ماذا يريد «كريستوفر نولان»؟
رغم أن الكثيرين توقَّعوا أن يحصد الفيلم الأخير للمخرج البريطاني الشهير كريستوفر
نولان Interstellar بعد صدوره، جائزةَ الأوسكار لهذا
العام؛ فإنه لم يترشح إلا لجوائز قليلة، غير أن هذا لا ينفي عظمة الفيلم الذي يمكن
اعتباره واحدًا من أهم الأفلام التي أنتجتها السينما عن الفضاء منذ فيلم ستانلي كوبريك
الشهير «أوديسا الفضاء ٢٠٠١»، الذي أُنتِج عام ١٩٦٨؛ ربما لأنه يُعِيد طرح نفس الأسئلة
المتعلِّقة بالزمن، وبشكل أكثر معاصرةً ودقةً.
أهمية الفيلم تنبُع من أهمية مُخرِجه؛ فعلى الرغم من أن نولان يميل لإخراج أفلام
الإثارة والخيال العلمي، فإنه استطاع أن يحملها بعشرات الأسئلة الفلسفية، وهو ما تبدَّى
واضحًا في ثلاثية «باتمان»، التي تتجاوز كونها إعادة تقديمٍ لقصص مصوَّرة، إلى أبعد من
ذلك؛ وهو أيضًا ما يمكن ملاحظته في الفيلم المهم «استهلال inception» الذي قام ببطولته ليوناردو دي كابريو، أو في «أرق Insomnia» الذي قام ببطولته آل باتشينو وروبين وليامز، أو
في فيلم «العظمة The Prestige» الذي قام ببطولته
كريستيان بيل، أو فيلمه الأهم الذي كان طريقَ تعريفِ الجمهور به «تذكار Memento»؛ وهو ما جعل أربعة من أفلامه في قائمة الأكثر
تحقيقًا للأرباح في التاريخ، وثلاثة من أفلامه في أول ثلاثين فيلمًا من قائمة أفضل ٢٥٠
فيلمًا في التاريخ، كما أن اسمه دائمًا يأتي في قائمة متقدِّمة دائمًا في قوائم أفضل
المخرجين في العالم.
يتجاوز «النجومي» كونه فيلم خيال علمي، إلى كونه فيلمًا عن الإنسان بكل تعقيداته،
بكل
أسئلته الفلسفية، عن صراع الوجود والخلود والرغبة في البقاء، عن عَلاقته بحاضره
ومستقبله، وعلاقته بأبنائه التي تدفعه للصراع من أجل الحياة، وربما لو نزعنا الجانبَ
العلمي من الفيلم واكتفينا بالنظر إلى العَلاقة بين الأبِ والابنة لوجدنا أنفسنا أمام
شريط سينمائي في غاية الرهافة. لم يقدِّم الفيلم كائناتٍ فضائيةً، ولا روبوتاتٍ إلا
روبوتًا واحدًا، ولا معارك طاحنة، ولا صراعًا بين أشرار وخيِّرين بالمعنى الذي نشاهده
في الأفلام الهوليوودية، لم يقدِّم فيلمَ حركةٍ كما يُنتظَر من أفلام الخيال العلمي؛
لكنه يقدِّم كثيرًا من الأسئلة المتعلِّقة بالآخَر وبعلاقتنا بالآلة وبتأثير
التكنولوجيا على حياة الإنسان، التي قد تقوده إلى تدمير نفسه. «النجومي» هو فيلم
الأسئلة الصعبة بامتياز، الأسئلة التي بلا إجابة، الأسئلة التي تصحبك بعد انتهاء الفيلم
الذي يتجاوز الساعتين، وتدعوك للدخول في دوامة الزمن التي دخلها الفيلم. الزمن هو سؤالُ
الفيلمِ الأولُ، وهو سؤال كلِّ أفلام نولان في المقابل.
ثمة سؤالان مهمان تطرحهما سينما كريستوفر نولان؛ أولهما: الزمن بتحوُّلاته، والثاني:
العلاقة الأبدية بين الخير والشر. يمكن أن يتداخل السؤالان، ويكون أحدهما إجابةً عن
الآخَر، غير أن السؤالين يتكرران بشكل مُلِحٍّ — ربما بحثًا عن إجابة — بدايةً من فيلمه
الأول «التابع»، وانتهاءً بفيلمه الملحمي «النجومي».
