الفصل التاسع عشر
كان هذا أيضًا، ويا للغرابة، ردَّ فعل العمة لين.
كانت العمة لين قد أصبحَت شيئًا فشيئًا متصالحةً مع علاقة روبرت بقضية فرنتشايز عندما انتقلت من كونها قضيةً محلية شائنة لتُصبح قضيةً قومية مشهورة. ولم يَعُد مُخزيًا، في نهاية الأمر، أن تُصبح على صلةٍ بقضية يُنشَر عنها في صحيفة «ذا تايمز». لم تقرأ العمة لين، بالطبع، صحيفة «ذا تايمز»، إنما قرأها أصدقاؤها. القس، والكولونيل وايتيكر العجوز، والفتاة في متجر بوتس والسيدة وارن العجوز من وايمث (مدينة سوانيج الساحلية)؛ وكان مُبهجًا على نحوٍ غامض التفكيرُ في أنَّ روبرت هو محامي الدفاع في محاكمةٍ ذائعة الصيت، حتى لو كان الدفاع ضد توجيه تهمةٍ بضرب فتاةٍ لا حول لها ولا قوة. ولم يخطر بعقلها ولو من بعيد أن روبرت لن يكسب القضية. حيث اعتبرت بكلِّ هدوءٍ أن ذلك أمرٌ مُسلَّم به. ففي المقام الأول روبرت شخصيًّا رجلٌ بارع للغاية، وثانيًا ليس من الجائز أن يرتبط مكتب بلير وهيوارد وبينيت بفشَل. حتى إنها شعرت بالأسف في داخلها، أثناء التفكير؛ لأن انتصاره سيَحدُث في محكمة نورتون وليس في ميلفورد حيث ربما يحضر الجميع للمشاهدة.
وبذلك فأول لمحة شكٍّ وقعَت عليها كمفاجأة. وليس كصدمة، إذ إنها ظلَّت عاجزةً عن تصور احتمالية الفشل. لكن حتمًا جاءتها كفكرة جديدة.
قالت، وهي تُحرك قدمَيها تحت المائدة في محاولةٍ لتحديد مكان مسند قدمَيها: «لكن يا روبرت، أنت لم تظنَّ لحظةً أنك ستخسر القضية، أليس كذلك؟»
قال روبرت: «بل العكس، لم أظن لحظةً أني سأكسبها.»
«روبرت!»
«في محاكمة تحضرها هيئةُ مُحلَّفين من المعتاد أن يُقدِّم المحامي حُجةَ دفاعٍ إلى هيئة المحلَّفين. وإلى الآن لا حُجة لدَينا. لهذا لا أظن أن هيئة المُحلَّفين سيُعجبها ذلك على الإطلاق.»
«تبدو نَكِدًا تمامًا يا عزيزي. أعتقد أنك تسمح للأمر بأن يستثير أعصابك. لِمَ لا تستريح من العمل عصر الغد وتُرتِّب لمباراة جولف؟ لم تُمارس الجولف نهائيًّا في الآونة الأخيرة وهذا ليس صحيًّا على كبدك. أقصد التوقُّف عن ممارسة الجولف.»
قال روبرت مُتعجِّبًا: «أعجز عن تصديقِ أنني كنتُ مُهتمًّا من قبلُ بمصير «قطعة من المطاط» على ملعب جولف. لا بد أن ذلك كان في حياةٍ أخرى.»
«هذا ما أقوله يا عزيزي. أنت تفقد قدرتَك على موازنة الأمور. وتسمح لهذه القضية بأن تُزعِجك بلا داعٍ تمامًا. في نهاية المطاف، معك كيفين.»
«ذلك ما أشكُّ في حقيقته.»
«ماذا تقصد يا عزيزي؟»
«لا أتخيل أن كيفين سيستقطع من وقته ويُسافر إلى نورتون ليدافع عن قضيةٍ قدَّر لها الخَسارة. له لحظاتٌ يشطح فيها، لكنها لا تُلغي حُسن إدراكه.»
