كأننا روحان حللنا بدنًا
«سأختار قارئتي امرأة فاتنة، تجيء ماشية ببطء إلى قصائدي، في لحظات النهار الأشد وحدة، قبل أن تغادر البيت، وستكون قد استحمت، وسيكون شعرها مبللًا عند العنق، وستأتي مرتدية معطفها الواقي من المطر، وسيكون المعطف قديمًا ومتسخًا، لأنها لا تملك ما يكفي من المال، لكي تضعه في المصبغة، هناك في المكتبة، ستنزع نظارتها الطبية، حتى تجد أحد كتبي، ثم ستعيده إلى مكانه على الرف، قائلة لنفسها: بهذا المبلغ من المال، أستطيع غسل معطفي، وهذا ما ستقوم به.»
هذه قصيدة للشاعر الأمريكي تيد كوزر، ذكرتها في المقدمة، لأنني أعتقد أنها تلخص فكرة قصيدة الذات في ظني. والتي تقوم على عقد بين شاعر وقارئ يشبهه، مثل تلك القارئة التي تحدث عنها كوزر.
لا يكتب إذن الشاعر نفسه، بل يكتب قارئه، ولا يكتب شاعر «قصيدة الذات» القصيدة لنفسه، بل يكتبها للآخرين، الذين يشبهونه، الذين ملوا مثله من الشعر المغلق، وبحثوا عن قصائد تصف مشاعرهم، وربما يكون هذا المدخل مهمًّا للحديث عن أن قصيدة الذات لا تتحدث عن ذات الشاعر فحسب، بل عن ذاته التي تتقاطع مع ذوات الآخرين.
لم أدرك هذا المعنى، ولم أصل إليه مبكرًا، ولا أعتقد أنه نهاية العالم، فكل شيء قابل للتطور والتغيير، لكن ما أذكره أنني في خريف ١٩٩٠، كتبت قصيدتي الأولى. كانت أقرب ما تكون إلى مرثية لوالدتي التي توفيت في حادثة، وكنت في القصيدة التي أذكرها إلى الآن أتحدث عن ذات ومشاعر الطفل داخلي في ذلك الوقت.
كانت قصيدة سيئة لا ريب بمقاييس الشعر العادية وغير العادية، مجرد كلام مرصوص له ما يمكن تسميته تجاوزًا قافية، لكن كان مَن كتبها طفل في الصف الرابع الابتدائي، وجد طريقة ليقول لأمه من خلالها إنه يفتقدها بعد ٥ سنوات من رحيلها، لكن القصيدة كانت بالنسبة إلى ذلك الطفل طريقة استطاع من خلالها فيما بعد أن يقول الكثير مما لا يستطيع الحديث عنه.
كانت التجارب الشعرية التي أقرؤها في ذلك الوقت، يمكن تلخيصها في القصائد الموجودة في الكتب التراثية والتاريخية التي تضمها مكتبة خالي، ومعظمها ينتمي لشعراء العصور العباسية والأموية وصدر الإسلام والجاهلية، أما أحدث القصائد، فكانت تتوقف عند محمود سامي البارودي وأحمد شوقي؛ وهو ما يعني أن كل القصائد جعلت من القافية والوزن شرطًا أساسيًّا لشاعريتها، ومن المديح والهجاء والغزل والوصف والفخر موضوعًا لها.
كنت أستغرب وقتها كيف يمكن لشاعر أن يكتب قصيدة ليمدح خليفة، أو شخصًا لا يعرفه، أو يصف ناقة في الصحراء، فيما ذاته غائبة عن ذلك تمامًا، طبعًا يمكن تفسير ذلك بقوة الشاعرية وتحليق الخيال. وطبعًا كانت تلك الأسئلة قد أجيبَ عنها من زمن ولم أكن أعلم ذلك. حين انتقلتُ للدراسة في المرحلة الإعدادية في مدينة مجاورة، فتح أمامي أستاذي الشاعر بهاء الدين رمضان، الذي صار صديقًا أفتخر وأعتز به، عالَمًا آخر من الشعر، وجدت أنه يستوعب طاقة شعرية أكبر، ويسمح للذات بالخروج والحديث أكثر. كان ذلك عالم قصيدة التفعيلة ثم النثر بعد ذلك، ومن خلاله تعرفت على عوالم شعراء آخرين، جدد.
كان الأستاذ بهاء وقتها يدرِّس لي مادة الأدب والنصوص، وكان يشرح لنا في الحصة قصائد عنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم والنابغة الذبياني، والشعر الأندلسي، وبعد أن تنتهي الحصة، يحدثني عن القصيدة الجديدة، التفعيلة والنثر، وأزوره في منزله ليعطيني دواوين لشعراء من جيلَي الثمانينيات والتسعينيات، فبدأت كتابة قصيدة التفعيلة.
