الفصل الحادي والعشرون
عندما توجَّه روبرت إلى منزل فرنتشايز، بعد مرور ثلاثة أيام، حتى يُقِلَّ سيدتَي شارب إلى نورتون لحضور محاكمة محكمة المقاطعة الرئيسية في اليوم التالي، وجد أجواء عرسٍ تحيط بالمكان. حوضان مُذهلان من زهور المنثور الصفراء قائمان على الدرجة العلوية من السلم؛ والردهة المظلمة تتلألأ بالزهور مثل كنيسة مُزيَّنة لاستقبال حفل زفاف.
قالت ماريون، ملوحةً بيدَيها كتفسيرٍ للبهجة المنتشرة: «إنه نيفيل!» وتابعت: «قال لا بد أن يكون المنزل اليومَ في عيد.»
قال روبرت: «يا ليتني كنتُ قد فكرتُ في ذلك.»
«بعد الأيام القليلة الأخيرة، سيُفاجئني لو استطعتُ التفكير بأي حالٍ من الأحوال. لولاك، ما كنا لنشهد هذه البهجة التي نحن فيها اليوم!»
«تقصدين لولا رجلٌ يُدعى بيل.»
«بيل؟»
«ألكسندر بيل. مخترع الهاتف. لولا هذا الاختراع لكنَّا لا نزال نتحسَّس في الظلام. سيستغرق الأمرُ منِّي شهورًا قبل أن أتمكَّن من النظر إلى هاتفٍ دون أن أنتفض.»
«هل أخذتَ الأمر كلَّه على عاتقك؟»
«أوه، لا. كان لكلٍّ منَّا هاتفُه. كيفين وموظفه في غرفة الاجتماعات الخاصة به، وأنا في شقته الصغيرة في المنطقة المحيطة بكاتدرائية سان بول، وأليك رامسدن وثلاثة من رجاله في مكتبه وأينما تمكَّنوا من العثور على هاتفٍ يمكنهم استخدامه دون مقاطعة.»
«هكذا كنتم ستة.»
«كنَّا سبعةً مع ستة هواتف. وكنا في حاجة إليها!»
«مسكين يا روبرت!»
«كان الأمر مُسلِّيًا في البداية. كانت نشوةُ البحث تغمرنا، عند معرفة أننا كنَّا على المسار الصحيح. فالنجاح عمليًّا كان حليفَنا. لكن بمرور الوقت كنَّا قد تأكَّدنا أنه ليس هناك أحدٌ من عائلة تشادويك في سجلِّ هواتف لندن تربطه أيُّ صلةٍ بتشادويك الذي سافر إلى كوبنهاجن يوم ٢٩ مارس، وأن كل ما يعرفه خطُّ الطيران عنه كان هذين المقعدَين اللذين قد حُجِزا من لاربورو في يوم ٢٧، وكنَّا قد فقدنا أيَّ إحساسٍ بالمرح الذي بدأنا به. فأسعدتنا المعلوماتُ التي حصلنا عليها من لاربورو، بكل تأكيد. لكن بعد ذلك صار العمل مُضنيًا بشدَّة. فبحثنا عمَّا نبيعه إلى الدنمارك وما تشتريه هي منَّا، ثم قسَّمناها بيننا.»
«البضائع؟»
«لا، المشترون والبائعون. مكتب السياحة الدنماركي كان منحةً سماوية. فانهالوا علينا بالمعلومات. تولَّيتُ الصادرات أنا، وكيفين وموظفُه، وتولى رامسدن ورجالُه الواردات. ومنذ تلك اللحظة كانت مهمةً شاقة أن تتَّصل بالمديرين وتسألَهم: «أيعمل لديك رجلٌ يُدعى برنارد تشادويك؟» عدد الشركات التي لم يكن يعمل لدَيهم برنارد تشادويك كان لا يُصدَّق. لكن أعرف الآن الكثيرَ عن صادراتنا إلى الدنمارك أكثر من ذي قبل.»
«لا شكَّ لديَّ في ذلك!»