«لكن كيفين وعد بالمجيء.»
«عندما وعد بذلك كان لا يزال هناك وقتٌ على المرافعة. أما الآن فنعدُّ الأيام تقريبًا على جلسة محكمة المقاطعة الرئيسية وما زلنا لا نمتلك أي أدلة — وليس هناك احتمالٌ بأن نمتلك أيًّا منها.»
رمقَته الآنسة بينيت بنظرة من فوق ملعقة حسائها. ثم قالت: «لا أعتقد، أنت تعرف يا عزيزي، أن إيمانك كافٍ.»
منع روبرت نفسه من القول بأنه ليس لدَيه أيُّ إيمان على الإطلاق. وليس إيمانًا، على أي حال، متعلقًا بتدخُّل إلهي في قضية فرنتشايز.
قالت بسعادةٍ: «تَحلَّ بالإيمان يا عزيزي، وستصير النتيجة مُرضية.» كان واضحًا أن ذلك الصمت المشحون الذي أعقب حديثَهما أثار قلقَها قليلًا، ولهذا أضافت قائلة: «لو كنتُ أعرف أنك مُتشكِّكٌ أو غير راضٍ بشأن القضية يا عزيزي، لكنتُ صلَّيتُ صلواتٍ إضافية من أجل هذا الأمر منذ وقتٍ طويل. أخشى أني سلَّمتُ بأنك أنت وكيفين ستُديران الأمرَ بينكما.» فكان «الأمر» يعود على العدالة البريطانية. «لكن الآن ما دمتُ أعرف أنك قلقٌ من الأمر فسوف أَزيد بكل تأكيد بعضَ التوسلات الخاصة.»
إن النبرة الهادئة لطلَب الإغاثة التي قيل بها ما قيل أعادت إلى روبرت حالتَه النفسية الجيدة.
فقال بصوته اللطيف المعتاد: «شكرًا لك يا عزيزتي.»
أنزلت الملعقةَ على طبقها الفارغ وأرجعت ظهرها إلى المقعد، واعتلى وجهَها الدائريَّ المتورد ابتسامةُ غيظ. فقالت: «أعرف تلك النبرة.» وتابعت: «إنها تعني أنك تُسايرني. لكن لا داعي لذلك، كما تعرف. أنا التي على حقٍّ بشأن ذلك، وأنت المخطئ. يُقال بوضوح لا يعتريه شكٌّ أن الإيمان يُحرك الجبال. تكمن الصعوبة دائمًا في الاحتياج إلى إيمانٍ شديد إلى أبعدِ درجة حتى تتحرك الجبال، ومن المستحيل عمَليًّا أن يجتمع في القلب هذا الإيمانُ العظيم؛ ولهذا غالبًا لن تتحرك الجبال أبدًا. لكن في حالاتٍ أقلَّ شأنًا — مثل الحالة الراهنة — من الممكن أن تتحلَّى بإيمانٍ كافٍ يرقى إلى الحدث. فبدلًا من أن تصير يائسًا عن عمدٍ يا عزيزي، حاول جاهدًا أن تمتلكَ بعض الثقة في النتيجة. وفي هذه الأثناء، سأذهب إلى كنيسة سان ماثيو هذا المساء وسأُمضي وقتًا قليلًا أُصلِّي من أجل أن تُرزَق بدليلٍ صباح الغد. هذا سيُشعرك بسعادة أكبر.»
عندما دخل أليك رامسدن إلى غرفته في صباح اليوم التالي حاملًا الدليل، كان أول ما خطر بذهن روبرت أنه لا شيء قد يحول دون استئثار العمة لين بالفضل في ذلك. وليست هناك أيُّ فرصة ألا يذكره، إذ إن أول ما كانت ستسأله عنه على الغداء، بنبرة واثقة مُبتهجة، سيكون: «بشِّرني، يا عزيزي، هل حصلتَ على الدليل الذي صليتُ من أجله؟»
كان رامسدن راضيًا عن نفسه ومبتهجًا؛ أمورٌ كثيرة أمكنَ تفسيرها، بالأخص، من تعبيرات رامسدن إلى وجود معرفة مشتركة.
