وكلما أتعبتني قدمي قُلتُ ها قد وصلت
متى أَصِلُ؟ لا أعرف. لا يعرف أحدٌ متى يصل أصلًا، أو إلى أين يؤدِّي هذا الطريق، ما الذي يوجد في نهاية الخط. منذ اللحظة الأولى، منذ صرختنا الأولى في هذه الحياة للآهة الأخيرة والروحُ تُستَلُّ كأنها دلوٌ يُسحَب من بئر، لا أحد يعرف. لا نقوى على الحركة، نحبو، تتعثَّر خطواتنا، نسقط، نقف، نمشي، نجري، نهرول، نركب القطار، والطائرة، وصاروخ الفضاء، ثم نتعثَّر، فنسقط، فنحبو، فلا نقوى على الحركة، ولا نصل.
١
كانت جدتي تقول لي: «تاتا تاتا، خطي العتبة، تاتا تاتا.» أسمع صوتها في أذني، تصفِّق، أستنِدُ على لعبة خشبية بثلاث عجلات، أسقط، أنهض، أفرد ذراعَيَّ جانبي لتساعداني على التوازن، وأخطو خطوة أخرى، أسقط على وجهي، أنهض على وقع التصفيق، وأمشي، ما زلتُ أمشي.
٢
كنتُ فوق حمارة بيضاء تشقُّ الطريقَ المُعفَّر بالتراب بينما أنا منهمِك في قراءة كتاب فوقها. أُنهِي الكتابَ، فأعدل الصفحات المطوية وأعيد قراءتها، مرةً، مرتين، ربما عشرًا. تواصِل الحمارة طريقها وأنا أقرأ فيتسع الطريق، حتى حين سقطتُ من فوقها، وكُسِرت ذراعي، جبرتُها وغطيتُها بصفحة من كتاب النحو؛ قَطْر الندى وبَل الصَّدَى، شُذور الذهب في معرفة كلام العرب، شرح ابن عقيل، ألفية ابن مالك. كنتُ أفكِّر أن اللغة هي الطريق، هي المفتاح الذي فتح الأبواب، كَمْ بابًا فتحته؟ لا أعرف، لكني ما زلتُ أرى مئات الأبواب المغلقة.
٣
لسبعة أعوام متتالية كنتُ أركب الدراجة يوميًّا، دراجة زرقاء بلا ملامح خاصة، سوى أنها صغيرة وتشبهني، أقطع بها الطريق إلى مدرستَيَّ الإعدادية والثانوية، خمسة كيلومترات يوميًّا ذهابًا، ومثلها إيابًا. أتوقَّف في الطريق أمام المقابر على حدود البلدة كلَّ يوم، أمام مقبرة بيضاء لم يكتبوا عليها شيئًا، فيما اختصوا المقابر المجاورة بالأدعية والآيات القرآنية. حتى الآن، كلما قدتُ سيارتي إلى العمل، في مصر أو خارجها، يمرُّ طريقي على مقابر ما، أخفِّف السرعة، أتمتم وأتذكَّر.
ثلاث مرات توقَّفت عن السير؛ مرةً حين دخلَتْ قدمي بين سلك العجلة الأمامية، وما زالَتْ آثارها موجودةً حتى اليوم، مرةً حين كنتُ أعبر الطريق بالعرض، بينما تعبر السيارات الطريقَ بالطول، فَطِرْنا — أنا والدراجة — في الهواء أمام سيارة مُسرِعة قبل أن نسقط على الأرض، لنجرِّب طريقةً جديدة في السفر، وطريقًا جديدًا مُبهِرًا لم أَرَه ثانيةً سوى في لمحة واحدة، وآخِر يوم قبل سفري. كنتُ أقود في الطريق بالعرض، رغم أنهم حاولوا إقناعي أكثر من مرة أن الجميع يسير بالطول، فجاءت حافلة أجبرَتْني على السير بمحاذاتها، وما زلتُ أسيرُ، أسيرًا.