«ضِقتُ ذرعًا بالهاتف لدرجة أني تقريبًا لم أعد أُجيب عندما يرن لديَّ. كنتُ قد نسيت تقريبًا أن الهواتف هي اتصالٌ بين طرفَين. فالهاتف لم يكن سوى نوعٍ من أدوات الاستجواب التي كان بإمكاني أن أبقى بها على اتصالٍ مع المكاتب في جميع أرجاء البلد. حدَّقْتُ إليه وقتًا طويلًا قبل أن أُدرك أن المسألة في نهاية المطاف هي أمرٌ مُتبادَل وأن شخصًا ما كان يحاول الاتصالَ بي لتبادل المعلومات.»
«وكان المتصلُ هو رامسدن.»
«أجل، كان أليك رامسدن. فقال: «لقد وصلنا إليه. فهو يشتري البورسلين وأشياءَ من هذا القبيل لصالح شركة براين، وهارفرد وشركائهما».»
«يُسعدني أن رامسدن هو مَن اكتشفه. سيُهوِّن عليه ذلك فشلَه في تعقُّب أثر الفتاة.»
«أجل، صار شعورُه الآن أفضلَ حيال الأمر. بعد ذلك أسرعنا إلى مقابلة الأشخاص الذين احتَجْنا إلى مقابلتهم والحصول على مذكرات الاستدعاء إلى المحكمة وخلاف ذلك. لكن النتيجة المرجوَّة بأكملها ستظلُّ في انتظارنا في محكمة نورتون غدًا. كيفين لا يُطيق صبرًا على الانتظار. فلُعابه يسيل على المشهد المرتقب.»
قالت السيدة شارب، عند دخولها وهي تحمل حقيبة سفر صغيرة وتُلقيها على منضدة من الخشب الماهوجني المثبتة في حائطٍ بطريقةٍ كانت ستُصيب العمة لين بالإغماء: «لو كان بمقدرتي أن أشعر بالأسف على تلك الفتاة، لكان وهي في منصة الشهود في مواجهة كيفين ماكديرموت العنيف.» لاحظ روبرت أن تلك الحقيبة، التي كانت في الأساس حقيبةً غالية وفي غاية الأناقة — ربما أنها أثرٌ متبقٍّ من المرحلة الأولى من حياتها الزوجية الموسرة — صارت الآن مُهترئةً على نحوٍ يُرثى له. فقرَّر أنه عندما يتزوَّج ماريون ستُصبح هديته إلى أم العروس هي حقيبة لأدوات الزينة؛ صغيرة، وخفيفة، وأنيقة، وغالية.
قالت ماريون: «لن يُصبح بمقدرتي أبدًا أن ينتابني شعورٌ عابر بالأسف على تلك الفتاة. كنت سأمحوها من على وجه الأرض كما أسحق عُثَّةً في إحدى الخِزانات — باستثناء أني أشعر بالأسف دائمًا تجاه العُثة.»
سألت السيدة شارب: «ماذا كانت الفتاة قد نوَت أن تفعل؟» وتابعَت: «أكانت قد نوَت العودة إلى أهلها بأي حالٍ من الأحوال؟»
قال روبرت: «لا أعتقد ذلك.» وأضافت: «أظن أنها ما زالت غاضبة ومستاءة لأنها لم تَعُد محورَ اهتمام المنزل الكائن في ٣٩ ميدوسايد لين. المسألة هي كما قال كيفين منذ مدةٍ طويلة مضَت: بداية الجريمة هي الأنانية المفرطة، والغرور القاتل. ربما أن فتاة عادية، مراهِقة حسَّاسة كذلك، كَسَر خاطرَها أن أخاها بالتبنِّي لم يعُد يراها أهمَّ شيءٍ في حياته؛ كان من الممكن أن تُحلَّ المشكلة بالبكاء، أو التزام الصمت، أو أن تُصبح صعبة المِراس، أو تُقرر أنها ستزهد في العالم وتلجأ إلى ديرٍ، أو عدة طرق أخرى يلجأ إليها المراهقون في عملية التأقلُم على وضعٍ جديد. لكن مع أنانيةٍ كأنانية بيتي كين لا يُوجَد مجالٌ للتأقلُم. فهي تتوقَّع أن العالم عليه أن يُؤقلِم نفسه عليها. هكذا يفعل الجُناة دائمًا، بالمناسبة. ليس هناك مجرمٌ أبدًا لم يعتبر نفسه هو الضحية.»
