قتلة بالفطرة
في أول مشهد من فيلم «قتلة بالفطرة» الذي كتبه كوينتن تارانتينو، وأخرجه أوليفر ستون، يقتل الزوجان السفاحان «ميكي ومولي» جميع رواد المطعم ثم يتركان شاهدًا واحدًا، لأنه هو من سيوصِّل ما حدث للإعلام، وهو ما ظلَّا يفعلانه في كل جرائمهما فيما بعد، في إدراك منهما لأن الصحافة ستحولهما إلى نجمين أكثر شهرة من أوبرا وينفري.
الفيلم الذي أُنتج عام ١٩٩٤ وأثار الجدل مطولًا، يبدو هو الأقرب لوصف المشهد العربي الحاضر، من احتفاء بالعنف، سواء من الإعلام الذي يقوم بذلك، أو من القتلة أيًّا كان تصنيفهم، فبإمكان من يتابع وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومواقع إخبارية أو قنوات فضائية أو مواقع تواصل اجتماعي، أن يدرك كم الجرائم التي تُرتكب من شائعات وخلق مجرمين، والمساعدة على أن يصبحوا نجومًا يخطفون الأنظار، وأن يصبح الدم مشهدًا عاديًّا عاديةَ المياه في الحياة اليومية، لا يلفت الانتباه أو يثير الاهتمام.
ولأي لعبة قتل طرفان، قاتل وقتيل، لكن في هذه اللعبة يقوم الطرفان بالقتل الممنهج. يقومان به وهما يعرفان ما الدور الذي يقومان به، يعرف الصحافي أن ذلك سيساعده لكي يكون أكثر شهرة، ويعرف القاتل أن ذلك سيجلب له أتباعًا، ومتابعين وتابعين، عشاقًا، وخائفين، وأن صورته ستحل في الصفحة الأولى من الصحيفة إلى جوار الصحافي الشهير «الذي يبيع ويشتري الخوف» بحسب وصفه في الفيلم.
من أبرز الجماعات الراديكالية التي اكتشفت أهمية الإعلام، كان «تنظيم القاعدة» الذي كان حريصًا على توصيل رسائل زعيمه الراحل أسامة بن لادن إلى قناة الجزيرة عقب أحداث ١١ سبتمبر، ومن بعده سار تنظيم داعش على نفس الخط، وهو ما يفسره نشاطه الغريب، على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك وتويتر ويوتيوب)، وحرصه الشديد على نشر صور الرءوس المقطوعة، وإطلاق الرصاص على المدنيين العزل، وعمليات القتل الجماعي، والرجم، وقطع الأيدي، والإعدامات، ومن يراجع جُلَّ هذه التسجيلات فسيجد أن من قام بنشرها هو التنظيم بنفسه على خلفية أناشيد حماسية متوعدة، ولم يكتفِ التنظيم بهذا، بل أعلن عن نيته إطلاق قناة فضائية، كما لجأ أيضًا إلى إصدار مجلة إلكترونية حملت اسم «دابق»، باللغة الإنجليزية، وهو ما يدعو للتساؤل لماذا يلجأ تنظيم يقول إنه إسلامي ويسعى إلى إعادة الخلافة إلى إطلاق مجلة بالإنجليزية وليس بالعربية، والإجابة طبعًا في كلمة واحدة وهي «الإعلام». فكما شاهدنا في فيلم أوليفر ستون الناس من كل أنحاء العالم وهم يتابعون جرائم السفَّاحَين بشغف وحب لدرجة أنْ حوَّلوهما إلى نجمَين تتصدر صورهما أغلفة المجلات، لدرجة أن هذا الجمهور «يتظاهر» احتجاجًا على اعتقال القاتلين، نرى على أرض الواقع «الجهاديين الأجانب» الذين ينضمون إلى داعش، والجهاديات اللائي يسافرْن بحثًا عن «رومانسية الحرب» بحسب تعبير إحدى الوكالات الإخبارية.
