العودة إلى الماضي
عندما كنت في سنوات الدراسة الأولى، في الأعوام الأخيرة من القرن الماضي، كان هناك درس في كتاب اللغة العربية يتحدث عن العالم سنة ٢٠٠٠، وما الذي سيحدث فيه.
كان الدرس يتصور كيف سيصير العالم في القرن القادم الجديد، ومما أَذكره أنه كان يتحدث عن أن السيارات سوف تسير بعصير القصب. كنت صغيرًا، أمسك بعود القصب بينما أنا جالس في الحقل، وأنظر إليه مفكِّرًا في الآلية التي ستُحَوِّله إلى بنزين، ولم تخطر ببالي وقتها أسئلة من عينة: هل سيكون هناك قصب ٨٠، وقصب ٩٢، وقصب ٩٥؟ وهل سيكون مدعومًا أم سيُرفع عنه الدعم؟ وهل سنطلب من البائع لتر قصب، أم «لبشة قصب»؟
كما أذكر أنني ظللت طيلة آخر يوم في ذلك القرن (٣١ / ١٢ / ١٩٩٩) متوجِّسًا مترقبًا لما سيفصح عنه الغد، فيما تملأ القنوات التليفزيونية أدمغتنا بأن غدًا قرن جديد، وأن العالم سيتغير في القرن الجديد، وأن غدًا شيء يختلف تمامًا عمَّا نحن فيه، وتصبُّ الصحف في آذاننا كلامًا عن أن يوم القيامة غدًا، مع أن المسيح الدجال لم يظهر بعدُ. وبين هذا وذاك، حرَصت في تلك الليلة على أن أنام مبكرًا حتى أستطيع أن أكون موجودًا في القرن الجديد من أوله، وعندما استيقظت في الصباح لم يكن هناك شيء قد تغير.
أفتح عينيَّ، فإذا أنا في سريري المعتاد، أدور بهما في الغرفة فأجد كل شيء كما تركته من قبل، أخرج لأفطر نفس الإفطار الذي أفطره كل يوم، أفتح التليفزيون لأشاهد نفس المذيعات والبرامج تقريبًا، أنظر من النافذة أجد السيارات القديمة تسير كما هي، أرفع عينيَّ إلى السماء لا أرى غُزَاةً قادمين من كوكبٍ آخر؛ إذنْ فالقيامة لم تَقُمْ، ولم يحدث شيء يوم ١ يناير ٢٠٠٠، كما أوهمونا. في ذلك الوقت سقط أمامي أي مستقبل متخيَّل أو يحاول أحد إيهامي به.
ربما يبدو ما أتحدث عنه الآن ماضيًا للقارئ، لكنه كان مستقبَلًا في ذلك الوقت بالنسبة إليَّ، تمامًا كما كان عام ٢٠٠٠ مستقبَلًا لصُنَّاع أحد أعداد مجلة الهلال سنة ١٩٥٠، والذي تخيلوا فيه مصر بعد خمسين عامًا — أي عام ٢٠٠٠ — وتخيلوا وقتها أن مصر ستقوم بإقراض بريطانيا أقوى دولة في العالم وقتها، أما فكري أباظة رئيس تحرير مجلة المصور آنذاك فكتب في مقالته التي يتخيل أنه سيكتبها في يناير ٢٠٠٠: «أعارض أشد المعارضة القرض الذي اعتزمت حكومة مصر أن تقرضه لبريطانيا؛ فالمبلغ جسيم، وحقيقةٌ أن ميزانية الدولة بلغت خمسمائة مليون من الجنيهات، وبلغ الاحتياطي مائتي مليون إلا أن أمام مصر مشروعات في تعمير الأقاليم الجنوبية حتى خط الاستواء، فضلًا عن أن الضمانات التي عرضتها إنجلترا ضمانات ضعيفة غير موثوق بها، ولقد كان بوسع أمريكا أن تعاون في هذا القرض لولا الأزمة التي حلت بها في السنتين الماضيتين.»
هذا الخيال الجامح من الأستاذ فكري أباظة أَكملَه الكاتب الكبير توفيق الحكيم في مقال بعنوان «تحديات سنة ٢٠٠٠»، قال فيه إنه «بإمكان الفرد أن يتنزه لا إلى حديقة الحيوان كالمعتاد، بل بإمكانه أن يؤجر سفينة فضائية ويذهب ليزور خالته على سطح القمر.» طبعًا يبدو أقرب تعليق بلغة هذه الأيام على ما مضى مقولة الفنان عادل إمام الشهيرة: «ناس طيبين أوي!»
وبعيدًا عمَّا قدمته سلسلة روايات الجيب المصرية التي صدرت تقريبًا في نفس عام صدور الفيلم — منتصف الثمانينيات — فإن أطرف ما يتعلق بهذا الفيلم أنه قدم حذاءً يربط نفسه حول قدم بطل الفيلم، وهو ما أعلنت شركة «نايكي» أنها ستُطلِقه قريبًا — حسبما ذكر موقع صحيفة «دايلي ميل» البريطانية — معلنة أن الحذاء يحظى بأربطة تلقائية تقوم بربط نفسها بنفسها، وسيحظى بمصابيح مشابهة للتي تُعرض في الجزء الثاني من الفيلم.
في الفيلم الذي أخرجه روبرت زيميكس، يمكن فتح الأبواب ببصمات الأصابع، وتظهر الإعلانات التليفزيونية على المباني، كما نراها الآن، ويتحول المقهى إلى آلي، وهو ما يُذكِّرنا باستغلال بعض المحال الغربية — القليلة — للروبوتات والطائرات من دون طيار لتوصيل خدماتها.
ورغم كَمِّ الخيال الذي يقدمه الفيلم، فإن ما يلاحظه المشاهد هو أن شيئًا واحدًا غاب عنه فجعله ينقصه الكثير؛ أَلَا وهو تقنيات الاتصال الحديث؛ من كمبيوتر، وهواتف نقالة، وإنترنت، إلى الخدمات التي تقدمها أنظمة الأندرويد والآي أو إس، وهو ما يجعلنا نفكر في مدى تأثير هذه التقنيات في تغيير حياتنا بشكلٍ شبه كامل، لكن في المقابل قدَّم الفيلم أفكارًا تحققت بالفعل.
دروس كثيرة مستفادة من الحكايات المتشابكة الماضية، لعل أهمها أننا كُنَّا ذات يوم نملك أحلامًا، لم يتحقق منها شيء لأسباب كثيرة نحن في غنًى عن ذكرها الآن. في المقابل قدم الفيلم الأمريكي «العودة إلى المستقبل» أحلامًا أيضًا، لكنهم نجحوا بالفعل في تحقيق أجزاء منها، وسبقهم الواقع في أجزاء أخرى. وربما بهذه المقارنة البسيطة يمكننا أن نفهم أشياء كثيرة.