سؤال الزمن هو السؤال الأول والأبرز لدى نولان، فالماضي والذكريات جزء أساسي في تكوين
كل شخصياته؛ ففي «تذكار»، الذي يحكي قصة شخص مصاب بفقدان ذاكرة جزئي، نحن أمام شكل
مبتكر جديد للسرد؛ حيث تبدأ المَشاهد من النهاية، ومع كل مشهد جديد نرى مشهدًا قديمًا،
فتأتي كل المَشاهد بترتيب زمني معاكس؛ لذا فنحن نتعامل بشكل مختلف هنا مع الزمن. في
فيلم «أرق» نحن أمام تحدٍّ حقيقي للزمن، فنحن في مدينة بلا ليل، وبطل الفيلم «آل
باتشينو» يسابق الزمن للكشف عن جريمة قتل، فيتورط في جريمة بالمقابل. أما «استهلال»،
فنحن أمام درس سينمائي في تفتيت الزمن؛ حيث يدور حول شخص يقوم بزرع الأفكار في عقول
الناس والدخول إلى أحلامهم، ليبدو السؤال الأهم عن العَلَاقة بين عالَمَيِ الأحلام
والواقع، وعن طبقات الحلم المختلفة، عن الفرق الشاسع بين الزمن الواقعي والزمن في
الحلم، عن الولوج إلى الزمن وتثبيته لتغيير الواقع من خلال واقع موازٍ في الأحلام. أما
«النجومي»، فتقوم فكرة الفيلم بالأساس على السفر عبر الزمن لإنقاذ الأرض، في رحلة عبر
الفضاء بصحبة نظرية النسبية لأينشتاين والنجوم النيوترونية، وحركة دوران الثقوب السوداء
في الفضاء، وتمدُّد الزمن، وعشرات المصطلحات العلمية التي تذوب في القصة والحبكة
الدرامية الإنسانية؛ ولهذا يستعير نولان في الفيلم مقطعًا من قصيدة الشَّاعر الويلزي
«ديلان توماس» على لسان أحد أبطاله، يقول فيه:
لا تدخل في ذلك اللَّيل اللَّذيذ، فحريٌّ بالشيخوخة أن تشتعل وتهيج لحظة
انقضاء النَّهار؛ صُبَّ جامَّ غضبك، صُبَّ جامَّ غضبك على احتضار
الضَّوْء.
كريستوفر نولان سارد ماهر، وحكَّاء يَعرف كيف يجذب متلقِّيه، يجيد استخدامَ كل تقنيات
الفن الروائي في أفلامه، خاصةً أنه يشارك في كتابة كلِّ أفلامه، بل يقوم أيضًا بارتجال
مَشاهد جديدة أثناء التصوير بحسب ما قالت النجمة آن هاثاواي التي شاركت في فيلمه
الأخير، ويقدِّم شخصيات مركَّبة، تشهد صراعًا نفسيًّا مستمرًّا؛ لذا يبدو من الصعب
الحكم عليها هل هي شريرة أم خيِّرة، هل تنحاز إليها أم ضدها، معظمها مدفوع بدافع
الانتقام فيتداخل الخير مع الشر من أجل تحقيق الدافع. يقول هارفي دنت في فيلم فارس
الظلام: «إما أن تموت بطلًا، وإما أن تعيش طويلًا بما يكفي لترى نفسك تصبح شريرًا.»
وهذه الجملة تبدو كاشفة لتناول الخير والشر في أفلام نولان؛ ففي فيلم «التابع Following» نحن أمام ما يمكن اعتباره الجريمة الكاملة؛
حيث يترك الشر ينتصر في النهاية عبر نصٍّ مُعقَّدٍ لا تظهر تفاصيله إلا في اللحظات
الأخيرة، وهي تيمة سينمائية قَلَّمَا استُخدِمت في السينما، ولعل أحد أبرز أمثلتها فيلم
«نقطة المباراة Match Point» للمخرج وودي آلان، لا
يطرح الشر هنا باعتباره شرًّا محضًا، فنحن أمام كاتبٍ شابٍّ يقرِّر تتبُّعَ الناس في
الشوارع بحثًا عن شخصيات لكتابته، ثم لا يلبث أن يتورَّط في اقتحام بيوتٍ لا للسرقة،
بل
للمتعة فقط، لاكتشاف ما يخبئه الآخَرون؛ وفي «استهلال» شرٌّ من نوع جديد، يتيح الدخولَ
إلى الأحلام وعالم اللاوعي وسرقتها، لكن ذلك ليس بمعزل أيضًا عن صراع نفسي كبير داخل
نفس البطل.
أما في «أرق»، فنحن أمام الضحية والجَلَّاد في شخص واحد، مفتِّش الشرطة الذي يَقتل
زميله بالخطأ، ولا يراه سوى المجرم الذي يبحث عنه، ليضع المُشاهد في مأزق نفسي، بين
تواطُئه لإخفاء جريمة القتل التي قام بها المفتش، وتواطُئِه ضد الكشف عن المجرم الذي
رأى الجريمة. في فيلم «العظمة» نحن أمام ساحِر لا يعرف هل دبَّر لجريمة قتل أم لا، وفي
النهاية يقتل الساحر المدفوع بالانتقام نفسه كل يوم، وهي الفكرة التي تتقاطع مع فيلم
قصير لنولان اسمه Doodlebug مدته ثلاث دقائق، ويحكي عن
رجلٍ يحاول قتل حشرة بحذائه، وحين يقتلها يكتشف أن الحشرة ما هي إلا نفسه.