قالت السيدة شارب: «إنسانةٌ غريبة.»
«أجل. حتى أسقف لاربورو سيجد صعوبةً في اختلاق عُذرٍ لها. فحُجَّته المعتادة المتمثلة في «البيئة المحيطة بالشخص» لن تُجدِيَ هذه المرة. لقد توفر لبيتي كين كلُّ شيءٍ يُوصى به لتقويم المجرم: الحب، الحرية لتنمية مَواهبها، التعليم، الأمان. عندما تُفكر في الأمر ستجده مُحيرًا تمامًا لنيافته؛ لأنه لا يؤمن بعامل التوارُث. فيعتقد أن المجرمين يُصنَعون، ومن ثَم يمكن تقويمُهم. لكن «توارث الخطيئة» هي مجرد خرافة قديمة، في تقدير الأسقف.»
قالت السيدة شارب ناخرةً: «توبي بيرن.» ثم أضافت قائلةً: «كان عليك أن تسمع ما يقوله فتيةُ إسطبل تشارلز عنه.»
قال روبرت: «سمعت من نيفيل». وتابع: «أشكُّ إن كان بوُسع أحد أن يُجوِّد على قصة نيفيل في هذا الموضوع.»
سألت ماريون: «هل فُسِخَت الخِطبة بشكلٍ نهائي، إذن؟»
«بكل تأكيد. تُعلق العمة لين آمالَها على الفتاة الكبرى للكولونيل وايتيكر. فهي إحدى بنات أخت الليدي ماونتليفين، وإحدى حفيدات كريسبس من عائلة كار.»
ضحكت ماريون معه. ثم سألت: «أهي لطيفة، ابنة وايتيكر؟»
«أجل. شقراء، جميلة، مُهذبة، لها اهتمامٌ موسيقيٌّ لكنها لا تُغني.»
«أودُّ أن يتزوج نيفيل بزوجةٍ لطيفة. فكل ما يحتاج إليه هو بعض الاهتمام الدائم بشخصه. التركيز على طاقته ومشاعره.»
«التركيز في الوقت الحاليِّ لكِلَينا مُنصبٌّ على منزل فرنتشايز.»
«أعرف ذلك. كان شخصًا عزيزًا علينا. حسنًا، أظن أنه حان الوقت الذي سنُغادر فيه. لو أخبرني أحدٌ الأسبوعَ الماضيَ أننا سنغادر منزل فرنتشايز لنشهد انتصارًا في نورتون لَمَا صدَّقتُ هذا. بإمكان ستانلي المسكين أن ينام في فراشه من الآن فصاعدًا، بدلًا من حراسة شيطانتَين في منزلٍ ناءٍ.»
سأل روبرت: «ألن ينام الليلة هنا؟»
«كلَّا. لِمَ من المفترض أن يفعل ذلك؟»
«لا أعرف. لا تروقني فكرةُ أن يُترك المنزل خاويًا تمامًا.»
«سيُصبح رجل الشرطة قريبًا كالعادة في دوريته. على أي حال، لم يحاول أحدٌ فعل أي شيءٍ منذ الليلة التي هشَّموا فيها نوافذنا. ليست سوى ليلة. وسنعود إلى المنزل غدًا.»
«أعرف ذلك. لكن الأمر لا يروقني كثيرًا. أليس بإمكان ستانلي أن يبقى ليلةً واحدة أخرى؟ حتى انتهاء القضية.»
قالت السيدة شارب: «إن أرادوا تحطيم نوافذنا مرةً أخرى، فلا أظن أن وجود ستانلي هنا سيمنعهم.»
