الفصل العشرون
لم يكن ملاكُ السماء رجلًا ضئيلًا غيرَ مهندم، كما اتضح فيما بعد؛ وكانت قبعتُه من اللباد ذاتَ طراز أوروبي يؤسَف لها وبها حافةٌ ملفوفة بإحكامٍ تظهر من جميع الجوانب. وقد وصل إلى مكتب بلير وهيوارد وبينيت في نحو الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح اليوم التالي.
قال السيد هيزيلتاين العجوز، وهو يُقحِم رأسه داخل باب مكتب روبرت: «سيد روبرت، سيدٌ يدعى لانج في المكتب يريد مقابلتك. هو …»
لم يكن روبرت، الذي كان مُنشغلًا، يتوقَّع مجيء ملائكة من السماء، واعتاد تمامًا على مُباغتة الغرباء بالحضور إلى مكتبه وطلبِ مُقابلته، فقال: «ماذا يريد؟ أنا مشغول.»
«لم يقُل. اكتفى بقول إنه يرغب في مقابلتك ما لم تكن مُنشغلًا للغاية.»
«حسنًا، أنا مشغولٌ لأقصى درجة. هل يمكنك معرفة ما يريده بأسلوبٍ لَبِق، من فضلك؟ وإذا لم يكن الأمر مُهمًّا فبإمكان نيفيل التعاملُ معه.»
«أجل، سأعرف ما يريده؛ لكن لُغته الإنجليزية يصعُب فهمها، ولا يُبدي استعدادًا كبيرًا حتى …»
«لغته الإنجليزية؟ أتقصد أنه ألثغ؟»
«لا أقصد أن نُطقه للإنجليزية غير جيد. فهو …»
«أتقصد أنه رجل أجنبي؟»
«أجل. من كوبنهاجن.»
«كوبنهاجن! لماذا لم تُخبرني بذلك من قبل؟!»
«لم تُعطني فرصة يا سيد روبرت.»
«أدخِله يا تيمي، أدخِله. يا لرحمة السماء! هل تصبح الحكايات الخيالية حقيقة؟»
كان السيد لانج يُشبِه قليلًا أحدَ الأعمدة النورمانية لكاتدرائية نوتردام. له القدرُ نفسُه من الاستدارة، والقدر نفسه من الارتفاع، والقدر نفسه من الرسوخ، والقدر نفسه من المظهر الجدير بالثقة. بعيدًا على قمَّة هذا العمود المستدير الراسخ المنتصِب كان وجهُه يُشعُّ صلاحًا يلين له القلب.
قال: «هل أنت السيد بلير؟» وتابع: «اسمي لانج. أعتذِر عن إزعاجك» — وقد تعذَّر عليه نطقُ الكلمة الأخيرة كما ينبغي — «لكن الأمر مُهم. مهمٌّ لك، هذا ما أقصده. على الأقل، كما أظن.»
«تفضَّل بالجلوس، سيد لانج.»
«شكرًا، شكرًا. الجوُّ دافئ، أليس كذلك؟ ربما ذلك اليوم الذي يُصادفك ويحلُّ فيه الصيف ووقت المرح؟» فابتسم إلى روبرت. «هذا معنى تعبير اصطلاحي بالإنجليزية، مُزحة عن يومٍ من أيام الصيف. لديَّ اهتمامٌ كبير بالتعبيرات الاصطلاحية في اللغة الإنجليزية. وبسبب هذا الاهتمام بالتعبيرات الاصطلاحية الإنجليزية جئتُ لمقابلتك.»
هوى قلبُ روبرت إلى كعبَيه مثلما يَهوي عند هبوطٍ مفاجئ لمصعد سريع. حكاية خيالية، حقًّا. لا؛ الحكايات الخيالية تظل حكايات خيالية.
قال على نحوٍ مُشجع: «خيرًا؟»
«أنا أُديرُ فندقًا في كوبنهاجن، يا سيد بلير. فندق اسمه ريد شوز (الحذاء الأحمر). ليس، بالطبع، لارتداء أيِّ أحدٍ هناك حذاءً أحمر، لكن السبب في ذلك هو حكاية أندرسن الخيالية، التي ربما أنك …»
قال روبرت: «أجل، أجل. لقد صارت إحدى الحكايات الخيالية الشهيرة لدَينا أيضًا.»
