قبل أن تأكل نفسك
«عندما استيقظ جريجوري سامسا في الصباح — بعد أحلام مضطربة — وجد نفسه وقد تحوَّل إلى حشرة.» هذه الجملة الشهيرة في بداية رواية فرانز كافكا «المسخ»، والتي طالما كانت مؤشرًا لكتابة الكثيرين في السبعينيات، تبدو هي الأكثر تعبيرًا اليوم عن حالنا.
لا أتحدث هنا عن الكتابة، وإنما عن واقعٍ فَرَضَه التحوُّل الدراماتيكي في العالم منذ قرابة العقدين مع اكتشاف تقنيات الاتصال الحديثة، من هواتف محمولة وإنترنت وكمبيوتر، وغيرها، والتي جعلت للإنسان رفيقًا آخر غير بشري، يكاد أن يكون ونيسه الوحيد في كثير من الأحيان، وزادت انغلاقه على نفسه.
في مشهدٍ دالٍّ يلاحظ بطل الفيلم — بينما كان يسير في الشارع — أن جميع مَن حوله منهمك تمامًا في الحديث إلى هاتفه، وعلى وجوههم انطباعات السعادة والحب والحزن والغضب والألم، لا يوجد شخصان يسيران معًا في الطريق، بل كل شخص يتحدث إلى هاتفه فقط، وهي الحالة التي يمكن ملاحظتها بسهولة الآن داخل أي بيت، أو حافلة، أو مكان انتظار؛ حيث كل شخص يدور في فلك ذاته وعالمه الافتراضي الذي يلجأ إليه هربًا من العالم الحقيقي، ينظر إلى الشاشة التي أمامه ويستغرق تمامًا (أيًّا كانت هذه الشاشة لهاتف أو لكمبيوتر أو لتلفاز أو لجهاز لوحي) ويتوحَّد معها تمامًا، حتى فكرة إقامة العلاقات عن طريق الهاتف مع صوت جهاز تشغيل، التي قدمها الفيلم، يمكن أن تجدها في الواقع؛ لأنك بالفعل لا تعرف من يجلس خلف الشاشة التي تحادثها.
عندما تراجِع «التايم لاين» الخاص بأي شخص على فيس بوك أو تويتر، ستجد هناك الآلاف الذين يسكبون مشاعرهم يوميًّا؛ أملًا في شخص افتراضي يربِّت على أكتافهم تربيتة افتراضية، ويمنحهم حضنًا وحنانًا افتراضيين، رغم يقيننا في كثير من الأحوال أن هذا الشخص الذي نخاطبه شخص افتراضي، ومن المستحيل أن نلتقيه يومًا. الأمر قد يذكِّر — في جانبه العاطفي — بالمشهد المكرر في القطارات المصرية العتيقة، عندما يركب شخص إلى جوارك ويحكي لك كل همومه، رغم أنه لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه أراد أن يفرغ ما يُلهب جوفه، ووجد أخيرًا من يسمع.
على فيس بوك وتويتر، ستجد ملايين الحسابات بأسماء مزورة لأشخاص اختاروا أن يقوموا بأدوار أخرى، اختاروا أن يخلعوا وجوههم التي منحتهم إياها الحياة، ويمنحوا أنفسهم وجوهًا وأسماءً وشخصيات جديدة، تتصرف وتكتب وتحكم على الأشياء بطريقة أخرى غير الطريقة التي تعيش بها، وهو ما أعطاهم تعويضًا عن رفضهم لأسلوب حياة أو أيديولوجيا أو مستوًى اجتماعي معين، أو قيود مجتمعية.