قال روبرت: «لا، لا أفترض ذلك. سأُذكِّر هالم، على أي حال أن لا أحد بالمنزل الليلة.» ثم اكتفى بذلك.
أوصدت ماريون الباب وراءهم، ثم ساروا نحو البوابة، حيث كانت سيارة روبرت تنتظر عندها. توقَّفت ماريون عند البوابة ثم نظرَت إلى المنزل خلفها. وقالت: «مكانٌ قبيح، لكن فيه ميزة واحدة. أنه ظل على الهيئة نفسِها طوال العام. في منتصَف الصيف يُصبح العُشب أكثر دكانة قليلًا ومُجهَدًا، لكن خلاف ذلك فلا يتغيَّر. لأغلب المنازل وقتٌ «تتألَّق فيه»؛ بنباتاتٍ وردية، أو بحدودٍ من الأعشاب، أو بنباتات فيرجينيا المتسلِّقة، أو بأزهار اللوز، أو بشيءٍ ما. لكن منزل فرنتشايز يظلُّ دائمًا كما هو. ليس به رفاهياتٌ زائدة. علامَ تضحكين يا أمي؟»
«كنتُ أفكر في منظر هذا المنزل البائس المُزيَّن بتلك الأحواض من زهر المنثور.»
وقفوا هناك لحظةً، يضحكون على المنزل البغيض ذي اللون الأبيض المتَّسخ بزينته العبثية غير اللائقة؛ فضحكوا، ثم أغلقوا البوابة عليه.
لكن روبرت لم يَغفل عن الأمر، وقبل أن يتناول عشاءه مع كيفين في فندق ذا فيذرز في نورتون، اتصل بقسم الشرطة في ميلفورد وذكَّرهم بأن منزل السيدتَين شارب سيُصبح شاغرًا في تلك الليلة.
قال الضابط: «حسنًا يا سيد بلير، سأخبر ضابط الدورية بفتح البوابة وتفقُّد المكان حولها. أجل، المفتاح لا يزال معنا. سيُصبح الأمر على ما يرام.»
لم يتبيَّن روبرت إلى حدٍّ بعيد الشيءَ الذي سيضمنه هذا الإجراء؛ لكنه آنذاك لم يُدرك ما الحماية التي من الممكن تقديمُها على أي حالٍ. فالسيدة شارب قالت إنه، إذا اعتزم شخصٌ أن يكسر النوافذ فسوف تُكسر لا محالة. فصارحَ نفسه بأنه يُفرط في الحِرص، وانضمَّ ببالٍ مرتاح إلى كيفين وأصدقائه من رجال القانون.
ومن ثَمَّ دار الحديث بينهم في الأمور القانونية على نحوٍ جيد، وذهب روبرت إلى الفِراش في وقتٍ متأخر في إحدى الغُرَف المكسوَّة بألواحٍ داكنة التي جعلَت من ذا فيذرز فندقًا مشهورًا. إن فندق ذا فيذرز — الذي كان إحدى الوجهات «الضرورية» للزائرين الأمريكيين في بريطانيا — لم يكن مشهورًا فحسب، بل مُواكبًا للعصر أيضًا. كانت الأنابيب ممدَّدةً من خلال أخشاب بلوط مُزخرَفة، والأسلاك من خلال أسقفٍ ذات عوارض خشبية، وخط الهاتف من خلال ألواح الأرضيات من خشب البلوط. كان فندق ذا فيذرز ولا يزال يمنح راحةً لعامة المسافرين منذ عام ١٤٨٠، ولم يرَ سببًا يُبرر أنه من المفترض أن يتوقَّف عن ذلك.
استغرق روبرت في النوم بمجرد أن لمس رأسُه الوسادة وبعد ذلك ظلَّ الهاتف يرن دقائقَ بجواره قبل أن يُصبح مُدركًا لرنينه.
قال، شبهَ نائمٍ: «خيرًا؟» ثم صار منتبهًا تمامًا في الحال.
