نصوصٌ تمشي على الأرض
تستطيع إيزابيل الليندي أن تكتب خطابًا باللغة الإنجليزية، لكنها لا تستطيع أن تكتب رواية بها، لماذا؟ لأن الكتابة لا تأتي إليها إلا باللغة الإسبانية. لماذا مرة أخرى؟ تجيب بأن «كتابة الخيال تحدثُ في الرَّحِم، ولا تتم معالجتها في الذهن حتى تشرع في المراجعة والتصحيح. ولكن رواية القصص تأتي إليَّ بالإسبانية؛ الأمر يشبه ممارسة الحب، لا أستطيع أن أعشق بالإنجليزية، الأمر لا يحدث بهذه الطريقة.»
يمكن بهذه الطريقة أن نقول إن الكتابة هي جزء من التكوين الأساسي للكاتب، هي إعادةُ صياغةٍ لأفكاره وهمومه وطفولته وأحلامه وكوابيسه وقراءاته وثقافته، إعادة ترتيب للغرف المغلقة والحميمية في ذاكرته، وهنا يمكن أن نستعير قول يوسا إن «الروائي يغتذي على نفسه مثل الكاتوبليباس؛ ذلك الحيوان الخرافي الذي يظهر للقديس أنطون في رواية فلوبير.» وهو ما يذكر بقول ماركيز أيضًا: «لم أكتب شيئًا إلا حول ما عرفته عن أشخاص شاهدتهم.» رغم كَمِّ الواقعية السحرية في كتابته. وإيزابيل تكتب بالإسبانية لأنها اللغة التي أجادتها صغيرة، وكوَّنتها ثقافيًّا وفكريًّا، وإذا كان الكاتب هو نتاج بيئته ومجتمعه، فإن الكتابة هي نتاج تكوين الكاتب نفسه؛ لذا يكتب الكاتب عادةً ما يعرف، حتى لو كان ما يكتبه خيالًا محضًا، لكن ثمة بداية لهذا النص أو ذاك تبدأ من مشهد حقيقي، ذكرى عبرت في الخيال، صارت سطرًا فصفحةً فنصًّا طويلًا.
وربما يكون السؤال الأكثر شهرةً في الحوارات الثقافية مع الروائيين، عن المساحة ما بين الذاتي والمتخيَّل في نصوصهم، وهناك إجابات مختلفة يعتمدها كلُّ كاتب للدفاع عن نفسه في هذه الحالة (كأنَّ الأمرَ تهمةٌ)، منها مثلًا أن هناك شخوصًا حقيقيين لكن الأحداث مختلفة، أو أن هناك خيطًا واحدًا حقيقيًّا في النص، أو أن الأمر بأكمله متخيَّل، «وأي تشابُه بينه وبين الواقع من قبيل المصادفة»، لكن لا يَذكر الروائي في الإجابة الأخيرة أن هناك لمسةً من الواقع كانت هي الباب الذي دفعه ليدخل إلى عالم الخيال، ولهذا — مثلًا — نجد هذا الحضور المكثف لعالم الجاز مثلًا في روايات هاروكي موراكامي؛ لأن ذلك كان جزءًا من تكوينه وثقافته الشخصية؛ ولهذا السبب أيضًا يعتقد خوليو كورتاثر أنه «غير قادر على تخيُّل شخصية سوداء اللون؛ لأن هناك سياق عِرقي وثقافي يلعب دوره، إن كان أفريقيًّا أسود، أو واحدًا من الذين يعيشون هناك، فليست لديَّ أدنى فكرة عن رؤيته للعالم.»
سؤال «من أين تأتي الكتابة؟» لا يسأل عن طرق تكوين «الموهبة»، لكنه يسأل عن تلك الحروف والأسطر السوداء التي تملأ الكتب؛ من أين يتكوَّن هذا العالم؟ ويمكننا أن نعتبر الكُتَّاب أنفسهم هم الإجابة، يمكننا أن نعتبرهم نصوصًا تمشي على الأرض، أجولة من البذور — إذا جاز التعبير — تنبت أشجارًا. ليس بالضرورة أن يكون مَن مرَّ بأقسى التجاربِ الأكثرَ موهبةً، فهذا الأمر لا علاقةَ له بالكتابة؛ لأن هناك فنيَّات وآليات أخرى في الأمر أهمها الموهبة، بل يمكن أن يكون الأقل تجربةً هو الأفضل؛ لأنه عرف كيف يعتني بأشجاره، وكيف يختار جانبًا يخصه، وكيف دخل من بابٍ لم يَلِجْه أحدٌ قبله.
الكتابة متعلقة ﺑ «المشاعر»، كما قالت إيزابيل؛ لا تستطيع أن تعشق بطريقة أخرى غير هذه الطريقة، لا تستطيع أن تكتب إلا إحساسًا كامنًا، ربما يدفعك فيما بعدُ إلى تغيير العالم الحقيقي إلى عالم متخيَّل. مهمة الكاتب إذن هي إعادة تشكيل العالم، إعادة صياغته ليكون أفضل، خلق العالم الموازي الذي كان يحلم به، إكمال الجمل التي بدأت في الحياة الحقيقية ولم تكتمل، شفاء المرضى، وإعادة بصر العمي، وإحياء الموتى الذين عجز الطب عن فعل ذلك معهم. من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتابة بابًا للانتقام أيضًا، من الأشخاص السيئين الذين يتحوَّلون إلى حيوانات وزواحف في النصوص. الأمر كله متعلِّق بما علق من الماضي في الذاكرة ولا يزال يتردد ويطارد الكاتب حتى يكتبه، أو يتخلَّص منه.
وَصَف موراكامي الماضي بأنه «صندوق الكنز»، وقال خلال مقابلة معه في دار كنوبف الأمريكية التي نشرت روايته «تسوكورو تازاكي عديم اللون وسنوات حجِّه»، واصفًا مشاعر بطله تسوكورو بأنها مشاعر «مَنْ يُرمَى من على سطح سفينة في البحر وحيدًا في الليل. فأردتُ أن أكتب عن مثل هذا الإحساس.» وأضاف موراكامي: «ما كتبتُه مُلفَّق، ولكن المشاعر صادقة.»
وإذا اتفقنا أن الكتابة تخلق عالمًا موازيًا، أو تُكمِل العالم الأصلي، يمكننا أن نفهم هذا الحوار الذي دار بين ماركيز وأحد الصحافيين.
هذه ليست إجابة سفسطائية أو ساخرة، ولكنها تعبير عن دور الأدب الحقيقي، في إكمال العالم وإصلاحه، وخلقه وإيجاده؛ فماكوندو القرية الأسطورية التي صنعها خيال ماركيز استلهمها من بلدة أراكاتاكا، التي تقع بإقليم ماجدالينا، التي وُلِد بها. لا إجابات شافية لكل أسئلة الصحافيين المكررة، ولا للأسئلة المطروحة في هذا المقال؛ لأنه لا إجابة شافية للفن، ربما يحمل الفن ذاته الشفاء، لكن مِمَّ؟ من الحياة؟ ربما! لكن ما أريد قوله هو أنه إذا كان التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن الأدب يكتب التاريخ المُفترَض حدوثه، يكتب العالَم كما يجب أن يكون، والذين أوكل الله إليهم هذه المهمة يأخذون قِطَع الصلصال من الأرض ويعيدون تشكيلها مرة أخرى، حتى إنكَ لا تصدِّق أن هذا الصلصال الجميل خرج من هذه الأرض القاسية.