الفصل الخامس
مضى بعدها ما يَزيد على أسبوعٍ عندما دسَّ السيد هيزيلتاين رأسَه النحيل الصغير الشائب من باب روبرت ليُخبره بأن المُحقِّق هالم حضر في المكتب ويود مقابلته لحظةً.
إن الغرفة في الجهة المقابلة من الردهة التي يُمارس فيها السيد هيزيلتاين سُلطتَه على الكاتبين كان يُشار إليها دائمًا باسم «المكتب»، رغم أن غرفة روبرت والغرفة الصغيرة خلفَها التي يَشغلها نيفيل بينيت، على الرغم من سجادها وخشبها الماهوجني كانتا مَكْتبَين أيضًا بصورةٍ واضحة. خلف «المكتب» تُوجَد غرفة انتظار رسمية، وهي غرفة صغيرة مضاهيةٌ لغرفة بينيت الشاب، لكنها لم تكن معروفةً قطُّ لدى موكلي بلير وهيوارد وبينيت. يدخل الزائرون إلى المكتب ليُعلنوا عن مجيئهم، ويظلُّون غالبًا هناك يُثرثرون حتى يَفرُغ روبرت لمقابلتهم. كانت «غرفة الانتظار» الصغيرة قد هيَّأتْها الآنسة تاف منذ مدةٍ طويلة لكتابة خطابات روبرت فيها، بعيدًا عن تشتيت الزائرين وشمشمةِ ساعي المكتب.
عندما كان السيد هيزيلتاين قد انصرف بعيدًا ليستقدِمَ المحقِّق، لاحظ روبرت بدهشةٍ أنه كان قلقًا كما لم يكن قلقًا من قبلُ منذ أن كان في أيام شبابه يقتربُ من قائمة نتائج الامتحانات المُثبَّتة على لوحةٍ. أكانت حياتُه هادئةً للغاية لدرجة أن معضلةً تخصُّ غريبًا قد تُكدِّرها إلى هذا الحد؟ أم كان الأمر أن عائلة شارب ظلَّت لا تغيب عن فكره خلال الأسبوع الماضي لدرجة أنها لم تَعُد من الغرباء؟
هيَّأ نفسه لأي شيءٍ سيُخبره به السيد هالم، لكن ما اتضحَ من عبارات هالم الحَذِرة أن شرطة سكوتلاند يارد قد أفهمته أنها لن تتخذَ أيَّ إجراءاتٍ بناءً على الأدلة الحالية. لاحظ بلير عبارةَ «أدلة حالية» وخمَّن المراد منها بدقةٍ. فهم لن يَعْدلوا عن النظر في القضية — وهل عدلت سكوتلاند يارد عن النظر في أيِّ قضية من قبل؟ — فهم يُراقبون الأمور في هدوءٍ وحسب.
فكرة أن سكوتلاند يارد خاصةً تُراقب الأمور في هدوءٍ لم تكن مُطمْئنَة في ظل تلك الملابسات.
قال: «أعتبر أن هذا يعني أنه ينقصهم دليلٌ مؤيِّد.»
قال هالم: «لم يتمكَّنوا من اقتفاء أثرِ سائق الشاحنة الذي أوصلها.»
«هذا لم يكن مفاجئًا لهم.»
وافقه هالم: «أجل»، ثم تابع قائلًا: «لن يُخاطر أيُّ سائق بالطرد من عملِه بالاعتراف أنه أوصل شخصًا ما. لا سيما إن كانت فتاة. إن مديري شركات النقل صارمون للغاية بخصوص هذا الأمر. وعندما يتَّصل الأمر بقضية فتاةٍ تعرَّضَت لمأزقٍ بشكلٍ أو بآخَر، وعندما تُصبح الشرطة هي المسئولة عن الاستجواب، لن يُقرَّ رجلٌ في قُواه العقلية بأنه قد رآها من قبل.» ثم أخذ السيجارة التي قدَّمها روبرت إليه. وقال: «كانوا في حاجةٍ إلى ذلك السائق.» ثم أضاف قائلًا: «أو شخصًا مثله.»
قال روبرت، متأمِّلًا: «أجل.» ثم أضاف قائلًا: «ما انطباعُك عنها، يا هالم؟»
«الفتاة؟ لا أعرف. طفلةٌ لطيفة. بدَت صادقة تمامًا. كما لو أنها واحدةٌ من بناتي.»
كانت هذه، كما أدرك بلير، عيِّنة مُعبِّرة مما سيواجهونه إذا وصل الأمر إلى قضيةٍ منظورة أمام المحكمة. في نظر كل رجلٍ ذي مشاعرَ طيبة، قد تبدو الفتاة في منصَّة الشهود مثلَ ابنته. ليس لأنها كانت شريدة، لكن من أجل السبب الوجيهِ الذي يُثبت أنها ليست كذلك. معطف المدرسة الوَقور، الشعر البُني الفاتح، الوجه الصغير الخالي من أي زينةٍ وطابَع الحُسن الجذَّاب أسفل عظمة الوجنتَين، والعينان المتباعدتان البارزتان — كان ذلك هو ما يتمنَّاه أيُّ وكيل نيابة في الضحية.
قال هالم، وهو لا يزال يُفكر في الأمر: «مثلها مثل أي فتاةٍ في عمرها.» ثم تابع قائلًا: «لا شيء يؤخَذ ضدَّها.»
