الفصل السابع عشر
قال بِن كارلي، ناظرًا إلى المقاعد الطويلة المتكدِّسة بالحضور داخل المحكمة الصغيرة: «أمرٌ مدهش لي دائمًا أن الكثير من المواطنين لديهم مهامُّ قليلةٌ يجب إنجازُها صباحَ يوم الإثنين. رغم أنه حقيقٌ عليَّ القولُ بأنه قد مرَّ وقتٌ منذ أن كان للحاضرين مثلُ هذه الروح العالية. هل لاحظتَ تلك التي تدير متجر الملابس الرياضية؟ الصف قبل الأخير، التي ترتدي قبعة صفراء لا تليق مع مسحوق التجميل البنفسَجي ولا حتى مع شعرها. إذا تركت العمل في عُهدة تلك الفتاة التي من عائلة جودفري، فستنهب منها الفكَّة الليلة. أنقذتُها من العقوبة لمَّا كانت في الخامسة عشرة من عمرها. كانت تسرق نقودًا منذ أن صارت تسير على قدَمَيها ولا تزال مُستمرةً في سرقتها. ليس لفتاةٍ أن تُترَك وحدَها مع خزينة نقود، صدِّقني. وتلك السيدة آن بولين. أول مرة أراها في المحكمة. رغم أنها كانت تتجنَّب الحضور منذ مدةٍ طويلة لا أعرف قدرَها. وأُختها تُسدِّد طَوال الوقت نقدًا قيمة الشيكات المردودة. لم يكتشِف أحدٌ أبدًا ما الذي تفعله بهذا المال. ربما أن أحدًا يبتزُّها. أتساءل مَن عساه أن يكون. لا أستبعِد أن يكون آرثر ووليس، نادلَ مطعم ذا وايت هارت. ثلاثة أوامر مختلفة بالدفع كلَّ أسبوع، وآخَرُ في الطريق، والتي ما كان لنادل أن يدفعها من راتبه.»
ترَك روبرت كارلي يُثرثر من دون أن يُعيره سمْعَه. كان مُدركًا تمامًا فحسبُ أن الحاضِرين في المحكمة ليسوا هم مجموعةَ المتسكِّعين المعتادين في صباح يوم الإثنين الذين يُماطلون في الوقت حتى يفتحوا. كانت الأنباء قد انتشرَت، عبر قنوات ميلفورد الغامضة؛ لذا جاءوا ليرَوا السيدتَين شارب بينما تُدانان. وكآبة المحكمة المعتادة صارت زاهيةً بملابس السيدات، وهدوءُها المعتاد الباعثُ على النعاس سادَه الهمسُ من ثرثرة الحضور.
أحد الوجوه التي رآها كان لا بد أن يكون وجهًا ناقمًا لكنه كان وَدودًا على نحوٍ غريب؛ كان وجه السيدة وين، التي رآها آخِرَ مرةٍ تقف في حديقتها الصغيرة اللطيفة في ميدوسايد لين، بإيلزبري. وقد عجز عن التفكير في السيدة وين على اعتبار أنها عدو. إذ إنه أُعجب بها، وقدَّرها، وشعر بالأسف لها مُسبقًا. كان يودُّ لو أنه يذهب إليها ويُحيِّيَها، لكن اللعبة دُبِّرت بدقةٍ في تلك اللحظة وصاروا رُقَع شطرنج ذات ألوانٍ مختلفة.
لم يكن جرانت قد ظهر حتى الآن، لكن هالم كان حاضرًا، يتحدَّث إلى الضابط الذي ذهب إلى منزل فرنتشايز في الليلة التي حطَّم فيها المخربون نوافذَ المنزل.
سأل كارلي، أثناء مهلة التوقُّف القصيرة التي تخلَّلَت تعليقاته المتواصِلة: «وما أحوال المحقق السرِّي الخاص بك؟»
قال روبرت: «المحقق على ما يُرام، لكن الأمر جَلل. فالمسألة أكثرُ تعقيدًا من الإبرة التي يُضرَب بها المثل أنها وقعَت وسط كومة القش.»
