في معنى الزمن الجميل
أكثر ما يمكن أن تطالعه الآن على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الكتب الصادرة حديثًا، هو حكايات وقصص وصور وأغنيات ومقاطع فيديو تنتمي كلها إلى ما يُطلَق عليه «الزمن الجميل»، مصحوبةً برثاء لتلك الأيام الراحلة، وصبِّ اللعنات — بالتوازي — على الزمن الحالي.
يقول المولودون في تلك الفترة إن فترة الثمانينيات كانت هي الأجمل، ويشاركون نكاتًا من مسرحيات «العيال كبرت»، و«المتزوجون»، و«شاهد ما شافش حاجة». يشاركون صور «عمو فؤاد»، و«شريهان»، و«بوجي وطمطم». يشاركون أغنيات ﻟ «حسن الأسمر»، و«علاء عبد الخالق»، و«حسام حسني». يشاركون مقاطع فيديو من «فوازير نيللي»، و«تاكسي السهرة»، و«بقلظ وماما نجوى». كل شيء يصبح قابلًا للمشاركة، حتى صور الألعاب التي انقرضت، وأغطية زجاجات الكولا، وأغلفة الحلويات، وشكل الملابس، والحنين؛ الحنين الذي لا ينفد إلى تلك الأيام.
لكن على الجانب الآخر، هناك مَن يتذكَّر شيئًا آخر في الثمانينيات؛ يتذكرون الشباب الذين هاجروا بالآلاف ليصبحوا جزءًا من «المجاهدين الأفغان»، يتذكرون الإرهاب الذي ضرب مصر بدايةً من اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات مرورًا بسرقة متاجر ذهب الأقباط، وتكفير الدولة، وآلاف الاعتقالات للأبرياء، ولم تنتهِ إلا مع مبادرة وقف العنف عام ١٩٩٧، التي تلاها بعد فترة قصيرة حادث مجزرة الأقصر؛ هناك من يتذكرون التصحير الثقافي الذي حدث لمصر في تلك الفترة، مع زحف الوهابية والسلفية، كثمرة بارزة لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي شهدتها مصر؛ هناك من يتحدثون عن بداية تراجع حضور مصر الثقافي، وبداية انغلاقها على ذاتها.
يقول البعض إن الزمن الجميل كان في الخمسينيات والستينيات، بعضهم ينتمي إليها وجدانيًّا وسياسيًّا، وبعضهم عاش فيها صباه؛ شاهَدوا عبد الناصر وهو يخطب في ميدان المنشية، وشاهدوا الدور الأعظم لمصر في تلك الفترة وهو يمتد من المحيط إلى الخليج، ومصر وهي تساعد دول أفريقيا في التحرر من الاستعمار؛ شاهَدوا صعود نجوم مصر الأبارز: نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وطه حسين، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب، وأم كلثوم، وعبد الحليم. شاهدوا قوة مصر الناعمة وهي تمتدُّ وتؤثِّر، شاهَدوا الحلم العربي والقومي وهو يتصاعد ويعلو، ومصر الحديثة وهي تُبنَى عبر مئات المشاريع والمصانع. كثيرون ما زالوا يحلمون بأن يعيشوا في تلك الفترة.
لكن البعض الآخر يقول إن ذلك الزمن لم يكن جميلًا تمامًا، يستشهدون على ذلك بتهاوي الحلم في ٥ يونيو (حزيران) فيما عُرِفَ باسم «النكسة»، يتحدثون عن خروقات حقوقية، وعن تعذيب في السجون واستهداف للمعارضة وتجاوزات لأجهزة المخابرات، وصراع بين رجلين قويين في سقف السلطة، وديكتاتورية باسم الشعب.
البعض الآخر يعتبر أن فترة الثلاثينيات والأربعينيات هي الأفضل، هي الزمن الجميل الذي لن يتكرر، ويتذكرون بدايات كل شيء جميل في مصر: بدايات السينما، والإذاعة، وجامعة القاهرة، والوحدة الوطنية، و«الشياكة» في الزِّيِّ، والشوارع الهادئة النظيفة، ونجوم مصر الأبارز في السينما والمسرح: يوسف وهبي، وأمينة رزق، وسليمان نجيب؛ وفي الكتابة مثل: العقاد، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد. يتحدثون عن ليبرالية حقيقية وتعددية حزبية حقيقية وُلِدَتْ في ذلك الزمن، وكان يمكن — إذا استمرَّتْ — أن تضع مصر في مصافِّ الدول الديمقراطية.