«يتحتَّم عليَّ يا سيد بلير، أن أعترف بكل صراحةٍ أنه عندما أرسلتني إلى تلك المدرسة لم أكن أُعلِّق آمالًا كبيرة. ذهبت لأنها بدَت نقطةَ انطلاق مقبولة مثلها كمثل أي نقطة، وربما أتوصَّل من الموظفين إلى طريقةٍ جيدة لأتعرف بها على ريس. أو على وجه الدقة، لأسمح لأحد رجالي بالتعرُّف عليها. وكنت قد وضعتُ خُطة لطريقةٍ أحصل بها على أي شيءٍ كتبَتْه بخط يدِها من دون قلق، بمجرد أن يشرع أحدُ رجالي في إقامة صداقةٍ معها. لكنك مُدهش، يا سيد بلير، جاءتك الفكرة المناسبة في النهاية.»
«أتقصد أنك حصلت على ما أردناه؟!»
«لقد قابلتُ مُعلِّمَتها، وتحدثت بصراحة تامَّة عمَّا أردناه والغرَض منه. حسنًا، بقدْر من الصراحة التي تقتضيها الضرورة. قلت إن جلاديس مُشتبهٌ في إدلائها بشهادة زور — في قضية عقابها أشغالٌ شاقة — ولكن لظنِّنا بأنها تعرضَت لابتزاز حتى تُقدِّم دليلها، ولإثبات التعرُّض لابتزاز فنحن بحاجةٍ إلى عيِّنة من كتابتها. حسنًا، عندما أرسلتني إلى هناك سلَّمتُ بأنها لم تكن قد كتبت حرفًا واحدًا منذ أن غادرَت مرحلة الروضة. لكن مُعلمتها — الآنسة باجلي — قالت بأن أمنحَها دقيقةً لتُفكر. ثم قالت: «بالطبع، لقد كانت ماهرةً في الرسم، وإن لم يتوفر لديَّ أيُّ شيءٍ فربما معلمة الفنون الزائرة لدَيها شيء. فنحن نُحب أن نحتفظ بالعمل الجيد عندما يُنتجه تلاميذنا.» كان ذلك تهوينًا لجميع الخيبات التي عليهم أن يغضُّوا الطرْف عنها، كما أفترض، هؤلاء المساكين. حسنًا، لم يكن عليَّ مقابلة مُعلمة الفنون، لأن الآنسة باجلي، فتَّشت في بعض الأشياء، وأخرجت هذا.»
وضع ورقةً على المكتب أمام روبرت. اتَّضح أنها رسمٌ يدوي لخريطة كندا، توضح التقسيمات الرئيسية، وكذلك المدن والأنهار. لم تكن دقيقة لكنها كانت مُثيرة كثيرًا للاهتمام. في الجزء السُّفلي كُتب بحروفٍ متفرقة «الأراضي التابعة لسيادة كندا». وفي الزاوية اليُمنى كان التوقيع: جلاديس ريس.
«يبدو أنهم في كل صيف، في وقت الإجازة، يُقيمون معرضًا للأعمال، ويحتفظون بالمعروضات عادةً حتى المعرض التالي في العام الذي يليه. وأفترض أنه من القسوة التخلصُ من المعروضات في اليوم التالي. أو ربما يحتفظون بها ليعرضوها على كبار الزائرين والمفتِّشين. على أي حال، هناك أدراجٌ زاخرة بتلك الأشياء.» ثم أضاف وهو يُشير إلى الخريطة: «وهذه كانت نِتاج مسابقة «ارسم خريطة أي دولة من الذاكرة في غضون عشرين دقيقة» والثلاثة الفائزون قد عُرضت أعمالهم. وحصد هذا العمل «المركز الثالث مُكرر».»