كان المتصل هو ستانلي. هل بإمكانه العودةُ إلى ميلفورد؟ نشب حريقٌ في منزل فرنتشايز.
«هل الحريق بدرجةٍ سيئة؟»
«سيطر على المنزل، لكنهم يعتقدون أنَّ بإمكانهم إنقاذَه.»
«سأكون هناك في أسرع وقتٍ يمكنني أن أقطع فيه الطريق.»
ومن ثَم قطع العشرين ميلًا من باب الفندق حتى باب المنزل بأقصى سرعةٍ ممكنة، لدرجة أنه هو شخصيًّا، روبرت بلير، منذ شهر مضى كان سيعتبر الأمرَ مُستهجَنًا أن يُحققه شخصٌ آخر، ومستحيلًا تمامًا أن يُحققه هو. وبينما يندفع مسرعًا متجاوزًا منزله في الطرَف الأدنى من هاي ستريت بميلفورد ومُنطلقًا باتجاه المنطقة الريفية، رأى وهجَ النيران يلوح في الأفق، مثل طلوع القمر في تمامه. لكن القمر البازغ في السماء، قمر فِضي صغير في ليلة صيفٍ شاحبة. أما وهج احتراق منزل فرنتشايز فكان يرتعش في هبَّاتٍ مفزعة أقبضَت قلبَ روبرت بفزع لا يُنسى.
على الأقل لم يكن أحدٌ داخل المنزل. تساءل إذا كان أحدٌ قد وصل إلى هناك في الوقت المناسب لإنقاذ الأشياء الثمينة من المنزل. أهناك أحدٌ بإمكانه التمييزُ بين ما هو ثمينٌ وما هو بلا قيمة؟
كانت البوابة مفتوحة على مصراعيها والفناء — المضيء في النيران — مزدحمًا بالرجال وعربات الإطفاء. أول شيء رآه، غيرَ متناسِب مع منظر العشب، كان الكرسيَّ المشغول بالخرز من قاعة الاستقبال، فأُثيرت داخلَه موجةٌ هيستيرية. شخصٌ ما قد أنقذ ذلك، على أي حال.
جذب كمَّه ستانلي الذي يصعب التعرفُ على ملامحه ثم قال: «ها أنت هنا. ظننتُ أن من الواجب أن تعرف بطريقةٍ أو بأخرى.» كان العرَق يتصبَّب على وجهه المُسوَدِّ، مُخلفًا وراءه مجرًى ضيقًا واضحًا، وبذلك بدا وجهه الشابُّ مجعدًا وكبيرًا في السن. وأضاف: «لا يُوجَد ماءٌ كافٍ. لقد أخرجنا أشياءَ كثيرة إلى حدٍّ كبير. جميع الأشياء في قاعة الاستقبال التي اعتادَتا على استخدامها يوميًّا. ظننتُ أن تلك الأشياء هي ما ستستخدمانها، إذا كانا في موضعِ اختيار. وألقَينا في الخارج بعضَ الأشياء التي كانت في الطابق العُلوي لكن الأشياء الثقيلة احترقت.»
كُوِّمت المراتب وملاءات السرير بعضها فوق بعض على العُشب، بعيدًا عن موطئ أحذيةِ رجال الإطفاء. واستقرَّ الأثاثُ قريبًا من العشب حسبما وُضع، والدهشة والارتباك باديانِ عليه.
قال ستانلي: «هيَّا لنُبعِد الأثاثَ أكثر من ذلك.» وتابع: «فمكانه هنا غيرُ آمن. فإما ستسقط عليه بعض الأجزاء المشتعلة، أو سيستخدِمه أحدُ أولئك الأوغاد ليقِف عليه.» كانوا أولئك الأوغادُ هم رجال الإطفاء، الذين يعملون بجِدٍّ ويبذلون أفضلَ ما لدَيهم.
