ماتريكس أَم ترومان شو؟
لو تم تخيير ترومان بيرنابك، بين العالم المصطنع الذي يعيش فيه، وبين العالم الحقيقي، ماذا كان سيختار؟ الإجابة التي لا أريدها منك الآن، تشبه الإجابة عن سؤال آخر، عن الفارق بين حلم/كابوس، نحياه بالرغم منا، لكننا نعرف أننا سنستيقظ في نهايته، وبين حلم صنعناه بأنفسنا ونجاهد لنصل إلى نهايته.
اللجوء إذن، إلى فرضية أن ما نحياه كابوس قد نستيقظ منه بعد قليل — فقط تأخر الاستيقاظ قليلًا — ليس إلا بوابة للخروج من مواجهة الواقع، لكن هذه البوابة تتقاطع من جهة أخرى، مع الانتقام من الأعداء الواقعيين، باللجوء إلى قتالهم وهزيمتهم والتنكيل بهم، في أحلام اليقظة ليس أكثر، وليس بالضرورة أن يكون هذا دليلًا على الضعف، بقدرِ ما هو دليل على تغير منظومة القيم، التي تجعل الإنسان السوبرمان يلجأ إلى العنف الخيالي، في عالم متسامح بطبيعته.
النوم هو بداية الحلم، لكن الموت هو نهاية الحياة، لكن الأنظمة القمعية تفضل الموتى الأحياء على طريقة فيلم ماتريكس، حين يصبح البشر مجرد بطاريات، ومن هنا فالثورة تبدو كلمة مستعصية على الفهم في عالم لا يحلم، بل يرى أن النوم موت، ويتحول فيه الموتى إلى أرقام بلا تقدير حقيقي لقيمة الإنسان الذي يموت في عبَّارة أو تحت صخرة جبلية، أو حتى دهسًا بالمدرعات.
الخداع هنا هو الحيلة التي نلجأ إليها جميعًا، للخروج من حمى قهر الواقع، تماما كما نهرب من كابوسية الاستيقاظ، إلى حائط النوم، بحثًا عن أحلام تربِّت علينا، حتى لو كانت هذه الأحلام ليست أكثر من انعكاس للواقع اليومي البائس.
إذا كانت السينما، رفضت فكرة صنع عالم من الحلم، المزيف، فلماذا إذن كانت العوالم الافتراضية، الحالمة في جزء كبير منها، مثل فيس بوك وتويتر، هي المهرب للكثيرين، حيث يقدم كل شخص وجهًا مختلفًا عنه، وشخصية أخرى لا تشبهه، لكنه في الغالب كان يطمح أن يكونها أو أن يراه الناس عليها؟ وإذا كان يرغب في ذلك، فلماذا لم يكُنْها بالفعل؟
في ترومان شو، يكتشف جيم كاري، أنه مجرد فأر تجارب، في عالم مصنوع بالكامل، وأن كل من حوله ممثلون، في عالم يؤدي كلُّ مَن فيه دوره بإتقان شديد، وأنه ليس أكثر من ممثل في أحد برامج «عالم الواقع»، وأن هناك من يتفرج عليه، وعلى زوجته، وعلى عمله، وأن كل ما يحدث ليس إلا جزءًا من عالم افتراضي، وفي ماتريكس يثور البشر على برنامج الآلة، بحثًا عن عالم أكثر واقعية، وتحقيقًا للذات.
البحث عن الخالق، عن الحقيقة المطلقة، وراء هذا الوهم العظيم الذي نحياه، عمن يقف خلف الذين يحركون البشر والمصائر كعرائس الماريونيت، وهو ما يشبه ما نعيشه يوميًّا؛ حيث نفاجأ كل يوم بمصائر الأحياء تتغير، وكأنه مسرح، يغير فيه المخرج الأبطال والممثلين، في مشاهد دراماتيكية، لا يصدقها المشاهد.
الكتابة تصنع هذا في جزء منها، تتجاوز ما قَبِل به الذين يعرفون أنهم جزء من تمثيلية، للتعرف على ما وراء ذلك، هل الكتابة إذن هي محاولة للتصالح مع الذات، أم مع الخالق، أم مع العالم المحيط، أم محاولة لصنع عالم جديد، يخص الكاتب الوحيد؟ الإجابة أنها كل ذلك.
الكتابة ثورة، وربما تكون الملاحظة الأساسية، أننا أصبحنا نمتلك القدرة على الحلم بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، بالنسبة إليَّ لم أكن أتذكر أحلامي قبل اندلاع الثورة، كنت أراها تهاويم، ملامح سوداء ورمادية متداخلة لا أتذكر منها شيئًا بعد أن أستيقظ. بعد الثورة أصبحت الأحلام واضحة تمامًا، ملونة، حتى لو كان العلماء يقولون غير ذلك، أتذكرها جيدًا بعد الاستيقاظ.