قال روبرت، وهو يملِّي عينَيه بالعمل اليدوي الذي رسمته جلاديس ريس: «بالكاد يمكنني تصديقُ ذلك.»
«الآنسة باجلي كانت محقَّة بخصوص أنها ماهرةٌ في استعمال يدَيها. ومن المضحك أنها ظلَّت لا تُجيد الكتابة إلى هذه الدرجة. بإمكانك ملاحظةُ أنهم صحَّحوا لها طريقة كتابة أحد الحروف المكتوب على نحو متقطع.»
لقد كان ذلك بإمكانه بالفعل. كان روبرت مُبتهجًا للغاية.
قال، ممعنًا في صورة كندا التي استدعتها جلاديس من الذاكرة: «إنها ليست ذكية، أقصد الفتاة، لكن لها عينان دقيقتان.» وتابع: «ما تذكَّرته هو شكل الأشياء وليس الأسماء. وتهجئة الكلمات من تأليفها تمامًا. أظن أن «المركز الثالث مكرر» كان نظيرَ هذا العمل المتقَن.»
قال رامسدن، وهو يضع قصاصة الورق التي أُرفقت مع الساعة: «إنه عمل متقن بالنسبة إلينا على أي حال.» وتابع: «لنكن مُمتنِّين أنها لم تختَر ألاسكا.»
قال روبرت: «أجل، إنها معجزة.» (معجزة العمة لين، هكذا أخبره عقلُه.) وأضاف: «مَن أمهرُ الرجال في مثل هذه الأمور؟»
أخبره رامسدن.
«سآخُذها معي إلى المدينة الآن، الليلة، وسأحصل على التقرير قبل الصباح، ثم أذهب به إلى السيد ماكديرموت في موعد الإفطار، إذا كان هذا يُناسِبك.»
قال روبرت: «يُناسبني؟» وتابع: «هذا مثالي.»
«أظنها فكرةً جيدة أن نرفع البصمات منهما ومن عُلبة الكرتون الصغيرة. هناك قُضاة لا يُحبذون خبراءَ الخطوط اليدوية، لكنَّ الاثنين معًا سيُقنعان ولو قاضيًا واحدًا.»
قال روبرت، وهو يناوله تلك الأشياء: «عظيم، على أقل تقدير لن يُصدِر حكمًا بالأشغال الشاقة على موكلتيَّ.»
علَّق رامسدن بأسلوبٍ ساخر: «لا شيء يُضاهي النظر إلى الجانب المشرق.» فضحك روبرت.
«تعتقد أني غيرُ راضٍ عن مثل هذا الأمر. لستُ كذلك. إنه حِملٌ جسيم سيزول من عقلي. لكن الحِمل الحقيقي لا يزال قائمًا. إن إثبات أن روز جلين سارقةٌ وكاذبةٌ ومُبتزَّة — مع تنحية القَسَم الكذب جانبًا — سيترك قصةَ بيتي كين كما هي دون تغيير. وقصة بيتي كين هي ما نَعمدُ إلى تكذيبها.»
قال رامسدن؛ لكن بحماسٍ فاتر: «لا يزال لدَينا وقت.»
«إن الوقت المتبقيَ هو فقط من أجل معجزة.»
«فماذا إذن؟ ولِمَ لا؟ المعجزات تحدث. ولِمَ من غير المفترض أن تحدث لنا؟ في أي وقت أتصل بك غدًا؟»
لكن كيفين هو الذي اتصل في اليوم التالي، بينما يفيض بالتهاني والسرور. وقال: «أنت مدهشٌ يا روب. سأعصف بهم.»
أجل، سيكون تدريبًا بسيطًا ولطيفًا على لعبة القطِّ والفأر بالنسبة إلى كيفين، وبعد ذلك ستخرج السيدتان شارب من المحكمة «حرَّتَين». حُرَّتان لتعودا إلى منزلهما المُطارَد وإلى حياتهما المؤرَّقة؛ هاتان الساحرتان النصف مجنونتان اللتان في يومٍ من الأيام هدَّدتا فتاةً وضربتاها.