في مشهد مهم في «النجومي»، يقوم «مات ديمون» بمحاولة قتل الملاح «ماثيو ماكونهي»،
في
محاولة لإنقاذ الأرض من وجهة نظره، لكن لا يعرف المُشاهد مَن المُحِق؟ مَن الذي على
صواب هنا: القاتل أم المقتول؟ مَن يستحق أن يقف معه وينحاز إليه؟ وهي الحيرة واللعبة
النفسية التي يجيدها نولان، في رحلته إلى أغوار النفس البشرية مستخدِمًا كل العُقَد
الموجودة في علم النفس من «أوديب» إلى «إليكترا»؛ لذا يبدو مفهوما الخير والشر أنفسهما
مفهومَين متغيِّرين، وقابلَين للتغيُّر طوال الوقت، وربما يبرِّر هذا سببَ النجاح
اللافت لثلاثية «فارس الظلام»؛ حيث يطرح مفهومًا مختلفًا للصراع بين الخير والشر من
منظورٍ أكثر جديةً وتطورًا وإنسانيةً، على عكس المفهوم الذي طرحه تيم برتون أو جويل
شوماخر، في الإصدار الأول لباتمان في أفلام الثمانينيات والتسعينيات؛ حيث يبدو الشر
شرًّا محضًا وخالصًا، من خلال أبطالٍ تقليديين مثل: الجوكر أو فريز أو ذي الوجهين أو
رجل الألغاز، كانت تبدو أقرب للقصص الكوميكس منها لأي شيء آخَر. هذا المعنى؛ معنى السفر
إلى أغوار النفس البشرية، موجود أيضًا بشكل واضح حتى في الأفلام التي أنتجها نولان، مثل
فيلم «تسامٍ» الذي قام ببطولته النجم جوني ديب، والذي يطرح في النهاية سؤالًا حول الهدف
ممَّا يحدث؛ إنقاذ الأرض أم تدميرها.
بالإضافة إلى ذلك لا يقدِّم كريستوفر نولان مجرد أفلامٍ للتسلية، حتى لو كانت تندرج
تحت بند الإثارة والخيال العلمي، فبالإضافة إلى تقديم تصوُّر إنساني درامي مختلف في
ثلاثية باتمان، نجده في فيلمه الأخير يقدِّم نظريةً فيزيائيةً محضة للعالم الفيزيائي
«كيب ثورن»، من خلال قالب فلسفي يختلف عن كل الأفلام الكارثية التي قُدمت عن نهاية
العالم، بل إنه درس الفيزياء لمدة ثمانية أشهر، ليأخذ المُشاهِد بعد ذلك في رحلة عبر
ثقبٍ دوديٍّ في الفضاء للبحث عن أرض بديلة للبشر، ربما تكون أَنْسَنَةً للعلم كما في
«النجومي»، أو أَنْسَنَةً للخيال كما في «استهلال»، أو أَنْسَنَةً للأبطال الخارقين كما
في «باتمان».
ثمة شيء آخَر يميِّز أفلامَ الخيال العلمي التي يُخرِجها نولان؛ أنها لا تبدو
مفتَعَلةً مطلقًا، حتى لو كانت تدور في عالَمٍ كاملٍ من الخيال، مثلما حدث في
«استهلال»، والسبب أن في كل هذه الأفلام رحلةً داخل العقل البشري، وهي رحلة موجودة في
معظم أفلام نولان، بدايةً من «تذكار» وتقديم شخصٍ فاقِدٍ للذاكرة، مرورًا بتقديم قراءة
نفسية لشخصية «باتمان»، ثم «استهلال» الذي يخلق فيه عالمًا كاملًا داخل العقل البشري،
رابطًا إياه بأسئلة فلسفية حول الضمير والتطهير النفسي وعمليات غسيل المخ والعلاقة بين
العالَمَيْن المتوازيين، فضلًا عن استخدامه أفكارًا وردَتْ في لوحاتِ رسَّامِين
عالميِّين، ورغم كل هذه الأسئلة فإنها لا تخلو من الإمتاع الذي يجعل ذهنَكَ مشحوذًا
وممتلئًا بالأفكار أثناء مشاهدة الفيلم وبعده، والأفلام التي تفعل ذلك قليلة، خاصةً إذا
كانت من نوعية الأفلام التي قد يراها البعض «خفيفةً»؛ لأنها تدور في عوالم الإثارة
والخيال العلمي.