كان عالَمًا مختلفًا، وكتابة مختلفة وجدت أنها تشبهني، وأدين للأستاذ بهاء حتى الآن بأنه دلني على الطريق. بعد أن انتقلت للقاهرة، وشعرت بتضاؤل ذاتي وسط ذوات الآخرين الكثيرة، شعرت بأنني هش في ماكينة عملاقة، بلا شيء يحميني، كانت قصيدة النثر التي ترادف قصيدة الذات بالنسبة إلى التجربة في ذلك الوقت، قصيدة النثر هي الحماية الحقيقة لي، قصيدة الذات هي التي تجعلني أستطيع أن أقف وأقول للبنايات العالية المحملقة فيَّ، وفي زحام المترو والحافلة: ها أنا ذا، كانت قصيدة الذات، هي بمنزلة حبل الإنقاذ، قبل أن أتحول إلى لاشيء، تدهسني المدينة مثلما تفعل مع الكثيرين كل يوم.
يمكن القول، إنني بدأت البحث عن القصيدة التي تمثلني، القصيدة التي تشبهني، قرأت عشرات بل مئات التجارب، المصرية والعربية والمترجمة، للإجابة عن سؤال القصيدة. وما هي القصيدة، من أين تنبع الشاعرية؟ وربما كانت الإجابة في كلمة واحدة، أقرب إليَّ من حبل الوريد: الذات.
ثمة أشياء هنا لا بد من التنويه إليها، أولها أن الكتابة عن الذات، كما أتخيلها، لا تعني الانكباب على النفس، وكتابة جملة مغلقة، لا يفهمها حتى من يكتبها، بل هي الانفتاح على الآخر؛ حيث الهم الممتد بطول وعرض الكرة الأرضية؛ الألم الذي ألمسه في صدر طفل في غابات أفريقيا، وأرملة في فيضان الهند، وعجوز في إعصار الفلبين؛ الألم الذي يجمعنا كلنا هو الذات، الذات المفردة بصيغة الجمع.
الوصول إلى هذا المعني يعني المرور بتجارب آخرين، ولعلِّي هنا أستحضر ما ذكره الشاعر الأمريكي تشارلز سيميك، حينما ذكر أنه بدأ كتابة الشعر «حين رأيت أن الفتيات الجميلات ينجذبن إلى الفتيان الذين يكتبون لهن القصائد الحزينة»، لكن مع الزمن تبدلت أسباب الكتابة لديه، فيقول في أحد حواراته ويعدد ذكر أسماء الشعراء المعاصرين الذين تأثر بهم في بداية حياته الشعرية من أمثال إليوت وباوند، إن الشاعر الذي وجد علاقة خاصة به في بداية حياته الشعرية كان هارت كراين؛ وذلك بسبب الغموض في شعره، ويوضح «شعرت أن هذا الشعر العصي تمامًا على الفهم هو شكل أرقى من الشعر»، وبدأ وقتذاك يقلد كراين «مستعينًا بكل الألفاظ الصعبة الممكنة من قاموس المترادفات حتى أصل إلى مرحلة لا يمكن لأحد، بما فيهم أنا، فهم شيء من القصيدة.» لكنه يضيف: «الحمد لله أن هذه القصائد لم تعد موجودة.»
سيميك الذي أصدر أكثر من ٢٠ مجموعة شعرية، تتميز بالبساطة والوضوح والعمق، وصل إلى هذه القناعة بعد تجربة الغموض، لتدور قصائده في النهاية حول الذات، وحول التفاصيل الصغيرة حولنا التي قد لا تلفت نظر أحد، مثل الشوكة، والملعقة، لكن تجربته التي ذكرها سابقًا، ربما تشبه تجربة القصيدة المصرية، التي بدأت عمودية، ثم تفعيلة، ثم مرت بمرحلة الغموض الملغز في بعض الأحيان، مع بعض شعراء السبعينيات، ثم لتنفتح على العالم وعلى ذاتها في الأجيال التالية.
الشيء الثاني الذي أود التنويه إليه، هو أن الأمر لا يعتمد فقط في قصيدة الذات على كتابة قصيدة ذاتيه، بل على استحضار صورٍ شعرية خاصة بتلك الذات، وهنا أستحضر مقولة الشاعر الأمريكي إيه آر أمونيز «كان ذلك حين توفي أخي الذي يصغرني بسنتين ونصف، ولم يكن تجاوز السنة ونصف السنة، وجدتْ أمي بعد أيام قليلة من موته آثار قدميه في الباحة، وحاولت بناء شيء حولها لتقيها هبوب الريح، تلك هي الصورة الشعرية الأقوى التي عرفتها»، فحتى الصورة الشعرية تخلَّت عن ردائها القديم ولم تعد تشبيه الحبيبة بالقمر، والأعين بأعين الغزلان، الصورة هنا هي ذاتك، أو انعكاس ذاتك على الأشياء التي تحيط بك، هي التي تمس قلب قارئك الذي لا تعرف أين هو الآن، وتجعله يشعر أن هذا حدث له وأنه رآه.