سخِر بِن قائلًا: «فتاةٌ واحدة أمام العالم.» وتابع: «أتطلَّع لرؤية هذه الساقطة بشحمها ولحمها. أظنُّ أنها بعد كل الرسائل التي جاءتها من المعجَبين، وعروض الزواج، وتشبيهها بالقدِّيسة بيرناديت، فإنها ستعتقِد أن محكمة الجنح والمخالفات ميدانٌ صغير للغاية عليها. هل تلقَّت أيَّ عروضٍ للتمثيل على المسرح؟»
«ليس لي أن أعرف.»
«أعتقد أن أمَّها ستمنعها على أي حال. ها هي هناك ترتدي بدلةً لونها بُني، تبدو في نظري سيدةً مُتزنة كثيرًا. يستعصي عليَّ التفكير في كيف أنها أنجبت ابنةً مثل … أوه، لكنها ابنةٌ بالتبنِّي، أليس كذلك؟ عِظة مُخيفة. يُثير عجَبي دائمًا كيف لا يعرف الناس الكثير عن الأشخاص الذين يعيشون معهم. كانت هناك امرأةٌ في هام جرين لها ابنةٌ لا تغيب عن عينَيها على حدِّ عِلمها، لكن الابنة خرَجَت في حالة غضبٍ ذات يوم ولم تَعُد والأم الثائرة ذهبَت تُولول إلى الشرطة، وتكتشف الشرطةُ أن الفتاة التي على ما يبدو أنها لم تُفارق أمَّها ليلةً واحدة هي سيدة متزوجة ولدَيها طفل، وأنها أخذَت طفلها وذهبَت لتعيش مع زوجها. راجِعْ سجلَّات الشرطة إذا لم تكن تُصدق بِن كارلي. وبالمناسبة، إن صِرت غيرَ راضٍ عن المحقق السري فأخبرني بذلك وسأعطيك عُنوانَ مُحقق بارع. ها نحن سنبدأ.»
نهض توقيرًا للقاضي، مواصلًا كلامه المُمِل عن لون بشرة القاضي، ومزاجه المحتمل، وقضاياه المحتملة بالأمس.
حُسِمَت ثلاث قضايا نمطية؛ فكان من الواضح أن مُرتكبي المخالفات المخضرمين اعتادوا على الإجراءات، لدرجة أنهم توقَّعوا الخطوات المتبَعة، وروبرت توقع بدرجةٍ ما أن يقول أحدٌ: «انتظر، ألا يمكنك؟!»
ثم رأى جرانت يدخل في هدوء ويجلس جلسةَ المراقِب خلف مقعد الصحفيِّين، فأدرك أن الوقت قد حان.
دخلَتا معًا عندما نُودي على اسمَيهما، ثم تبوَّأتا مكانَيهما على مقعدٍ صغير بشع وكأنهما تتبوَّآن مكانَيهما في الكنيسة. رأى أن المشهد كان أشبهَ قليلًا بذلك؛ العيون هادئةٌ مُترقِّبة، الهيئة الموحية بانتظار بدءِ العرض. لكنه انتبهَ فجأة لما كان سيشعر به لو أن العمة لين مكان السيدة شارب، استشعر تمامًا لأول مرة الإحساسَ الذي لا بد أن ماريون تُقاسيه نيابةً عن والدتها. حتى لو برَّأتهما محكمةُ المقاطعة الرئيسية من التهمة، فماذا قد يُعوِّضهما عما تحمَّلَتاه؟ أي عقوبة تناسِب جريمة بيتي كين؟
بالنسبة إلى روبرت، لكونه عتيقَ التفكير، فهو يؤمن بالقصاص. ربما أنه لا يتفق طَوال الوقت مع النبيِّ موسى — ألا يكون العقاب قائمًا دائمًا على العين بالعين — لكنه يتَّفق قطعًا مع جيلبرت الذي يرى أن العقوبة يجب أن تتناسَب مع الجريمة. ولم يؤمن بتاتًا بأن قليلًا من الحوار الهادئ مع القس والوعد بالإصلاح من شأنهما أن يُحولا المجرم إلى مواطنٍ جديرٍ بالاحترام. فتذكَّر كيفين وهو يقول ذاتَ ليلة، بعد نقاش طويل عن الإصلاح الجنائي: «إن المجرمَ الحقيقيَّ به صفتان ثابتتان، وهاتان الصفتان هما ما تجعلانه مجرمًا. الغرور القاتل، والأنانية المفرِطة. وكِلتاهما صفتان فطريَّتان، ومُتأصِّلتان مثلهما كمثل ملمس البشرة فيه. ربما يُشبه حديثك عن «الإصلاح» حديثك عن تعديل لَون العينَين.»