«صدقًا! صحيح. رجل عظيم، أندرسن. رجل بسيط للغاية ثم صار الآن عالميًّا. أمر يثير العجب. لكني أُضيع وقتك يا سيد بلير، أضيع وقتك. ماذا كنت أقول؟»
«عن التعبيرات الاصطلاحية الإنجليزية.»
«آه، أجل. إن دراسة اللغة الإنجليزية هي هويتي.»
فصحَّح روبرت، بعفوية: «هوايتي.»
«هوايتي. شكرًا لك. من أجل كسب العيش أُدير فندقًا … لأن والدِي ووالده كانا يُديرانِه قبلي — لكن كهو … هواية؟ أجل؛ أشكرك — لكن كهواية أدرس التعبيرات الاصطلاحية في اللغة الإنجليزية. لهذا يُحضرون لي كل يوم الصحفَ التي يتركونها هنا وهناك.»
«مَن الذين يتركونها؟»
«النُّزلاء الإنجليز.»
«آه، فهمت.»
«في المساء، عند ذَهابهم إلى النوم، يجمع الخادم الجرائد الإنجليزية ويتركها في مكتبي. وأنا مشغول، في العادة، ولا يتَّسع الوقتُ لي لمطالعتها؛ لهذا تتراكم الجرائد فوق بعضها وعندما يتَّسع لي الوقت أختار واحدةً وأُذاكرها. هل كلامي واضح يا سيد بلير؟»
«على أكمل وجه، على أكمل وجه يا سيد لانج.» طيفٌ من الأمل كان يلوح من جديد. جرائد؟
«وهكذا يسير الحال. في بعض لحظات الفراغ، أقرأ قليلًا في صحيفة إنجليزية، وأتعلم تعبيرًا جديدًا — ربما تعبيرَين — كل ذلك من دون انفعال. كيف تقول ذلك؟»
«ببالٍ رائق.»
«هكذا. بال رائق. وذات يومٍ أخذتُ هذه الصحيفة من كومة الصحف، مثلما ربما آخُذ أي صحيفة أخرى، ونسيت كلَّ شيء عن التعبيرات الاصطلاحية.» ثم أخرج من جيبه الواسع نسخةً مطويَّة طيَّةً واحدة من صحيفة «أك-إيما»، ثم بسَطها على المكتب أمام روبرت. كان إصدار يوم الجمعة، ١٠ مايو، مع صورة بيتي كين تَشغل ثلثَي الصفحة. «نظرتُ إلى هذه الصورة. ثم نظرت داخل الصحيفة وقرأت القصة. ثم حدَّثتُ نفسي بأن هذا شيء لا يُوجَد في غرابته مثيل. الأمر الأكثرُ غرابةً. تقول الصحيفة إن هذه الصورة هي لبيتي كان. هل أنطقُ الاسم بشكل صحيح؟»
«كين.»
«آه. هكذا. بيتي كين. لكنها كذلك صورة السيدة تشادويك، التي أقامت في فندقي مع زوجها.»
«ماذا!»
بدا السيد لانج مسرورًا. «هل أثار ذلك اهتمامَك؟ آمُل ذلك. كنتُ آمل ذلك حقًّا.»
«أكمل. أخبرني.»
«لقد أقاما لديَّ مدةَ أسبوعين. وكان ذلك أكثرَ شيء غريب، يا سيد بلير؛ لأنه في الوقت الذي كانت فيه تلك الفتاة المسكينة تُضرَب وتُحرم من الطعام في عِلية بمنزلٍ إنجليزي، كانت السيدة تشادويك تأكل مثل ذئبٍ صغير في فندقي — القشدة التي كان بإمكان تلك الفتاة أكلُها يا سيد بلير، حتى أنا، الرجل الدنماركي، كنتُ مندهشًا — وتستمتع بوقتها إلى أقصى حد.»
«حقًّا؟»
«حسنًا، قلتُ لنفسي: رغم كلِّ شيء فإنها صورة. ورغم أنها الهيئة نفسُها التي بدَت عليها عندما تركَت شعرَها مُسترسلًا عند مجيئها إلى حفلة الرقص …»
«مسترسلًا!»
«أجل. كانت تُصفِّف شعرها لأعلى، كما تفهم. لكن كان لدَينا حفلة رقص بملابس متنكرة … ملابس متنكرة؟»
«أجل. ملابس تنكُّرية.»