لكن البعض الآخر يعتبر أن ذلك لم يكن الزمن الجميل إطلاقًا، وإلا ما قامت ثورة ٢٣ يوليو ضد الظلم والفساد، يتحدثون عن استئثار فئة فاسدة بالحكم، وعن صفقة الأسلحة الفاسدة في حرب ٤٨، عن التعليم الذي لم يكن يظفر به إلا الأغنياء، أما الأكثرية الفقراء فكانوا ضائعين ما بين تفشِّي الأوبئة والجهل، عن الصورة الجميلة في قصور الحكم والفقر المدقع في باقي البلاد، عن التواطؤ الذي أضاع فلسطين في نكبة ١٩٤٨، وعن فساد القصر الذي أضاع البلاد بأكملها، وعن مصر التي تمَّ جرُّها وتوريطها في الحرب العالمية الثانية دون أن يكون لها يدٌ في ذلك.
ما الذي يعنيه كلُّ هذا؟ إنه لا يعني إلا أن كل زمن هو جميل وقبيح في نفس الوقت، فقط يرتبط الأمر دائمًا بزاوية نظرتنا إليه، بحنيننا إلى الماضي، باللحظة التي كانت بين أيدينا وذهبت ولن تعود أبدًا، يرتبط برفضنا لواقعنا.
مفهوم الزمن الجميل يرتبط في الأساس بحنيننا لطفولتنا؛ فلو أن لدينا أسرة مكوَّنة من جدٍّ وُلِدَ في الثلاثينيات وأب وُلِدَ في الستينيات وحفيد وُلِدَ في الثمانينيات، فسيرى كلٌّ منهم في طفولته أنها هي الزمن الأجمل على الإطلاق؛ لأنه في طفولته لم يكن يرى إلا الجانب الأجمل من منظور البراءة التي كان عليها، ولأنه في هذه الفترة — فترة طفولته — تَشكَّل وعيه وأفكاره وذاكرته التي ستقوده إلى مواجهة العالم بجانبَيْه الأبيض والأسود اللذين سيواجههما فيما بعد.
أعرف بلادًا ما زالت تصنع الزمن الجميل كلَّ يوم، كلَّ يومٍ تُضيف شيئًا جديدًا إلى تراث الإنسانية، وأعرف أشخاصًا يصنعون سعادتهم بأنفسهم، وزمنهم الجميل كلُّ يوم، حتى لو كان ساعة في اليوم أو في الشهر أو في الأسبوع. الجميع يُصاب ﺑ «النوستالجيا» والحنين إلى الماضي، لكنه يكثر في المجتمعات التي تعيش على عظام أجدادها، وعلى ما صنعه الآباء والأجداد، لا على ما سيصنعونه هم.
كلُّ زمنٍ هو زمنٌ جميل، فقط يتوقَّف الأمر على زاوية رؤيتك له، كلُّ زمنٍ هو زمنٌ سيِّئ، فقط اعرف كيف تنظر إليه وكيف تعيشه. حتى هذا الزمن الذي نحيا فيه الآن، وننتقده بدواعشه ومجازره وتحوُّلاته الجذرية، بعولمته وهُوية أوطانه الممزقة، سيكون أفضلَ لأطفال هذا الزمن الذين سيكبرون بعد سنوات ويشاركون صورًا ﻟ «بن تن»، و«نانسي عجرم»، و«أندرويد» وهم يتحدثون عن الزمن الجميل الذي ولَّى ولن يعود؛ ربما لأن الزمن الجميل — كما قلتُ من قبل — دائمًا يرتبط بفترة الطفولة، وربما لأنها النوستالجيا التي تطاردنا ونقاوم بها قُبح ما نحيا، وربما لأن القادم — دائمًا بالنسبة إلينا — أسوأ.