فاعترض شخصٌ ما قائلًا: «لكنْ هناك غِيلان من الغرور والأنانية لم يُصبحوا مجرمين.»
قال كيفين: «لأنهم فقط استهدفوا زوجاتهم كضحايا بدلًا من استهدافهم المصارف.» ثم أضاف قائلًا: «كُتبَت مجلدات في محاولةٍ لوضع تعريفٍ للمجرم، لكنَّ تعريفه غايةٌ في البساطة رغم كلِّ ذلك. المجرم هو شخص أصبح الدافعُ الرئيسي وراء أفعاله هو إشباعَ احتياجاته الشخصية المُلحَّة. لا يمكنك شفاؤه من أنانيته، لكن يمكنك أن تجعل التماديَ فيه غير مُجدٍ له. أو يكاد يكون كذلك.»
تذكر روبرت أن فكرة كيفين عن الإصلاح في السجون كانت الترحيلَ إلى مُستعمَرةٍ للعقاب. وهو مجتمعٌ مُنعزل يعمل كلُّ فرد فيه عملًا شاقًّا. لم يكن هذا الإصلاح ليصبَّ في صالح السجناء. إنما ربما يوفِّر حياةً ألطف إلى السجَّانين، كما قال كيفين؛ ويُفرد مساحةً كبرى في هذه الجزيرة المزدحمة لمنازل المواطنين الصالِحين وحدائقهم؛ وبما أن أغلب المجرمين كرهوا العمل الشاقَّ أكثرَ من كُرههم لأي شيءٍ آخَر في هذا العالم، فربما يكون ذلك رادعًا أفضلَ من الخطة الحاليَّة التي، في تقدير كيفين، لم تَعُد خطةً عقابية أكثر منها مدرسة حكومية من الدرجة الثالثة.
ناظرًا إلى الجسدَين داخل قفص الاتهام فكَّر روبرت أن «في الأزمنة القديمة السيئة» يوضَع المذنب فقط في إطارٍ خشبي تُكبَّل فيه يداه ورأسه. أما في أيامِنا هذه، فذلك الذي لم يخضع للمحاكَمة هو الذي يستحقُّ الوقوف في ذلك الإطار الخشبي، والمذنب يُنقل في الحال إلى مخبأٍ آمن. شيءٌ ما قد صار خطأً في مكانٍ ما.
ارتدَت السيدة شارب قُبعةً سوداء مسطَّحة من الساتان وهي التي حضَرَت بها إلى مكتبه صباحَ اليوم الذي اقتحمَت فيه صحيفة «أك-إيما» قضيتَهما، وبدَت سيدةً تقليدية، جديرةً بالاحترام، لكن غريبة. ماريون هي الأخرى كانت ترتدي قبَّعة — اعتقدَ أن ذلك لم يكن بدافع توقير المحكمة أكثرَ منها اتقاءً لنظرة عامة الناس. كانت قُبعة بسيطة من اللباد، ولها حافةٌ قصيرة؛ وطابَعها التقليدي قد خفَّف إلى درجةٍ ما من حِدَّة هيئتها المعتادة التي تعكس لامبالاتها بمَن حولها. مع شعرِها الأسود المحجوب وعينَيها اللامِعتَين المتواريتَين لم تبدُ أكثرَ اسمرارًا مما ربما تبدو عليه سيدةٌ عادية تُمضي وقتًا في الهواء الطَّلْق. رغم افتقاد روبرت لشعرها الأسود وبَريق عينَيها ظنَّ أنه من الأفضل أنها أطلَّت بمظهرٍ «عادي» قدْرَ الإمكان. ربما يُخفِّف ذلك من الشعور الفطريِّ الذي يُكنُّه لها خصومها بضربها حتى الموت.