«لا تبدو مُبتهجًا، يا روبرت. أهناك شيء يحبطك؟»
أخبره روبرت بما كان يفكر فيه؛ أن السيدتَين شارب اللتَين أُنقِذَتا من السجن ستظلان في سجن من صُنع بيتي كين.
قال كيفين: «لعلَّه لن يحدث، لعله لن يحدث.» وتابع: «سأبذل قصارى جهدي عند استجواب الفتاة حيال الخطأ الفادح عن انقسام مسار السيارات. في الواقع، لو لم يكن مايلز أليسون هو ممثِّل الادِّعاء في الدعوى فلربما كنتُ أطحتُ بها، لكن مايلز ربما سيكون سريعًا بما يكفي لاستعادة الموقف. ابتهج يا روب. على أقل تقدير ستهتزُّ الثقة في سُمعتها بدرجة كبيرة.»
لكنَّ اهتزاز الثقة في سمعة بيتي كين لم يكن كافيًا. لقد أدرك مدى التأثير الضئيل الذي سيحدثه على عامة الناس. حيث اكتسب خبرةً واسعة عن النساء العاديات في الآونة الأخيرة، وقد صَدَمه عدمُ قُدرته بوجهٍ عام على تحليل أبسط الأمور. حتى لو كانت الجرائد ستعرض خبرًا عن القرينة البسيطة بخصوص المشهد من النافذة — على الأرجح ستنشغل الصحفُ كثيرًا بتناول الأمور الأكثر إثارةً عن القسَم الكاذب الذي أدَّته روز جلين — حتى إذا تناولوا الخبر، فلن يكون له تأثيرٌ على القارئ العادي. «لقد حاولوا إيقاعها في الخطأ، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك.» هذا كل ما سيصلهم من الخبر.
ربما ينجح كيفين في زعزعة سمعة بيتي كين في نظر هيئة المحكمة، والمراسِلين، والضباط، وأيِّ عقل ناضج صادفَ له الحضور، لكن لا يمكنه فعلُ أي شيءٍ اعتمادًا على الدليل الحاليِّ لتغيير الإحساس القوي بالمناصرة الذي أثارته قضية بيتي كين في أرجاء المنطقة. وستظلُّ السيدتان شارب مُدانتَين.
وبيتي كين سوف «تنجو من العقاب».
كانت تلك بالنسبة لروبرت خاطرةً أسوأَ من إمكانية أن تعيش السيدتان شارب حياةً مؤرَّقة. سوف تستعيد بيتي كين مكانتها كمحورٍ لعائلةٍ مُحبة، وتعيش في أمانٍ وحُب، وتصبح بطلةً مُقدَّسة. ازدادت نزعة روبرت الهادئ إلى القتل عند التفكير في تلك الخاطرة.
كان عليه البوحُ إلى العمة لين بالدليل الذي ظهر في الوقت الذي حدَّدَته في صلواتها، لكنه منع نفسه على نحوٍ تنقصه الشجاعةُ من إخبارها بأن ذلك الدليل المذكور كان جيدًا بما يكفي لإبطالِ دعوى الشرطة. فكانت ستعتبر ذلك فوزًا بالقضية، و«الفوز» بالنسبة إلى روبرت، حَمَل معنًى مختلفًا تمامًا.