٤
كنتُ في مدينة بعيدة، أزورها لأول مرة، يتكلَّم أهلها لغةً مختلفة. في يوم السفر، بعد أن ودَّعنا البيوت، والصور المعلَّقة على الحوائط، والغربان التي تنعق حولنا، قاد السائق المخمور السيارة، فيما يخرج صوت أحمد عدوية من سماعات السيارة مضطربًا، بعد ساعة واحدة كانت السيارة مقلوبةً، وكل الأمتعة المكوَّمة في الكرسي الخلفي فوقي. أخرج من النافذة المكسورة، بينما ما زال عدوية يضغط على مخارج حروفه مُجبِرًا الكلام على الخروج. لا أذكر تحديدًا ما الذي حدث بعدها؛ ربما عُدنا إلى المدينة المجهولة، ربما عدنا إلى البيت، لكنني لم أَعُدْ؛ ربما ظللتُ واقفًا هناك، أتأمَّل دمي الذي نزف على الأسفلت مكوِّنًا طريقًا جديدًا، لمحتُه، فرحتُ به، وسرتُ فيه.
٥
كان بيت الطفولة والصبا يقع بين الطريق السريع للسيارات وطريق القطارات، أطلُّ من البلكونة الأمامية فأرى السيارات مُسرِعةً في طريقها إلى موعد مُبرَم، محمَّلةً بعشرات الأمتعة للعائدين من السفر، وربما المغادرين. أطلُّ من الشرفة الجانبية فأرى جنازةً تسير بتمهُّل، «ربما كانت هذه هي الرحلة الحقيقية.» أقول، ثم أنتقل إلى البلكونة الخلفية، فأسمع صوتَ القطارات يأتي من بعيد، تمرُّ سريعًا لا تتوقَّف لتحيِّيَني، لكني رغم ذلك كنتُ أفكِّر في مسافريها؛ في المُجنَّد النائم في انتظار عودته إلى منزله، في الطالبة العائدة من الجامعة، في التاجر الذي أنهى صفقةَ عمره، في المحصل الذي يفكِّر في زوجته، في المراهق الذي يرغب في الانتحار، في قصص الحب والموت والثأر والكراهية القافزة من النوافذ المكسورة. غرف نومي تطلُّ على القطار، أسمع صافرته كلَّ ساعة وأنا أعمل وأقرأ وأذاكر وأنام، حتى تحوَّل إلى غرفة نومي، لخمسة عشر عامًا أصاحبه ذهابًا وإيابًا، في انتظار الوصول إلى نهاية الرحلة.
٦
أول أربع أو خمس رحلات بالطائرة كانت إلى مدينة داخلية، لكن بعد ذلك تعدَّدت الرحلات، كنتُ أفكِّر في أنَّ هذا الطيران لو استمر، دون الهبوط، ربما نصل. النظرة الأولى من نافذة الطائرة تدرك معها حجمك الحقيقي، أنك لا شيء، أن كل هذا العالم مجرد نمل لا يُرَى بالعين المجردة، لا أحد، ماذا لو ابتعدت إذن؟ ماذا لو نظرت من خارج الكون كله؟ مَن أنت؟ وماذا تريد؟ في النظرات التالية تنسى ذلك؛ لأن الأسئلة المهمة تأتي دائمًا مع النظرة الأولى، لكن الرغبة في الوصول، في قطع الطريق، لا تنطفئ أبدًا.
٧
٨
تتعدَّد الطرق، ووسائل السير، من قارب إلى سفينة، من حمار لدراجة، لسيارة، من قطار إلى حافلة، إلى باص، إلى ميكروباص، إلى طائرة؛ متنقِّلًا من بيت إلى بيت، من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة، باحثًا عن إجابة سؤال الوصول، كقصص حب لا نعرف نهايتها، ونخشى منها، كمريضٍ في سرير المرض لا يتحدَّث عن الغد. أفتح نافذةَ البيت الجانبية، فأرى جنازةً مارَّة، كلما فتحتُ النافذةَ رأيتُ موتى، أحياء يشيعون ميتًا وهم يهرولون خلف نعشه الذي خذلهم فلم يَطِرْ، وهم يهلِّلون، وموتى يشيعون حيًّا عائدًا لتوِّه من القبر. كان طريق المقابر هو الوحيد الذي لم أكن أرى نهايته من نافذتي، لكنه الوحيد الذي أعرف إلى أين ينتهي، الوحيد الذي أعرف نهايته الحقة، الوحيد الذي يضمن فيه المسافِر أنه سيصل. أتابع الجنازة بعيني حتى تختفي، مثل قطرات زيتٍ في مصفاة، فوق نار مشتعلة، مثل قطرات ندًى فوق نافذة تتبخَّر مع ظهور الشمس، لكنني رغم ذلك أتابعهم بعينيَّ، فربما أصل هذه المرة.