ثم رأى بعدها بيتي كين.
إن الضجة التي أُثيرت في مقعد الصحفيِّين هي ما أعلمَته بحضورها المحكمة. كان يشغل مقعدَ الصحافة في العادة مُتدرِّبون مُتملمِلون على فنِّ التغطية الصحافية؛ مُتدرب ممثِّل عن صحيفة «ميلفورد أدفرتايزر» (مرة أسبوعيًّا، يوم الجمعة)، ومتدربٌ آخَر يجمع بين صحيفة «نورتون كورير» (مرتَين أسبوعيًّا، أيام الثلاثاء والجمعة)، و«لاربورو تايمز»، وأي صحفي آخَر قد يَعنيه الأمر. لكن مقعد الصحفيين اليوم كان ممتلئًا، والوجوه هناك لم تكن وجوهًا شابَّةً أو أصابها الملَل. إنما كانت وجوهَ رجالٍ دُعوا إلى وجبةٍ وكانوا قد شمَّروا عن سواعدهم لها.
وتمثَّل في بيتي كين ثُلثا الدافع الذي جاءوا من أجله.
لم يكن روبرت قد رآها منذ أن كانت واقفةً في قاعة الاستقبال بمنزل فرنتشايز وهي ترتدي معطفَ مدرستها الأزرقَ الداكن، فأثار دهشتَه من جديد هيئتُها الشابة وبراءتها العفوية. في الأسابيع التي مرَّت بعد أن رآها أول مرة كانت صورتها في عقله قد تحوَّلَت إلى صورة وحشٍ؛ لم يُفكر فيها إلا كإنسانةٍ فاسدة ألقَت بشخصَين داخل قفص الاتهام. أما الآن، بعد أن رأى بيتي كين في صورتها الحقيقية الفعلية مرةً أخرى، فقد صار حائرًا. أدرك أن هذه الفتاة والوحش الذي في عقله هما الشخصُ نفسه، لكن استعصى عليه أن يُميز الفرق بينهما. وإذا كان هو، ذاك الذي عرَف بيتي كين تمام المعرفة في تلك اللحظة، قد أبدى ردَّ فعلٍ مثلَ ذلك في حضورها، فما بال تأثير جمالها الطفولي على الرجال الصالِحين والمُخلِصين عندما يحين وقت حضورها؟
كانت ترتدي ملابسَ «عطلة نهاية الأسبوع»، وليس زيَّ مدرستها. فملابسها الزرقاء الفاتحة جعلَت الإنسان يُفكر في زهور أذن الفأر واحتراق الأخشاب وأزهار الجُريس والطرق الطويلة في فصل الصيف، فكان من المرجَّح أنها ستُضلل رأي الرجال الحكماء. كانت قُبعتها ذات الطابع الشبابي والبسيط والأنيق ترتكزُ على الخلف بعيدًا عن وجهها، فكشفَت بذلك عن حاجبَيها الجذَّابين وعينَيها المتباعدتَين. أحلَّ روبرت السيدة وين، من دون حتى أن يُفكر في الأمر، من عبء إلباس الفتاةِ من أجل هذا الحدث، لكنه كان مُدركًا بكلِّ أسف أنها لو كانت ظلَّت مستيقظةً لياليَ حتى تُدبِّر هذا الزيَّ لَمَا كان له أن يفيَ بالغرض أفضلَ من ذلك.
عندما نودي على اسمها وسارت نحو منصَّة الشهود، استرقَ نظرةً على وجوه أولئك الذين بإمكانهم أن يرَوها بوضوح. باستثناء بِن كارلي — الذي كان ينظر إليها باهتمامِ شخصٍ مُنسجم مع عرضٍ داخل متحف — ثمة تعبيرٌ وحيد اعتلى وجوهَ الرجال، تعبيرٌ أشبهُ بشفقةٍ حانية. ولاحظ أن السيدات لم يستسلِمنَ بهذه السهولة. فالسيدات اللاتي تزداد فيهن روحُ الأمومة أشفقنَ على شبابها وضعفِها، لكن السيدات الأصغر سنًّا لم يعترِهن سوى الحماس؛ من دون أيِّ إحساسٍ غير إحساس الفضول.
