فمي المُعَطَّل
يختزلُ الصمتُ كلَّ شيء، يُخزِّن الأشياء داخله: الحزن والفقد والألم والفِراق والوجع. أنت لا تحتاج إلا أن تكون صامتًا كي تقول كل هذا. كأنه تمردٌ على اللغة، احتجاجٌ على عجز الكلام، اعتراضٌ على كل ما جذبك بعيدًا عمَّا تريده، تخفٍّ من المشاعر التي ينقُلها الصوت أو لا ينقُلها؛ كأنه تحدٍّ — وربما إذعان — للعجز والقهر، كمَن لا يريد أن يقول نعم أو لا، كأنه ردٌّ على إرباكٍ بإرباك.
عندما تكون وحيدًا يكون الصمت مؤلمًا كغرس سكين ببطء يسار الصدر. أمَّا إن كنتَ تتحرك وسط مجموعة فسيكون قاسيًا كنزع هذه السكين، كالفارق بين الدهس والهرس. في الحالة الأولى أنت لا تملك غير الصمت والذكريات، حتى اختيارك له تكون مُجبَرًا عليه، فتُنزَع عنك نعمةُ الانتصارِ اللحظيِّ على الحياة باعتراضك عليها بخَرَسِك. تضحِّي بكل الأشياء التي تعوَّدتَ أن تفعلها يوميًّا مرَّة، حتى لو كانت طعامًا أو شرابًا أو نومًا. حَرَكتك البطيئة في الشقة، رفعك كتابًا لا تستطيع حتى أن تقرأ عنوانه وإعادة رَمْيه ثانيةً كيفما اتفق، افتقادك رنينَ هاتف أو رسالة تخبرك أن ثمة أحدًا في الخارج. أنت لا تنتظر شيئًا من ذلك، تعرف أن لا شيء من هذا سيأتي، لا أحد يريدك، لا أحد ينتظر منك شيئًا؛ لذا يمر الوقت بطيئًا ثقيلًا كسلخ الجلد عن اللحم. حتى لو رغبتَ في الكلام فلا شيء تقوله، ولا أحد تبوح له؛ إنه سجن بلا حرَّاس ولا أبواب، لا تستطيع أن تغادر البقعةَ التي تقف فيها؛ لأنك لم تَعُدْ ترغب في غيرها.
في الحالة الثانية، عندما تتحرك وسط مجموع، ستكون مثل أَعْمَى يتنقل وسط مجموعة من المبصرين، أو العكس؛ أنت لا تملك حتى القدرة على أن تكون جزءًا ممَّن حولك، لكنك مُجبَر على ذلك؛ مُجبَرٌ على الذهاب للعمل، ومناداة التاكسي، فيخرج صوتك متحشرجًا، فتتذكر أن صوتك كان محتبسًا قبل أيام كأنَّ ذلك كان تدريبًا على هذه اللحظة. لا شيء فيك ينطق، حتى عيناك انطفأتَا، ولا تقولان شيئًا. يدُكَ التي كانت تتحرك، توقَّفت عن التلويح، تحملها كميِّتٍ إضافيٍّ إلى قبرها الذي تذهب إليه بمجرد عودتك إلى البيت.
الصمت غضب مكبوت، طنين شديد مستمر بعد موسيقى صاخبة، يمتلئ بالضجيج، بآلاف الأسئلة المتراكمة بحثًا عن إجابة، بعشرات الوجوه المتراصة في انتظار تعليق، بزحام شديد تهرب منه إلى التمسُّك بإغلاق فمك. الصمت يعني أن تتحوَّل حياتُك، ما مضى منها وما سيأتي، إلى كتابٍ كلُّ صفحاته بيضاء، ربما سوداء لكنك لا تستطيع قراءتها، لا تستطيع أن تمسك قلمًا لتملأها، ولا حتى تملك الرغبةَ في ذلك، كأنه خط واحد على صفحة بيضاء بلا بداية أو نهاية، كأنه مؤشر نبضات القلب على جهاز مريض في غرفة العناية الفائقة، بعد أن يكفَّ عن الصعود والهبوط، ويصيرَ خطًّا واحدًا طويلًا، فينزعَ الأطباءُ أقنعةَ الأكسجين ويكفُّوا عن محاولة إفاقته، فقد أدركوا أنه اختار الصمتَ للأبد.
في الصمت أنت تفعل كلَّ شيء؛ لك سيماء الأحياء ولا تملك روحهم، تباشر عملك، تقضي واجباتك، تفعل لكل شخص ما يريده، تنتهي من الأعمال التي كُلِّفتَ بها كأنك موجود بالفعل، لكنك لستَ موجودًا، لم تكن أنت مَن فعل ذلك، أنت لائِذٌ بصمتك، وآخَرُ — ربما لا يشبهك أبدًا — هو مَن يقوم بالعمل. لحظتها ستكتشف أن الصمت أقوى وأعظم تأثيرًا — عليك — وسط الجموع، وسط كل هذا الضجيج، كشخص يسير في ميدان واسع، مع السائرين، يحمله ضجيجُهم إلى الأيام القادمة، لكنه لا يسمع شيئًا، وإن كان يسير معهم؛ كأنك جزء من فيلم صامت، كأنك في قاعة سينما تشاهد ولا تسمع شيئًا، فقط ترى الأقدام تتحرك، والأيديَ تلوِّح، وكل ما تفعله هو انتظار كلمة «النهاية».
الصمت سؤال وإجابة، لماذا ولأن، نعم ولا، كشفٌ وإخفاء، جبن وشجاعة، حب وتضحية، إيمان وكُفر، زمهرير وقَيْظ، اعتذار عمَّا لم نفعل وعمَّا فعلنا، فعلٌ وردُّ فعلٍ، كأنك مصلوب بين شيئين تريدهما، وكلٌّ منهما يجذبك في تجاهه، كأنك الحبل في لعبة «نط الحبل»، كأنَّ ألفَ شيء يدفعك إلى الحافة، حتى رفعتَ يدَيْكَ مستسلمًا تمامًا، ومذعنًا، لا تعرف إلى أيهما تهرب، فاخترتَ أن تصمت، قدماك تتحوَّل إحداهما إلى صخرة، والأخرى على جُرُفٍ هارٍ تنهارُ به.
الصمت ملاذ. الصمت اجتناب. الصمت زهد واستغناء. الصمت قرين الاكتئاب. الصمت نذير انتحار. الصمت مقاربة الموتى. الصمت يعني أنك في جهة والحياة في الجهة الأخرى. الصمت ردٌّ على أصوات كثيرة في الداخل. الصمت لا ينتظر الغد ولا يُعنَى بذلك. الصمت يرى السراب ولا يجِدُّ السير إليه؛ ربما لأنه ترك الواحةَ خلفه. الصمت بيتٌ مغلقٌ سقفُه الليلُ. الصمت نهرٌ جارٍ من الصراخ لا يصل إلى بحر. الصمت يعني أنك آخِر شخص على سطح الأرض، لا يوجد مَن تكلِّمه، ولا تفعل شيئًا سوى انتظار موتك. الصمت بيت المتاهة الذي لا بابَ ولا مخرجَ منه. الصمت مِصعدٌ لا يتوقَّف صعودًا ونزولًا. الصمت قطار بلا محطة أخيرة. الصمت اختيار. أنا أختار الصمت.