قال روبرت بذهنٍ شارد، وعقله لا يزال يُفكر في الفتاة: «إذن، أنت لا تحكم على الأشخاص من لَون أعيُنهم.»
علَّق هالم باندهاش: «ماذا! كيف لي ألَّا أفعل ذلك؟!» ثم أردف قائلًا: «صدِّقني، درجة بعينِها من درجات الأزرق الفاتح تُدين رجلًا، بالنسبة إليَّ، قبل أن يفتح فَمه. جميعهم كذابون لهم مظهرٌ خداع.» توقَّفَ ليأخذ نفسًا من سيجارته. «وميَّالون إلى القتل، أيضًا، خطر ذلك في بالي، رغم أني لم ألتقِ بكثيرٍ من القتَلة.»
قال روبرت: «لقد نبهتني.» ثم أردف قائلًا: «في المستقبل سأنأى بنفسي عن أصحاب العيون ذات اللون الأزرق الفاتح.»
ابتسم هالم ابتسامةً عريضة. «ما دامت محفظتك معك، فلا داعي للقلق. جميع أكاذيب أصحاب العيون الزرقاء الفاتحة من أجل المال. ولا يلجَئون إلى القتل إلا عندما تتعقَّد الأمور بسبب أكاذيبهم. ليس لون العيون هو علامة القاتل الحقيقي، إنما وضعها.»
«وضعها؟»
«أجل. لها وضعٌ مختلف. أقصد العينَين. تبدوان وكأنهما تنتميان لوجهَين مختلفَين.»
«ظننتُك لم تكن قد قابلت كثيرًا من تلك العيون.»
«لا، لكني قرأتُ سجلات القضايا كافةً وتفحَّصت الصور. أدهشَني دومًا أنه لا يُوجَد سجلٌّ عن جرائم القتل يذكُر ذلك، فهذا كثيرًا ما يحدث. تبايُن وضع العينين، هذا ما أقصده.»
«بهذا فهي بالكامل نظريةٌ من وضعك.»
«نِتاج ملاحظتي الشخصية. هذا صحيح. عليك أن تُجرِّبها في وقتٍ ما. فهي مذهلة. لقد وصلت إلى مرحلةِ أني أُفتِّش في العيون الآن.»
«أتقصد في الشارع؟»
«لا، ليس تمامًا بهذا القدْر من السوء. لكن في كلِّ قضية قتلٍ جديدة. أنتظر الصورة، وعندما تصل أفكر: «ها هي! ألم أقُل لك؟!»»
«وعندما تصل الصورة والعينان مُتماثلتان بدقَّة؟»
«فذلك ربما تقريبًا ما يُطلِق المرءُ عليه دائمًا حادثَ قتلٍ عارض. هذا النوع من القتل الذي ربما يقوم به أحدٌ في ظل ظروفٍ معينة.»
«وعندما تفحص صورةَ القس المبجَّل نيذر دمبليتون الذي يُهدِيه الأبرشيُّون المُمتنُّون هدية احتفالًا بعامه الخمسين من الخدمة المُتفانية، وتلاحظ أن وضع عينَيه مُتباين بدرجةٍ كبيرة، ما الاستنتاج الذي ستخلص إليه؟»
«أن زوجتَه تُرضيه، وأطفاله يُطيعونه، وراتبه يكفيه لسدِّ احتياجاته، ولا شأن له بالسياسة، وتربِطُه علاقاتٌ طيبة مع أصحاب الشأن المَحليِّين، ومسموحٌ له بأن يحصل على نوع الخدمات التي يرغب فيها. في الواقع، لم يكن لدَيه قطُّ أدنى حاجةٍ إلى قتل أحدٍ.»
«يبدو لي أنك تجمع بين الشيء ونقيضه دون مشكلة.»
قال هالم بامتعاض: «ها!» وأضاف قائلًا، وهو يَهِمُّ بالانصراف: «لا أفعل سوى أني أُضيِّع ملاحظاتِ الشرطة الدقيقة على عقلٍ قانوني. ظننتُ أنك كمحامٍ ستُسَرُّ ببعض النصائح المجانية عن الحكم على أشخاص غرباءَ تمامًا.»
أشار روبرت قائلًا: «كلُّ ما تفعله هو تشويهُ عقلٍ بريء. لن أستطيع أبدًا أن أتفقَّد موكلًا جديدًا من الآن فصاعدًا، من دون أن يُسجِّل عقلي الباطنُ لونَ عينَيه وتطابق وضعهما.»
«حسنًا، وهو المطلوب. إنه الوقت المناسب كي تعرفَ بعض الحقائق عن الحياة.»
قال روبرت، مُستعيدًا رزانته: «أشكرك على مجيئك لتُخبرني عن قضية «فرنتشايز».»
قال هالم: «الهاتف في هذه المدينة لا يقلُّ سريَّةً عن المذياع.»
«على أي حال، شكرًا لك. لا بد أن أُخبر السيدتَين شارب في الحال.»
عندما غادر هالم المكان، رفع روبرت سماعة الهاتف.