قال بِن، بصوتٍ هامس، بينما كانت تؤدِّي القسَم: «لا أُصدق ذلك!» ثم تابع قائلًا: «أتقصد أن هذه الطفلة كانت تعيش حياةً عابثة لمدة شهر؟ لا أُصدِّق أنْ سبق لها تقبيلُ أي شيءٍ سوى الكتاب المقدس!»
تمتم روبرت، في غضبٍ من أن كارلي المحنَّك والوصوليَّ كان يستسلِم: «سأُحضر شهودًا لإثبات ذلك.»
«يمكنك إحضارُ عشرة شهودٍ لا غبار عليهم، لكنك ستظلُّ عاجزًا عن الإتيان بهيئةِ مُحلَّفين تُصدق ذلك؛ إنها هيئة المحلَّفين هي التي يُعتدُّ بها يا صديقي.»
صحيح، أي هيئة مُحلَّفين تلك التي قد تُصدق أي شيءٍ سيِّئ عنها!
أثناء مشاهدته لها وهي تُستجوَب عبر سردِ قصتها، ذكَّر نفسه بشهادة ألبرت عنها: «فتاة لطيفة مُهذَّبة» لم يكن لأحدٍ أن يفكر فيها على أنها امرأةٌ عابثة على الإطلاق، ولا في البراعة الفائقة التي جذَبَت بها الرجلَ الذي اختارته.
كان لها صوتٌ مُبهج كثيرًا؛ صوتٌ طفولي ناعم واضح، ليس له لهجةٌ تُميزه أو نبرة متصنَّعة. فسردَت روايتها كشاهدٍ مثالي؛ لا يتطوَّع بإضافة أمورٍ زائدة، وبدَت محدَّدة فيما قالته. ووجد الصحفيون صعوبةً بالِغة في إبعاد أعيُنهم عنها لكتابة ملاحظاتهم المختصَرة. أما القاضي فكان يُفرِط في تدليلها بكل وضوح. (يا ليت القاضي يكون أكثر صرامةً من ذلك في محكمة المقاطعة الرئيسية!) أما أفراد الشرطة فكانوا يتعرَّقون قليلًا من التعاطُف. وجموع الحضور في المحكمة كانت ساكنةً لا تصدُر منها حركة.
لم يكن لممثلةٍ قطُّ أن يُحسَن استقبالها بأفضلَ من ذلك.
كانت هادئةً تمامًا، بقدْر ما استطاع الجميعُ رؤيته، وغير مُدركةٍ على ما يبدو للتأثير الذي تُحدثه. لم تبذل قصارى جهدها لتوضيح وجهة نظرٍ مُعينة، أو استخدام معلومةٍ على نحوٍ درامي. وروبرت وجد نفسَه متسائلًا إذا ما كان هذا التبسيط للأمور مُتعمَّدًا وما إذا كانت مدركةً لمدى تأثير ذلك بوضوح جلي.
«وهل رتقَتِ الملاءات بالفعل؟»
«كان جسدي مجهَدًا من الضرب، في تلك الليلة. لكني رتقتُها بعضها فيما بعد.»
وكأنها تمامًا كانت تقول: «كنت منشغلةً باللعب ببطاقات الورق.» فقد أضفى هذا على ما قالته انطباعًا مُذهلًا بالصِّدق.
لم يبدُ كذلك أيُّ دليل على الانتصار نتيجة لسردها للأدلة على ادِّعائها. كانت قد قالت هذا وذاك عن مكان حبسها، وثبت صحته. لكنها في الواقع لم تُظهر أيَّ سعادةٍ واضحة. عندما سُئلَت إن كانت تعرَّفت على السيدتَين في قفص الاتهام، وإن كانتا هما في الحقيقة السيدتَين اللتَين قد حبَستاها وضربتاها، فنظرت إليهما بإمعانٍ في لحظة صمتٍ ثم قالت إنها تعرَّفَت عليهما، وهما هاتان السيدتان.