ماتريكس، هو عالم افتراضي سلطوي، عندما قامت الآلات ببناء كمبيوتر ضخم جدًّا وربطت الأجنة البشرية الموجودة بالحقول بهذا الكمبيوتر للاستفادة من البشر كمصدر بديل للطاقة، وعاشت الأجنة البشرية وكبرت، ضمن حاضنات خاصة، وتمَّت السيطرة عليها عبر ربط برنامج تفاعلي للبشر يرسم الخطوط العريضة للحياة كما هي الآن، مع إمكانية تعديل العقول الموجودة في الحاضنات لهذا البرنامج التفاعلي. يطرح الأخوان واكوسكي في الفيلم عددًا من الأسئلة العميقة والفلسفية حول عبودية الإنسان، وتحرره، وارتباطه بعالم تحت السيطرة الآلية، لا يمكن الثورة فيه، لأنك ترس في آلة، إن صدئتَ فهناك الكثير من التروس غيرك.
في فيلم ترومان شو، يسأل الابن ترومان، والده، أو المتحكم فيه: لماذا حبستني في العالم الوهمي منذ طفولتي حتى بلوغي؟ فيردُّ والده أنه لا يريد من ابنه أن يذوق طعم الألم في العالم الحقيقي، إلا أن ترومان لم يجد المنطق في كلام والده، لأن هذا هو المنطق الذي يتكلم به كل قاتلي الأحلام، وكل الأنظمة القمعية؛ لذا يسعى كاري إلى بلوغ النقطة الفاصلة بين العالمين، عالمه الحقيقي الذي يحلم به، والعالم القمعي الذي يحبسه فيه والده، في منطقة قرب السماء، وهو الأمر الذي يشبه تمامًا ذلك المشهد الأسطوري لميدان التحرير مساء ١١ فبراير ٢٠١١، في السادسة وخمس دقائق بالضبط، عندما صرخ الشعب المصري صرخة واحدة عملاقة، سمع صداها العالم كله، فرحة بنجاح ثورته، وتحقق حلمه بالانعتاق من العالم الوهمي الذي صنعه النظام السابق، وبتكسير كل حواجز الخوف والقفز إلى مساحة جديدة من الألوان، تشبه تلك الألوان التي استخدمها كيروساوا في فيلمه «أحلام».
الفيلم الذي يرصد مخاوف الفنان الميتافيزيقية، ربما كان حلمًا للفن بأكمله بتحويل الحلم إلى واقع، وهو ما جعل أربعة مخرجين كبارًا يشتركون فيه، كيروساوا (صاحب الأحلام)، وَستيفان سبيلبرج المنتج، وَجورج لوكاس منفذ المؤثرات الخاصة، وَمارتن سكورسيزي الذي لعب دور فان جوخ في أحد الأحلام. ويروي كيروساوا أن سبب الفيلم هو أنه تذكر نصًّا لِديستويفسكي يقول فيه: «إن الأحلام هي أفكار عميقة مخبأة في القلب، وتَخرج خلال النوم في جرأة وعبقرية.» ومن مبرراته أيضًا: «الأحلام تعبير حسي عن الرغبة التي تخفيها في الأعماق، وفي لحظة شعرت برغبة جارفة في تسجيل أحلامي على الورق. بالضبط كنت أحس بفراغ كبير، بدأت أنهض صباحًا وأسجل بانتظام أحلام الليل، بعد عدة ساعات أعطيت ابني وفريق التصوير ما سجَّلته ونصحوني أن أُخرج منها فيلمًا، هكذا دون أن ألاحظ أن الذي كان في البداية أفكارًا أقرب إلى البحث العلمي أصبح سيناريو فيلم.»
يذكر هذا أيضًا بما فعله نجيب محفوظ في آخر أيامه، عندما كان يلجأ إلى تسجيل أحلامه في نصوص سردية بالغة العمق، في «أحلام فترة النقاهة»، لكن الأمر في فيلم كيروساوا، ومجموعة محفوظ، يتجاوز فكرة تسجيل الحلم إلى اصطياد الرؤية.
إذا كنا نَدين للثورة بأنها كسرت حاجز الخوف والصمت داخلنا، فإننا نَدين لها أيضًا بأنها أعادت إلينا أحلامنا، ربما تروح الأحلام وتجيء حسب الدراما التي تعيشها، لكن الحلم أصبح واقعًا، وأصبح ممكنًا، بالرغم من المخاوف التي لا تنفد.
لا أحد يمكنه قمع الحلم، فقط يبقى على الحلم أن يدفعنا إلى الأمام، أن نصبح أكثر تصالحًا مع أنفسنا، وتصبح شخصيتنا واحدة، تتماس وتمتزج، الشخصية التي في الحلم هي الشخصية التي في الواقع، هي الشخصية التي على فيس بوك وتويتر، لحظتها، لحظتها سيصبح الحلم واقعًا، ونحطم عالم ماتريكس، ونخرج من رداء ترومان شو.