لم يكن بوُسعه، مثلما قال هالم، التحدثُ بحريةٍ عبر الهاتف، لكنه كان سيقول إنه سيذهب لرؤيتهما في الحال وإنه يحمل أخبارًا سارة. ذلك سيُزيل عنهما الهم. وكذلك — بعد أن نظر في ساعته — كان هذا هو الوقت المُحدَّد لموعد الراحة اليومي للسيدة شارب، وبهذا ربما كان على أمل أن يتفادى مقابلة التِّنِّين العجوز. وعلى أملِ أيضًا أن يتحدَّث على انفرادٍ مع ماريون شارب، بكل تأكيد؛ لكنه أبقى تلك الفكرةَ غيرَ المُتبلورة في باله.
لكن لم يتلقَّ ردًّا على اتصاله.
بمساعدة عامل السنترال الضجر والمُتبرِّم اتصل بالرقم خمسَ دقائق كاملة، من دون نتيجة. فالسيدتان شارب لم تكونا موجودتَين بالمنزل.
بينما كان لا يزال منشغِلًا مع عامل السنترال، دخل مكتبه نيفيل بينيت مُرتديًا بدلته غير المعتادة التي من صوف التويد، وقميصًا ذا لونٍ وردي، ورِباطَ عنق بنَفسجي. تساءل روبرت للمرة المائة، رامقًا إيَّاه بنظرةٍ من فوق سماعة الهاتف، ماذا سيُصبح مصير مكتب بلير وهيوارد وبينيت إذا أفلتَ في النهاية من قبضة بلير المُحكَمة لينتقل إلى يدَي هذا الفتى الشابِّ من آل بينيت. هو يعلم أن ذلك الشابَّ له عقلٌ ذكي، لكنَّ ذكاءه لن يأخذه بعيدًا في ميلفورد. فالناس في ميلفورد تتوقَّع من الرجل أن يُقلع عن التحلِّي بشخصية الطالب الجامعيِّ عند بلوغه سنَّ التخرج. لكن لم يتَّضح أيُّ دليل على قَبول نيفيل للعالَم خارج نطاق دائرته. كان لا يزال يُدهِش ذلك العالَم بنشاطٍ، ولكن بلا وعيٍ منه. وملابسه خيرُ شاهد.
لم تكن المسألة هي رغبةَ روبرت في أن يرى الفتى مرتديًا بدلاتٍ نمطيةً بلونٍ أسود وقور. إذ إن بدلته هو شخصيًّا رماديةٌ من صوف التويد، وموكِّلوه القرويُّون كانوا سينظرون بريبةٍ إلى ملابس «المدينة». («ذلك الشاب الضئيل البغيض ذو البدلات المُقلَّمة»، هكذا قالت ماريون شارب في تلك اللحظة العفوية على الهاتف عن محامٍ يرتدي ثياب أهل المدينة.) لكن كان هناك نوعان مختلفان من البدل المصنوعة من التويد، ونيفيل بينيت كان ممَّن يُفضلون النوع الثاني. النوع الثاني على نحوٍ مُبالَغ فيه تمامًا.
قال نيفيل، عندما شعر روبرت باليأس ووضَع سماعة الهاتف: «روبرت، لقد انتهيتُ من أوراق نقل كالثورب، وفكَّرتُ في الانطلاق إلى لاربورو عصر اليوم، إن لم يكن لديك شيءٌ تُريد منِّي أن أفعله.»
سأل روبرت نيفيل الذي كان قد خطب، على الطريقة الحديثة غير الرسمية، الابنةَ الثالثة لأسقف لاربورو: «ألا يُمكنك أن تتحدَّث إليها على الهاتف؟»
«الأمر لا يخصُّ روزماري. فهي في لندن مدةَ أسبوع.»
قال روبرت، الذي كان يشعر بالاستياء لفشلِه في التحدُّث إلى السيدتَين شارب في الوقت الذي تلقَّى فيه أخبارًا سارةً لهما: «اجتماعٌ للاحتجاج في ألبرت هول، على ما أظن.»
قال نيفيل: «لا، في جيلدهول.»
«وما الموضوع هذه المرةَ؟ أهو عن تشريح الحيوانات الحية؟»
قال نيفيل، وقد بدا عليه أنه يتحلَّى بقدْرٍ كبير من الصبر الجاد: «فِكرُك قديمٌ في بعض الأحيان لدرجةٍ فظيعة.» ثم أردف قائلًا: «لا أحد يُعارِض تشريح الحيوانات الحية في تلك الأيام باستثناء بعض غريبي الأطوار. موضوع الاحتجاج هو الاعتراض على رفض الدولة لمنح اللجوء إلى الوطني كوتوفيتش.»
«أظن أن ذلك الوطنيَّ المزعوم «مطلوب» على وجه السرعة في بلده.»
«من أعدائه؛ صدقت.»
«من الشرطة؛ لارتكاب جريمتَي قتل.»
«لتنفيذ أحكام بالإعدام.»
«هل أنت من أتباع جون نوكس يا نيفيل؟»
«يا إلهي، لا. ما علاقة ذلك بالأمر؟»
«كان يؤمن بمُنفِّذي الإعدام الذين نصبوا أنفسهم لذلك. صارت الفكرة «مندثرة» قليلًا في هذا البلد، حسبما أفهم. على أي حال، إن كان الاختيار بين رأي روزماري عن كوتوفيتش ورأي الفرع الخاص لسكوتلاند يارد سآخُذ برأي الفرع الخاص.»