«هل ترغب في الاستجواب يا سيد بلير؟»
«لا يا سيدي. ليس لديَّ أسئلةٌ لطرحها.»
أحدثَ جوابُه ضجةً بسيطة من المفاجأة وخيبة الأمل بين الحضور في المحكمة، التي تتطلَّع لمشاهدة أحداثٍ درامية؛ وقوبل الأمرُ ممن لدَيهم بعض الخبرة في مثل هذه الأمور من دون إبداءِ تعليق، فكان بديهيًّا أن القضية ستُحال إلى محكمةٍ أخرى.
كان هالم قد أدلى بأقواله، ثم جاء الدور بعد استجواب الفتاة على شهود الإثبات.
إن الرجل الذي رآها والسيارة تُقلُّها ثبَت أنه موظفُ فرز بمكتب البريد العام يُدعى بيبر. عمل على عربة بريد تابعة لشركة السكة الحديدية إل إم إس كان مسارها بين لاربورو ولندن، وأُنزِل في محطة مينشيل في رحلة العودة؛ لأنها قريبةٌ من منزله. وكان يسيرُ عبر طريق لندن المباشر الطويل من مينشيل، عندما لاحظ أن هناك فتاةً صغيرة تنتظر في المحطة الخاصة بحافلات لندن. كان لا يزال على مسافة بعيدة منها، لكنه لاحظها لأن حافلة لندن قد تجاوزَته منذ نحو نصف دقيقة، وقبل أن تُصبح محطةُ الحافلات في نِطاق رؤيته، وعندما رآها تنتظر هناك أدرك أنَّ الحافلة قد فاتتها. بينما كان سائرًا نحوها لكن على مسافةٍ لا تزال بعيدة، مرَّت به سيارةٌ مسرعة. لم ينظر حتى إلى السيارة لأن اهتمامه كان مُنصبًّا على الفتاة وعلى أنه لمَّا يقترب إليها فهل عليه أن يتوقف ويُخبرها بأن حافلة لندن كانت قد مرَّت. ثم رأى السيارة تُبطئ إلى جانب الفتاة. فانحنَت إلى الأمام حتى تتحدَّث إلى أيٍّ ممَّن كان في داخلها، ثم دخلَت السيارة وسارت بها بعيدًا.
في هذا الحين أصبح قريبًا بالدرجة الكافية التي تُمكنه من وصف السيارة دون أن يتمكَّن من قراءة رقمها. ولم يكن قد فكَّر في قراءة رقم السيارة على أي حال. كان سعيدًا فحسبُ أن الفتاة قد حصَلَت على توصيلةٍ بهذه السرعة.
لم يكن ليُقسِم على أن الفتاة موضوعَ القضية كانت هي الفتاةَ التي كان قد رآها تُدْلي بشهادتها، لكنه كان واثقًا في قرارة نفسه. كانت ترتدي معطفًا شاحبَ اللون وقبعةً — رماديةً حسب ظنه — وخفًّا أسود.
خف؟
حسنًا، ذلك الحذاء الذي ليس به أربطةٌ عند منطقة مشط القدم.
الحذاء الخفيف.
هكذا، كان حذاءً خفيفًا، لكنه أسماه خفًّا. (وظل مُصرًّا، كما أظهرَت نبرةُ صوته، على الاستمرار في تسميته حذاءً خفيفًا.)
«هل ترغب في الاستجواب يا سيد بلير؟»
«لا، شكرًا لك يا سيدي.»
ثم جاء الدور على روز جلين.
الانطباع الأول الذي كوَّنه روبرت كان عن المثالية المبتذَلة لأسنانها. فذكَّرَته بطقم أسنان مُستعار صمَّمه طبيبُ أسنان غيرُ بارع. لم يُوجَد بكل تأكيد، وليس مُحتملًا أن يُوجَد مُطلقًا، أي أسنان طبيعية برَّاقة بهذه الدرجة المثالية مثل الأسنان التي قد أخرجَتها روز جلين كبديلٍ عن أسنانها اللبَنيَّة.