الأمر ليس متعلقًا بما تفعله التنظيمات الراديكالية فقط، فما شهدته المنطقة العربية، ولا سيما الدول التي شهدت تحولات سياسية جذرية، خلال الأربع سنوات الماضية، يكشف أنه كانت للإعلام اليد الطولى في الأمر؛ في إقامة المظاهرات وإسكاتها، في الانحياز للنظام والصراخ ضده، في تحريك الشعوب وإخفاء صوتها. الصراخ الذي ينبعث من البرامج التليفزيونية يكشف عن أن كلَّ ما يحدث من احتفاء بالدم أو سكوت عنه ليس إلا لعبة في يد أفواه تتحرك في أغلب الأحيان كعرائس الماريونيت، تتبدل المواقف والآراء في ذات اللحظة، فهكذا تقتضي اللعبة التي تحتاج إلى مهارة في التعامل، وقدرة على التقاط الموجة الرابحة، سواء كان هذا لصالح رأس المال، أو لصالح شخصي، أو لصالح سلطةٍ ما، أو رغبة في استمرار إضاءة الكاميرات التي تضيء في كل مكان، بحثًا عن تصريح لا قيمة له، من شخص يجلس ويخاطب الملايين، فلا يعرف «الجمهور»، مع التكرار اليومي، هل هو مجرد أراجوز أم خطيب مفوه.
في عام ٢٠٠٣ كنت أعمل صحافيًّا بجريدة الشرق الأوسط عندما احتلت الولايات المتحدة العراق، وكان عدد قتلى التفجيرات في العراق، يحتل المانشيت الرئيسي في الصفحة الأولى دائمًا، في الصحيفة التي أعمل بها أو الصحف المصرية أو الأجنبية، لكن مع استمرار الأمر، تضاءل الخبر، وانتقل إلى طرف الصفحة، ثم انتقل إلى صفحة داخلية، ثم اختفى في صفحة تكاد تكون غير مقروءة بأقل عدد من الكلمات؛ لأن الناس اعتادت الأمر، وأصبح عدد القتلى مجرد «رقم» ليس أكثر، ولأن الإعلام ملَّ الحدث، وبدأ يبحث عن ضحية جديدة يسلط عليها الضوء. كل هذا رغم استمرار القتل في العراق بصورة يومية، تكاد أن تكون نمطية طوال تلك السنوات، ولكن دون اهتمام أو شغف إعلامي، إلى أن ظهر مَن جاء بالشغف بشكل جديد للقتل والتدمير والذبح والسبي؛ وهو تنظيم داعش، فعادت الكاميرات مرة أخرى تنظر إلى هناك.
الإشكالية هنا في احتفاء الإعلام الذي يحوِّل خبر القتل إلى خبر عادي، لم يعد مثيرًا للشفقة ولا للغضب، ولا حتى للاستياء، ولا لأي مشاعر، وهو ما عبَّر عنه أوليفر ستون في مشهد رائع، عندما كانت السفاحة «مولي»، تحكي عن طفولتها وكيف أن زوج أمها كان يغتصبها، لكننا على خلفية هذه الحكاية المأساوية نسمع في الفيلم تصفيق الجمهور وضحكهم كأنهم يشاهدون مسرحية وليس جريمة بشعة.
في آخر فيلم «قتلة بالفطرة» يساعد الصحافي السفاحَّين على الهروب من السجن لكي يحظى بسبق صحافي، ثم يقتله السفاح «ميكي»، فهو لا يحتاج إلى شاهد على جرائمه، مكتفيًا بالكاميرا التي تتابع تحركاته، وهو ما يمكن تفسيره بدلالات كثيرة، لكن قبل حادثة القتل يدور حوار مثير، فيقول ميكي: «قتلك وما تمثله هو تصريح علني، فَفرانكشتاين قتل مخترعه»، في إشارة إلى أن السفاح من صُنع الإعلام. فيردُّ الصحافي: «أنا مجرد طفيلي، ألستما بِقاتلَين؟ أنتم لنا، للملأ والإعلام، هكذا هي الأمور.»
ما مضى ليس انتقادًا لدور الإعلام في كشف الفساد وجرائم القتل، بل لدوره في جرائم القتل، لاحتفائه بالموت، بتحويله إلى حدث مسلٍّ وليس مأساويًّا، بتحويله إلى حدث اعتيادي لا حرمة له، بسكب الجثث من شاشة التلفاز على موائد الأطفال.
غياب الإعلام لا يعني غياب الجريمة والقتل، لكن استخدام الإعلام مرة في يد رأس المال، ومرة في يد القاتل، ومرة في يد السلطة، ومرة بحثًا عن الشهرة والسبق؛ يساهم في زيادة كل ما مضى.
لم يطلب أحد من الإعلام أن يكون محايدًا تمامًا، لكن الجميع يعرف أن الإعلام يجب أن يكون لديه ضمير، وإلا فلن نعرف الإجابة الحقيقة عن سؤال: «من هم القتلة بالفطرة؟» المجرمون أم وسائل الإعلام؟