«الفرع الخاص لا يفعل سوى ما تُمليه عليه وزارة الخارجية. الجميع يعلم ذلك. لكن إن بقيت وأوضحت لك تداعيات قضية كوتوفيتش، فسأتأخَّر عن الفيلم.»
«أي فيلم؟»
«الفيلم الفرنسي الذي سأذهب لمشاهدته في لاربورو.»
«أظن أنك تعرف أن أغلب تلك التفاهات الفرنسية التي تلهث خلفها الطبقةُ المثقَّفة البريطانية هي أفلامٌ متوسطة المستوى في بلدها؟ دعنا من ذلك. هل تعتقد أن بإمكانك التوقف مدةً قصيرة لتضعَ رسالة في صندوق رسائل منزل فرنتشايز أثناء مرورك به؟»
«ربما. كنتُ أريد دائمًا أن أرى ما بداخل ذلك السور. مَن يعيش فيه الآن؟»
«سيدة عجوزٌ وابنتها.»
كرَّر نيفيل، وقد انتبهت أُذُناه تلقائيًّا: «ابنتها؟»
«ابنة في منتصف العمر.»
«آه. حسنًا، سأُحضِر معطفي فحسب.»
اقتصر ما كتبه روبرت على أنه قد حاول التحدث إليهما، وأن عليه أن يذهب في مهمةٍ لساعة أو أكثر، لكنه سيعاود الاتصال بهما عندما يتَّسع له الوقت، وأن سكوتلاند يارد لم تُحِلِ القضيةَ للمحكمة؛ إذ ليست هناك قضية، وقد أقرَّت بذلك.
دخل نيفيل سريعًا وهو يحمل معطفًا مريعًا ذا أكمام بخياطةٍ مائلة فوق ذراعه، وانتزع الخطاب ثم اختفى قائلًا: «أخبر العمة لين أني ربما أتأخَّر. فقد دعتْني على العشاء.»
ارتدى روبرت قُبعته الرمادية الوقورة ثم اتجه إلى فندق روز آند كراون لمقابلة موكله، وهو مزارع عجوز، وآخِر رجل في إنجلترا يُعاني من نقرس مزمن. لم يحضر الرجل العجوز حتى تلك اللحظة، وروبرت، الهادئ للغاية كالعادة، ذو النفس السمحة المُتساهلة، كان يشعر بنفاد صبره. لقد تغيَّر نمطُ حياته. قبل الآن، كانت الأحداث على القدرِ نفسِه من الإثارة؛ وقد كان ينتقل من حدثٍ لحدث آخَر من دون استعجالٍ ولا انفعال. أما الآن فهناك بؤرةُ اهتمام، والباقي يدور حولها.
جلس في الردهة على أحد المقاعد المكسوَّة بقماشٍ قُطني مطبوع، ونظر إلى مجلاتٍ باليةٍ على طاولة القهوة بجانبه. كانت المجلة الوحيدة ذاتُ العدد الجديد هي مجلة «ذا ووتشمان» وهي مجلة أسبوعية، فأمسكها على مَضض، وهو يُفكر مرةً أخرى كيف أن الملمس الجافَّ للورق أزعج أطرافَ أصابعه، وأن حوافها المُسنَّنة ضرَّسَت أسنانه. كانت تتضمن المجموعة المعتادة من الشكاوى، والقصائد، والتحذلُق المعرفي؛ مع منح مساحةٍ كبيرة من المساحة المُخصَّصة للاحتجاج إلى حما نيفيل المُستقبلي، الذي أفرَد لنفسه ثلاثة أرباع عمودٍ مُتحدِّثًا عن العار الذي يصِمُ جبين إنجلترا؛ لرفضها منْحَ اللجوء إلى الوطني الهارب.
توسَّع أسقُف لاربورو منذ مدة طويلة في الفلسفة المسيحية لتشمل المُعتقد القائل بأن ضحايا الظلم والاضطهاد هم على حقٍّ دائمًا. كان معروفًا بدرجةٍ كبيرة وسط ثوار البلقان، ولجان الإضراب البريطانية، والسجناء القدامى في المؤسسات العقابية المحلية. (الاستثناء الوحيد للأمر الأخير هو صاحب السوابق العتيد، باندي براين، الذي استهان بالأسقف الصالح استهانةً شديدة، واحتفظ بمودته من أجل مدير السجن؛ الذي يرى أن دموع العين ليست سوى قطرات ماء، والذي كشف عن عدم صحة أكثر رواياته المؤثرة بدقةٍ سريعة وعقلانية.) قال السجناء القدماء بعطفٍ، ليس هناك أيُّ شيء لن يُصدقه الأسقُف العجوز؛ فبإمكانك دائمًا المبالغةُ في الحديث.
وجد روبرت أن الأسقف في العادة مُسلٍّ بدرجةٍ ما، لكنه لم يكن اليوم إلا مُزعجًا. حاول قراءة قصيدتَين، لم يفهم أيًّا منهما، فألقى المجلة مرةً أخرى على المنضدة.
سأل بِن كارلي، بينما يقف إلى جانب كرسي روبرت ويومئ برأسه نحو مجلة «ذا ووتشمان»: «هل وقعَت إنجلترا في الخطأ مرة أخرى؟»
«مرحبًا كارلي.»