«آه. هكذا. ملابس تنكرية. وحتى يليق مع فستانها التنكُّري تركَت شعرها مُسترسلًا. مثلما تبدو بالضبط هناك.» ثم نقَر بإصبعه على الصورة. «لهذا حدَّثتُ نفسي: إنها صورة، في نهاية الأمر. كم مرةً رأى الواحدُ منَّا صورةً لا تُشبه شخصًا حقيقيًّا ولو بأدنى درجة. وما العلاقة الممكنة التي تربط هذه الفتاةَ في الجريدة بالسيدة تشادويك الشابة التي أقامت هنا مع زوجها خلال تلك المدة! لهذا فأنا كنتُ منطقيًّا مع نفسي. لكني لم أتخلص من الصحيفة. لا. لقد احتفظتُ بها. ومن حينٍ لآخَر أُلقي نظرةً عليها. وفي كل مرة أنظر لها أفكر: لكن تلك هي السيدة تشادويك. لهذا بقيتُ حائرًا، وعندما أذهب إلى النوم أُفكر في الأمر بينما ينبغي عليَّ التفكيرُ في التسوُّق ليوم الغد. بحثتُ عن تفسيرٍ من تِلقاء نفسي. ألها توأم، ربما؟ لكن لا؛ بيتي كين طفلة وحيدة. بنات عم. صدفة. شبيهةٌ لها. فكَّرت في كل الاحتمالات. وفي الليل ترضيني تلك الاحتمالات، فأتقلَّب على جانبي ثم أخلد إلى النوم. لكن في الصباح أنظر إلى الصورة، ويصبح كل شيءٍ مُشتَّتًا مرةً أخرى. فكَّرت؛ لا لَبْس في أن تلك هي السيدة تشادويك. أتفهم مأزقي؟»
«تمامًا.»
«ثم عندما جئتُ إلى إنجلترا في مهمةِ عمل، وضعت الصحيفة التي تحمل اسمًا عربيًّا …»
«عربيًّا؟ آه، أجل، فهمت. لم أقصد مقاطعتك.»
«وضعتها في حقيبتي، ثم بعد العشاء أخرجتُها وعرَضتها على صديق لي أُقيم عنده. أُقيم مع زميلٍ لي في منطقة بايزووتر، لندن. أبدى صديقي حماسًا في الحال ثم قال: لكن القضية صارت الآن من اختصاص الشرطة، وتلكما السيدتان تؤكِّدان أنهما لم يسبق لهما رؤيةُ الفتاة من قبل. فقد أُلقي القبض عليهما بسببٍ ما من المفترض أنهما ارتكَبَتاه في حقِّ هذه الفتاة وستُحاكمان على ذلك. ثم نادى على زوجته: «ريتا! ريتا! أين صحيفة الثلاثاء الماضي؟» إنها أحد شئون الأسرة، الخاصة بصديقي، حيث لا بد من الاحتفاظ بصحيفة الثلاثاء من الأسبوع الماضي. ثم جاءت زوجته بالصحيفة وعرض عليَّ تقرير المحاكمة … لا، اﻟ… اﻟ…»
«المثول أمام المحكمة.»
«أجل. مُثول السيدتَين في المحكمة. وقرأت كيف من المزمع أن تعقد محاكمةٌ في مكانٍ ما في البلد في غضون ما يَزيد قليلًا على أسبوعين. حسنًا لم يتبقَّ عليها، بحلول الآن، سوى أيام معدودات. لهذا فقد قال صديقي: إلى أي مدًى أنت متأكد، يا أينار، أن تلك الفتاة والسيدة تشادويك التي كانت لديك هما شخصٌ واحد؟ فقلت: أنا واثقٌ تمامًا من ذلك. فقال لي: في الصحيفة هنا اسم محامي السيدتَين. لم يَرِد ذكرٌ لعنوانه، لكن قرية ميلفورد هذه مكانٌ صغير للغاية ومن السهل العثورُ عليه. سنشرب قهوة غدًا في الصباح الباكر — كان ذلك هو الفطور — ثم ستتَّجه إلى ميلفورد وتخبر هذا المدعو السيد بلير بما تعتقد حول الأمر. وها أنا ذا هنا يا سيد بلير. فهل أنت مهتمٌّ بما أقوله؟»
أسند روبرت ظهرَه إلى المقعد، وأخرج منديله، ومسح جبينه. «هل تؤمن بالمعجزات يا سيد لانج؟»
«بكل تأكيد. أنا مسيحي. وفي الواقع، رغم أني لستُ كبيرًا في السن بالدرجة، لكني شهدتُ معجزتَين.»
«حسنًا، لقد صارت لك يدٌ في معجزةٍ ثالثة.»