بهذا وجد روبرت نفسَه ينقل الأثاثَ على نحوٍ رتيب في هذا المشهد العجيب، ويتعرف في حزنٍ على قِطَع أثاثٍ كان قد عرَفها في مكانها المعتاد. الكرسي الذي ظنَّت السيدة شارب أن المحقق جرانت ثقيلٌ للغاية على أن يجلس عليه؛ المائدة من خشب أشجار الكرز التي قدَّموا عليها الغداء لكيفين، المنضدة المثبَّتة في الحائط التي ألقت عليها السيدة شارب حقيبتَها فقط منذ ساعاتٍ قليلة مضت. إنَّ أجيج النيران ودويَّها، وصياح رجال الإطفاء، والمزيج الغريب من ضوء القمر، والمصابيح الأمامية، وألسِنة اللهَب المترنحة، والتلاصُق الجنوني لقطع الأثاث وتنافُرها؛ كل ذلك ذكَّره بإحساس الإفاقة من التخدير.
حينذاك حدَث أمران في وقتٍ واحد. انهار الطابق الأول محدثًا صوتَ ضجيج مُرتفعًا. وبينما أنارت دفعةُ النيران الجديدة الوجوهَ من حوله رأى شابَّين في آنٍ واحد كان وجهاهما مُفعَمين بالتشفِّي. وفي اللحظة نفسِها أدرك أن ستانلي قد رآهما أيضًا. فرأى قبضةَ يد ستانلي تَلكُم الشابَّ البعيد من أسفل ذقنه بصوتِ طقطقة كان ممكنًا سَماعُه وسطَ أجيج النيران، فوقع صاحبُ الوجه المتشفِّي واختفت ملامحه في عتمة العشب المنسحِق.
لم يكن روبرت قد سدَّد لأحدٍ أيَّ لكمة منذ أن توقفَ عن الملاكمة لمَّا غادر المدرسة، ولم يكن يحمل في داخله أيَّ نيةٍ لتسديد لكمةٍ لأحد الآن. لكن اتضح أن ذراعه اليسرى كانت تفعل كل ما انبغى فِعلُه من تلقاء نفسها. ومن ثَم وقع صاحب الوجه الخبيث الثاني فاقدًا الوعي.
علَّق ستانلي، وهو ينفخ في مفاصل أصابع يده المتعبة: «عظيم.» ثم قال: «انظر!»
انهار السطح مثل وجهِ طفلٍ عندما يبدأ في البكاء؛ مثل شريطِ صورٍ منصهِر. النافذة الدائرية، التي اشتهرَت للغاية وتلطَّخَت سُمعتها كثيرًا، مالت إلى الأمام قليلًا وانهارت ببطءٍ إلى الداخل. هبَّ لسانُ لهبٍ لأعلى ثم سقط مرةً أخرى. ثم انهار السطح بأكمله ليسقطَ في الحشد المضطربِ في الأسفل، على ارتفاع طابقَين لينضمَّ إلى الحطام المحترق لبقية الأجزاء الداخلية من المنزل. تراجع الرجالُ بعيدًا عن الحرارة المُحرقة. وتأجَّجَت النيرانُ في انتصارٍ لا حدَّ له في ليلة صيف.
عندما خمدَت النيران أخيرًا لاحظ روبرت بدهشةٍ غامضة أن الفجر قد بزغ. فجرٌ هادئ، غائم، مُفعم بالأمل. وكان الهدوء قد عمَّ المكان أيضًا، وتضاءل أجيجُ النيران والصياح حتى صار صوتُ هسيس ماءٍ خافت ينساب على هيكل المنزل المتفحِّم. لم يعد قائمًا وسطَ العشب المنسحق سوى أربعة جدران، متَّسخة ومعالمها غيرُ واضحة. أربعة جدران ومجموعةُ درجات السُّلَّم بدربزينها الحديدي المنبعِج. على الجانب الآخر من المدخل ظلَّ ما تبقى من أحواض الورد القليلة المبهجة التي أحضرها نيفيل، زهور مُبلَّلة ومُتفحمة معلَّقة على هيئة قطع ممزَّقة يصعب التعرف عليها فوق حوافها. وبينها فتحةٌ مربعة مفتوحة على فراغٍ أسود.