لم يُظهِر القضاة أيضًا إعجابًا بأسنانها، على ما يبدو؛ لهذا سرعان ما توقفَت روز عن الابتسام. لكن روايتها كانت مُدمِّرة بما يكفي. كانت معتادةً على الذَّهاب إلى منزل فرنتشايز كلَّ إثنين لتنظيف المنزل. وفي أحد أيام الإثنين من شهر أبريل كانت هناك كالمعتاد، وكانت تستعدُّ للانصراف في المساء عندما سمِعَت صوتَ صراخ ينبعِث من مكانٍ ما في الطابق العُلوي. فظنَّت أن شيئًا قد أصاب الآنسة أو السيدة شارب؛ لهذا هُرِعَت نحو قاعدة درجات السُّلَّم. فتبيَّن أن الصراخ من مكانٍ بعيد، وكأنه قادمٌ من العلية. كانت على وشك الصعود، لكن السيدة شارب خرجَت من قاعة الاستقبال وسألتها عمَّا تفعله. فأخبرتها بأن هناك مَن يصرخ في الطابَق العلوي. فقالت السيدة شارب إن هذا كلام فارغ، وإنها تتوهَّم أشياء، وإن وقت عودتها إلى منزلها قد حان. كان الصراخ قد توقَّف حينها، وأثناء حديث السيدة شارب نزلَت الآنسة شارب. ثم اتَّجهَت الآنسة شارب مع السيدة شارب إلى قاعة الاستقبال، وقالت السيدة شارب شيئًا أشبهَ بقول «يجب أن تكوني أكثرَ حذرًا». ففزعت، دون أن تعرف السبب تمامًا، ثم ذهبت إلى المطبخ وأخذت المال من المكان الذي كان يُترك فيه النقود من أجلِها على رفِّ موقد المطبخ، ثم ولَّت مسرعةً من المنزل. كان تاريخ ذلك اليوم هو ١٥ أبريل. تذكَّرَت التاريخ لأنها قرَّرت في المرة التالية التي ستعود فيها، في يوم الإثنين التالي، أن تُعطي السيدتَين شارب مهلةَ أسبوع قبل تركِها العمل، وفي الحقيقة فعلَت ذلك، وانقطعت عن العمل لدى السيدتَين شارب منذ يوم الإثنين ٢٩ أبريل.
سرَّ روبرت قليلًا الانطباعُ السيئ الذي تركَته بوضوح على كل فردٍ من الحضور. سعادتُها الواضحة في تلك الأجواء المؤثرة، وبريق أسنانها المشابِه لبريق زينة الاحتفال بالكريسماس، وخُبثها الواضح، وملابسها البشِعة، كانت مُتعارضةً بكل أسفٍ مع حالة التحفُّظ لمن سبَقها على منصَّة الشهود وحُسن تمييزه وفطنته. ومن التعبيرات التي اعتلَت وجوهَ الحاضرين تكوَّن رأيٌ عنها بأنها فتاةٌ وقِحة ولن يُصدِّقها أحدٌ ولو بأدنى درجة.
لكن ذلك لم يحطَّ من أهمية الدليل الذي أقسَمَت عليه.
تساءل روبرت، الذي سمح لها بالانصراف، عمَّا إذا كان من الممكن إثباتُ تهمة سرقة تلك الساعة عليها، إذا جاز القول. ونظرًا إلى أنها فتاةٌ قروية، جاهلة بالأساليب المتبَعة في متاجر المراهنة، فكان من غير المحتمَل أنها قد سرَقَت تلك الساعة لبيعها، وإنما أخذَتها لتحتفظَ بها لنفسها. وبهذا، هل هناك طريقةٌ ما لإدانتها بالسرقة والتشكيك في صحةِ دليلها بهذا الصدد؟
جاءت بعدها صديقتُها جلاديس ريس. لقد بدَت صغيرةً وشاحبة ونحيلةً بالقدْر الذي بدَت به صديقتُها مُترَفة. بدت خائفةً ومضطربة، وأدَّت القسَم في تردُّد. كانت لهجتها ثقيلةً للغاية حتى استعصى على هيئة المحكمة فهمُها، واضطُرَّ محامي الادعاء عدةَ مرات أن يُترجم كلامها الإنجليزي المُربِك الذي لا معنى له إلى شيءٍ أقربَ من الكلام الدارج. لكنَّ مضمون دليلها كان واضحًا. في مساء يوم الإثنين ١٥ أبريل كانت تسير مع صديقتها، روز جلين. لا، ليس نحوَ أيِّ مكانٍ بعينه، تتمشَّى فقط بعد العشاء. إلى هاي وود جيئةً وذهابًا. فأخبرتها صديقتها روز جلين بأنها خائفةٌ من منزل فرنتشايز لأنها سمعَت صراخَ شخصٍ ما في إحدى غُرَف الطابق العلوي، رغم أنه من المفترَض ألَّا يُوجَد أيُّ أحدٍ هناك. وقد عرَفَت، جلاديس، أن اليوم الذي أخبرتها فيه روز بذلك كان الإثنين ١٥ أبريل لأن روز قالت إنها عند ذَهابها الأسبوعَ القادم ستُعطي إخطارًا قبل تركها العمل. وقد قدَّمَت الإخطار وانقطعَت عن العمل لدى السيدتَين شارب منذ يوم الإثنين ٢٩.