لا أناقش هنا انفصام الشخصية لدى البعض، لكني أسعى للإجابة عن تساؤل: ماذا بعد أن توحَّدنا في عوالمنا الضيقة والمحدودة، بعد أن ظللنا لسنوات طويلة ننظر فقط في المرآة، وتخلينا عن البشر الحقيقيين، بعد أن صارت حياتنا وما نحبه موجودَيْن في أجهزة الآي باد، والآي فون، والآي كلاود، ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح لنا أشخاص افتراضيون، نقضي معهم أوقاتًا أطول — وربما أسعد — مما نقضيه مع أصدقائنا؟
في عدد كبير من أفلام الخيال العلمي الأمريكية (المتحولون على سبيل المثال) تتحول الآلات التي تخدم الإنسان إلى أعداء له، وتسعى للسيطرة على العالم، بعد أن يكون الإنسان قد سلَّمها كل معلوماته تمامًا، وبعد أن يكون قد اعتمد عليها في كثير مما يفعله. وفي الحقيقة، لا أستطيع أن أمنع نفسي وأنا أتابع التطور التكنولوجي — ليس فقط في وسائل الاتصالات وإنما في صناعة الروبوتات المنزلية، والعقول الذكية، والأجهزة المقرونة بأوامر صوتية، والطائرات من دون طيار، والنظارات والساعات الذكية، وغيرها — من التفكير في نهايات تلك الأفلام.
وفي معظم أفلام مارفل الأخيرة، بداية من سلسلة «الرجال إكس»، مرورًا بكل قصص الكوميكس التي تحولت إلى أفلام حصدت ملايين الدولارات، مثل «الرجل الحديدي»، و«هالك»، و«ثور»، وأخيرًا «كابتن أمريكا»؛ تبدو السِّمة الأساسية التي يتحدث بها من يريدون السيطرة على العالم عبر السيطرة على الأجهزة الذكية، هي أن البشر قبِلوا التخلي عن خصوصيتهم، في مقابل أن يحصلوا على الأمان والسلام (هذه العبارة وردت بالنص على لسان البطل الشرير في الجزء الثاني من سلسلة أفلام «كابتن أمريكا»؛ جندي الشتاء)، ويمكن تحوير هذه الصيغة إلى أن البشر قبلوا التخلي عن خصوصيتهم، في الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي التي تجمع جميع المعلومات عنهم وعن جميع تحركاتهم، في مقابل سلامهم الداخلي، والتربيتة الإلكترونية على أكتافهم، وهو ما افتقدوه في حياتهم، لكنْ مَن قادهم إلى هذا المصير؟ أليست الآلة أيضًا؟
في ندوة أخيرة شاركتُ فيها عن «الكتابة والعولمة»، سألني أحد المشاركين: «هل تعتقد أن الأجدر بالإنسان الابتعاد عن العولمة بأشكالها المختلفة؟» وكان ردي هو أن الوقوف أمام العولمة بأشكالها المختلفة يشبه إلى حَدٍّ كبير الوقوف أمام قطار سريع، والأجدر بنا أن نكون داخل القطار لا أمامه، لكن المهم هو ماذا سنفعل عندما نكون داخل القطار؟ ما الذي سنأخذه؟ وما الذي سنتركه؟ لأنه لا أحد يستطيع أن يستغني عن كل وسائل الاتصال الحديثة (ما في داخل القطار)، وإلا عاد إلى العصر الحجري. وبهذه الطريقة، لا يسمح للقطار بأن يأكله، ولا يأكل نفسه أيضًا.
في رواية «اللجنة» للروائي صنع الله إبراهيم، يأكل بطل الرواية — الضائع ما بين السلطة والحرية — نفسه في النهاية، ويبدو هذا حالنا جميعًا اليوم، ونحن ننغلق على ذواتنا يومًا بعد الآخر، وقد تخلينا عن خصوصيتنا تمامًا لشركات عابرة للعوالم متخصصة في الاتصالات واختراق الخصوصيات، مقابل أن نجد الإنسانية المفقودة، حتى لو كانت في «صورة إلكترونية»، حتى غدونا مثل دودة تضع ذيلها في فمها وتواصل الالتهام، حتى تأكل نفسها تمامًا.