قال المحامي الضئيل، وهو يُقلب المجلة في احتقار بأصابعه المُتسخة بالنيكوتين: «ماربل آرتش للأثرياء.» ثم سأله قائلًا: «أتودُّ تناوُلَ مشروب؟»
«شكرًا لك، لكني في انتظار السيد وينيارد العجوز. إنه يتحرك بصعوبة، في هذه الأيام.»
«لا، أيها الرجل المسكين. إنها خطايا الآباء. من السيئ أن تُعاني من خطيئةٍ لم ترتكبها! رأيتُ سيارتك خارجَ منزل فرنتشايز منذ أيام قلائل.»
قال روبرت: «أجل»، وتعجَّب قليلًا. كان على غير عادةِ بِن كارلي أن يكون صريحًا. وإن كان قد رأى سيارة روبرت، فإنه قد رأى أيضًا سيارتَي الشرطة.
«إذا كنت تعرفهما، سيُصبح بوُسعك أن تُخبرني بشيءٍ كنتُ أريد دائمًا أن أعرفه عنهما. هل الشائعة صحيحة؟»
«شائعة؟»
«هل هما ساحرتان؟»
قال روبرت باستخفافٍ: «هل من المُفترض أن تكونا هكذا؟»
قال كارلي، وعيناه السَّوداوان اللامعتان تستقرَّان لحظةً على عينَي روبرت عن قصدٍ، ثم تستمرَّان في النظر عبر الردهة في تفحُّصهما السريع المعتاد: «ثمة تأييد قويٌّ لهذا المُعتقَد بين أهل الريف، حسبما أفهم.»
فهم روبرت أن الرجل الضئيل كان يعرض عليه، ضِمنيًّا، معلوماتٍ ظنَّ أنها ربما ستُفيده.
قال روبرت: «آه، حسنًا، منذ أن دخلَت وسائلُ الترفيه إلى الريف مع السينما، فلْيُباركها الله، وُضِع حدٌّ لمطاردة الساحرات.»
«لا تُصدق ذلك. قدِّم مبررًا مقنعًا إلى هؤلاء الريفيِّين الحمقى وسيُطاردون الساحرات بأقصى ما أُوتوا من قوةٍ. إنهم مجموعةٌ من المُنحطِّين أخلاقيًّا بالفطرة، إذا أردتَ رأيي. ها قد وصل رجُلُك العجوز. حسنًا، سأراك لاحقًا.»
كانت واحدةً من المزايا الرئيسية في روبرت أنه كان يُبدي اهتمامًا صادقًا بالناس ومشكلاتهم؛ لهذا أنصتَ إلى القصة غير المُترابطة للسيد وينيارد العجوز بلطفٍ حازَ به على امتنان الرجل العجوز — ونتيجةً لهذا اللطف أضاف العجوز، رغم عدم عِلم روبرت بذلك، مائةَ جنيه إلى المبلغ المُخصَّص أمام اسمه في وصية المزارع العجوز — لكن بمجرد انتهاء مهمتهما اتجهَ مباشرةً إلى هاتف الفندق.
كان هناك أُناسٌ كثيرون في انتظار الحديث عبر هاتف الفندق؛ لهذا قرَّر أن يستخدِم هاتف المرأب في سين لين. من المُفترض أن المكتب قد أغلق الآن وعلى أيِّ حالٍ هو يقع على مسافةٍ بعيدة. فتواردَت أفكارُه وهو يعبر الطريق بخطواتٍ مُسرعة أنه إذا اتَّصَل من هاتف المرأب، فسيجدُ سيارته بالقرب منه إذا طلبت — إذا طلبَتا منه الحضورَ والاستفاضة في مناقشة القضية، وهو أمر مُحتمَلٌ للغاية، بل من المؤكد أنهما ستطلبان ذلك — أجل، بالطبع سترغبان في مناقشةِ ما بوُسعهما فعلُه لدحض رواية الفتاة، سواءٌ أكانت القضية ستُحال للمحكمة أم لا — وقد شعر بالارتياح للغاية؛ بسبب الأخبار التي أتى بها هالم لدرجة أنه لم يكن قد فكر في …
قال بيل برو، وهو يسحب جسدَه الكبير عبر باب المكتب الضيِّق، وقد كان وجهه الدائريُّ الهادئ مُرحِّبًا وخاليًا من التعبير: «مساء الخير يا سيد بلير.» ثم أردفَ قائلًا: «أتريد سيارتك؟»
«لا، أريد استخدامَ هاتفِك أولًا، إن أمكن لي.»
«بالتأكيد، تفضل.»
ستانلي، الذي كان أسفل سيارةٍ، أخرج وجهَه المشاكِس وسأل:
«هل حصلتَ على أي معلومات؟»
«ولا معلومة واحدة، يا ستان. لم أُراهِن في سباق الخيل منذ شهور.»
«لقد خسرتُ جنيهَين على حصانٍ يقوم بأعمال المزرعة يُدعى برايت بروميس. هذا نتيجة أن تضعَ جُلَّ ثقتك في الخيل. في المرة التالية التي تحصل فيها على معلومات …»
«في المرة التالية التي سأُراهِن فيها سأُخبرك. لكن سيظل الرهان على الخيل.»
قال ستانلي، وهو يختفي تحت السيارة مرة أخرى: «ما دام ليس حصان مزرعة …»، واتَّجَه روبرت إلى المكتب الصغير المُضيء ثم أمسك بسماعة الهاتف.
كانت ماريون من أجابت الهاتف، وبدا صوتها مُرحبًا ومسرورًا.