بالنسبة إلى نيفيل أيضًا، بدا الأمر هكذا. ولأول مرة منذ أن جاء بينيت الشابُّ ليَشغل فيها الغرفة الخلفية التي اعتاد أن يشغَلها، فكر روبرت فيه بصفته حليفًا، تجمع بينهما روحٌ مشتركة. بالنسبة إلى نيفيل، أيضًا، كان غيرَ واردٍ التفكيرُ في أن بيتي كين «ستنجو من العقاب». وأدهَش روبرت من جديدٍ الغضبُ القاتل الذي يملأ العقلَ المسالم عند إثارة استيائه. كان لنيفيل أسلوب مميز عند نطق اسم «بيتي كين»، وكأنَّ مَقاطع الاسم مادةٌ سامة كان عليه أن يضَعها في فمِه عن طريق الخطأ ثم يلفظها. وكانت كلمة «سامة»، كذلك، الصفةَ المفضَّلة إليه لينعتَها بها. «ذلك الكائن السام.» وجدَه روبرت مريحًا للغاية.
لكنْ حمَل الموقف بعض الارتياح. حيث تقبَّلَت السيدتان شارب الأنباءَ عن إفلاتهما المحتمَل من حُكم السجن بالوقار نفسِه الذي ميَّز تقبُّلَهما لأي شيءٍ آخر، ابتداءً من الاتهام الأول الذي وجَّهَته بيتي كين وحتى تقديم الاستدعاء ثم المثول في قفص الاتهام. لكنهما، كذلك، أدركتا أن هذا سيُصبح إفلاتًا من العقوبة وليس تبرئةً من التهمة. ستسقط دعوى الشرطة، وستحصلان على حكمٍ نهائي من المحكمة. لكنهما ستحصلان عليه لأنه في القانون الإنجليزي لا يُوجَد طريق وسط. في محكمةٍ أسكتلندية سيُصبح الحكمُ هو عدمَ ثبوت التهمة لعدم كفاية الأدلة. وذلك الحكم، سيكون هو نتيجةَ حكم محكمة المقاطعة الرئيسية الذي ستتوصَّل إليه الأسبوع القادم. لمجرد أن الشرطة لم يكن لدَيها الأدلةُ الكافية لإثبات دعواها. وليس بالضرورة لأن الدعوى ظالمة.
كان مُتبقِّيًا على جلسة محكمة المقاطعة الرئيسية أربعةُ أيام فقط عندما اعترف للعمة لين بأن الدليل كافٍ لإسقاط التهمة. فكان القلق المتزايد الذي طفا على ذلك الوجه الدائري المتورِّد كثيرًا عليه. لم يكن يقصد سوى أن يمنَحها ذلك الخبرَ المُرضي ويحتفظَ ببقية الأمر، لكنه وجد نفسه بدلًا من ذلك يُفضي إليها بكل شيءٍ كما كان يُفضي إليها بمشكلاته وهو صبيٌّ صغير، في الأيام التي كانت فيها العمة لين ملاكًا ذا علمٍ وقدرة وليست العمة لين العطوفة، الساذجة. استمعَت في صمتٍ مُدهش إلى هذا السيل المفاجئ من الكلام الذي اختلف عن العبارات المعتادة المتبادَلة بينهما على الغداء، وعيناها الزَّرقاوان كالجوهرتَين يقظتان وتعكسان اهتمامًا.
أنهى حديثه قائلًا: «ألا ترين يا عمة لين، أنه لا يُعدُّ انتصارًا، إنما هو هزيمة؟» وأضاف: «إنه تشويهٌ للعدالة. نحن لا نجاهد من أجل الحصول على حُكم، وإنما نجاهد من أجل العدل. ولا أمل لدَينا في الحصول عليها. ولا ذرَّة من الأمل!»
«لكن لماذا لم تُخبرني بكل هذا يا عزيزي؟ أظننتَ أنني لن أفهم، أو لن أوافق، أو شيئًا كهذا؟»
«حسنًا، أنتِ لم تشعري بمثل ما أشعر به تجاه …»
«لمجرد أنه لم يُعجبني مظهرُ هاتَين السيدتَين في منزل فرنتشايز — لا مفر من الاعتراف، يا عزيزي، بأنهما إلى الآن، ليسا من نوعية الأشخاص الذين أُعجب بهم تلقائيًّا — لكن لمجرد أنني لم أعجب بهما كثيرًا فهذا لا يعني أني لا أبالي بتحقيق العدل، من دون شك، أليس كذلك؟»
«أجل، بالطبع؛ لكنكِ قلتِ صراحةً إنك تَجدين أن قصة بيتي كين من الممكن تصديقها، ولهذا …»
قالت العمة لين بهدوء: «ذلك كان قبل جلسة محكمة الجُنح والمخالفات.»