قال كارلي، عندما غادرَت منصة الشهود: «تُرى بمَ ضغطَت العزيزة روز عليها.»
«ما الذي يجعلك تظن أنَّ لدَيها أيَّ شيء تضغط به عليها؟»
«الناس لا تأتي وتحلف كذبًا من أجل الصداقة؛ ولا حتى القرويُّون البُلَهاء مثل جلاديس ريس. إن تلك الفتاة الحمقاء المسكينة التي تُشبه الفأر الصغير تكاد أن تتيبَّس من الخوف. ولم تكن لتأتي طواعيةً. لا، هذه الفتاة الأخرى التي تُشبه المسْخ لها طريقةٌ ما في الإقناع. ربما، هذه نقطة جديرة أن تبحث فيها إذا عجزتَ عن الحل.»
سأل ماريون، في طريق العودة بها هي وأمها إلى منزل فرنتشايز: «هل لعلك تعرفين بمحض الصدفة رقم ساعتك؟» وتابع: «الساعة التي سرقَتها روز جلين.»
قالت ماريون: «لم أعرف حتى أن الساعات لها أرقام.»
«الساعات القيِّمة لها.»
«عجبًا، ساعتي كانت قيِّمة، لكني لا أعرف أيَّ شيءٍ عن رقمِها. رغم أنها مميزة للغاية. كان لها وجهٌ من الإينامل بلونٍ أزرقَ شاحب وأرقام مطليَّة بالذهب.»
«أرقام رومانية؟»
«أجل. لِمَ تسأل؟ حتى لو أُعيدت إليَّ لا يُمكنني ارتداؤها أبدًا بعد تلك الفتاة.»
«ما فكَّرتُ فيه لا يتعلَّق كثيرًا بإعادتها، بقدْر ما هو إدانتها بسرقتها.»
«ذلك سيُصبح جيدًا.»
«بِن كارلي يُطلق عليها «المسخ»، بالمناسبة.»
«يا له من اسم موفَّق! هكذا تبدو بالضبط. أهذا هو الرجل الضئيل الذي أردتَ أن تدفعنا إليه، في ذلك اليوم الأول؟»
«ذلك هو.»
«يسرُّني كثيرًا أني رفضتُ الدفع بي إليه.»
قال روبرت، بحسٍّ رزين فجأة: «آمُل أن تظلِّي مسرورة عند انتهاء هذه القضية.»
قالت السيدة شارب من المقعد الخلفي في السيارة: «لم نشكرك حتى الآن على التكفُّل بضماننا.»
قالت ماريون: «لو بدأنا نشكرُه على كل ما ندين به له، فلن نوفِّيه حقَّه من الشكر.»
باستثناء، كما خطر بباله، أنه قد استعان بكيفين ماكديرموت للوقوف معهما — وتلك صدفةٌ منبعها الصداقة — ماذا كان بوُسعه أن يُقدِّمه لهما؟ ستذهبان إلى المحاكمة في نورتون بعد أقلَّ من أسبوعَين، وليس لديهما أيُّ دليل للدفاع بأي شكلٍ من الأشكال.