«لا يمكنك أن تتخيَّل مدى الارتياح الذي بعثَته رسالتُك فينا. كنتُ أنا وأُمي نجمع نسالة الحبال طيلةَ الأسبوع الماضي. هل لا يزال المساجينُ يجمعون تلك النسالة، على أي حال؟»
«لا أظن. إنهم يخضعون لشيء أكثر إيجابية في الوقت الحالي، حسبما أفهم.»
«علاج مهني.»
«تقريبًا.»
«لا أعتقد أن أي أعمال حياكة إجبارية قد تُقوِّم شخصيتي.»
«على الأرجح سيجدون لك شيئًا أكثرَ ملاءمةً. فإنه يتنافى مع الفكر الحديث أن تُجبِر سجينًا على فعل أيِّ شيءٍ لا يرغب هو فيه.»
«تلك هي المرة الأولى التي أسمعُك فيها تتحدث بسخرية لاذعة.»
«هل كنتُ لاذعًا؟»
«كمادة أنجوستورا خالصة.»
حسنًا، لقد تطرَّقَت إلى موضوع الشرب؛ ربما ستقترح الآن أن يحضر لتناول بعضًا من نبيذ الشيري قبل العشاء.
«يا لوسامة ابن أخيك، بالمناسبة!»
«ابن أخي؟»
«الشخص الذي أحضر الرسالة.»
قال روبرت بنبرةٍ فاترة: «إنه ليس ابنَ أخي.» لِمَ تبدو العمومة أنها تُضيف على العمر عمرًا؟ ومن ثَم أضاف: «هو ابن ابن عمي. لكن يسرُّني أنه حاز على إعجابك.» هذا لن يفيَ بالغرض؛ كان عليه أن يتولَّى هو زِمام الأمور. «أودُّ مقابلتَكِ بعض الوقت حتى نُناقش ما بوُسعنا فعله لتسوية الأمور. حتى نجعل الوضع أكثرَ أمانًا …» ثم انتظر الرد.
«أجل، بكل تأكيد. ربما بإمكاننا أن نُجري زيارةً إلى مكتبك في صباح يومٍ ما عند ذَهابنا للتسوُّق؟ ما طبيعة الشيء الذي بإمكاننا أن نفعلَه، في رأيك؟»
«نوع من التحرِّيات السرية، ربما. لا يُمكنني مناقشة الأمر على الهاتف.»
«أجل، بالطبع لا يمكنك. هل من المناسِب أن نأتيَ يوم الجمعة صباحًا؟ هذا يوم التسوق الأسبوعي بالنسبة لنا. أم أن يوم الجمعة يومٌ حافل بالنسبة إليك؟»
قال روبرت، مُتقبِّلًا خيبةَ أمله على مضض: «لا، الجمعة سيُناسبني تمامًا.» ثم أردف قائلًا: «هل يُناسبكما أن تأتيا عند الظهر؟»
«لا بأس، هذا مناسب تمامًا. الساعة الثانية عشرة بعد يوم غد، في مكتبك. إلى اللقاء، وأشكرك مرةً ثانية على دعمك ومساعدتك.»
أنهَت المكالمة، بكل حزمٍ وسلاسة، من دون الثرثَرات التمهيدية المُعتادة التي قد توقَّعها روبرت من النساء.
سأل بيل برو أثناء خروجه إلى ضوء النهار الخافت داخل مرأب السيارات: «هل لي أن أجلُبها لك؟»
«ماذا؟ آه، السيارة. لا، لن أحتاجَ إليها الليلة، شكرًا لك.»
انطلق في جولته المسائية المعتادة عبر هاي ستريت، محاولًا بصعوبةٍ ألَّا يشعر بالتجاهل. لم يكن حريصًا على الذَّهاب إلى منزل فرنتشايز في المرة الأولى، وكان قد أبدى تردُّدَه بصورةٍ واضحة تمامًا؛ وهي كانت تتجنَّب بتلقائيةٍ تَكْرار نفس الملابسات. ولأنه قد حدَّد موقفه من أمرهما على أنه مجرد مهمَّة عمل، يُرجى حلُّها في مكتبٍ، بصفةٍ غير شخصية. لذا، هما لن يجعلاه ينخرِط مُجددًا في الأمر أكثرَ من ذلك.
حسنًا، فكَّر، وهو يرتمي في مقعده المُفضَّل إلى جانب المدفأة في غرفة الجلوس ويفتح الجريدة المسائية (التي طُبِعت ذلك الصباح في لندن)، أنه عند قدومِهما إلى المكتب يوم الجمعة بإمكانه أن يفعل شيئًا حتى يُسنِد الأمر على أساسٍ شخصي. حتى يمحوَ ما ترسَّخ في الذاكرة عن ذلك الامتناعِ البغيض الذي أبداه في المرة الأولى.