قال ستانلي، واقفًا إلى جانبه: «حسنًا، ذلك ما آل إليه الحال.»
سأل بيل، الذي وصل متأخرًا للغاية بحيث لم يرَ أيَّ شيءٍ غير الحطام المتبقِّي: «كيف بدأ الحريق؟»
قال روبرت: «لا أحد يعرف. كانت النيران مشتعلةً بدرجةٍ كبيرة عندما وصل رجل الشرطة نيوسام في موعد دوريته. ما مصيرُ هذين الشابَّين، بالمناسبة؟»
قال ستانلي: «هل تقصد الاثنين اللذَين لكَمْناهما؟» وأضاف: «لقد رجعا إلى منزليهما.»
«من المؤسف أن تعبير وجوههما لا يُعَد دليلًا.»
قال ستانلي: «أجل.» وتابع: «لن يُمسكوا بأحدٍ لارتكابه هذه الفعلةَ تمامًا، مثلما لم يُمسكوا بأحد من أجل تحطيم النوافذ. ولا أزال أُدين أحدَهم بالتسبُّب في كسرٍ برأسي.»
«كدتَ أن تكسرَ رقبة ذلك الشخصِ الليلة. يجب أن يُصبح ذلك تعويضًا لك بشكلٍ ما.»
قال ستانلي: «كيف ستخبرهما؟» كان من الواضح أنه يشير إلى السيدتَين شارب.
أجاب روبرت: «الله أعلم.» وأضاف: «هل لي أن أخبرهما أولًا وأكدِّر عليهما انتصارهما في المحكمة؛ أم أتركهما حتى تفرحا بالانتصار ثم تُواجِها هذه المصيبة البشعة فيما بعد؟»
قال ستانلي: «دعهما تفرَحا بالانتصار.» وتابع: «فليس لأيِّ شيءٍ يحدث فيما بعد أن يسلبها منهما. فلا تُكدر فرحتهما.»
«ربما أنت مُحق، يا ستان. ليتني كنتُ أعرف. من الأفضل أن أحجز لهما غرفتين في فندق روز آند كراون.»
قال ستانلي: «لن يعجبهما ذلك.»
قال روبرت، بشيء من الاستياء: «ربما بالفعل.» ثم أضاف قائلًا: «ليس أمامهما خيارٌ آخر. أيًّا كان ما ستُقرران فعله فستحتاجان إلى الإقامة هنا ليلةً أو ليلتَين لترتيب حالهما، هذا ما أتوقَّعه. وفندق روز آند كراون هو أفضل الأماكن المتوفرة.»
قال ستانلي: «حسنًا، كنت أفكر. وأثق أن صاحبة المنزل الذي أقيم فيه سيُسعدها استقبالهما. كانت تقف دائمًا في صفِّهما، ولدَيها غرفةٌ شاغرة، وبإمكانهما الإقامة في غرفة الجلوس في الواجهة التي لا تستخدمها أبدًا، وهي هادئةٌ للغاية، عند ذلك الصفِّ الأخير من مساكن البلدية على المُروج المنخفضة وراء القرية. أثق أنهما ستُؤْثِران ذلك على الإقامة في فندق قد تُصبحان فيه مثارًا للتحديق.»
«ستؤثِران ذلك حقًّا يا ستان. لم يكن ذلك ليخطر في بالي أبدًا. أتظن أن صاحبة المنزل ستُبدي استعدادها لذلك؟»
«أنا لا أظن؛ إنما أنا واثق. فهما أكبرُ موضع لاهتمامها في الحياة حاليًّا. ربما كانت إقامتهما ستصير بمنزلة إقامة العائلة المالكة.»
«حسنًا، تأكَّدْ من الأمر على وجه التحديد، إذا تفضلت، وأرسل لي برقيةً موجهة إلى نورتون. إلى فندق ذا فيذرز في نورتون.»