ابتسم السيد لانج ابتسامةً عريضة وقال: «حقًّا؟» وأضاف: «هذا يجعلني في غاية السعادة.»
«لقد أنقذتَنا من الغرق.»
«غرق؟»
«هذا تعبير اصطلاحي إنجليزي. أنت لم تنقذنا من الغرق فحسب. أنت عمليًّا أنقذتَ حياتنا.»
«هل تظن، إذن، كما أظن أنهما شخص واحد، تلك الفتاة والنزيلة التي أقامت لديَّ في فندق ريد شوز؟»
«ليس لديَّ شك ولو للحظةٍ في ذلك. أخبرني، هل لدَيك تواريخُ إقامتِها لدَيك؟»
«آه، أجل، بكل تأكيد. ها هي. وصلت هي وزوجها جوًّا يوم الجمعة ٢٩ مارس، وغادرا — جوًّا مرةً أخرى، أظن ذلك، رغم أني لستُ واثقًا تمام الثقة — يوم ١٥ أبريل، يوم إثنين.»
«أشكرك. وبالنسبة إلى «زوجها»، كيف كانت هيئته؟»
«شاب. ذو بشرة سمراء. ومظهر جيد. ونوعًا ما — الآن، ما الكلمة المناسبة؟ لامعٌ للغاية. مزخرف؟ لا.»
«مبهرج؟»
«بالضبط. هكذا هي. مبهرج. مبهرج قليلًا، كما أظن. لاحظت أنه لم يلقَ استحسانًا كبيرًا من الرجال الإنجليز الآخرين الذين جاءوا وانصرفوا.»
«أكان تحديدًا في إجازة؟»
«لا، أوه، لا. كان في مهمة عمل في كوبنهاجن.»
«ما نوع العمل؟»
«هذا ما لا أعرفه، أعتذِر عن ذلك.»
«هل بوُسعك أن تُخمِّن؟ ما أكثرُ الاهتمامات المحتملة التي قد تُثيره في كوبنهاجن؟»
«هذا يعتمد يا سيد بلير، ما إذا كان مُهتمًّا بالشراء أو البيع.»
«ما كان عنوانه في إنجلترا؟»
«لندن.»
«واضح على نحوٍ جيد. هل لك أن تعذرني دقيقةً حتى أُجْري مكالمة هاتفية؟ هل تُدخن؟» ففتح له علبة سجائر ودفعها نحو السيد لانج.
«ميلفورد ١٩٥. ستمنحني شرفَ تناول الغداء معي يا سيد لانج، أليس كذلك؟ عمة لين؟ عليَّ الذَّهاب إلى لندن فورًا بعد الغداء … أجل، الليلة. هل لك أن تكوني ملاكًا وتحزمي حقيبةً صغيرة من أجلي؟ … شكرًا لك، حبيبتي. هل يُناسبكِ إذا عدتُ إلى المنزل ومعي شخص ليتناول ما توفر على الغداء اليوم؟ أوه، جيد … أجل، سأسأله.» ثم كتم سماعة الهاتف، وقال: «عمتي، التي هي في الواقع ابنة عمي، تريد أن تعرف إذا كنتَ تأكل فطائر؟»
قال السيد لانج بابتسامة عريضة وحركة واسعة تشير إلى امتلاء جسده: «سيد بلير!» وتابع: «أهذا سؤالٌ يليق برجل دنماركي؟»
قال روبرت في الهاتف: «إنه يُحبها.» وأضاف: «أقولُ لك يا عمة لين. هل ستفعلين أيَّ شيء مُهم عصر اليوم؟ … لأني أظن أن ما عليك فعلُه هو الذَّهاب إلى كنيسة سان ماثيو من أجل تقديم الشكر والعرفان … إن ملاك السماء الذي أخبرتِني عنه قد وصل.»
حتى السيد لانج كان بوُسعه أن يسمع ابتهاج العمة لين: «روبرت! لا، غير معقول!»
«بشحمه ولحمه — لا، ليس أشعث نوعًا ما — طويل القامة للغاية ووسيم ومثالي تمامًا من أجل الدور … ستُقدِّمين له غداءً شهيًّا، أليس كذلك؟ … أجل، هو ذاك الذي سيأتي على الغداء. ملاك السماء.»
أغلق الهاتف ورفع بصرَه إلى السيد لانج المبتهج.
«والآن يا سيد لانج، لنذهب إلى فندق روز آند كراون ونشرب بعض البيرة الفاخرة.»