إن هدوء المنزل العتيقِ خفَّف عنه. كانت كريستينا قد اختَلَت بنفسها في غرفتها يومَين، منهمِكةً في الصلوات والتأمُّل، والعمَّة لين كانت في المطبخ تُعِدُّ العشاء. وهناك خطاب مُبهج من ليتيس، أخته الوحيدة، التي كانت قد قادت شاحنةً عدةَ سنوات أثناء حربٍ دموية، فوقَعَت في حبِّ رجلٍ كنَدي طويل هادئ، وكانت تعكف الآن على تربيةِ خمسة أطفالٍ شُقر أشقياء في مقاطعة ساسكاتشوان. أنهَت خِطابها قائلة: «تعالَ لزيارتنا قريبًا يا عزيزي روبين، قبل أن يشبَّ الأطفال الأشقياء وقبل أن تنموَ الطحالب حولك مباشرة. أنت تعلم كم أن العمة لين خطرٌ عليك!» كان بإمكانه أن يسمعَها وهي تقول هذه الكلمات. فهي والعمة لين لم تكونا على وفاقٍ قط.
كان يبتسِم، مُسترخيًا وغارقًا في الذكريات، عندما بدَّد هدوءه وسلامَه اقتحامُ نيفيل.
سأله نيفيل بحدَّة: «لِمَ لمْ تُخبرْني بأنها هكذا؟!»
«مَن هي؟»
«تلك السيدة التي من عائلة شارب! لِمَ لم تُخبرني؟»
قال روبرت: «لم أتوقَّع أنك ستُقابلها.» ثم أردف قائلًا: «كل ما كان عليك فعلُه هو أن تُلقي الخِطاب عبر الباب.»
«لم يكن في الباب فتحةٌ لأُلقِيَه عبرَها؛ لهذا دققتُ الجرس، وكانتا قد عادتا للتوِّ من المكان الذي كانتا فيه. على أي حال، لقد كانت هي من أجابت.»
«ظننتُ أنها تغفو في وقتٍ ما بعد الظهر.»
«لا أظن أنها تنام أبدًا. فهي لا تَمتُّ إلى السُّلالة البشرية بصِلةٍ على الإطلاق. إنها جسدٌ مُدمج من النار والمعدن.»
«أعلم أنها سيدة عجوزٌ فظة للغاية، لكن لا بد أن تلتمس لها الأعذار. لقد تعرضَت لظروف صعبة …»
«عجوز؟ عمَّن تتحدث؟»
«عن السيدة شارب العجوز، بكل تأكيد.»
«لم أرَ من الأساس السيدة شارب العجوز. أتحدَّث عن ماريون.»
«ماريون شارب؟ وكيف عرَفت أن اسمها ماريون؟»
«هي مَن أخبرَتني. إن الاسم يليق بها، أليس كذلك؟ لا يمكن لها أن تكون أيَّ شيء سوى ماريون.»
«يبدو أنك أصبحتَ تألفُ المعارف على الأبواب بدرجةٍ ملحوظة.»
«أوه، لقد قدَّمَت لي الشاي.»
«الشاي! ظننتُك متعجلًا بشدةٍ لمشاهدة الفيلم الفرنسي.»
«لن أتعجَّل بشدةٍ قط لأفعلَ أي شيء عندما تدعوني سيدةٌ مثل ماريون شارب على الشاي. هل لاحظتَ عينَيها؟ لكنك بالطبع لاحظت. فأنت مُحاميها. تلك الدرجة المُذهلة من اللون الرمادي المائل إلى البندقي. والنمط الذي يستقرُّ به حاجباها أعلاهما، مثل أثرِ فُرشاةٍ لرسَّام نابغة. إنهما حاجبان يُشبهان الجناح. لقد ألَّفتُ قصيدة عنها في طريق عودتي إلى المنزل. أتودُّ سماعها؟»
قال روبرت في حزمٍ: «لا.» ثم أردف قائلًا: «هل استمتعتَ بالفيلم؟»
«لم أذهب لمشاهدته.»
«لم تذهب لمشاهدته!»
«أخبرتك بأني احتسيتُ الشاي مع ماريون بدلًا من ذلك.»
«تقصد أنك قضيتَ «وقتَ ما بعد الظهر» بأكمله في منزل فرنتشايز!»
قال نيفيل بأسلوبٍ حالم: «أظنُّني كذلك، لكن، قسمًا بالله، لا يبدو أن الوقت قد تعدَّى سبع دقائق.»
«وماذا حدث لتعطُّشك إلى السينما الفرنسية؟»
«لكن ماريون هي ذاتها فيلم فرنسي. حتى أنت لا بد أن تُدرك هذا!» فزع روبرت عند سماع «حتى أنت». ثم تابع قائلًا: «لمَ تكترث بالخيال، إذا كان بإمكانك أن تكون مع الواقع؟ الواقع. هذه هي الصفة المناسِبة تمامًا لها، أليس كذلك؟ لم أُقابل قطُّ أي أحدٍ حقيقي مثل ماريون.»
«ولا حتى روزماري؟» كان روبرت في حالةٍ تعرفها العمة لين بأنها حالة «ضيق».
«يا إلهي، روزماري حبيبة، وسأتزوَّجها، لكن ذلك شيء مختلف تمامًا.»
قال روبرت، في وداعة مصطنعة: «حقًّا؟»
«بالطبع. من المستحيل أن يتزوج الرجال نساءً مثل ماريون شارب. فهذا الزواج سيكون أشبه بالزواج بجان دارك. كُفرٌ بكل تأكيد أن تُفكر في الزواج بمثلِ هؤلاء النساء. لقد تحدثَت عنك بكلِّ لُطف، على أي حال.»
«كان ذلك لطفًا منها.»
كانت النبرة جافَّة للغاية حتى إن نيفيل قد أدرك مغزاها.
