضية الآن، هو قَبول الدعوى جزئيًّا، أو ردُّ الدعوى. ذلك لن يفيَ بغرضه المعنيِّ الذي يبتغيه لبيتي كين. أراد أن تُحكى قصةُ ما حدث في ذلك الشهر كاملًا في محاكَمةٍ علنية، في حضور بيتي كين. وفي الوقت الذي تُعقَد فيه جلسةُ محكمة المقاطعة الرئيسية بنورتون، ستُصبح لدَيه القصة، بمشيئة الله، جاهزةً لسردِها.
سأل كيفين أثناء عودتهما إلى المنزل لتناول الشاي: «مَن بإمكاننا الاستعانةُ به للدفاع عنهما؟»
مدَّ كيفين يدَه إلى جيبه، فاعتقد روبرت بأنَّ ما يبحث عنه هو قائمةٌ بالعناوين. لكن من الواضح أن ما أخرجه كان مُفكرةَ مواعيد.
سأل: «ما تاريخ عقدِ الجلسة في محكمة المقاطعة الرئيسية بنورتون، هل تعرف؟»
أخبرَه روبرت، ثم حبس أنفاسه.
«من الممكن أني ربما سآتي بنفسي. دَعْني أرَ، دعني أرَ.»
تركه روبرت ليرى في صمتٍ تام. شعر بأنَّ كلمةً واحدة ينطق بها قد تُبطل السحر.
قال كيفين: «أجل. لا أرى سببًا يمنعني — إلا إذا وقع شيء غير مُتوقَّع. أحببتُ ساحرتَيكَ. وسيُسعِدني أن أتولَّى الدفاع عنهما أمام ذلك الاتهام السيئ. من الغريب أنها أختُ تشارلي ميريديث. إن ذلك الرجل العجوز هو واحدٌ من أفضل الناس. تقريبًا تاجر الأحصِنة الوحيد الأمين المعروف في التاريخ. لم أتوقَّف عن الإقرار بالعرفان إليه على ذلك المهر. إن المهر الأول في حياة الفتى هو شيءٌ غايةٌ في الأهمية. إذ يؤثر على حياته بأكملِها فيما بعد؛ ليس مجرَّدَ تأثيرٍ في سلوكه تجاه الخيل؛ بل كذلك في كل شيءٍ آخَر. ثمة شيء في الثقة والصداقة التي تنشأ بين الصبيِّ والحصان الجيد الذي …»
كان روبرت منصتًا، ومرتاحًا ومُستمتعًا. كان قد أدرك، بتهكُّم لطيفٍ غير ممزوج بمرارة، أن كيفين قد تخلى عن أيِّ فكرة عن اعتبار السيدتَين شارب مُذنبتَين قبل أن يُقدَّم إليه دليلُ المشهد الواضح من النافذة. لم يكن محتمَلًا أن أخت تشارلي ميريديث قد تخطف أحدًا.