«المحكمة؟ لكنكِ لم تحضري في المحكمة.»
«أجل يا عزيزي، لكن الكولونيل وايتيكر حضر، ولم تُعجبه الفتاة نهائيًّا.»
«ألم تعجبه، حقًّا؟»
«أجل. كان واضحًا تمامًا بشأن ذلك. وقال إنه ذات مرة كان لدَيه — ما تُسمُّونه — جنديٌّ أول في كتيبته، أو وحدته، أو شيءٌ كهذا، كان يُشبه بيتي كين تمامًا. قال إنه كان بريئًا مؤذيًا يُوقِع بين الكتيبة بأكملها وكان مُزعجًا أكثرَ من عشَرات الحالات المستعصية. يا له من تعبير لطيف؛ حالات مُستعصية، أليس كذلك؟! وانتهى به الحال في سجنٍ عسكري، هكذا قال الكولونيل وايتيكر.»
«مركز اعتقال عسكري.»
«حسنًا، شيء أشبهُ بذلك. وأما بالنسبة إلى الفتاة جلين من مزرعة ستابلس، فقال إن مع نظرةٍ واحدة لها سيبدأ المرء تلقائيًّا في عدِّ الأكاذيب التي وردَت في كل جملة. لم تُعجبه كذلك الفتاة جلين. وكما ترى، يا عزيزي، لم تكن بحاجةٍ إلى الظن بأني لن أتعاطفَ مع ما يَشغل بالك. أؤكد لك أن تحقيق العدل المطلق يَعنيني مثلما يَعنيك تمامًا. وسأُكثف صلَواتي من أجل أن يُحالفك النجاح. كنت سأذهب إلى حفلٍ مُقام في حديقة منزل عائلة جليسون عصر اليوم، لكني بدلًا من ذلك سأزور كنيسة سان ماثيو وسأُمضي ساعةً في صفاءٍ هناك. أظن أن الجوَّ سيُمطر على أي حال. دائمًا ما تمطر في حفل عائلة جليسون، مساكين.»
«حسنًا يا عمة لين، لا أنكر أننا في حاجةٍ إلى صلواتك. لن يُنقذنا الآن سوى حدوث معجزةٍ.»
«حسنًا، سأصلي من أجل أن تحدث معجزة.»
«هل هي الإعفاء من لفِّ حبل المشنقة حول رقبة البطل في آخر دقيقة؟ هذا لا يحدث إلا في القصص البوليسية وفي الدقائق الأخيرة من أفلام الغرب الأمريكي.»
«مطلقًا. بل يحدث كلَّ يوم، في مكانٍ ما في العالم. إذا وجدت طريقةً لمعرفة عدد المرات التي تحدث فيها وإحصائها فلا شكَّ أنك ستُفاجَأ. تتدخَّل العناية الإلهية، كما تعرف، عندما تفشل الوسائل الأخرى. إيمانُك غير كافٍ يا عزيزي، كما أشرتُ من قبل.»
قال روبرت: «لا أؤمن بأن ملاكًا من السماء سيظهر في مكتبي بتفسيرٍ لما كانت تفعله بيتي كين خلال ذلك الشهر، إذا كان ذلك ما تقصدينه.»
«مشكلتك يا عزيزي، أنك تتصورُ الملاك كائنًا بجَناحَين، في حين أنه من المحتمل أن يكون رجلًا ضئيلًا غير مُهندم يرتدي قُبعة من اللباد. على أي حال، سأُصلي بتضرعٍ عصر اليوم، وهذه الليلة أيضًا، بكل تأكيد؛ لعل العون يأتيك غدًا.»