سأل، مُتوقفًا لينظرَ إلى ابن عمه في تشكيك مُتفاجئ: «ألم تعجِبْك؟»
كان روبرت قد توقَّف برهةً حتى يعود إلى حالة روبرت بلير اللطيف، المُتساهل، المتسامح؛ فهو الآن في حالة رجل متعَبٍ لم يتناول عشاءه بعد، ويُعاني من ذكرى إحباط وتجاهل.
قال: «في نظري، ماريون شارب ليست إلا امرأةً أربعينيَّة نحيفة تعيش مع أمٍّ عجوزٍ فظة في منزلٍ قديم قبيح، وتحتاج إلى استشارة قانونية عن قضيةٍ مثل أي شخصٍ آخر.»
لكن حتى الكلمات وهي تخرج منه أراد أن يُوقفَها، كما لو أنها كانت خيانةً لصديق.
قال نيفيل في تسامُح: «لا، ربما أنها ليست على هواك.» ثم تابع قائلًا: «كنتَ دائمًا تُفضلهن أغبياءَ قليلًا، وشَقْراوات، أليس كذلك؟» قيل ذلك من دون إضمارِ خبثٍ، كما لو أن شخصًا يذكر حقيقةً بسيطة.
«لا أتصوَّر لمَ عليك أن تُفكر هكذا.»
«جميع النساء اللاتي كِدتَ تتزوَّجهن كنَّ من ذلك الصنف.»
قال روبرت في عنادٍ: «أنا لم «أكَد أتزوَّج» أيَّ واحدةٍ قط.»
«هذا ما تظنه. لن تعرفَ أبدًا كم كادت مولي ماندرس أن توقِعَ بك.»
قالت العمة لين، وقد جاءت ووجهُها مُحتقنٌ من الطهو وتحمل صينيةً عليها نبيذ الشيري: «مولي ماندرس؟» ثم تابعَت: «إنها فتاةٌ سخيفة. تخيَّلَت أنك تستخدم لوحَ الخبز لعمل فطائر البان كيك. وكانت تنظر لنفسها دائمًا في مرآة جيبها الصغيرة.»
«أنقذَتك العمة لين تلك المرة، أليس كذلك، يا عمة لين؟»
«لا أعرف عمَّ تتحدث يا عزيزي نيفيل. كفاك سيرًا حول بِساط المدفأة، وضَعْ قطعةَ حطَبٍ في النار. هل أعجبك الفيلم الفرنسي، يا عزيزي؟»
«لم أذهب. لقد احتسيتُ الشاي في منزل فرنتشايز بدلًا من ذلك.» ثم رمق روبرت بنظرةٍ، بعد أن علم الآن أن ردَّ فعل روبرت يحمل المزيدَ أكثرَ مما يبدو للعين.
«مع هاتَين المرأتَين الغريبتَين؟ عمَّ تحدثتم؟»
«عن الجبال … موباسان … الدجاج …»
«الدجاج يا عزيزي؟»
«أجل؛ عن الشرِّ المُكثَّف في وجه دجاجةٍ عند النظر إليها عن قرب.»
نظرَت العمة لين نظرةً غامضة. ثم التفتَت إلى روبرت، وكأنها تنظر إلى أرض ثابتة.
«هل عليَّ أن أزورَهما يا عزيزي، إن كنتَ ستتعامل معهما؟ أو أطلب من زوجة القس أن تزورهما؟»
قال روبرت، بنبرةٍ جافَّة: «لا أظن أن عليَّ إلزامَ زوجة القس بأي شيءٍ لا رجعة فيه هكذا.»
نظرَت بريبة لوهلة، لكن مهام المنزل محَت الأمر من عقلها. وقالت: «لا تتلكَّأ كثيرًا في شُرب الشيري وإلا سيفقد ما لديَّ في الفرن مذاقَه. الحمد لله، كريستينا ستنزل غدًا مرةً أخرى. على الأقل آمُل هذا؛ فأنا لم أعرف أبدًا أن خلاصها يستغرق أكثرَ من يومَين. ولا أعتقد حقًّا أني سأزور هاتَين السيدتَين في فرنتشايز يا عزيزي، إذا كان الأمر سيَّان عندك. بخلاف أنهما غريبتان وغريبتا الأطوار بشدة، فهما يُخيفانني بصراحة تامة.»
أجل؛ كانت تلك عيِّنةً من ردِّ الفعل الذي قد يتوقَّعه عندما يتصل الأمرُ بالسيدتَين شارب. كان بِن كارلي قد بذَل جهدًا عظيمًا ليُخبره بأنه، إذا حدثت مشكلةٌ مع الشرطة في منزل فرنتشايز، فلن يمكنه الاعتمادُ على هيئةِ مُحلَّفين منصِفة. وكان لزامًا عليه أن يتَّخذ إجراءاتٍ لحماية السيدتَين شارب. وعندما يراهما يوم الجمعة، سيقترح عليهما إجراءَ تحرياتٍ خاصة، مُستعينين بمُحققٍ مدفوع الأجر. إنَّ ضغط العمل على الشرطة شديدٌ للغاية — وهذا هو الحال عقْدًا أو أكثر — وثمةَ احتمال أن تصبح تحرياتُ رجلٍ واحد يعمل بتروٍّ أكثرَ نجاحًا مما قد توصلَت إليه التحريات التقليدية والرسمية.