الشيء الثالث الذي أود التنويه إليه، هو أن قصيدة الذات كان من الضروري أن تصعد مع صعود ذات الفرد في العصر الرقمي الذي نعيشه، فمع دخول عصر الفرد وبعد أن أصبح حاضرًا في كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وأعني به، مع انتشار الإنترنت، بداية من عصر التدوين والصحفي الشعبي وانتهاء بمواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع التي تتيح للقراء العاديين التعبير عن ذاتهم والكتابة، وإمكانية تعليق القارئ على قصيدة أو قصة ومعارضتها لو استخدمنا المصطلح التراثي في نفس الوقت، هذا التواجد المكثف كسر جزءًا من الهالات المقدسة للأشياء، ليس فقط في عالم السياسة، الذي جعل الأفراد للقيام بثورات شعبية أطاحت بديكتاتوريات ظن بعضها أنه خالد فيها، بل انعكس على التواصل والكتابة، وعزز من مفهوم الذات بشكل أكبر، وساهم في انتشار الكتَّاب الجدد، بكتابتهم الجديدة، وأصبحت الذوات أكثر قربًا وتشابهًا، ورغم البون الشاسع بين بعض هذه العوالم على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصًا فيس بوك، فإن الأمر يبدو جديرًا بالدراسة والمتابعة، وهو ما حول محمود درويش في النهاية لشاعر شعبي، ولا سيما بعض قصائده التي يمكن اعتبارها قصائد ذات، وجعل شعراء آخرين يكتبون ذواتهم نجومًا لدى فئة لم يكن متخيلًا في يوم أنها ستهتم بالقراءة، وقراءة الشعر تحديدًا.
صعود نجم الذات، في عالم الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، عزز من كتابة الذات، التي صارت توزع الهم المشترك على الكثيرين، ويتناقلونها، كأنها تعبر عن حالتهم. ورغم وجود الكثير من «الغث» بين هذا، فإن هناك «السمين» أيضًا الذي يدعو بقوة لدراسة هذه الظاهرة.
الأمر الأخير الذي يبدو من المهم التنويه إليه هو سؤال: هل تستطيع قصيدة الذات أن تعيد جمهور الشعر إليه مرة أخرى؟ يبدو هذا هو السؤال الأهم الذي قد أكون أجبت على جزء منه في النقاط السابقة، لكن على النقاد أن يجيبوا بشكل أكثر تفصيلًا.
لكن، ربما تحتاج الإجابة أن نعرف قصيدة الذات، وربما تحتاج من الشعراء أن يتخلَّوا عن قولهم إنهم يكتبون لأنفسهم. فثمة كِتاب في النهاية يصدر، ويقرؤه قارئ في مكانٍ ما. وربما على القارئ نفسه أن يجيب هل يفضل قصيدة الذات أم لا، هل يجدها أقرب إليه من غيرها أم لا.
لكن ما يجب ألا نغفله، ونحن نقدِّم الإجابات، أن جزءًا من مشكلة المتلقي عندنا في عالمنا العربي، هو الأشكال المحفوظة التي حفرها مدرسو اللغة العربية والنصوص في أذهانهم للقصيدة التقليدية، التي يجب أن تكون ذات شكل معين، ولها أغراض معينة يجب ألا تتجاوزها، وأن يحتوي امتحان آخر العام على أسئلة من نوعية: ما الدروس المستفادة من القصيدة؟
فالطالب، الذي سيصير قارئًا فيما بعد، لن يجد في القصيدة الجديدة، ما تعلمه من شروط كي تكون قصيدة من وزن وقافية وأغراض ودروس مستفادة، لكنه سيجد قصائد تعبر عنه، لا تمدح كافور الإخشيدي، بل تتحدث عن معاناته، ولا تصف الجمل الذي شرد في الصحراء، وإنما تذكر معاناته في انتظار الحافلة، لا الحرب الشعواء التي لم يشهدها أو يسمع بها.
بالنسبة إليَّ، فربما بعد كل هذه السنوات مع القصيدة، ترسبت داخلي القناعة بأن القصيدة هي أنا. أقصد أن قصيدتي هي ذاتي، حتى لو قال عمرو بن بحر الجاحظ إن المعاني ملقاة على قارعة الطريق. أدرك ذلك، لكن المعاني التي أعنيها والتي تعبر عن حالتي، تختلف عن المعاني التي تعبر عن حالة آخر، حتى لو استخدمنا نفس الكلمات. ما أدركه تمامًا، هو ما قاله الشاعر العظيم أبو نواس في قصيدة ذاتية تمامًا عن الخمر قبل قرون، لكن مع تغيير بعض الكلمات: «أنا القصيدة والقصيدة أنا، كأننا روحان حللنا بدنا.»